اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

غزة...أرض العزة


Recommended Posts

الجزء الأول.....إليها

غزة...أرض العزة (1)

[ 12/02/2008 - 09:34 ص ]

د. إبراهيم حمّامي

قبل البدء:

هذه ليست دراسة أو مقال أو تحليل، بل تسجيل للحظات شخصية عشتها، أوثق فيها رحلتي الأولى لأرض فلسطين بالتفصيل ربما الممل، بعد أكثر من أسبوع على عودتي لم أستطع خلالها كتابة شيء، رغم الطلبات المتكررة، فكلما هممت بالكتابة غالبتني دموعي، لكني رغم ذلك أكتب اليوم، وجب التنويه حتى يتوقف من لا يرغب في متابعة قصة فردية، قد لا تعنيه من قريب أو بعيد، وقد يجد آخرون فيها قصتهم وتجربتهم وحلمهم.

غزة...أرض العزة

الجزء الأول.....إليها

قبل أكثر من ثلاثين سنة وفي المراحل الدراسية الأساسية الأولى، وتحديداً في العام 1976، وقفت لساعات طوال للحصول على تذكرة لمشاهدة شريط الرسالة لمصطفى العقاد، وبالفعل حصلت على التذكرة ودخلت قاعة العرض وتنبهت حواسي جميعها، شعرت بعزة ديننا الإسلامي، وتفاعلت مع الأحداث التي كنا نقرأ عنها أو ندرسها ونحفظها عن ظهر قلب، لكن مشهدا معيّنا في ذلك الشريط أخذني بعيداً عن أحداثه الأصلية، مشهد جعلني أتخيل نفسي جزءا منه لكن في عصرنا هذا، مشهد ما زال حتى اللحظة يراودني في اليقظة والمنام، تدمع عيناي كلما تذكرته، وأبدأ بالدعاء وقول "يا رب – يا رب".

المشهد الذي أعنيه هو مشهد فتح مكة آخر الشريط، آلاف بثيابهم البيضاء وعلى قرع الطبول يدخلون مكة مرددين " الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد"، هل تذكرونه؟ في ذلك اليوم من العام حلّق خيالي ليوم قادم لا محالة، يوم ندخل القدس المحررة مكبرين داعين شاكرين للمولى عز وجل مستذكرينً الآية الكريمة:" إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا"، تخيلت نفسي أحد هؤلاء في مشهد مشابه لفتح مكة، فقلت بعفوية الطالب صغير السن ودموعي تنهمر "يا رب"، وما زلت أرددها وكأني الطالب ذاته صغير السن الذي يرجو أن تتحقق أمنيته يوماً.

المشهد الذي لم يفارق مخيلتي لحظة، كان حاضراً وبقوة لحظة اتخاذ القرار بالسفر ودخول جزء عزيز من فلسطيننا الحبيبة لأول مرة في حياتي، وسط مشاعر يصعب وصفها، بل يستحيل، انها المرة الأولى، حلم يتحقق جزء منه على جزء من الوطن، أخيراً، ما أجمل هذا الشعور، ليته يتحقق، الأنباء متضاربة حول المعبر فقد تأخرت، ربما لن يتحقق، لا بأس النية عُقدت، وبقي توفيق رب العباد.

في العام 2005 وفي أعقاب اندحار الاحتلال من قطاع غزة فُتح المعبر ليومين فقط، وحينها كانت الفوضى والفلتان تضرب أطنابها، ورؤوس الفتنة تعيث في الأرض فساداً، والتهديدات المباشرة بالقتل تصدر عن التيار الدحلاني البائد، وتصلني اما عبر الرسائل أو من خلال صفحات المواقع، يومها ضاعت فرصة زيارة قطاع غزة وبقيت حسرة وغصة في النفس، فقد عاهدت نفسي أن أدخل أرض فلسطين في أول فرصة تسنح، لكن في غير وجود المحتل، وبصراحة أكبر وفي غير وجود أذناب ووكلاء المحتل.

في يوم 23 من شهر يناير/كانون الثاني 2008 كسر أبناء فلسطين في قطاع غزة حصارهم، ولو جزئياً، ودخلوا أرض الكنانة مصر بمئات الألوف، ومقابل ذلك دخل عشرات الألوف من مصر إلى غزة، وتتابعت الأخبار والأنباء.

توقعت مخطئاً أن تكون هذه المرة كسابقتها، أي يومين أو ثلاثة، ومن ثم توصد الأبواب والمعابر من جديد، كنت خلال هذه الأيام على سفر، وكنت أتابع: مائتي ألف، ثلاثة، أربعة، سبعمائة ألف ويزيد، المعبر ما زال مفتوحاً، مصر تفتح أبوابها وأحضانها لأبناء شعبنا، يا الله هل لي نصيب هذه المرة؟ هل أصبح الحلم قريب المنال؟ من جديد عاودني مشهد فتح مكة، ومرت أيام السفر دهراً كاملاً، حتى عدت أدراجي فجر يوم الثلاثاء 29/01/2008، يحدوني الأمل في التوجه إلى غزة، لكن الأنباء بدأت تتناقل الإقفال التدريجي والإجراءات الأمنية، وغيرها، والصورة باتت ضبابية.

لأن الساعة كانت قد قاربت الواحدة والنصف صباحاً، اكتفيت بارسال رسالة هاتفية قصيرة لعائلة جمعتنا بها الغربة في هذه الديار، وبيننا من العشرة والمودة العائلية الكثير، تجرأت وارسلت وبشكل مختصر: الرجاء الاتصال بي عند استلام هذه الرسالة، كان القصد معرفة آخر تطورات الأوضاع عند المعبر، فأهل أصدقائنا يسكنون رفح، وهم على اتصال دائم بهم، وفي ذات الوقت جُلت عبر المواقع والنشرات الاخبارية أبحث عن تأكيد من هنا أو هناك بأن المعبر أو بوابة صلاح الدين لا زالت مفتوحة، لم أصل لنتيجة تٌذكر.

بعد دقائق بسيطة رن هاتف المنزل، كانت الساعة قد قاربت الثانية صباحاً، كان المتصل -أو المتصلة- من أرسلت لهم الرسالة القصيرة، للصدفة البحتة لم يكونوا قد أخلدوا للنوم بعد، بشكل مباشر سألت: ما هي أخبار المعبر؟ كان الرد سأتأكد في الصباح، لكن هل أنت جاد في نية السفر؟ كان الرد حاسماً: كل الجد لكن عليّ أن أتأكد من بعض الأمور: الحجز والتذاكر، احتمالات الوصول وغيرها، فقد مر أسبوع على الدخول الأول والأنباء متضاربة.

كانت نصيحة زميلتنا ذهبية لا توصف، ولا تقدر بثمن، قالت: استخر ونم واتركها على رب العباد، ما أروعها من نصيحة، وما أجملها من كلمات تدخل الطمأنينة على النفس، لكن قبل أن أفعل تأكدت أن هناك أماكن على رحلة القاهرة بعد ساعات، ركعتي الاستخارة، الدعاء في جوف الليل، ثم أخلدت للنوم، أو هكذا ظننت، فعقلي كان منشغلاً بالرحلة المرجوة، وكانت أولى علامات الاستخارة حلم تلك الليلة وأنا أرى نفسي في غزة الأبية!

الثامنة والنصف صباحاً جرس الهاتف يرن مجدداً، انها أخبار مشجعة من رفح، البوابة لا زالت مفتوحة والناس يدخلون ويخرجون، وأعادت أختنا المتصلة السؤال: هل ستذهب؟ قلت أعطني نصف ساعة حتى أصحو تماماً ، الحرص والتأكد واجب، دخلت شبكة الانترنت آملاً أن أجد من في بالي على الخط، لكنه لم يظهر منذ أشهر، لكن لا بأس لأحاول، سبحان الله ها هو أمامي على الخط، تحية وسلام يا دكتور، الموضوع كذا وكذا ما رأيك، وبعد السؤال والاستفسار كان الرد اتكل على الله الطريق لا يزال مفتوحاً، سبحان الله كيف بدأت الأمور تسير بسهولة ويُسر بعد الاستخارة.

طمع الإنسان لا حدود له، لم لا اتصل بشخص آخر من أهل غزة؟ المشكلة أنه عادة لا يجيب، والطائرة التي أنوي السفر عليها تغادر بعد ساعات معدودة ولم أجهز أغراضي بعد، اتصلت على كل حال: رنة والثانية واذا به يرد، لأول مرة يرد مباشرة، سبحانك ربي، سلام وتحية وكررت الاستفسار فجاء الرد: المعبر لن يغلق قبل عدة أيام بحسب الأنباء والوقائع، اتكل على الله.

عزمت وتوكلت وعدت لجهاز الكمبيوتر لحجز التذكرة ودفع ثمنها، كانت الساعة العاشرة صباحاً تقريباً، وموعد الطائرة في الرابعة والنصف مساء، كنت قد راجعت الحجز قبل ساعات وتأكدت من توفر أماكن على متن الطائرة، لكن كانت المفاجأة التي يشهد الله أنها تحدث لي لأول مرة رغم كثرة حلي وترحالي، سعر التذكرة انخفض رغم أن المعتاد أن يزداد وبشكل كبير كلما اقترب موعد الرحلة، لم تتبق لي حجة، الأمر واضح، قضي الأمر، اتكلت على المولى عز وجل وحجزت وأخبرت زوجتي التي كانت ولا زالت السند والدعم، وهي الصابرة المصابرة علي، ورغم أنه لم يمض على عودتي للبيت سوى ساعات معدودات، قلت لها ادعي لي سأغادر الآن في طريقي للسفارة المصرية للحصول على التأشيرة ومن ثم التوجه للمطار إلى غزة، وكعادتها دعت لي بالتوفيق والسداد، بارك الله فيها وجزاها كل خير.

لم أنس زميلتنا العزيزة، اتصلت وقلت لها رحلتي بعد ساعات، أنا في طريقي للسفارة، ألتقيك ان شئت هناك لحمل ما تريدين لأهلك في رفح، بعد ساعة ونصف كنت على باب السفارة، كانت الساعة قد تجاوزت منتصف النهار، وبمساعدة صديقة العائلة وخلال دقائق كانت التأشيرة قد ختمت على جواز السفر، سرعة خارقة وتساهيل غير طبيعية، سبحانك ربي ما أعظمك.

خبر وصلني وأنا على باب السفارة، أحد من غادروا بالأمس لدخول غزة دخل بالفعل قبل دقائق، رائع لاتصل به، رن هاتفه وفتحت الرسالة الصوتية وتركت له رسالة مستفسراً عن رحلته، الحقيقة لم أتوقع أن يرد علي وهو الواصل لتوه بعد رحلة طويلة، لكن ومن سلسلة التساهيل الربانية اتصل بعد دقائق، ايوة أخي الحمد لله على السلامة كيف الأمور، فيرد صعبة يا أخي لكن الطريق ما زال مفتوحاً، هذا فقط ما أردت سماعه، يعطيك العافية نشوفك على خير، السلام عليكم.

من المفترض أن أكون في المطار في موعد أقصاه ساعتين، بدأت الاتصال عبر الهاتف: أخي الحبيب أرجوك أن تدفع تعرفة دخول المدينة حتى لا أُغرّم، أخ عزيز آخر هل من الممكن أن توصلني للمطار أنا في طريقي إلى غزة، هل أنت جاد؟ نعم كل الجدية، وكان كذلك.

في طريقي للمطار بصحبة الأخ العزيز مررنا على مقبرة المسلمين غرب لندن، وقرأنا الفاتحة على روح والدته وعلى أموات المسلمين، مشوار هام في هذه اللحظات ليتذكر الانسان ويخشع، وليتعظ ويسمع.

رحلة الطائرة كانت طويلة وطويلة جداً، أخذتني الأفكار ورحلت في عالم آخر لا يقل عن حقيقة أني معلق بين السماء والأرض، تارة ابتسم وأشعر بالسعادة، وتارة تدمع عيناي من عظمة الأمر الذي انتظرته عقوداً من الزمن، وخوفاً من عدم الوصول لأسباب تتعلق بالطريق والمعبر. حطت الطائرة في مطار القاهرة في موعدها تماماً، وبعد اتمام اجراءات الدخول كنت خارج قاعة المطار في أقل من 30 دقيقة، رقم قياسي آخر في مسلسل التساهيل، لك الشكر يا رب.

أبو مصطفى الشاب المصري الأسمر ينادي علي في زحمة المطار أبو عمر، لقد كان في انتظاري بالمطار بصحبة أخيه، استبشرت عند رؤيته بوجهه الباسم وطبعه الهادئ، وكعادة أهل مصر وكرمهم وحسن ضيافتهم، ورغم الحاحي بالتوجه لموقف سيارات العريش، أصروا أن الوقت غير مناسب، والطريق "بتتقفل" و"ما فيش سيارات دلوقتي"، و"الصباح رباح"، رضخت لهما ورافقتهما إلى منزلهما في القاهرة، ورغم أن عقلي قد تجمد عند نقطة واحدة: التوجه إلى غزة، إلا أنني وجدت نفسي محاطاً بكرم عائلة أبو مصطفى، وتسابقها للترحاب والسؤال وإكرام الضيف، زادهم الله من رزقه ونعيمه.

استطعت أن أنام لثلاث ساعات ثم استيقظت، "بينا" يا أبو مصطفى، على بركة الله اتجهنا نحو موقف المرج الجديدة، وكانت الساعة قد قاربت السابعة صباحاً، ولم نجد في موقف العريش إلا سيارة واحدة فقط، سلام عليكم يا عم رايح على فين؟ أجاب طالع على رفح وناقصني راكب! سبحان الله على رفح مباشرة دون المرور على العريش وباقي مكان راكب؟ كانت هذه علامة أخرى بعد الاستخارة الليلة الماضية، ركبت وانطلقت السيارة، وانطلقت معها مشاعري وأنا اقترب من اللحظة المنتظرة.

السائق أخبرنا أن الحواجز على الطريق تملؤه، وأنه غير مسؤول ان طُلب منا النزول والعودة، وأن أجرة النقل لا علاقة لها بذلك، اتكل على الله ياعم، وكان ما توقع، فعند أول حاجز عند مدخل مدينة الاسماعيلية طُلب من سيدة وابنتيها النزول من السيارة وانزال أمتعتهن والعودة أدراجهن، كان ذلك لأنهن يحملن وثائق سفر خاصة باللاجئين الفلسطينيين، ورغم أن لديهن اقامات في مصر، إلا أن ذلك لم يشفع لهن، الأوامر صارمة بعدم السماح للفلسطيني بالمرور، ذرفن الدموع فالأم كانت على موعد مع أبناء خمسة لها لم تلتق بهم منذ سنوات، ومعها كانت البنات على أمل لقاء اخوتهن، ووجدتني أشعر بحزن وغضب شديدين، ما ذنبهن وأي جريمة ارتكبن؟ هن أحق مني بالمرور للقاء الأبناء والاخوة، وما الفرق بيني وبينهن سوى أوراق تقول هذه وثيقة، وذلك جواز سفر أجنبي؟ يا الله كم هو محزن حالنا، ترى كم من الزمن نحتاج ليتعامل معنا أشقاؤنا بما نستحق؟ لا حول ولا قوة الا بالله.

حاجز وراء حاجز، ونقطة تفتيش وراء أخرى، توقفت عن احصائها بعد الحاجز العشرين، وعواصف رملية شديدة جعلت الرؤية صعبة، ثم أمطار غزيرة ورياح قوية، مررنا بالعريش والشيخ زويد وكانت مقفرة بمحلاتها المغلقة بحسب الأوامر، وأخيراً وصلنا أطراف مدينة رفح المصرية، أربعة حواجز على المداخل ثم تحويل اجباري للطريق أدخلنا في مناطق غارقة في مياه الأمطار وصولاً إلى الجندي المجهول، هانت "راح الكثير وما بقي الا القليل"، لكن القليل هذا استغرق أكثر من ساعة ونصف من الجندي المجهول إلى أطراف بوابة صلاح الدين بسبب شدة الازدحام.

عند بنك الاسكندرية أنزلنا سائق السيارة وأشار بيده: من هناك البوابة، حملت أمتعتي، بسم الله الرحمن الرحيم على الله توكلت، سرت مع السائرين والأمطار تهطل بغزارة شديدة، وأقدامنا بل أرجلنا تغوص في المياه والطين، متجهين إلى بوابة صلاح الدين، لاحت في آخر الشارع أجزاء السور الحديدي المثني الشهير، لحظات لا أعرف كيف مرت، لكن أعرف أنني في هذه اللحظات وأنا استذكرها يغالبني دمعي من جديد، كومة من الأحجار وضعها الناس لتسهيل المرور، قفزة من هنا وأخرى من هناك، أصوات تتعالى "ديروا بالكو لتتزحلقو"، اختلطت الدموع بمياه المطر، وأخيراً......... الحمد لله رب العالمين.

تم تعديل بواسطة أسامة الكباريتي

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

غزة...أرض العزة

الجزء الثاني.....على ثراها

قبل أن أصل مدينة رفح المصرية، وتحديداً في الشيخ زويد أجريت اتصالاً هاتفياً تحسباً لانقطاع التغطية، تحادثت مع عائلة زميلتنا في رفح، اخبرت اخاها أني على وشك الوصول، أكد أنه سيكون بالانتظار، لكن بسبب شدة الازدحام والحواجز وصلت بعدها بساعات.

غادرت سيارة الأجرة عند بنك الاسكندرية، وتراءت بوابة صلاح الدين أمامي، اتكلت على المولى عز وجل، الأمطار تنهمر وموجات بشرية تتدافع باتجاهين، من فوق السور الحديدي وبقفزات معدودة. دخلت أرض الوطن، أخيراً على ثرى فلسطين الحبيبة.

اللحظة الأولى، الخطوة الأولى، اللقاء الأول، آه كم طال هذا اللقاء، أه كم انتظرته، الآن يتحقق جزء منه، فرحة كبرى لا تكتمل إلا بالتحرير الكامل والعودة إلى مدننا وبلداتنا وقرانا وأرضنا الأصلية، في يافا وحيفا وعكا والناصرة وصفد والرملة وبيسان وطبرية واللد وإلى أصغر خربة على أرضنا الحبيبة. اليوم.. الاربعاء 30/01/2008 الرابعة مساء، يوم لن أنساه ما حييت، يوم عانقت أرض الوطن، يوم كان اللقاء.

امتزجت حبات المطر مع دموع الفرح، شعرت حينها كأني أحلق في الفضاء، وأنا اقف بثبات على الأرض. كنت أنظر حولي كمن ضل الطريق بعد أن وجدها. ها هي غزة تضمني وتجمعني بأهلها المرابطين الصابرين. تذكرت قصيدة في القدس لتميم البرغوثي، تذكرت حلمي، شريط من الأحلام المؤجلة مرت بسرعة البرق. أحقاً وصلت؟ نعم انها الحقيقة، شكراً لك يا رب على كرمك.

كنت مبتلاً، كانت أرجلي غائصة في حنّاء الوطن، تراب غزة الممزوج بالمطر والمعطر بدماء الشهداء، لكن رغم ذلك كنت أشعر بالدفء، دفء من نوع آخر، إنه دفء في حضن الوطن، دفء الأرض الذي استشعره لأول مرة، دفء الجذور والانتماء، وقفت وسط الجموع الهادرة مشدوهاً مسبوهاً، توقف الزمن عندي.

العمر كله مر بثوان، آلاف من حولي رأيتهم بثياب ناصعة البياض رغم اختلاف ألوان ملابسهم، خلته بداية الفتح العظيم، كصورة فتح مكة، لكن نحو القدس بإذنه تعالى، كنت أطوف العالم وأنا في مكاني، كل شيء يتحرك وأنا ثابت، ربما ظن البعض أني أبله، أو أني ضللت الطريق، لكني كنت أشبع ناظري من كل ما حولي، وجدتني ابتسم، ثم ضحكت، لا أدري لماذا تذكرت عبّاس وهو يتهم اللاجئين الفلسطينيين في الخارج بعدم الوطنية، لان ارجلهم لم تتغبر بتراب الوطن، يعايرهم وكأن الأمر برغبتهم وارادتهم، ضحكت وقلت بصوت عال، انظر يا عبّاس لمن جاءوا من كل حدب وصوب لا ليغبروا أقدامهم، بل ليعانقوا الثرى الطاهر، ليغوصوا فيه، ليتبركوا به، ليتشرفوا بالانتماء اليه. ابتسمت مرة أخرى وتساءلت، يا ترى هل مشى عبّاس يوماً على تراب الوطن؟ أم أنه يتجول بسيارته حيث يسمح له بالحركة؟ لا أعرف الاجابة – أو ربما أعرفها، لكني لن أفسد اللحظة بتذكره وأمثاله.

لوحة جميلة حيّة، لم أكن قد خطوت إلا بضع خطوات، كانت كافية أن تمنحني طاقة قوة وصلابة ويقين، بأننا شعب لن ينهزم ولن يلين بإذنه تعالى، دعوت من أعماق قلبي أن يكتبها الله لكل عاشق لوطنه ينتظر كما انتظرت، كنت أردد في سري : ليتكم ترونها كما أراها...

من بين آلاف الأصوات حولي سمعت من ينادي ويتساءل: أبو عمر؟ التفت إلى جهة الصوت، لم أكن أعرف صورة من ينتظرني، لكن من تقاسيم الوجه والشبه بينه وبين أفراد عائلته عرفته، كان ضخماً طويل القامة، شكله أضاف بهجة للحدث المشرق، هي هكذا تلك اللحظات يرى المرء فيها كل شيء له آلالاف المعاني، في غزة أرض العزة، الصغيرة بجغرافيتها، العظيمة الكبيرة العملاقة بفعلها. لا أعرف كيف استطاع أن يميزني وسط تلك الجموع، تعارفنا وتعانقنا، أهلاً بك في رفح، اتجهنا حيث كانت تنتظرنا سيارة لأحد اقاربه، حياك الله أخي الحبيب واعتذر عن طول انتظاركما، هكذا بدأت، لكن الأسارير المنفرجة والترحاب الأصيل كان رده.

تجرأت وطلبت: هل من الممكن شراء شريحة جوال لاستخدامها هنا، "ان شاء الله" كان الرد، لكن الفعل كان بسرعة الرد. توقفت السيارة، لحظات وكانت الشريحة معي، آلمني أن أدفع قيمتها بما يعادل 120 شيكل، لماذا الشيكل؟ ألم يكن الدينار والجنيه هو العملة المتداولة قبل بركات أوسلو؟ ما علينا! ما أعظم هذا الخٌلق الطيب الذي قابلته في كل زاوية من زوايا قطاع غزة.

الطريق كان مليئاً ببرك المياه والحفر، عرفت أنه لا توجد شبكات صرف، لكن الاعتماد على الصرف السطحي، اي بالجاذبية، ومن كان حظه في مكان منخفض عليه أن يتحمل ويستعد للسباحة!. مرة أخرى جال بخاطري سؤال: أين هي انجازات السلطة الموقرة والمليارات التي استلمتها؟ ليس هذا وقته يا رجل، دعنا منهم ومن سيرتهم، ولتكن تلك الأيام جميلة بكل ما حملت من معان.

في منزل الأسرة الكريمة في مدينة رفح قابلت والدتهم والأحفاد، حديث ذو شجون واطمئنان عن أحوالهم وأحوال أهلهم في الغربة. الساعة الرابعة والنصف تقريباً، جلسنا دون كهرباء، في جو شديد البرودة، لدرجة أن بخار الماء كان يخرج من أفواه من يتكلم، ونحن داخل المنزل. ظننت أني قادم من بلاد البرد، فوجدت برداً أشد وأقسى، زادت برودته إجراءات الحصار الظالم وانقطاع الكهرباء وانعدام التدفئة.

هل تأذنون لي بالوضوء، سؤال لا معنى له واجابته بديهية، لكني سألته على أي حال، وما أن بدأت بالوضوء، حتى ارتجفت من شدة برودة الماء، كأنه ثلج مذاب، كان الله في عون أهلنا، وقاتل الله من يحاصرهم ويتآمر عليهم كائناً من كان.

بعد تلك اللحظات المثيرة، وبعد أن وصلت وأديت صلاتي، جاء دور الأهل ومن ينتظر الأخبار بمزيج من القلق والاثارة. اتصلت بزوجتي، تحدثت مع أبنائي، أرسلت عدة رسائل عبر الهاتف لأصدقاء، ملخصها جميعاً: ليتكم معي، ليتكم معي. بعدها اتصلت برجل فاضل عرفته والتقيته في موسم الحج العام الماضي، كنا نتواصل دائماً عبر شبكة الانترنت، أصر على المجيء في التو واللحظة، قلت له "طول بالك دوبني واصل"، أجاب لا بأس ليصف لي أخونا العنوان. كان له ما أراد، ختم بقوله "أنا في الطريق اليكم"، وما هي إلا ثلث ساعة وكان قد وصل.

جلسنا جميعنا نتناول الطعام الذي أعددته الحاجة، على ضوء الشموع، تبادلنا أطراف الحديث، وباصرار والحاح لمرافقة القادمين إلى خان يونس، تركنا رفح وأهلها الأكارم، هكذا هم أهل قطاع غزة لا مهرب من ضيافتهم وكرمهم إلا إليه.

الطريق إلى خان يونس لم تكن سهلة، مستنقعات وبرك المياه في كل مكان، ممرات يطلق عليها طرق، حفر وانهيارات، حتى الطريق الرئيسي كان في حالة يرثى لها، أعني طريق صلاح الدين الشهير، مظاهر العدوان في كل مكان، لكن رغم ذلك، ورغم ما يعانيه أهل غزة، رأيت الوجوه باسمة مستبشرة، الكل يلوّح "السلام عليكم"، كيف لا وهم على الأرض المباركة، هنيئاً لهم.

خان يونس كانت كرفح، بدون كهرباء، برد شديد، كرم وحسن ضيافة، وجوه مستبشرة مرحبة، وخلال لحظات كان أكثر من عشرة اشخاص يسألون ويستفسرون عن الرحلة والطريق، عن أهلهم واخوتهم في الشتات. معنويات الجميع كانت في السماء، بل لا أبالغ أنها معنويات تفوق معنوياتنا، وإصرار على الحق والثبات.

التفت أحد الحضور وقال: "بصراحة احنا بنعتب عليك يا دكتور"، قبل أن يكمل عرفت مقصده، فبادرته: "قصدك موضوع الاتجاه المعاكس عالجزيرة وحكاية المنطقة الشرقية من خان يونس"، ضحك الجميع وقالوا "نعم"، هنا تساءلت وهل عرضت إلا وقائع وتحليلات مبنية على المتابعة؟ نعم نعم كنا نمازحك، لكن الموضوع تطور إلى السؤال عن مستجدات القضية التي رفعها دحلان حول هذه الجزئية تحديداً، وأبدى الجميع استعدادهم التام للادلاء بشهاداتهم وتوثيق كل ما يتعلق بالأمر. شعور صادق وهام، وقد يكون أكثر أهمية في مراحل قادمة من القضية التي أكدت لهم أنني سأواجهها حتى النهاية إحقاقاً للحق.

تأخر الوقت، لم نشعر به، والحضور يزدادون، لكن القوم لديهم أعمالهم في الصباح، انطلقوا على بركة الله، وبدأت الدعوات تنهال: "بكرة الغدا عندي"، "لا عندي"، "اسمحولي يا شباب هالمرة عندي"، "طيب اذا الغدا صعب خليها عالعشا"، "ما راح نقبل أعذار"، كرم قل مثيله، ودعوات صادرة من القلب لا مجاملات، حفاوة ميّزت كل من قابلت وتركت أعظم الأثر في نفسي.

ما رأيك أن تخلد للنوم؟ تساءل مضيفي، قلت لست هنا كي أنام "النوم ملحوق عليه"، أريد أن أعيش متعة كل لحظة على أرض فلسطين الغالية. كان مخططي الأساسي أن أصل صباحاً وأن أغادر مساء بسبب ظروف المعبر والتزامات العمل وغيرها، لكن هيهات فالأمر لم يعد ملكي، وبرامج الزيارات قد ثُبتت وغير قابلة للنقاش،ها قد تغير المخطط وقررت المبيت فلا أقل من أن استغل اللحظات، ولا أنكر أنني في حقيقة الأمر كنت أتمنى أن أبقى متحيناً العذر لذلك.

فيما يشبه السحور الساعة الثانية بعد منتصف الليلة، دخلت "صينية" عليها طعام العشاء، لم يكن عشاء عادياً، مكوناته جميعا "بلدية" أي من إنتاج أرض غزة، الطماطم، البصل، الفول، الزيت، الزيتون، حتى الخبز كان معداً بالمنزل، ما ألذ الطعم وما أروعه من إحساس. لم أكن جائعاً عندما بدأنا الأكل، لكن حقيقة أن الطعام كان من أرض الخير جعلني آكل وبشهية. هي فرصة ربما لن تتكرر بسهولة، اللهم بارك في أرض فلسطين وبارك في رزقها.

كان لابد من الراحة قبل صلاة الفجر، وضعت رأسي على الوسادة، راجعت شريط الأحداث لليوم الماضي، كيف كانت اللحظة الأولى واللقاء الأول والخطوة الأولى، طمأنينة غريبة شعرت بها، وسكينة ملأت قلبي وعقلي ونفسي. لماذا تغالبني دموعي مرة أخرى؟ انها دموع الفرح والسعادة، دموع من يقضي ليلته الأولى في أحضان وطنه العظيم، ومع هذه الأفكار والمشاعر، ومع التفكير في الغد، الغد هو يوم آخر، وجولة أخرى، غلبني النعاس وكم كنت أتمنى أن لا يزورني النوم أبداً خلال رحلتي الأولى إلى فلسطين الحبيبة، لكني نمت.

د.إبراهيم حمّامي Drhamami@hotmail.com

12/02/2008

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

غزة...أرض العزة

الجزء الثالث.....في ربوعها

فجر الخميس 31/01/2008 وبعد صلاة الفجر، بدء نهار جديد يكمل رحلتي الأولى، فهذا الفجر الأول في غزة الأبية، بعد أن كان مساء الأمس اليوم الأول واللحظة الأولى والخطوة الأولى، فجر هادىء بعد ليلة عاصفة بالرياح والأمطار، صباح جميل يبشّر بيوم مشمس مشرق، يوم سأتعرف فيه على قطاع غزة لأربط بالبصر ما عرفته بالخبر.

بعد افطار غزيّ شهي، انطلقنا إلى طريق صلاح الدين في اتجاه مدينة غزة، الطريق ليس بحاجة لصيانة بل لاعادة اعمار ورصف كامل، وضعه سيء وبالتأكيد لم تنفق عليه أية أموال لسنوات، ومع ممارسات الاحتلال وجرائمه من هدم وتجريف لكم أن تتخيلوا وضع الشريان الرئيسي الواصل بين جنوب القطاع وشماله. طريق صلاح الدين يبدأ من بوابة صلاح الدين على الحدود المصرية ويمتد بطول القطاع حتى بيت حانون، مخترقاً المدن والمخيمات الرئيسية، ترى أين ذهبت الأموال التي كان من المفترض أن تصرف على تحسين البنية التحتية؟ ألا يستحق قطاع غزة ما يليق به وبتضحياته؟!.

مررنا على ما كان يسمى مجمع غوش قطيف الذي كان يخنق مدينة خان يونس، بعد الخروج من خان يونس مباشرة أشار من معي الى آلات وآليات صناعية مدمرة لمصنع كان للأسمنت، دمرته همجية المحتل دون ذنب إلا للانتقام من عملية جرت بقربه، ما زالت آثاره تشهد على المحتل وجرائمه، ثم مررنا بمحررة كفار داروم، هنا منطقة المطاحن حيث كان حاجز أبو هولي، الحاجز الذي كان يرمز لعربدة المحتل ومحاولات اذلال شعبنا، عليه كانت تقف السيارات لساعات طوال في انتظار أن يمر مغتصب من الشرق للغرب أو بالعكس، اليوم لا وجود للحاجز، لكن تبقى ذكرياته الأليمة.

هذه المغازي على يميننا ودير البلح عن شمالنا، دقائق ونمر بالبريج يمنة والنصيرات يسرة، أسماء نعرفها ونحفظها ونتابع أخبار رجالاتها وبطولاتها، أراها اليوم ماثلة شامخة أمامي، هذه مناطق ومخيمات الصمود والعطاء، في كل حجر فيها قصة، وفي كل ركن رواية، وفي كل زاوية حكاية، لكنها تبدو حزينة، الحركة فيها بسيطة بسبب نقص الوقود، مياه الأمطار تجمعت وتملأ المكان، السيارة عليها أن تناور الحفر وبرك المياه حتى لا تسقط في إحداها، آثار الدمار واضحة، وكذلك آثار الاصرار.

ها هي مدينة غزة تلوح مبانيها في الأفق، المباني المميزة لها، لطالما شاهدتها على شاشات التلفاز، ما أجمل ذلك الشعور وأنا أحدث نفسي، أخيراً في غزة، "يا سلام". اليوم سأسير فيها وأتحدث اليها ولأهلها، اليوم سأستمتع بهوائها وأجوائها ، لحظات وكنا في قلب غزة، هو هكذا قطاع غزة صغير بمساحته، والتنقل فيه سريع سريع، لكنه كبير في قلوبنا وفي عيوننا، لا يمكن أن نحتويه ونحتوي تاريخه المبدع.

مدينة غزة غارقة في الظلام، وعلمت أن غزة أقل حظاً من غيرها بالنسبة لعدد ساعات انقطاع الكهرباء، المحلات إما مقفلة، أو نصف مفتوحة تغشوها الظلمة، لكنها منيرة بأهلها، رغم ذلك الناس يبتسمون، يتحلقون أمام المحال وعلى زوايا الطرق ليتبادلوا الأحاديث. أطفال باعة متجولون يملؤون الطرقات، سلعتهم الرئيسية السجائر، وأهل غزة مغرمون بنوعين من السجائر: مارلبورو وال ام، لا أحب التدخين ولا السجائر لكني استفسرت، الأطفال ينادون بخمسة شيكل بخمسة شيكل، فهل هذا سعر اعتيادي، قال من معي في السيارة كان سعر "الباكيت" 18 شيكل قبل "الفتحة" مع مصر، اذن انخفض سعر العلبة من 18 الى 5 شيكل، ورغم كرهي للسجائر إلا أني اعتبرت ذلك دلالة على تحسن الظروف الاقتصادية وانعكاس سعرها على باقي السلع، وهو ما أكده من تحدثت معهم لاحقاً.

الظاهرة الملفتة أكثر من غيرها، والتي ادهشتني واستوقفتني كثيراً، منذ انطلاقنا من خان يونس وقبلها من رفح وحتى وصولنا إلى مدينة غزة، هي أني لم أشاهد مسلحاً واحداً، لا وجود لحواجز على الطرقات، لا نقاط مراقبة على المفترقات، لا حراسات ولا آليات، ولا أي نوع من المظاهر المسلحة، كنت أتخيل أني سأجد القطاع عموماً، ومدينة غزة خصوصاً ثكنة عسكرية، تخيلتها كالفاكهاني في بيروت غابة من السلاح والحواجز، أو على الأقل هكذا كانت تبدو للمتابع عبر الفضائيات. استذكرت ما تنشره المواقع الصفراء عن الخوف والارهاب والميليشيات المسلحة، تذكرت ادعاءاتهم أن الناس لا تغادر بيوتها خشية على حياتها، أين الميليشيات وأين المسلحين؟ لا أثر لهم في أي مكان، هو الأمن والأمان في كل مكان، لا يستوقفك أو يزعجك أحد، حقيقة وشهادة أسجلها باعجاب.

في شوارع غزة البشر والحجر ينطق ويحكي قصته، كل جدار سُجل عليه تاريخ حافل بالأحداث. ما أجمل أن يكون المرء بين أهله وفي بلده، ما أروع أن يقرأ التاريخ على صفحات الوجوه، وعلى جدران المكان والزمان مباشرة دون وسيط، هنا كذا وهناك كذا، تفاصيل كثيرة يصعب حصرها، قصص يفخر أهل غزة بها، يروونها بتفاصيلها، تعيشها معهم وكأنك عايشتها.

البداية ويا للعجب كانت مع مقر الأمن الوقائي السابق في تل الهوى أو تل الاسلام، لم أختر البداية ولا أعرف لماذا كانت هناك، لكنها لخصت وضع قطاع غزة الجديد، المقر سيء الصيت والسمعة الذي كان مركزاً للاعتقال والتعذيب والتآمر، المقر الذي سقط فيه الضحايا ومنه خرجت فرقة الموت، من منا لا يعرفه؟.اليوم يقف هذا المجمع الضخم بأسواره خاوياً تذروه الرياح بلا حياة. تجرأت وسألت الوحيد الذي يقف عند بوابته "هل يمكننا الدخول؟"، نظر وتردد ثم أجاب "لا أحد ليصحبكم إلى داخله"، "لا عليك هي جولة في الخارج دون دخول المباني"، على مضض سمح لنا بالدخول إلى ساحات الوقائي، لم يعد الدخول مرعباً كما كان لأهل غزة، حسب المثل "الداخل مفقود والخارج مولود"، ساحات فارغة إلا من بقايا أثاث محطم، أبواب ونوافذ بلا أطر، مصير توقعه الجميع للمبنى ومن كان يديره، لكنه مصير أحزنني!.

هذا المنظر المهيب جعلني أتساءل: لماذا لا يتم تحويل هذا المبنى أو المجمع واستغلاله للفائدة العامة، معهد دراسي أو متحف وطني، أي مؤسسة مفيدة تحتاج لمثل هذا المكان الكبير بمبانيه وغرفه الكثيرة؟.بقاء المقر كما هو خسارة لأهل غزة، كما أن مجرد التفكير بعودة الأمور كما كانت أو اعادة المقرات الأمنية كما يطالب حكّام محمية المقاطعة في رام لله جريمة لا تغتفر، ولا يجب أن تقبل بذلك الحكومة في غزة، اياكم والعودة للوراء ولأيام القمع والتنكيل، إياكم أن تخذلوا شعبنا الذي تنفس الصعداء، وأن تسمحوا للرموز البائدة بالتحكم في مصير شعبنا، وأن تقبلوا بشروط من انغمسوا في الفساد والافساد، وأن تعود الى غزة تلك الزمر وأوكارها.

استمرت الجولة على باقي المقار الأمنية، الحال لا يختلف كثيراً، لكن أمر آخر لفت انتباهي، الشعارات المكتوبة والصور المرسومة على جدران تلك المقرات هي من لون واحد، قيادات رحلت من فصيل بعينه، شعارات تمجد حركة بعينها، وكأنها مقرات حزبية لفصيل واحد، ما زالت الشعارات والصور كما هي لم تمح من قبل الحكومة، دلائل على حصرية وتبعية تلك الأجهزة لمن اختطف القرار الفلسطيني، ثم يحدثونك عن الشراكة والوحدة والاقصاء والكراسي، لا عجب لماذا كانت تلك الأجهزة سبب الفوضى والفلتان، ولا عجب أن أنهارت تلك الأجهزة الحزبية بهذه الطريقة، ولا عجب أن يجلس أفرادها اليوم في بيوتهم يتلقون رواتبهم!.

ألا يوجد في غزة إلا المقرات الأمنية؟ الحقيقة أن ما كان يسمى بالمربع الأمني هو منطقة كبيرة جداً تمتد من وسط المدينة وحتى شاطيء البحر، وفيها مساكن للضباط وأبراج تتبع هذا الجهاز أو ذاك وغيرها، وهي منطقة شهدت أكثر الأحداث دراماتيكية يوم 14/06/2007، لكن بالتأكيد غزة ليست كلها مقرات أمنية.

على أطراف تلك المنطقة تقف الجامعة الاسلامية شامخة، تجاورها جامعة الأزهر، جامعتان شقيقتان لا تجتمعان، فرقتهما الأحداث، أو هكذا كانتا. تذكرت الهجمة الشرسة والهمجية التي مارسها حرس عبّاس العام الماضي، وعمليات التخريب والحرق. دخلت الجامعة الاسلامية، كانت تخلو من الطلاب فالوقت اجازة، آثار الحرق ما زالت شاهدة، "حرس الرئيس مر من هنا" مكتوبة في أكثر من مكان. جامعة جميلة منظمة راقية، عمال الصيانة في كل مكان، ترميم وطلاء وتجميل فوق الجمال لتأخذ زينتها من جديد، كيف لا وهي مدرسة الرجال والقادة.

كنا على موعد بعدها مع منزل الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، حيث كان يسكن، هذا هو المسجد الذي كان يصلي فيه، وهنا استهدفته صواريخ الغدر بعد صلاة الفجر من يوم 22/03/2004، رحمك الله يا شيخ أحمد وأسكنك فسيح جناته مع الأنبياء والشهداء والصديقين، لروحك الطاهرة نقرأ الفاتحة، منزله كأي منزل آخر بسيط لا يميزه شيء. خطر ببالي خاطر: لننطلق نحو بيت عبّاس أو ما يسمى بالمنتدى، أريد أن أقارن بين منزل الشيخ رحمه الله ومنزل عبّاس!.

المنتدى المذكور يقع مباشرة على شاطيء بحر غزة، له مدخل ومخرج، مبنى جميل تحفه الحدائق، مقر يليق بقائد شعب فلسطين، لكنه لا يليق بأن يصبح وكراً لقطاع الطريق، هكذا على الأقل كان في أيامه الأخيرة، انطلقوا منه لمهاجمة وحرق المنازل المجاورة، ولبث الرعب في نفوس الآمنين، وهو ما اعترف به سميح المدهون بنفسه وصوته، وهو من تمترس في المنتدى وهرب من بحره.

المنتدى اليوم بلا سكان، محافظ عليه، غير مسموح بدخوله، في انتظار ما تسفر عنه الأيام القادمة من تفاهمات، لكن المقارنة وقعت: شيخ جليل وقائد عظيم يسكن في بيت عادي، وما يشبه القصر يصبح مقراً لمن ..... لن أفصّل.

المحطة التالية كانت منطقة الرمال، أفخم مناطق مدينة غزة، أراد من معي المداعبة فأوصلونا إلى منزل هناك وقالوا "هذا منزل دحلان انزل اتفرج وخدلك صورة"، لكن صاحب المنزل ورغم أن بيني وبينه قضاء ومحاكم غير موجود، لن أدخل منزلاً دون استئذان حتى وان كان منزل دحلان، هذه أخلاقنا وهكذا تربينا، أم أخلاقهم فهذا شأنهم. كنت أتخيل منزل الشوا قصراً لكنه عبارة عن فيلا جميلة بجدرانها البيضاء، مهجورة دون أبواب أو نوافذ وبلا علامات مميزة إلا عبارة كتبت على مدخلها تقول: "هنا كان يسكن الأصفر ابن الأصفر".

من هناك توجهنا إلى مقر المجلس التشريعي، وبعد الحصول على الموافقات دخلنا الى مبنى التشريعي الجديد الذي تعطل إكمال وإتمام بنائه بعد وقف ميزانيته العام الماضي، ليكتمل اليوم، مبنى جميل وحديث يقف بجوار المبنى القديم الذي بنته مصر ابان ادارتها لقطاع غزة، كان داخله مظلماً بلا كهرباء، صعدنا درجات السلم ووصلنا إلى مكتب د. أحمد بحر النائب الأول لرئيس المجلس التشريعي، استقبلنا بحفاوة، كان صائماً فاليوم هو الخميس لكنه قدّم لنا القهوة والتمر، تحدثنا عن الأوضاع وآفاق المستقبل، عاتبني بحنان على قسوة قلمي، قبلت منه ذلك بكل محبة، ودّعنا د. بحر حتى باب المجلس بتواضع جم، بعد أن أمتعنا بحديثه وكلامه.

الساعة تعدت منتصف النهار، يرن الهاتف، المتصل يعلمنا: السيد اسماعيل هنية رئيس الوزراء سيلتقيكم تمام الواحدة والنصف في منزله، خبر مميز كنت انتظره.

أقمنا صلاة الظهر والعصر جمعاً وقصراً في مقر وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ثم الاستعداد للتحرك، والانطلاق نحو مخيم الشاطيء حيث يقطن السيد اسماعيل هنية للقائه، وكان اللقاء المرتقب...

د.إبراهيم حمّامي Drhamami@Hotmail.com

13/02/2008

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

غزة...أرض العزة

الجزء الرابع.....مع رجالاتها

كانت عقارب الساعة تقترب من الواحدة والنصف بعد ظهر يوم الخميس، دخلنا مخيم الشاطيء، عدة شوارع ثم استدارنا نحو اليمين،واذ نحن أمام منزل السيد اسماعيل هنية، كان خارج المنزل وأمام بابه، بدا شامخاً بجسمه الضخم الرياضي، ابتسامته المعتادة ارتسمت على وجهه، وما أن غادرنا السيارة حتى اقترب وصافح الحضور بكل تواضع وأخلاق، عانقته وهمست في أذنه "أُحبك في الله يا ابو العبد" هكذا قلتها دون كلفة، ربما افتقرت للياقة حينها، لكن كان هذا شعوري، هكذا دون تكلف من القلب للقلب، فأجاب مبتسماً "أحَبّك من أحببتني فيه"، دخلنا المنزل دون تفتيش أو حراسة، دون أسئلة واستفزازات تعوّد عليها زائرو القيادات. منزل متواضع بسيط وسط مخيم الشاطيء للاجئين، دخلنا قاعة الجلوس، جلت فيها بناظري، عدت بذاكرتي لقاعات دخلتها لمسؤولين آخرين، قاعة متوسطة الحجم، هي أصغر من قاعات باقي البيوت التي دخلتها حتى الآن، أثاث متواضع جدا، جدران مطلية بشكل عادي، نظرت أمامي وابتسمت، على الجدار المقابل لمكان جلوسي كانت الرطوبة قد تركت أثرها عليه فأثرت على طلائه، يا الله هو بيت مثل بيوتنا، بل ربما أكثر تواضعاً، لكن مع بساطته، جعلني أشعر عظمة ساكنيه والافتخار بهم. عظمة من أبى أن يتنكر لأهله وجيرانه ليسكن القصور أو يشتري أغلى البيوت في أفخم المناطق، ووالله لو فعل ما انتقص ذلك منه فهو يستحق أكثر.

جاءت القهوة والتمر، عزم علينا السيد هنية بنفسه، قلت "تفضل يا عيب الشوم" أجاب بأدب "معلش اعفيني"، تذكرت أن اليوم الخميس فسألت "صايم"، أومأ برأسه مع ابتسامة بالايجاب، أخلاق القادة وتواضع الفقهاء.

كانت آثار التعب بادية على وجهه، وكعادتي الفضولية سألت عن السبب حتى لا نزيده ارهاقاً، قال من كانوا برفقته أطالوا السهر بالأمس،وهو يستقبل الأفراد والوفود ممن دخلوا غزة بعد فتح الحدود، لم يرفض لقاء أي كان مهما علا أو صغر شأنه، استقبل الجميع دون استثناء، ولم يأوي لفراشه إلا قبل الفجر بقليل، لكنه ها هو يستقبل زواره من جديد، لا يرد طلب أحد.

دار الحوار حول أمور كثيرة، منها الأداء الاعلامي للحكومة، وأبديت رأيي بنقاط تحتاج للمراجعة. وضعنا السيد هنية في صورة المستجدات، سأل واستفسر عن أبناء شعبه في الشتات وخاصة في أوروبا. يتابع كل الفعاليات والنشاطات حول العالم، عالم بدقائق الأمور، هكذا يجب أن يكون القادة، مرة أخرى ابتسمت وأنا أتذكر ذاك "الزعيم" وهو يخطىء في اسم بلدة فلسطينية وعلى الهواء!.

كان الأصل أن نجلس عشر دقائق ثم نغادر، لكن الحديث الممتع امتد، وأصر "أبو العبد" أن نبقى، وزاد إصراراً أن نتناول طعام الغذاء عنده وفي منزله، لم أنس أنه صائم ولم ينس أصول وكرم الضيافة، اعتذرنا بأدب وبعد حوالي نصف الساعة استأذنا بالمغادرة.

وقف السيد هنية وأشار لشخص في الغرفة فتناول مصحفاً كريماً (مصحف المسجد الأقصى) في صندوق خشبي جميل، وأهداني إياه، ووضع شالاً فلسطينياً حول عنقي، اغرورقت عيناي بالدموع، لم أتوقع ذلك، ومن أكون ليغمرني بلطفه وأدبه وتواضعه؟.عانقته بحرارة وتمنيت أن يجمعنا الله سبحانه وتعالى في القدس المحررة بإذن الله، خرجنا ولساني يلهج له بالدعاء أن يحميه المولى من الشرور وأن يسدد خطاه ومسعاه.

كنت وما زلت أرفض تأليه الأشخاص والأفراد أو مدحهم، ولكني أجد نفسي مضطراً أن أصف بكل أمانة وصدق ما رأيته واحسست به، غير متملق أو متصنع، فحق الناس أن نصفهم بما فيهم، لا أن نصنع صفاتهم لتناسبنا.

كان السيد اسماعيل هنية رجلاً من زمان آخر غير زماننا، هادىء يتكلم بصوت منخفض، يستمع باهتمام، عيون تبرق وآذان تصغي وتركيز مذهل، يشرح ويسترسل دون كلل، يتقبل الرأي دون حرج، صدره رحب وابتسامته لا تفارقه، حباه الله بحسن الخُلق والخَلق، صفات عرفت بعدها لماذا تلتف حوله القلوب في كل بقاع الأرض.

كان رجلاً وجدت فيه هدوء أبو بكر، وقوة عمر، وحلم عثمان، وحكمة علي، وتواضع عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم، تشعر معه أنك تعرفه منذ سنوات، لا حواجز ولا تكلف، تواضعه يرفعه، وأدبه يعظمه، وأخلاقه تفرض نفسها على كل الحضور، مهما قلت لن أستوفيه حقه، لكني وبكل صدق أقول أنه من زمن آخر، زمن الخلفاء والعظماء، لقاؤه لن أنساه، رضي الله عنه وأرضاه.

بعد مغادرة منزل السيد اسماعيل هنية، قمت بزيارة قصيرة لعائلة أحد الأصدقاء في غزة لأحمل لهم التحية والسلام وأطمئن على أحوالهم، لم أجلس لكن العم أصر أن يشرح لي أوضاعهم ومعاناتهم، هكذا نواجه انقطاع الكهرباء، وبهذه الطريقة ندفيء المنزل، هنا حدث كذا، وهناك كان كذا، كان الله في عونهما، فهو وزوجته يعيشان وحدهما في ظروف صعبة، لهما رب العالمين.

أخذنا طريق البحر لنعود أدراجنا إلى خان يونس، كان البحر هائجاً، ومنظر الموج ذكرني بالنشيد "غزة ع مواج البحر بتردد الزغاريد"، صورة جميلة وشعور أجمل، الطريق ليس بأفضل حال من طريق صلاح الدين. مررنا على منطقة الشيخ عجلين ومسجدها الشهير، شاطىء البحر كان الصيف الماضي يعج بالمصطافين، آثار بيوت القش ما زالت هناك، لكن أيضاً كانت هناك أكوام من مخلفات البناء القيت دون رقيب أو حسيب.

أبطأت السيارة وقال أحدهم هنا أمسكوا بسميح المدهون، في هذا المكان، أثناء محاولة فراره، وهنا أطلق النار على أحد أفراد الشرطة فسقط كآخر ضحية من ضحاياه، قبل أن ينال الجزاء العادل.

من خلال دير البلح عدنا لطريق صلاح الدين، ووصلنا خان يونس، هناك كان لقاء ضم أكثر من 30 شخص، جاءوا ليسألوا ويتعارفوا، جلسة ممتعة امتدت لساعات، ووجوه طيبة مرحبة، ثم كان الاتصال الذي هزني!.

اقترب أحد الجلوس وقال هناك من يريد أن يكلمك، من هو؟ أجاب أسير من سجن نفحة، بكل سرور، عرّف بنفسه وقال سمعنا أنك في غزة فأصر زملائي في السجن أن يوجهوا لك هذه الرسالة، وبدأ بالقراءة، كلمات من أبطال شعبنا أسرانا البواسل جعلتني أرتجف، وتعثرت الكلمات، وعجزت عن الرد، هم يرحبون بي من سجنهم، هم من يضحون بسنين عمرهم وجدوا الوقت ليؤكدوا على أخلاقهم وضيافتهم؟ كيف لا فهذه بلادهم وأرضهم ومن أجلها يضحون، هم سادتنا وتيجان رؤوسنا. لم أعرف بما أرد، للمرة الألف غلبني الدمع. أضاف الأسير البطل هل تسمح لي بأن أرسل لك قصيدة كتبتها لأمي؟، ما هذا الأدب؟ هو يستأذنني؟ والله لو أمرني لأطعت، هذه قصيدته أضعها ليقرأها العالم، فرّج الله كربهم وفك أسرهم، آمين يا رب العالمين.

أماهُ ما نظَـمَ القـريضَ لسـاني *** بـل فاضتْ الأوزانُ من وجدانِـي

جسدِي أسيـرٌ في سجونِ عدوِّنَـا *** لله يشكـو قَـصْـوةَ السـجّـانِ

لكنَّ رُوحـي لا تــزَالُ طليقـةً *** لا تؤسـرُ الـأرواحُ بالقضــبانِ

بل يَــأْسِرُ الأرواحَ قيـدُ رذيلـةٍ *** أو حبـلُ أهــواءٍ من الشيطـانِ

أماه قلبــي لا يـزالُ محـلِّقًـا *** لا يعـرفُ الإذعــانَ للأحــزان

وتطوفُ رُوحي كل يوم حولَكُــمْ *** وبرَغْـمِ مـا حَوْلي من الجُـدْرانِ

فإليـكِ يَحْـمِـلُني جنـاحُ محبـةٍ *** رُبِطَتْ بعقـدِ الـديـنِ والإيمـانِ

وجناحُ شـوقٍ لا يزالُ مُـرَفْرِفًـا *** فالشوقُ للأحبـابِ قـدْ أضنانـي

قالـتْ بِـلالُ بُنـيَّ قـدْ أبكَيتَنـي*** دمعًا ذَرا في القلـبِ ,والـعينـانِ

يـا أمُّ لا تَبْكِـي علـيَّ فـإنَّنـي *** أَبصـرْتُ دربِي لسْـتُ بالحيرانِ

وإليـكِ يـا أُمَّــاهُ ألـفُ تحيـةٍ *** مُزِجَتْ بكـلِّ الحُـبِّ و العرفـانِ

أَرْضَعتِني بالعـزِّ في زمنٍ مضى *** وغرستني في روضـة الـقـرآنِ

أَرْسلْتِنـي لتعلـم الـذكر الحكيـم *** وحـفظِـه بالـفهـم و الإتقــانِ

فنشـأْتُ في حلقـاتِه تِـلْكَ التِـي *** بسكينـةٍ حُفَّـتْ و بـاطمِـئْنـانِ

جمـعٌ مـلائِكَـةُ الإلـهِ تحيطُـه *** يتـدارسُـون روائـعَ الـتبيـانِ

تنزَّلُ الرحمـاتُ عنـدَ جلوسِنـا *** والخيـرُ يغْشَـانـَا من الرحمـنِ

فنشـأْتُ بالقرآنِ أعـرفُ مَنْهَجِي *** وعقيـدتي و بمسجـدي عنـواني

وورثتُ مِن أمـي الذكـاءَ وفطنةً *** ولـقـدْ سبَقْـتُ بذلكـمْ أقرانِـي

علمـتِنِـي أن الـحيـاةَ قصيـرةٌ *** فتصيّـدْ الـعـزماتِ دونَ توانـي

واستثمـر الأوقـاتَ قبل فواتِهـا *** لا تُـعْـذِرَنَّ دقــائق وثــوان

وتحلـى بالصبـرِ الجميـل فإنَّـه *** خُلـقُ الـدعـاةِ وحُلّـة الأعيـان

لا تَرْضى يا وَلـدِي بهمـةِ قاعـدٍ ***واسبِـقْ سُـَراةَ القـومِ كالفرسانِ

قد كنتِ في موجِ الصعابِ كصخرةٍ *** صبـرٌ وعزمٌ فيـكِ يلتقيـان

وزهدتِّ في الذهب النفيس لأجْلِنَا *** أكـرِمْ بـذاك الـزُهْدِ والإحسـانِ

فالـحمـد لله الـعظيـم مَـليكِنـا *** إحصـاءُ فضـلِكَ ليسَ في إمْكـانِ

ثمّ الصلاةُ على الرسـولِ حبِيبنا *** نشـرَ الهُـدى والنورَ في الأكوانِ

في المساء وبعد تناول العشاء، خرجت لأتجول في المدينة لأراها ليلاً، اختلف الأمر في الليل عنه في النهار، رأيت المسلحين ينتشرون هنا وهناك، ما الأمر وأنا من ظننت أنه لا وجود لمظاهر مسلحة! على رسلك لا تستعجل الأمر، هؤلاء هم المرابطون الذين يدافعون عن ثغور غزة في وجه الاحتلال واجتياحاته وممارساته الاجرامية، هؤلاء أبطال غزة، هؤلاء من يروون بدمائهم أرضنا الطاهرة كل ليلة. توقفت السيارة، واتجهت نحوهم، وجدتهم شباباً في ريعان العمر يدب فيهم النشاط، متحفزون مقبلون، حييتهم وصافحتهم، لم يكن لديهم وقت للوقوف فمهمتهم لا تنتظر، واختفوا تحت جنح الظلام.

أديت فريضة الصلاة، راجعت شريط اليوم، كان حافلاً مليئاً، هذه هي رجالات غزة قادة ومرابطون وأسرى، تفاني من أجل الوطن، هنيئاً لهم وبهم.

قررت المغادرة في الصباح، فأخبار المعبر غير مطمئنة، واحتمالات إغلاقه تزداد. حدثت مضيفي بذلك، رفض وبشدة، غداً تصلي الجمعة هنا وبعدها نرى ما يكون، قلت له لم أكن أنوي المبيت ولا لليلة وهذه ليلتي الثانية، لم أستطع إقناعه. إذن على بركة الله، اتفقنا، وآوينا للفراش، في انتظار يوم الغد.

د.إبراهيم حمّامي DrHamami@Hotmail.com

14/02/2008

تم تعديل بواسطة أسامة الكباريتي

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

غزة...أرض العزة

الجزء الخامس (ما قبل الأخير ) ..... بين أهلها

يوم جديد في ربوع غزة، الجمعة 01/02/2008، الجمعة الأولى في فلسطين، سأظل أصف وأقول الأول والأولى، لن يكون هناك أخيرة وآخر أبداً، الأول والأولى سيتبعها ثانية وثالثة وعاشرة وألف، لا نهاية لعشق الوطن طالما بقي نفس، بل حتى حينها أدعو وأتمنى أن يضمني ثرى أرض فلسطين المباركة.

الماء الساخن جاهز، ما قاله مضيفي مع الفجر، في غياب الكهرباء يكون التسخين يدوياً، وكأيام الطفولة كان غسل الجمعة بـ "الكيلة"، الجمعة عيد أسبوعي للمسلمين، وعندي كانت هذه الجمعة عيداً خاصاً.

بعد الافطار المعتاد، عادت الكهرباء، بسرعة لنستغل الوقت، اسمحوا لي أن اقرأ ما وصلني من رسائل بريدية، كانت كثيرة منها العام ومنها الخاص، فيها أخبار وأسرار، لكنها تبقي وسيلة الاتصال مع الأهل والاحباب.

وصلت مجموعة من الأطباء من مدينة خان يونس للسلام والتحية، وبعد حوار "طبي" وآخر سياسي، انطلقنا جميعاً إلى مسجد الإمام الشافعي في مدينة غزة. خطبة الجمعة كانت عن الأوضاع والمستجدات، أصغي الجميع مستمعاً، لكن أيضاً كان بصري يجول في كل زاوية بالمسجد، هو كغيره من المساجد، وفي الوقت نفسه، ليس كغيره من المساجد. كنت اقرأ الوجوه واتصفحها، أنظر للجدران والأعمدة، انها صلاة في غزة، اللهم ارزقنا صلاة في المسجد الأقصى المحرر.

المصلون من حولي هم من أبناء هذا الشعب الصابر المصابر، هم صناع التاريخ، مشاعري لا أسيطر عليها، احساس بالنشوة ونفس عميق عميق، الصلاة اليوم في غزة، وبدأ الامام بالدعاء، والألسن تلهج آمين، يارب، آمين، دموع تنهمر من جديد في هذا الجو الايماني، وقلب يمتلىء بروحانية المكان وخشوع المصلين ودعائهم، اللهم انصرنا على أعدائنا، اللهم حرر أقصانا وقدسنا وسائر بلادنا، آمين يا رب العالمين.

بعد الصلاة وقف أحد المصلين أمامي ينظر متفحصاً، غاب وعاد، ثم سأل " مش حضرتك الدكتور ابراهيم"، قلت مبتسماً "نعم أخي"، عندها صافحني بحرارة ثم عانقني، وقال أنه سعيد أن يراني في غزة، وأصر أن أصحبه للغذاء في منزله الذي بدأ بوصفه وقربه من المسجد. اعتذرت بلطف لارتباطي بمواعيد أخرى رغم أني كنت أتمنى تلبية الدعوة الكريمة الصادقة، مثال آخر على روعة وكرم وأخلاق شعبنا رغم ظروفه الصعبة.

بصعوبة شديدة شقت السيارة طريقها من أمام المسجد، ازدحام شديد، سوق لكل شيء، والكل ينادي ويسوق لبضائعه.من أين تلك البضائع؟، يأتي الجواب من مصر، ضاعت معالم الطريق وتداخل الناس مع السيارات مع "الكارات". فوضى لكنها غير مزعجة، الكل يسعى لرزقه. وبعد الحاح منا، "لو سمحت يا عم ترجع الكارة لورا شوي"، " لو ممكن بعد إذنك تزيح هالصندوق"، وهكذا حتى مرت السيارة.

جولة أخرى في شوارع غزة الرئيسية، شارع عمر المختار الشهير، شارع الثلاثين، شارع الوحدة، المساجد الرئيسية، الساحات، المعالم الرئيسية، مستشفى الشفاء، المسجد العمري، الجندي المجهول، وكل ما سمعت عنه من قبل، ودائماً لكل زاوية حكاية. لحظات حزينة الآن، هنا سقط د. عبد العزيز الرنتيسي شهيداً، وهذه المقبرة التي دفن فيها، وفيها أيضاً الشيخ ياسين وغيرهم من شهداء شعبنا، الفاتحة على أرواحهم جميعاً.

الطريق مغلق، مهرجان كبير، اليوم ذكرى اغتيال الامام أبو أنس المنسي داخل مسجد الهداية على يد تيار الغدر والفتنة، وفي ذكراه نتذكر أيام العربدة والفلتان والفوضى، ونحمد المولى عز وجل أن تخلص قطاع غزة من قطّاع الطرق، وأن ساد الهدوء والأمن والأمان، رغم محاولات زعزعته من قبل فلول وبقايا الماضي البائد إلى غير رجعة بإذن الله.

كانت محطتنا التالية المنتدى الطبي الفلسطيني في غزة، استقبلتنا جموع من الأطباء والصيادلة والممرضيين،إضافة لممثلين عن النقابات المهنية الأخرى، يرأسهم السيد د. باسم نعيم وزير الصحة، وهناك وفود من دول أخرى، لم نكن وحدنا من تشرف بدخول غزة، شخصيات من ألمانيا وتركيا ومصر، ممثلون لمؤسسات خيرية واغاثية، اتحاد الأطباء العرب، جو مهني حميمي، تجمعنا حول مأدبة غذاء، و"التحلاية" كانت كنافة غزاوية، وهي تختلف عن اختها "النابلسية"، لذيذة خاصة مع الجماعة وتناولها من "الصدر" مباشرة.

شاركت بعدها في مقر المنتدى بندوة طبية حول احتياجات قطاع غزة ونواقصه من الأدوية والكفاءات والمعدات وغيرها، شاركت بصفتي المهنية كطبيب وأيضاً كنائب لرئيس تجمع الأطباء الفلسطينيين في أوروبا، استمعت لعرض مفصل عن الأوضاع الصحية، وتبادلت مع الزملاء الأطباء الأفكار والمقترحات وامكانيات المساعدة، خاصة من قبل الأطباء في أوروبا.

مع نهاية الندوة وسلامات الوداع، وصلت أنباء المعبر، ربما هي ساعات قبل الاغلاق من جديد، علي اتخاذ القرار، لكن يبدو أن أجواء غزة بدأت تنتقل إلي، لم يكن القرار صعباً. بالأمس كنت أفكر بالمغادرة، الليلة لن أغادر، البقاء لأطول فترة ممكنة كان الهدف، لاستمتع بكل لحظة في غزة..أرض العزة.

من المنتدى الطبي توجهنا إلى حي الشجاعية حيث منزل أم الشهداء، أم نضال فرحات، وصلنا ووجدناها في استقبالنا بابتسامة وادعة ووجه مرحب، كلمات جميلة رحبت بها بالزوار، أيضاً لا كهرباء، لكنه منزل لا يحتاج للكهرباء، فهو مضيء بأهله وسكانه، ورغم أنهم أضاءوا الشموع، إلا أني ويشهد الله كنت أرى وجه أم نضال هو المشع المنير أكثر من كل الشموع. وجه مضيء تغشاه السكينة والطمأنينة، نظرت اليها، إلى أمنا أم نضال، ما أعظمك من امرأة تفوقت على الكثير من الرجال. شعرت حينها أننا نظلمها بوصفها بخنساء فلسطين، مصيبة الخنساء في أخوتها كانت فادحة، لكن أم نضال تضحيتها وصبرها أكبر وأعظم، إنهم فلذات أكبادها قدمتهم لهذا الوطن الغالي راضية مرضية بإذن الله.

قدمت لنا القهوة، والحقيقة أنني لا أشرب القهوة، وكانت أول مرة أتناولها فيها في المجلس التشريعي ثم في منزل السيد هنية، ولا يمكن أن أرد أم نضال، لكن القهوة كانت بطعم خاص، وسبحان الله استمتعت بها، خاصة أنها كانت مصحوبة بتحيات ودعوات أم الشهداء، أم نضال هي أيضاً من زمن آخر غير زماننا، سيدة لا تصفها الكلمات، ولا تستوفيها حقها.

وقفنا استعداداً للمغادرة، عاتبتنا أم نضال لاستعجالنا، أرادت أن تعد الطعام، لكن الوقت داهمنا ولا نريد أن نثقل عليها. نظرت اليها مرة أخرى، وقفت أمامها، قلت "أنت والدتنا جميعاً اسمحي لي"، قبلت رأسها، لم أعد أراها، دموعي ملأت عيوني، ثم سمعت ابنها يقول ممازحاً " وين أبوي يشوف اللي عم يصير"، وسط ابتسامات الجميع.

في فناء المنزل قالت أم نضال "تعال أوريك وين استشهد عماد عقل"، هنا سقط تحت شجرة كانت تزين فناء المنزل، رغم مصيبتها إلا أنها مدرسة في الصبر والجلد، تشرح بغصة ممزوجة بالفخر، عظيمة أنت يا أم نضال.

من هناك عدت إلى غزة، عند مستشفى القدس، للقاء أقرباء لي هناك، ترجلت من السيارة ووقفت انتظر وصولهم. فجأة توقفت سيارة فيها عائلة، نزل السائق وتوجه نحوي. خيراً إن شاء الله، عرّف بنفسه وقال أنه عرفني وأراد أن يرحب بي في غزة، وطبعاً دعوة وتشديد على الزيارة في المنزل القريب، ما أكرم أهل غزة، وما أطيب خلقهم.

عند منزل الأقرباء وصل زميل لهم وجار، عتاب حار لعدم اقامتي عندهم، اعتذرت وشرحت الظروف، لم أطل الجلوس، تحادثنا في مستجدات الأوضاع، كانت له ملاحظات على ما يجري، هو ابن فتح منذ عشرات السنين، لكنه ممن قطعت رواتبهم، ساءه أن يساق أبناء فتح للتحقيق في مراكز كثيرة حسب رأيه، وساءه أن يٌجبر الناس على إنزال رايات فتح الصفراء، وساءه أن لا يؤخذ برأي أبناء فتح في إدارة شؤون القطاع، هو عتاب صادق شاركه فيه زميله وجاره، وصراحة نحتاج لها جميعاً، وقلب مفتوح يتسع للجميع. حان وقت المغادرة، الزيارة كانت قصيرة لكني وعدت أن تكون إقامتي المرة القادمة عنده لنتحدث أكثر ونمضي وقتاً معاً.

إلى مخيم البريج كانت وجهتنا، ولقاء مع بعض أهالي المخيم، المخيم مدخله وشوارعه تذكرك بمخيمات لبنان وسوريا. سبحان الله الهم الفلسطيني واحد، والمعاناة نفسها داخل الوطن وخارجه، الوجوه نفسها كتاب مفتوح على مرّ سنين الشتات. اللهفة والمحبة ذاتها، الابتسامات لا تفارق الوجوه حتى وان كانت متعبة، أجواء مرحة ترافق اللقاءات.نقاش وحوار وتبادل للآراء، واختتم اللقاء بلفتة طيبة كريمة قدم فيها الحضور مجسماً لمسجد قبة الصخرة، وخشبية على شكل خارطة فلسطين كهدية وذكرى منهم، جزاهم الله كل خير.

ما أن غادرنا متوجهين إلى رفح حتى رن جرس الهاتف، توفي والد أحد الأخوة، كان قد طلب مني زيارة والده، لكنه نقل للمستشفى وتوفي هناك قبل أن يتحقق ذلك، رحمه الله وغفر له ولنا.

من البريج إلى رفح ولقاء آخر مع أهالي رفح، وعلى وليمة "رفحاوية" تجمعنا حتى ساعة متأخرة من الليل، حديث ذو شجون لا يخرج عن ذات السياق، الهم الفلسطيني والشأن المحلي. تأخر الوقت، ودعت الجميع وسط مطالب بوعد بالعودة، وهل يحتاج ذلك لوعد، في أقرب فرصة ان شاء الله.

إلى العائلة التي استقبلتني عدت، ازعجتهم بعد منتصف الليل، لكن كان لابد من الرجوع وشكرهم وتوديعهم، بت ليلتي عندهم، كانت ليلة هي الأخرى غير عادية. غصة الفراق أليمة، وكم وددت أن أبقى أكثر، لكنها ظروف العمل والأسرة والحياة، التزامات وواجبات علي الايفاء بها. جسدي سيغادر أما روحي فقد سكنت هناك للأبد، سأعود حتماً. سأعود إلى القدس ومدينتي يافا، سأزور كل شبر من فلسطيننا الحبيبة.

أجريت بعض المكالمات في جوف الليل، جهزت أغراضي للسفر، استلقيت وأعدت شريط الايام الماضية، هو يقين ليس حلماً، كان كذلك ولكنه تحقق.غفوت ويشغل فكري كل ما مضى، وأفكر بالغد والمعبر ورحلة العودة، سهّل يا رب ويسّر.

كان الصباح الباكر، افطار سريع ووداع لأهل الدار، وانطلاق إلى بوابة صلاح الدين، ليبدأ الفصل الأخير من هذه الرحلة التي لا تنتهي، وليكون الجزء القادم الأخير، كم أكره هذه الكلمة – الأخير- ، وليكمل توثيق هذه التجربة الشخصية.

د.إبراهيم حمّامي DrHamami@Hotmail.com

15/02/2008

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

غزة...أرض العزة

الجزء السادس (والأخير يا خسارة) ..... منها

بدأت رحلة العودة، عودة عكسية الى خارج الأرض التي نعشق، عودة قسرية تحكمها ظروف الشتات، عودة بالجسد والبدن لا بالروح والوجدان، عودة لا يعلم إلا الله من تكون عودة منها، تذكرت هنا ما يمنع، المعبر، اتفاقية المعبر المخزية التي وٌقعت عام 2005، ما ينقص غزة لتتحرر هو معبر على العالم الخارجي، بإذنه تعالى سيكون ذلك بعيداً عن الاحتلال وأذنابه.

ما زالت بوابة صلاح الدين على حالها، الناس يدخلون ويخرجون، لكن بأعداد أقل، كما كان الدخول عبرها كان كذلك الخروج، من فوق السور الحديدي المائل مررت، شتان بين لحظة الدخول وهذه اللحظة، بين لحظة معانقة الأرض ولحظات فراقها، لكنه فراق لن يدوم طال الزمن أو قصر، فراق مؤقت سنعود بعده إلى وطننا وديارنا.

رفح على الجانب المصري مقفلة محالها، بلا سيارات، هكذا هي التعليمات الجديدة، سبحان الله قبل أيام كانت عامرة زاهرة رغم العواصف والأمطار، اليوم مقفلة مقفرة كئيبة، كشعوري تماماً وأنا أترك غزة، تطابقت الأجواء والأحاسيس بين المكان والانسان، نظرت خلفي عبر بوابة صلاح الدين، نظرت في أفق الوطن، أحسست بغصة في حلقي، ومرارة في نفسي، لم اشبع منك يا وطن، لم أقض فيك إلا لحظات قصيرة، لكنها بعودة ان شاء الله، الى اللقاء يا غزة، إلى اللقاء يا فلسطين. كان عليّ أن أمشي مسافة 3 كيلومترات داخل رفح المصرية للوصول إلى أول سيارة، وصلت إلى حيث سمح للسيارات بالوصول، كانت هناك سيارة وحيدة دون ركّاب، "سلام يا اسطى، عالعريش؟"، رد "مصريين بس"، قلت له لا عليك أحمل جوازاً أجنبياً، لم يعجبه واسترسل في شرح الأوامر الصارمة، "مش عايز يتخرب بيتي، دول حيسحبو الرخص والعربية"، بعد تأكيدات وتطمينات ووعود بتحمل المسؤولية ان أوقفونا، وبعد أن دفعت أجرة السيارة كاملة مقدماً، وبعد جهد جهيد، قبل ووافق. انطلق السائق نحو أطراف رفح، وبدأ بالشرح، الحاجزين الأولين هما الأسوأ والأصعب والأشد تعقيداً، عليهما أنزل أغلب الناس اليوم، "ربنا يستر" قالها بقلق، قلت له "اتكل على الله"، الحاجز الأول كان قد أوقف عدداً من السيارات والركاب أمامنا، لكنه أشار لنا بالمرور دون توقف أو سؤال، الحمد لله، يبدو أن مسلسل التساهيل لم ينته بعد، بعده بمئات الأمتار حاجز آخر، السائق قلق من جديد "ده أوحشهم"، اقتربنا من الحاجز، أنزلت شباك السيارة حيث كان يقف المدقق على جهة اليمين، كلمة واحدة نطقت بها "سلام"، أشار بيده "تفضل"، هكذا مررنا على أسوأ الحواجز دون سؤال، مازحت السائق "ايه يا عم هما دول أصعب اتنين"، أقسم لي بأغلظ الايمان أنها تحدث لأول مرة، وأنه يتعرض للسؤال والتدقيق حتى عندما يكون بمفرده، الحمد لله على نعمته، انفرجت أسارير السائق وأكد أن "الباقي سهل"، وهكذا كان حتى وصولنا لمدينة العريش رغم كثرة الحواجز ونقاط التفتيش.

في الطريق شاهدنا العشرات من سيارات الأمن المركزي الخضراء تتجه نحو الحدود استعداداً فيما يبدو لاغلاقها، وما هي إلا ساعات بعد خروجي بالفعل أغلق المعبر تماماً، وبقي هناك من بقي، منهم من خرج لاحقاً لوضعه الخاص كالوفد البرلماني البحريني، ومنهم من يحاول الخروج – أو الدخول- حتى هذه اللحظة. في العريش اتصلت بزوجتي مطمئناً، وكذلك اتصلت بصديق مصري أصر أن أذهب إليه حيث هو في محافظة أخرى خارج القاهرة، قبلت ذلك بسرور، واستقليت حافلة النقل العام من العريش إلى حيث يعيش، عندها ولأسباب لا اعرفها لم يعد هاتفي النقال يرسل أو يستقبل، لا تغطية، هكذا انقطعت عن العالم!

كانت الحافلة مليئة بالركاب، توقفت مراراً وتكراراً، "البطايق لو سمحتو"، فحص وتدقيق عند كل نقطة، الفلسطيني ممنوع من المرور، خاصة عند كوبري السلام فوق قناة السويس، النقطة عند الكوبري تحولت إلى ما يشبه نقطة حدودية، جيش وشرطة وجمارك وتفتيش وتدقيق في الأوراق، ساعات وساعات مرت في الطريق.

قبل ان اصل حيث وجهتي كانت سيدة من العريش تستعد لمغادرة الحافلة، سألها السائق "ايه يا حجة العريش فضيت؟"، فبدأت بانزال اللعنات على الفلسطينيين الذين لم يبقوا لهم شيء حتى الأغنام، أغاظتني وهممت بالرد عليها، لم أفعل فقد سبقني ركاب الحافلة جميعهم، هبوا فيها مستنكرين "ايه يا ست هما خدوا الحاجات من غير ما يدفعو تمنها؟ ولا سرقوها يعني؟ مش انتو زدتو الطاق 60 وبرضو دفعو تمنها؟ الكلام ده ما يصحش"، ومن هذه التعليقات التي أكدت لي أن الشعب المصري بكل طبقاته يعي تماماً ما حدث ولم يتأثر بالحملات الاعلامية الظالمة ضد اخوته من أبناء الشعب الفلسطيني.

أخيراً وصلت للبلدة، ولحسن الحظ كان صديقي في الانتظار، لم يكن هناك مجال للاتصال به بعد أن تعطلت شبكة التغطية، سلامات وتحيات توجهنا بعدها لمنزله، كانت لديهم مناسبة الليلة الماضية، زواج أحد أفراد العائلة، أجواء سعيدة في ذلك المنزل الكريم. بادرني بسؤال ان كنت أرغب في المشي في "الغيط"، "يا ريت"، الغيط كان خلف المنزل تماماً، مزروعات وجداول مياه، عالم آخر، الكل يعرف الكل وباسمه، هذا ما نفتقده في الغربة، كنت أرى "الجاموسة" لأول مرة، طبعاً شاهدتها على التلفاز، لكن أين في غير مصر يمكن مشاهدتها مباشرة؟ الأمر قد يبدو مضحكاً، لكنها أمانة النقل والسرد وحقيقة الموقف، عدنا للمنزل، موعدنا كان مع وجبة أسماك لم أتذوق مثلها في حياتي، بحرية ونهرية بخلطة مصرية مميزة، كان كل شيء في تلك البلدة بهيجاً. غ

ص المنزل بوفود القادمين للتهنئة بالزفاف، تمنوا أن أحدثهم عن زيارتي لغزة، أهل مصر يعشقون فلسطين، رغم كل ما قيل ويقال من قبل بعض الكتاب والمسؤولين، ورغم محاولات التفرقة والتشويه، جلسوا وتحلقوا يستمعون باهتمام واستمتاع، بين الحين والآخر تعلو الأصوات "ما شاء الله" "يا سلام" "الله أكبر" "سبحان الله"، هذه هي طبيعة أهل مصر الكنانة، يحبوننا ونحبهم.

العشاء كان أيضاً بنكهة مصرية خاصة، كرم "فلاحي" أصيل، "لازم تجرب البط"، عسل القصب، الفطير "المشلتت"، وأصناف أخرى، وسط مرح أهل مصر وخفة دمهم المشهورة، عذراً على التفاصيل مرة أخرى، لكنها ضرورية لانصاف من التقيت بهم، ولأعكس طبيعة كرمهم وضيافتهم.

بعد أمسية وسهرة جميلة حان موعد النوم، كان شريط الأيام الماضية يدور في رأسي، كان حلماً وتحقق، دخلت غزة بعد أن ظننت أنه لا مدخل، قضيت فيها ليال ثلاث وكنت أظن أني سأمر فيها بضع يوم، قابلت رجالاتها وأهلها، تجولت فيها، تيسرت الأمور وكأنها كانت مسيّرة، أعود الآن وقد تركت فيها قطعة مني، لك الحمد يا الله، ما أكرمك.

مع ساعات الفجر انطلقنا نحو مطار القاهرة، انهيت اجراءات الجوازات والطيران، أقلعت الطائرة في موعدها، وعلى متنها قابلت من كان سبقني إلى غزة بيوم، هل تذكرون الذي اتصل وشرح لي صعوبة الطريق لكنها مفتوحة، كان عائداً على نفس الرحلة، تبادلنا الأحاديث الشجية، هو من غزة وفيها تربى، لكنه كان بشوق اليها بعد طول غياب. اربطوا الأحزمة استعداداً للهبوط، جلست في مقعدي، أسندت رأسي وبكيت، هذه المرة لم تكن دموعاً بل بكاءً بحرارة، في هذه اللحظات وأنا بين السماء والأرض دعوت وشكرت المولى عز وجل من كل قلبي، الأيام الأخيرة كانت كافية لتمنحني طاقة لا حدود لها، وبدأت أنظم كلمات خطرت على بالي، هكذا دون مقدمات:

أظلمَوها وظنوا أنهم قاهروها،

منارة للشعوب أضحت يقتدوها،

غزة الأبية لن تركع وان جوعوها،

لن يقدروا عليها ولن يهزموها،

قبلة الأحرارغزة يقصدوها،

ومنها دروس العز تعلموها.

فترة وجيزة وحطت الطائرة في موعدها، وبعد اتمام اجراءات الدخول اتصلت بزوجتي لأطمئنها، كانت في حالة قلق شديد، آخر اتصال كان من العريش، توقعوا وصولي إلى القاهرة، لكني ذهبت في زيارة لمحافظة أخرى، كان هناك من توقع وصولي وانتظر، ثم ذهب للمطار للتوديع فلم نلتق، اتصل بأقاربه ليقول أني لم أركب الطائرة، وبدورهم وفي الساعة السابعة والنصف صباحاً اتصلوا بالمنزل مستفسرين من زوجتي، لا خبر أين هو؟ وذهبت بهم الظنون كل مورد، لحظات فضول وقلق، لكني على أي حال وصلت ولله الحمد.

انهالت الاتصالات بين معاتب لعدم اصطحابه، ومهنيء بالزيارة "التاريخية"، ومستفسر متسائل، مشاعر من القلب أبقت على أجواء قطاع غزة التي عشتها، والجميع يطالب بالتفاصيل والتوثيق، حاولت أن أبدأ بذلك منذ اليوم الأول وعجزت، لم استطع أن أغلب دموعي كلما هممت بالكتابة، حتى استطعت بعد ايام وايام أن أبدأ وما زال دمعي يغالبني حتى اللحظة.

بعد ايام من وصولي جاءني اتصال من سيدة عرّفت بنفسها واسمها ومكانها شمال غزة، أرملة تعمل براتبها لتعيل أطفالها، قطعوا عنها الراتب مؤخراً، تتكلم بمرارة، تقسم أنها ليست مع أي طرف فلِمَ تُعاقَب، لم استطع الرد، ماذا أقول لأواسيها؟ وما يملك عبد فقير مثلي أمام ظلم واجرام من يتحكمون بالقرار والمال، قلت ذلك لها، كان طلبها بسيطاً كبساطة أهلنا هناك، سمعت أنك كنت هنا، أكتب عن الموضوع، أثره اعلامياً، اسأل كيف أعيل أولادي وأنا الأرملة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم عليك بالظالمين.

بدأت بكتابة هذه الأجزاء يوم بيوم، وبدأ معها سيل الرسائل والتعليقات، تحيات ولوم وعتاب وتهاني وغيرها، لماذا لم تزر جباليا الصمود؟ كيف تكون في مدينتنا ولا نعرف؟ سامحك الله لماذا لم تقم بأي فعالية عامة؟، أثرت شجوني، ذكرتني بتجربتي، لست فلسطينية لكن أحببت فلسطين وغزة، والكثير الكثير من الرسائل والاتصالات التي لم استطع الرد عليها جميعاً، حاولت لكنها كثيرة وضيق الوقت يقتلني بين مشاغل العمل اليومي والعائلة والمتابعة، اقرأ كل ما يصلني لكن اعذروني ان لم يكن هناك رد، سامحوني. تفتحت جراح البعض فأسهبوا في شرح معاناتهم، آخرون رصدوا لحظاتهم الأولى في فلسطين حتى عندما دخلوها أسرى مكبلين من جنوب لبنان، آخر يلوم ويعاتب وبعد أن أوضح أنه ليس ب "دحلاني" قال بلهجة غاضبة هل غزة مقار أمنية فقط، لماذا لم يأخذوك إلى المسجد الفلاني والى الكنيسة الفلانية والى قلعة غزة؟ يا أخي وهل تظنني ذهبت لغزة كسائح ب"شورت" وكاميرا؟ لقد ذهبت لأعيش احداثها معها وبين أهلها، أتعرف على معالمها لا للسياحة فيها، ومع ذلك فقد زرت تلك الأماكن، غزة كلها جميلة، لا تغضب.

كل هذه المشاعر والعبارات أعطتني زخماً حقيقياً للاستمرار والمواصلة في توثيق تجربتي، لكن استوقفتني ظاهرة لم اتوقعها، عندما كتبت كنت أنقل وبصدق وأمانة أحاسيسي وانفعالاتي كما هي، لامني أحد الأصدقاء بعد الجزء الأول لكثرة الدموع فيما أكتب، لأن الرجل الشرقي يعيبه أن يبكي!، رفضت تلك الفكرة، فالبكاء ليس عيباً ولا ينقص من رجولة أحد، بل أن دموعي كانت تسقط بعد أن تكحلت برؤية وطني وأهلي، لن أتصنع أو أخفي شيء، لكن الظاهرة كانت في كم الرسائل وحتى التعليقاتالتي يقر فيها أصحابها بأسمائهم ومناصبه أنهم ذرفوا الدمع، بل شرحوا بكائياتهم، لم أكن وحدي من بكى شوقاً وحباً للوطن، وأبداً لن تكون دموعنا نقيصة إلا في عقل العنتريات الزائفة. نفخر بك ونعتز يا فلسطين، لا نستبدلك بالعالم كله، هكذا كنا وسنبقى، أنشدت مع المنشدين:

"هو فيه مثله الوطن يابا هو فيه مثله،

أموت أنا كرمال ترابه هو فيه مثله،

يعطونا الأرض بطول وعرض

ومثلك والله ما في أرض،

حرية أسرك عسل مرك،

ثلج جمرك شوكك ورد"

– الوطن الذي عاد إليه أهله كما وصف أحدهم قائلاً: ما السر في هذا الوطن الذي يأسر قلوب ابنائه إلى الحد الذي يدفعهم للتهديد بقتل أنفسهم إذا لم يسمحوا لهم بالعودة اليه، إلى السجن كما يصفه الأغراب؟، هل رأيتم سجيناً يقاتل للعودة لسجنه بعد أن خرج منه؟ لا عجب فكل الناس لهم وطن يعيشون فيه، إلا نحن لنا وطن يعيش فينا. كانت هذه رحلتي الأولى إلى جزء من بلادي الغالية، نقلتها بأمانة واختصار، كل لحظة فيها كانت تاريخاً، لم أسجل كلمة واحدة هناك، ولم التقط أية صورة، ستبقى ذكرياتها محفورة في عقلي ووجداني ما حييت، إلى أن يمن الله علي وأكون بإذنه من الذين يدخلون المسجد الأقصى "كما دخلوه أول مرة" فاتحين مكبرين، فأكحل عيني برؤيته وقد تحرر من دنس المحتل، وأصلي فيهواياكم ان شاء الله

جزاكم الله خيراً وبارك لكم وبكم، والى اللقاء في القدس والأقصى.

البداية

د.إبراهيم حمّامي DrHamami@Hotmail.com 16/02/2008

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...