اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

مقال اعجبنى


molham

Recommended Posts

الحداثة ورائحة البارود

بقلم‏:‏ د‏.‏ عبدالوهاب المسيري

زاد الحديث في الغرب‏(‏ وفي بلادنا أيضا‏)‏ عن التحديث في جميع المجالات‏:‏المجال السياسي‏(‏الديمقراطية‏)‏ ــ المجال الاقتصادي‏(‏مزيد من الخصخصة‏)‏ ــ المجال التربوي‏(‏تعديل المقررات الدراسية بما يتفق مع المعايير الغربية الحديثة‏).‏ وبدأ بعض الدارسين في الغرب يتحدثون عن أن الإسلام بطبيعته معاداة الحداثة‏,‏ فانبري بعض المفكرين العرب والإسلاميين للدفاع عن الاسلام ولإثبات العكس‏,‏ مبينين بالبرهان القاطع أن الإسلام بطبيعته ليس معاديا للحداثة‏,‏ بل يرحب بها‏,‏ ويمكنه أن يتبني مناهجها وقيمها‏.‏

وهذا الحوار يفترض أن مصطلح الحداثة مصطلح محدد المعني والدلالة‏,‏ وأن الحداثة ليس لها تاريخ وأن تبدياتها لاتختلف من حضارة لأخري‏,‏ أو من حقبة تاريخية إلي أخري‏,‏ وأن هناك حداثة واحدة‏,‏ وعادة مانعود للمعاجم الغربية لنعرف المعني الدقيق لأي مصطلح وماهو المقصود منه علي وجه الدقة‏,‏ وبعد أن نقرأ التعريفات المختلفة للمصطلح ونتقبلها كلها أو بعضها بأمانة بالغة‏,‏ تصبح الإشكالية هي كيف نترجمه دون أن نختبر هذه التعريفات ومدي مطابقتها للواقع‏,‏ سواء كان واقعنا أم الواقع الغربي‏,‏ ودون أن ندرس المراجعات التي تمت بخصوص هذا المصطلح في الغرب‏,‏ ودون أن ندرس تاريخ تطور الظاهرة الذي يشير إليها هذا المصطلح‏.‏

ومصطلح التحديث لايشكل أي استثناء لهذه القاعدة‏,‏ فتوجد تعريفات كثيرة لمفهوم الحداثة‏,‏ لكن ثمة ما يشبه الإجماع علي أن الحداثة مرتبطة تماما بفكر حركة الاستنارة الذي ينطلق من فكرة أن الإنسان هو مركز الكون وسيده‏,‏ وأنه لايحتاج إلا إلي عقله سواء في دراسة الواقع أو إدارة المجتمع أو للتمييز بين الصالح والطالح‏,‏ وفي هذا الإطار يصبح العلم هو أساس الفكر‏,‏مصدر المعني والقيمة‏,‏ والتكنولوجيا هي الآلية الأساسية في محاولة تسخير الطبيعة وإعادة صياغتها ليحقق الإنسان سعادته ومنفعته‏.‏

هذا التعريف قد يبدو للبعض تعريفا جامعا مانعا أو علي الأقل كافيا‏,‏ ولكننا لوفحصنا الأمر بدقة أكبر لوجدنا أن الحداثة ليست مجرد استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا‏,‏ بل هي استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا المنفصلة عن القيمة‏,‏ أو كما يقولون بالإنجليزية‏:‏فاليو ــ فر

‏Value--free,‏

وهذا البعد هو بعد مهم لمنظومة الحداثة الغربية‏,‏ ففي عالم متجرد من القيمة تصبح كل الأمور متساوية‏,‏ ومن ثم تصبح كل الأمور نسبية‏,‏ وحين يحدث ذلك فإنه يصعب الحكم علي أي شيء‏,‏ ويصبح من المستحيل التمييز بين الخير والشر وبين العدل والظلم‏,‏ بل وبين الجوهري والنسبي‏,‏ وأخيرآ بين الإنسان والطبيعة أو الإنسان والمادة‏.‏ وهنا يطرح السؤال نفسه كيف يمكن أن تحسم النزاعات والصراعات‏,‏ وكيف يمكن أن نسوي الخلافات‏,‏ وهي كلها من صميم الوجود الإنساني؟ في غياب قيم مطلقة‏,‏ يمكن الاحتكام لها‏,‏ يصبح الإنسان الفرد أو الجماعة العرقية مرجعية ذاتها‏,‏ وتصبح ماتراه في صالحها هو الأساس وماليس في صالحها هو الطالح‏.‏ وقد أدي هذا إلي ظهور القوة والإرادة الفردية كآلية واحدة لحسم الصراعات وحل الخلافات‏.‏

هذه هي الحداثة التي تبناها العالم الغربي والتي جعلته ينظر إلي نفسه باعتبار أنه هو‏(‏وليس الإنسان أو الإنسانية‏)‏ مركز العالم‏,‏ وأن ينظر للعالم باعتباره مادة استعمالية يوظفها لصالحه باعتباره الأكثر تقدما وقوة‏,‏ ولذا فإن منظومة الحداثة الغربية هي في واقع الأمر منظومة إمبريالية داروينية‏.‏ هذا هو التعريف الحقيقي للحداثة كما تحققت تاريخيا‏,‏ وليس كما عرفت معجميا‏,‏ وهذا هو التعريف الذي يمكننا من قراءة كثير من الظواهر الحديثة‏.‏

كانت الظاهرة الغربية الحديثة تؤكد أنها حضارة إنسانية‏(‏ هيومانية‏)‏ جعلت من الإنسان مركز الكون‏,‏ وكانت المجتمعات الغربية مجتمعات لاتزال متماسكة من الناحية الاجتماعية والأسرية‏,‏ ولم تكن كثيرا من الظواهر السلبية التي نلاحظها بأنفسنا ونقرأ عنها في صحفهم ومجلاتهم‏,‏ والتي أصبحت نمطا ثابتا وظاهرة محددة‏,‏ كانت مجرد حوادث متفرقة لاظواهر دالة‏,‏ ومن ثم كان من السهل تهميشها‏.‏ واذا كان دعاة الإصلاح‏(‏ من الليبراليين والماركسيين والإسلاميين‏)‏ كلهم ينادون بضرورة اللحاق بالغرب‏(‏أي تبني منظومة الحداثة الغربية‏).‏ ولم يكن هناك أي أصوات تعارض الحداثة أو تنتقدها‏,‏ بل كان الجميع يسبح بحمدها‏,‏ وقد كانوا محقين إلي حد كبير في هذا‏,‏ فشكل الحداثة الذي أدركوه آنذاك كان أمرا يثلج القلوب‏.‏

ولكن تدريجيا تكشف الوجه الدارويني حين أرسلت الحداثة الغربية لنا جيوشها الاستعمارية لتهلك الأخضر واليابس‏,‏ وتحول بلادنا إلي مادة استعمالية كمصدر للمواد الخام والعمالة الرخيصة‏,‏ وسوق مفتوحة بشكل دائم للسلع الغربية‏,‏ ويبدو أن المفكرين الإصلاحيين الأول لم يربطوا بين الحداثة الغربية والإمبريالية الغربية‏,‏ فقد ذهبوا إلي العواصم الغربية ولم يروا سوي النور والاستنارة‏,‏ في الوقت الذي كانت المدافع الغربية تدك بلادنا دكا‏,‏ ولذا فهؤلاء الذين بقوا في بلادهم رأوا ألسنة النيران المندلعة‏,‏ وسمعوا قعقعة القنابل‏,‏ وشموا رائحة البارود‏.‏

يقول أحد كتب التاريخ إنه قيل لأحد الشيوخ الجزائريين إن القوات الفرنسية إنما جاءت لنشر الحضارة الغربية الحديثة في ربوع الجزائر‏,‏ فجاء رده جافا ومقتضبا ودالا‏,‏ إذ قالولم أحضروا كل هذا البارود إذن؟ لقد رأي هذا الشيخ علاقة الحداثة الغربية بالإمبريالية من البداية‏,‏ وهو ما أدركه الكثيرون بعد ذلك‏.‏ فعصر الاكتشافات الجغرافية وعصر النهضة في الغرب‏(‏القرن السابع عشر‏)‏ هو أيضا العصر الذي بدأت فيه إبادة الملايين‏,‏ وكما يقول الزعيم بن بيلا‏:‏إن هذا الإله الصناعي الحديث إغتال عرقا بأكمله‏(‏العرق الأحمر‏),‏ أي السكان الأصليين في الأمريكتين‏,‏ وأخذ زبدة عرق اخر‏(‏العرق الأسود‏)‏ عن طريق النخاسة واستعباد ملايين‏(‏مما يضع عدد ضحايا هذه العملية نحو مائة مليون إنسان‏)‏ باعتبار أن عبدا واحدا يحتفظ به النخاسون الغربيون كان يقتل مقابله تسعة عبيد‏.‏ثم يشير بن بيلا إلي سكان المكسيك الذين تمت إبادتهم وإلي سكان الجزائر الذين أبيدت منهم الملايين في أثناء هباتهم المتكررة ضد الاستعمار الفرنسي‏,‏ ويمكن أن نضيف إلي ذلك حرب الأفيون في الصين والمجاعات التي أصابت الهند بسبب تطبيق قوانين الملكية الغربية الحديثة‏,‏ وحربين عالميتين كلفت الأولي الإنسانية‏20‏ مليون قتيل‏,‏ والثانية‏50‏ مليون قتيل‏,‏ وقنابل هيروشيما ونجازاكي‏,‏ وضحايا معسكرات الجولاج في الاتحاد السوفيتي‏.‏ إن بطل رائعة الطيب صالح موسم الهجرة إلي الشمال قد لخص الموقف ببساطة حين قال‏:‏إنني أسمع‏..‏ صليل سيوف الرومان في قرطاج‏,‏ وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس‏.‏البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز‏,‏ وسكك حديد أنشئت أصلا لنقل الجنود‏,‏ وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم

وقد جاءت هذه الجيوش الاستعمارية ففتت العالم العربي والإسلامي‏,‏ وأخضعت شعوبه لكل أنماط الاستعمار‏:‏استعمار عسكري في مصر وسوريا ولبنان والمغرب والسودان والعراق وليبيا‏,‏ واستعمار استيطاني في الجزائر‏,‏ واستعمار استيطاني إحلالي في فلسطين‏,‏ وقد تعاون هذا الاستعمار مع القوي التقليدية والرجعية في المجتمع‏,‏ وحاول إعاقة تحديث عالمنا الغربي فقام بتحطيم تجربة محمد علي‏,‏ أول تجربة تحديثية خارج العالم الغربي‏,‏ ثم قاموا بقمع ثورة عرابي الشعبية‏,‏ وساندت الجيوش الغربية الحديثة الخديو ودعمته وساندته‏.‏ ثم انتهي الأمر بأن أقامت هذه الجيوش الدول الحديثة التي لاتعرف من الحداثة سوي الأجهزة القمعية والأمنية‏.‏ ثم زرع العالم الغربي الحديث في وسطنا بقوة السلاح مجموعة من المستوطنين الذين ادعوا أن فلسطين أرض بلا شعب وأنهم شعب يهودي يعود إلي أرض أسلافه حسب الرواية التوراتية‏.‏

ويطالب الصهاينة والأمريكيون في الوقت الحاضر بتحديث مؤسسات السلطة الفلسطينية‏,‏ مع أنه من المعروف أن الصهاينة ــ شأنهم شأن كل المستعمرين ــ رفضوا من البداية التعامل مع القطاعات الحديثة في المجتمع الفلسطيني مثل نقابات العمال والأحزاب السياسية‏(‏بل قاموا باغتيال أحد زعماء نقابات العمال الفلسطينية قبل عام‏1948),‏ وفضلوا التعامل مع القطاعات التقليدية في المجتمع الفلسطيني‏,‏ ظنا منهم أن هذه القطاعات قد تكون أكثر مرونة في التعامل معهم نظرا لعدم فهمها لطبيعة الهجمة الاستعمارية البريطانية‏/‏الصهيونية عليهم‏,‏ ولكن خاب ظنهم‏,‏ فحينما تحاور معهم بعض القيادات التقليدية‏(‏برئاسة الشيخ رشيد رضا‏)‏ أبدي الفلسطينيون رغبتهم في تحديث مجتمعهم‏,‏ ولم يجدوا أي غضاضة في الاستعانة برأس المال الأجنبي‏,‏ والخبرة الأجنبية علي أن يتم تطبيق المبادئ الديمقراطية‏,‏ أي إجراء انتخابات حرة بحيث يكون لكل مواطن صوت‏,‏ باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتحقيق السلام‏.‏ فعلق حاييم وايزمان بقولههذا هو سلام القبور‏,‏ وهو كان محقا تماما في ذلك‏,‏ فتطبيق المثل الديمقراطية في فلسطين كان يعني أن المستوطنين الصهاينة سيكونون أقلية‏,‏ ولن يتحكموا في مصائر الفلسط

ينيين‏,‏

ولن يقيموا دولتهم اليهودية الخالصة التي يصرون عليها‏,‏ والتي يدعمها الغرب الديمقراطي الحديث بكل ما أوتي من قوة‏,‏ وقد قال أحد المعلقين الإسرائيليين إن الدولة الصهيونية لم تعد دولة ديمقراطية‏,‏ وإنما دولة ديموجرافية‏(‏أي ذات أغلبية يهودية‏).‏وهم الآن يطالبون بتحديث النظام السياسي العربي والنظام التربوي الإسلامي‏,‏ ولكن التحديث هنا يعني في واقع الأمر تقويض المنظومات القيمية والثقافية التي تضفي علينا قدرآ من التماسك يمكننا من مقاومة محاولات الغزو العسكري والثقافي‏,‏ ولذا فقد وصف أحد المعلقين هذا النوع من التحديث بالتحديث الطبيعي‏,‏ أي التحديث الذي يجعلنا نقبل الظلم الواقع علينا‏,‏ والاستغلال الذي ينزفنا ويثقل كاهلنا‏,‏ والآثار السلبية للحداثة الداروينية لم تلحق بنا وحسب‏,‏ بل ظهرت علي الكرة الأرضية‏,‏ علي الجنس البشري بأسره‏.‏ فهذه الحداثة قد طرحت فكرة التقدم اللانهائي باعتباره الغاية النهائية للإنسان‏,‏ ولكن التقدم دائما هو حركة نحو غاية‏,‏ فلم تعرف هذه الغاية في المعاجم‏,‏ ولكن في التطبيق نعرف كلنا أن غاية التقدم هي تسخير العالم بأسره لصالح الإنسان الغربي‏,‏ وأصبحت أهم مؤشرات التقدم هو الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك‏,‏ إستهلاك الإنسان الغربي للموارد الطبيعية اللامتناهية‏,‏ وانتهي الأمر بأن الشعوب الغربية التي تشكل‏20%‏ من شعوب العالم تستهلك‏80%‏ من موارد الكون الطبيعية‏,‏ ويبلغ حجم مااستهلكه الشعب الأمريكي في القرن الماضي أكثر مما استهلكه الجنس البشري عبر تاريخه‏,‏ ولكن المصادر الطبيعية محدودة‏,‏ الأمر الذي تسبب في الأزمة البيئية التي ستودي بنا جميعا‏,‏ وقد جاء في إحدي الدراسات أنه لو عم التقدم بأسره علي النمط الغربي فإن الجنس البشري سيحتاج إلي ست كرات أرضية ليستخلص منها المواد الخام‏,‏ وكرتين ليلقي فيها بنفاياته‏,‏ كل هذا يعني أن المشروع الحداثي الدارويني الغربي مشروع مستحيل لايستفيد منه سوي العالم الغربي‏,‏ وبعض أعضاء النخب الحاكمة في العالم الثالث‏,‏ وما العربدة الأمريكية الداروينية ضد العراق سوي تعبير عن إدراك المؤسسة الحاكمة الأمريكية لهذه الحقيقة‏,‏ فهي تود الهيمنة علي مصادر الموارد الطبيعية في عالم تتناقص فيه هذه الموارد حتي يمكنها الاحتفاظ للإنسان الأمريكي بمعدلاته الاستهلاكية العالية‏,‏ فهذا هو وعد الحداثة الداروينية له‏.‏

وقد اتضح لنا جميعا أن الثمن المادي والمعنوي لمنظومة الحداثة الداروينية مرتفع للغاية‏,‏ ولنأخذ الجانب المادي أولا‏:‏ تتحدث بعض الدراسات عما يسمي رأس المال الطبيعي الثابت

‏fixednaturalcapital‏

أي العناصر الطبيعية التي لايمكن استبدالها‏,‏ وثمة إحصائية تذهب إلي أنه لو تم حساب التكاليف الحقيقة لأي مشروع صناعي غربي‏(‏أي حساب المكسب النقدي المباشر مخصوما منه الخسارة الناجمة عن استهلاك رأس المال الطبيعي الثابت‏)‏ لظهر أنه مشروع خاسر‏,‏ وأن المشروع الصناعي الغربي قد حقق ماحقق من نجاح واستمرار لأن الجنس البشري بأسره قد دفع الثمن‏,‏ وقام الإنسان الغربي وحده بأخذ الغنيمة‏,‏ وقد أدي هذا إلي فداحة ثمن التقدم الذي تنادي به الحداثة الإمبريالية الداروينية‏:‏تآكل طبقة الأوزون ــ تلوث البحار ــ التصحر الناتج عن قطع الغابات ــ النفايات النووية ــ تلوث الهواء ــ تزايد سخونة الغلاف الجوي‏.‏

والحداثة الداروينية لها أثرها علي نسيج المجتمع‏,‏ وعلي منظوماته الحاكمة‏..‏ ولنذكر بعض الظواهر الاجتماعية السلبية المختلفة‏:‏تآكل الأسرة ــ تراجع التواصل بين الناس ــ الأمراض النفسية ــ تزايد الإحساس بالاغتراب والوحدة والغربة ــ ظهور الإنسان ذي البعد الواحد ــ هيمنة النماذج الكمية والبيروقراطية علي الإنسان ــ تزايد العنف والجريمة‏(‏يعد قطاع السجون هو أسرع القطاعات توسعا في الاقتصاد الأمريكي‏)‏ ــ الإباحية‏(‏ التكاليف المادية لإنتاجها والتكاليف المعنوية لاستهلاكها‏)‏ ــ السلع التافهة‏(‏التي لاتضيف إلي معرفة الإنسان ولاتعمق من إحساسه‏,‏ والتي تستغرق وقتا إجتماعيا في إنتاجها واستهلاكها‏)‏ ــ تضخم الدولة وهيمنتها من خلال أجهزتها الأمنية والتربوية علي الأفراد ــ تضخم قطاع اللذة والميديا وغزوها حياةالإنسان الخاصة ودورهاالضخم في صياغة صورة الإنسان وطموحاته وأحلامه‏,‏ برغم أن القائمين علي هذا القطاع لم يتم انتخابهم ولاتتم مساءلتهم ــ تزايد الإنفاق علي التسلح وأدوات الدمار الشامل‏(‏يقال إنه لأول مرة في التاريخ البشري ينفق الإنسان علي السلاح أكثر مما ينفق علي الطعام والملبس‏)‏ ــ ظهور إمكانية تدمير الكرة الأرضية إما فج أة‏(‏من خلال الأسلحة النووية‏)‏

أو بالتدريج‏(‏من خلال التلوث‏),‏ وكل مايسببه هذا من قلق للإنسان الحديث‏,‏ وعند هذه النقطة تلتقي الآثار المادية بالآثار المعنوية بحيث لايمكن التفريق بين الواحد والآخر‏.‏

وقد أدرك كثير من المفكرين الغربيين هذه الجوانب المظلمة للحداثة الداروينية‏,‏ فعبارات مثلأزمة الحداثةوأزمة المعنيوالأزمة الأخلاقيةكلها عبارات تتواتر في علم الاجتماع الغربي‏,‏ وتدل علي تنامي هذا الإدراك‏,‏ وفكر الخضر تماما مثل رفض العولمة والرأسمالية المتوحشة وفكر مدرسة فرانكفورت‏,‏ ونظريات التنمية الجديدة التي تتحدث عن التنمية المستديمة والدعوة إلي تطوير عولمة تراحمية هي كلها محاولات لرفض الحداثة الداروينية التي تهدد سكان الكرة الأرضية‏,‏ وتهدد إنسانية الإنسان‏,‏ وفي مجال نقده للحداثة الداروينية قال روجيه جارودي‏(‏قبل تحوله للإسلام‏):‏إن معركة عصرنا هي ضد أسطورة التقدم‏,‏ والنمو علي المنوال الغربي‏,‏ فهي أسطورة انتحارية‏,‏ وهي أيضا معركة ضد الأيديولوجية التي تتسم بالفصل بين العلم والتكنولوجيا‏(‏تنظيم الوسائل والقدرة‏)‏ من جهة‏,‏ والحكمة‏(‏التبصر بالغايات وبمعني حياتنا‏)‏ من جهة أخري‏.‏

هذه الأيديولوجية تتسم بأنها تؤكد فردانية متطرفة تبتر الإنسان عن أبعاده الإنسانية‏,‏ وفي نهاية الأمر خلقت قبرا يكفي لدفن العالم‏.‏

وهو محق في ذلك تماما فالحداثة علي النمط الغربي بدأت بادعاء أنها تري الإنسان مركزا للعالم وانتهت بكلمات ميشيل فوكوه‏:‏لايسع المرءإلا أن يقابل بضحك فلسفي كل من لايزال يريد أن يتكلم عن الإنسان وعن ملكوته وعن تحرره‏..‏ فسيضمحل الإنسان مثل نقش علي رمال الشاطيء تمحوه أمواج البحر‏,‏ بدأ العالم بدون الإنسان وسينتهي بدونه‏,‏ ومايتأكد في أيامنا هذه ليست غياب الإله أو موته بقدر ماتتأكد نهاية الإنسان‏.‏

إن وعد الحداثة الغربية كان هو تأكيد مركزية الإنسان في الكون‏,‏ ولكن تحققها تاريخيا يسير بنا كلنا بخطي حثيثة نحو موت الإنسان بل وموت الطبيعة‏.‏

والموقف الإنساني من الحداثة الداروينية المنفصلة عن القيمة هو جزء من هذه الثروة العالمية ومن المحاولة الرامية إلي مراجعة المفاهيم المعادية للإنسان التي سيطرت علي الحضارة الحديثة‏.‏

ولذا‏,‏ فقد يكون من الأجدي أن يوحد الجميع قواهم وأن يتعاونوا علي توليد المشروع الحداثي العربي والإسلامي كجزء من المحاولة الإنسانية العامة التي تحاول تجاوز الحداثة الداروينية‏,‏ المنفصلة عن القيمة‏,‏ المبنية علي الصراع‏,‏ والتنافس والتقاتل والاستهلاك المتصاعد حتي نتوصل إلي حداثة إنسانية‏,‏ تنطلق من إنسانيتنا المشتركة‏,‏ حداثة تدير المجتمع بطريقة مختلفة‏,‏ فهي لاتري الإنسان مادة محضة‏,‏ ولاتنفصل عن القيمة‏..‏ وإنما تدور في إطار منظومة قيمية تري أن تحقيق السعادة لايكون بالضرورة عن طريق زيادة الثروة ونهب الطبيعة‏,‏ واستغلال الإنسان‏,‏ وانما عن طريق تبني قيمة إنسانية تبني مثل العدل والتكافل والتراحم‏,‏ والتوازن‏(‏مع الذات ومع الطبيعة‏)..‏وفي ذلك خيرنا‏..‏ وخير الإنسانية كلها‏.‏

والله أعلم‏.‏

http://www.ahram.org.eg/Archive/Index.asp?...CurFN=WRIT1.HTM

القرآن الكريم و السنة النبوية هما الحقيقة المطلقة فى حياتنا وكل شئ غيرهما قابل للاختلاف والجدال .

رابط هذا التعليق
شارك

مقال رائع بصراحة .. و الدكتور عبد الوهاب من أكثر الشخصيات التي أكن لها إحتراما بالغا .. ربنا يكرمه .

جزاك الله خيرا .

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. واخو الجهالة في الشقاوة ينعم

هذه مدونتي:

Fathy

رابط هذا التعليق
شارك

الله يخليك يا براود مسلم

وياريت كل واحد فينا يشوف مقال جيد يعرضة على باقى الاعضاء

ان شاء الله هاحاول اتابع مقالات الاستاذ فهمى هويدى واعرضها عليكم :lol:

القرآن الكريم و السنة النبوية هما الحقيقة المطلقة فى حياتنا وكل شئ غيرهما قابل للاختلاف والجدال .

رابط هذا التعليق
شارك

  • بعد 4 شهور...

اخيرا نطق احدهم!!! مقال جرئ وغير متوقع ينشر بالاهرام

تجـديد الدولـة المصـرية

بقلم : نبيل عبدالفتاح

يناقش مقال اليوم قضية مهمة‏,‏ وهي قضية تجديد الدولة المصرية‏.‏ ويبدأ المقال بمناقشة مظاهر الخلل البنيوي في الدولة المصرية‏,‏ وفي هذا الصدد يتطرف إلي عددا من تلك المظاهر أهمها التضخم المفرط في أجهزة الدولة‏,‏ وشخصنة الدولة وأجهزتها السياسية‏,‏ واختصار الدولة في مفهوم الأمن وأجهزته‏,‏ وأزمة المؤسسة والطابع المهني الوظيفي فيها‏,‏ وجمود ثقافة الدولة النهرية المركزية‏,‏ وأولوية الحاكم والبيروقراطية علي الشعب‏,‏ وأزمة دولة القانون‏,‏ أولوية المركز‏,‏ وبروز تصدعات في بني أجهزة الدولة‏.‏ وينتهي المقال بطرح عدد من الأولويات التي يجب الانطلاق منها ووضعها في الاعتبار‏,‏ ونحن بصدد التفكير في تجديد الدولة المصرية‏,‏ يتمثل أهمها في انعكاسات العولمة علي مفاهيم السيادة‏,‏ ودولة مابعد الرفاهة وسياساتها وانجازاتها‏,‏ ودولة حقوق الانسان‏,‏ وأن دولة القانون لم تعد تعتمد فقط علي سيادة قوانينها فقط‏,‏ وإنما علي شبكة من المنظومات القانونية العولمية‏,‏ كما لم تعد هي الفاعل الأساسي في العلاقات الدولية‏,‏ بالإضافة إلي عدد من الاعتبارات الأخري‏.‏

إن تدهور حالة السياسة والثقافة وانتاج الأفكار في مصر والعالم العربي‏,‏ تكشف عن بعض ملامحها عملية المقارنة بين ردود أفعال المدارس الفكرية‏,‏ عقب ثلاث لحظات تاريخية‏:‏ الأولي هزيمة يونيو‏1967‏ الساحقة‏,‏ ثم الحوار الذي دار في أعقاب حرب أكتوبر‏1973,‏ وأخيرا انهيار الدولة الطغيانية‏,‏أو الدولة العائلية والعشائرية والمذهبية في العراق واحتلاله‏.‏ في اللحظة الأولي قدمت المدارس الليبرالية والماركسية والقومية والإسلامية‏,‏ اطروحات اتسمت آنذاك بالجدية وعمق التحليل ـ علي التفاوت في مستوياته بين الاتجاهات المختلفة ـ وذهبت الي تناول تخلف البنيات والهياكل والسلطات المتعددة‏,‏ لاسيما الاجتماعية والثقافية والدينية‏,‏ كما برزت في اطروحات أنور عبدالملك‏,‏ ومحمد النويهي‏,‏ وصادق جلال العظم‏,‏ وكميل حوا‏,‏ وعبدالله عبدالدائم‏,‏ ومحمد عصفور ووحيد فكري رأفت‏,‏ ولويس عوض‏,‏ وبيان نادي القضاة ذائع الصيت بقيادة ممتاز نصار‏,‏ أن صدي الخطابات النقدية تم تمثل بعضه رسميا في بيان‏30‏ مارس‏,‏ وأيا كان مدي ظل تحليل الهزيمة واسبابها علي تفكير الصفوة السياسية الحاكمة‏,‏ وسياساتها‏,‏ وجهاز الدولة‏.‏ كانت ورقة اكتوبر‏,‏ وبعض الحديث مجددا عن الدولة العصرية‏,‏ والانفتاح‏,‏ وفتح الأسواق السياسية والاقتصادية والثقافية‏,‏ يمثلان ردودا رسمية وشبه ليبرالية‏,‏ تتسم بخفة لا شبهة حول غالبها‏!,‏ علي وجهة تحرك مصر اقليميا ودوليا وداخليا‏.‏ إن مستوي الخطابات الفكرية اتسم بغلبة السجالات‏,‏ والاحتقانات بين الرئيس السادات والجماعات الثقافية المصرية الماركسية والقومية وبعض أشباه الليبراليين النقديين حول توجهات الحاكم ـ الفرد‏,‏ ومناوراته وتلاعباته بالايديولوجيا الاسلامية السياسية وتحالفه مع بعض جماعاتها في الصراعات والتوازنات السياسية الداخلية‏.‏ لا يستطيع المراقب للمسألة المصرية أن يلحظ جديدا سوي بعض الدراسات والبحوث السياسية‏,‏ التي تأثرت بمنهجيات واصطلاحات‏.‏

والأحري استعارات النظرية السياسية والحكومات المقارنة‏,‏ والعلاقات الدولية‏...‏الخ‏.‏

اللحظة التاريخية الراهنة‏,‏ هي الأكثر وهنا وتشوشا‏,‏ وسجالية من بين اللحظات الثلاث‏,‏ إذ لاتزال ردود الأفعال الفكرية في عمومها ـ وباستثناءات محدودة ـ تركز علي وقائع الاحتلال‏,‏ وعمليات قتل بعض جنود الاحتلال‏,‏ أو مفاجأة ـ تبدو هكذا لبعضهم ـ بروز دور العشائر والمجموعات الأولية الدينية والمذهبية في العراق‏,‏ لاسيما في أثناء انتفاضة طقوس وفلكوريات الشيعة‏,‏ وغياب الأمن‏,‏ أو هجاء الاستعمار‏,‏ أو الامبريالية الأمريكية العولمية‏.‏

ثمة خطاب مناور من بعض الجماعات السياسية يتفق مع خطاب الصفوة السياسية الحاكمة في رفض تغيير النظم والقادة بالقوة‏,‏ بدعوي أن ذلك يشكل اعتداء علي حق الشعوب العربية في اختيار نظمها وقادتها‏,‏ يرمي هذا الخطاب المناور والمتواطيء الي تحقيق بعض الحضور علي الساحة السياسية الداخلية‏,‏ وان يكونوا جزءا من أي اصلاحات سياسية متوقعة يمكن للسلطة السياسية اتخاذها كجزء من نتائج تغيير نظام حكم الرئيس صدام حسين وعائلته وعشيرته وحزبه‏.‏ إن بعض المواقف السابقة تكشف الي أي مدي بعض التواطؤات في السياسة المصرية لمنع تأصيل مكونات المسألة المصرية ـ الرجل المريض في الشرق الأوسط ـ والتحليل النقدي لها‏,‏ هذا النمط من التواطؤ يشير الي توظيف مفهوم الوطنية في أكثر معانيه صخبا وسطحية كسلاح سياسي اتهامي في مواجهة أية محاولة لبحث مسألة تجديد الدولة‏,‏ والسلطة السياسية والصفوة الحاكمة‏,‏ وضرورات الديمقراطية والتغيير السياسي وتداول السلطة واقرار دولة القانون في مصر‏.‏

وكأن التيار الديمقراطي والاصلاحي هو الذي جاء باليانكي الامبراطوري والعولمي الي المنطقة‏!‏

إن اطروحة رفض تغيير النظم والقادة بالقوة من خارجها‏,‏ استندت الي مقولة إن ذلك شأن داخلي‏,‏ ويتم من خلال الشعوب‏,‏ وهو ما ينطوي علي افتراض أن هذه النظم تم اختيارهاعبر الآليات الديمقراطية‏,‏ والواقع أنها وصلت عبر تزوير إرادة الناخبين‏,‏ ومستمرين في الحكم من خلال آليات القمع وعنف جهاز الدولة الوحشي‏.‏

إن أخطر ما أدي اليه الطغيان والفساد العائلي والعشائري‏,‏ والبعثي‏,‏ والمذهبي في العراق‏,‏ هو انهيار الدولة وأجهزتها عقب هروب الديكتاتور ونجليه ومساعديه‏,‏ من هنا تبدو وجاهة بحث وتحليل الدولة في مصر‏,‏ وجوانب الخلل البنائية من منظور نقدي‏,‏ بهدف تأصيل جوانب المسألة المصرية‏,‏ وذلك سعيا وراء سياسات لإعادة هيكلة وتطوير الدولة المصرية أو تجديدها‏.‏ ظل الخطاب النقدي والأكاديمي يدور حول نقد السلطة أو الصفوة الحاكمة‏,‏ أو الحكومة أو الحزب الحاكم‏,‏ أو بعض السياسات أو الوزراء‏,‏ إلا أن نقد الدولة اختلط مفهوميا بالحكومة أو الحاكم‏,‏ أو الطبقة المسيطرة أو النخبة الحاكمة‏,‏ دونما تمييزات بين هذه المستويات والإصطلاحات‏.‏

ان الخطاب حول الدولة تأثر ولايزال بالمنهجية القانونية الشكلية ونزعتها المبسطة للتجريد والتأصيل‏,‏ وتحويل النصوص الدستورية الي عوالم نظرية بعيدة عن ربط هذا التحليل بالتركيبة الاجتماعية‏,‏ ووضع المصالح بين الفئات المختلفة‏,‏ وانعكاساتها علي عمل الدولة ومؤسساتها وأجهزتها المختلفة‏.‏

ان انهيار الدولة العراقية‏,‏ يشكل مثالا قابلا للتكرار في المنطقة كنتاج لمواريث الطغيان والحكم الأسري والعائلي والعشائري والمذهبي‏,‏ وتضافر سياسات الفساد والقمع والتلاعب بالمذاهب الدينية في اللعبة السياسية في محاولة للتغطية علي أزمات الشرعية ودولة القانون ومستويات الحكم المديوقراطي‏(‏ ما دون الحد الوسط‏)‏ والمنيوقراطي‏(‏ مادون الحد الأدني‏)‏ الذي يسم مستويات أداء القادة السياسيين‏,‏ ومن يحيطون بهم‏.‏

إن مسألة تجديد أو اصلاح أو تجديد الدولة المصرية‏,‏ تبدو محورية‏,‏ ليس انطلاقا من الميراث الهيجلي الشائع بدعوي أنها ترتفع عن المصالح الخاصة أو الطبقية‏,‏ ومن ثم تعبيرها عن المصلحة العامة واحتكارها للقوة والقمع المشروع‏,‏ فهذا وهم ايديولوجي أقرب للأساطير السياسية‏,‏ مثله في ذلك مثل القول إنها محض أداة للطبقة المسيطرة أو الصفوة الحاكمة‏.‏ الدولة المصرية ـ علي الرغم من اختلالاتها وتخلفها البنائي والسياسي ـ إنها تتجاوز ذلك لتمثل مصالح فئات اجتماعية تتجاوز في بعض الاحيان القوة المسيطرة‏.‏ ان الدولة المصرية التسلطية‏,‏ ومعها التركيبة الاجتماعية والثقافية والدينية‏,‏ وثقافتها القمعية والهرمية تقف عائقا ضد قبول القيم والقواعد والمؤسسات والآليات الديمقراطية وتقف ثقافتها ضد تحرير الأسواق السياسية والثقافية‏..‏الخ‏,‏ ان تقديس الدولة المصرية بل وتأليها الوضعي‏,‏ واضفاء القدسية عليها تحت دعوي احتكارها لمعاني الوطنية والولاء والانتماء الوطني‏,‏ وما هو الايمان الاسلامي الصحيح‏,‏ عبر أجهزتها ومؤسساتها وخطاباتها‏,‏ هو جزء في اطار ثقافة ولغة سياسية طنانة وجوفاء‏,‏ أسهمت في اشاعة الخوف والرعب من نقدها بهدف تطويرها‏,‏ ويرجع ذلك الي أن استراتيجية تقديس الدولة وتحويلها الي اسطورة عن طريق النفخ في المعاني الرسمية السلطوية للوطنية‏,‏ وهي أكبر وأخطر وأوسع نطاقا ودلالة من تعريفها الشعاراتي والاعلامي الرسمي‏,‏ يرمي الي استفادة الصفوة السياسية الحاكمة من فائض الوطنية المقدسة وتوظيفه لصالحها‏,‏ ومن ثم تغدو جزءا من أسطورة القداسة السياسية للوطنية المصرية‏,‏ وللصالح العام‏..‏الخ‏,‏ الذي سرعان ما أعيد تعريفها علي نحو أمني واتهامي؟‏!‏ انطلاقا من الوضع البالغ الخطر والحرج معا‏,‏ يتعين علينا بحث مسألة اصلاح الدولة المصرية أو تجديدها‏,‏ ومن ثم يتعين أولا تحديد مظاهر الخلل البنيوي في الدولة المصرية‏,‏ ثانيا‏:‏ معني التفكير في تجديد الدولة المصرية الآن‏.‏

أولا‏:‏ مظاهر الخلل البنيوي للدولة المصرية

يمكن لنا رصد الأعطاب البنائية في الدولة المصرية الراهنة بايجاز فيما يلي‏:‏

‏1‏ ـ التضخم المفرط في أجهزة الدولة وادوارها وصلاحياتها‏,‏ وبلا فعالية في الانجاز‏,‏ كجزء من مواريث التصور البيروقراطي والتسلطي للدولة النهرية‏,‏ وسياسات التوسع في بناء الأجهزة‏,‏ والمشروعات العامة‏,‏ والنزعة التدخلية في جميع القطاعات‏,‏ التي انتهت الي سياسة الخصخصة‏,‏ وتراجع الأدوار التدخلية في مجال السياسات الاجتماعية‏,‏ مع بقاء هياكل بيروقراطية وادارية متخلفة وعاجزة تستهلك موارد عديدة علي الأجور والانفاق الاداري مع اشاعة الفساد وشبكاته وقيمه‏..‏الخ‏.‏

‏2‏ ـ شخصنة الدولة وأجهزتها السياسية‏,‏ والدمج بين الوطنية والأمة والوطن والحاكم‏,‏ ومثالها الرئيس السادات‏,‏ وتوريث المهن في مجالات عديدة أصبحت موضعا للتواطؤ في الجامعات والطب والصحافة‏..‏الخ‏.‏

‏3‏ ـ الخلط بين الصفوة الحاكمة‏,‏ والحكومة‏,‏ والدولة‏.‏

‏4‏ ـ اختصار الدولة في مفهوم الأمن وأجهزته‏,‏ وهو ما شكل عبئا هائلا عليها‏,‏ بل وتحولت الهياكل الأمنية الي أجهزة منوط بها مواجهة ملء فراغ السياسة‏,‏ والعمل السياسي‏,‏ الأمر الذي أسهم في تكريس الفجوة بين المصريين والعمل السياسي عموما‏.‏

‏5‏ ـ أزمة المؤسسية والطابع المهني الوظيفي في أداء أجهزة الدولة‏,‏ أي تردي مستويات المهنية والأداء‏,‏ وذلك ناتج عن الجمود القيادي في قمة الهرم المؤسسي‏,‏ ثم ضعف المستوي التعليمي والتدريبي للموظفين العموميين‏.‏

‏6‏ ـ جمود ثقافة الدولة النهرية المركزية ومفاهيمها عن الدولة التي تدور في فضاء التسلطية والمركزية المفرطة‏,‏ وعدم الانفتاح علي المكونات المختلفة للثقافات الفرعية في التركيبة المصرية‏.‏

‏7‏ ـ أولوية الحاكم والبيروقراطي علي الشعب‏,‏ والدولة علي المواطن ومن ثم أمن الدولة علي أمن الفرد‏.‏

‏8‏ ـ مفارقة الدولة للمواطن ـ المواطنة حالة لم تتحقق لأسباب تاريخية وسياسية وثقافية ـ في الادراك الجماعي لغالبية المصريين‏,‏ حيث تبدو الدولة ككائن سياسي متعال ولا علاقة له بغالبية المصريين‏,‏ ولا تأخذ رأيهم ولا تطالبهم بالمشاركة‏,‏ وتفرض عليهم قراراتها قسرا‏.‏

‏9‏ ـ أزمة دولة القانون‏,‏ حيث تبدو الدولة وكأنها خارج اطار سيادة القانون‏,‏ فهي قادرة عبر أجهزتها علي أن تصنع القانون متي رأت ذلك‏,‏ ولحماية المصالح الاجتماعية التي تراها في لحظة ما‏,‏ ثم تتراجع عنها‏,‏ أو تصدر قوانين تعرف أنها غير دستورية‏,‏ مثال قوانين الانتخابات‏,‏ ولكنها تستخدم الآلة التشريعية في انتاج تشريعات تفتقر للشرعية الدستورية لتحقيق مصالح عاجلة لها‏,‏ توظيف الصفوة السياسية ثغرات القانون لتحقيق مصالحها دون مراعاة لتوازن المصالح الاجتماعية والسياسية للفئات المختلفة‏.‏

‏10‏ ـ أولوية المركز ـ العاصمة والاسكندرية والمناطق السياحية‏...‏الخ ـ في الانفاق والتطوير علي بقية المحافظات‏,‏ الأمر الذي شكل أحد أسباب التمرد السياسي‏,‏ لأجيال شاركت في عنف الجماعات الاسلامية السياسية‏,‏ وجاءت عناصر رئيسية من محافظات الوجه القبلي‏,‏ مما دفع الي ايلاء بعض العناية لها بعدئذ‏.‏

‏11‏ ـ اختطاف الدولة المصرية‏,‏ وذلك بالنظر الي عدم مواجهة ظواهر الجمود في شخوص الصفوة الحاكمة ـ جيليا وحكوميا ـ من خلال تجديد الأجيال السياسية‏,‏ ولجوء الصفوة السياسية الي ربط نفوذها في المحافظات بأبنية القوة التقليدية كالعائلات الممتدة والعشائر والقبائل‏,‏ من خلال وسطاء ينتمون للروابط الأولية‏,‏ ويتم اختيارهم في البرلمان ومجلس الشوري والمحليات والأجهزة الادارية‏,‏ الأمر الذي أدي الي تحول أجهزة الدولة في هذه الناطق الي أدوات لأبنية القوة التقليدية وقيمها وتقاليدها ومصالحها أساسا‏,‏ ولم تجد هذه العمليات الاختطافية لجهاز الدولة ـ خارج الأجهزة الأمنية ـ أية محاولة لردعها والمسئولين عنها لصالح الدور التحديثي والتطويري والتوحيدي لجهاز الدولة للأمة المصرية‏.‏

‏12‏ ـ بروز تصدعات في بني أجهزة الدولة‏,‏ من خلال انتزاع بعض الوظائف والمهن الحكومية لصلاحيات الضبط القضائي‏,‏ وهي ظاهرة تنامت منذ عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي‏,‏ وأسهم انتشار ظواهر وبؤر وشبكات الفساد الوظيفي في أجهزة الخدمة المدنية الي بروز صدوع تحتاج للالتئام بين الشعب والدولة‏,‏ وبين الشعب والنظام السياسي‏,‏ وبين الشعب والقانون والشعب والأمن‏,‏ ومن ثم لجوء فئات عديدة الي أساليب عرفية لحل مشكلاتها القانونية أو لجوء الأقوياء بالمال أو السلطة الي أسواق بيع القاعدة القانونية وتنفيذها‏,‏ لاسيما في ظل بروز ظاهرة عدم تنفيذ الأحكام القضائية‏,‏ بكل دلالات ذلك الخطيرة في عمل السلطات العامة والوعي الجماعي للمخاطبين بأحكام القانون‏,‏ وعلي الشرعية السياسية‏.‏

‏13‏ ـ ذكورية ثقافية ومنطق ولغة الدولة المصرية‏,‏ لاسيما من حيث تجنيد السلطات العامة للكوادر‏,‏ وتمثيل المناصب القيادية للمصريين والمصريات‏,‏ دونما إعمال لمباديء المواطنة والمساواة بين الجنسين في حالات عديدة‏.‏

‏14‏ ـ دولة قانون الطواريء الذي بات سمت نظام ما بعد‏23‏ يوليو‏1952‏ والي الآن‏,.‏

ثانيا‏:‏ معاني اعادة التفكير في تجديد الدولة المصرية‏.‏

الحوار حول تجديد الدولة المصرية لا ينفصل عن تاريخها وثقافتها وتقاليدها وادراكها من ناحية‏,‏ ولا عن تطور ظاهرة الدولة المعاصرة وتحولاتها‏,‏ من المعروف وفق الفقيه مياي‏,‏ أن كلمة دولة لم تستعمل في اللغة الفرنسية إلا في مرحلة ارساء الحكم المطلق‏,‏ أي في القرن السادس عشر‏,‏ ثم تعممت ابتداء من القرن السابع عشر‏,‏ واستخدمت في الوثائق الرسمية نحو سنة‏1540,‏ إن الدولة ـ الأمة‏,‏ ليست ظاهرة أبدية‏,‏ وإنما ترتبط بالتطورات التقنية والسياسية وشكل العالم وتحولاته‏,‏ ومن ثم تبدو ظاهرة تقديس الدولة والقومية والوطنية بالمعاني السوقية السائدة أمرا وراءه أهدافه ومصالحه السلطوية أكثر من كونه تعبيرا عن قيم وأشكال تخضع للتطور التاريخي للنظم والمفاهيم والأفكار السياسية‏.‏

إن التفكير في تجديد الدولة المصرية لابد أن يضع في اعتباره ما يلي من متغيرات‏:‏

‏1‏ ـ انعكاسات العولمة علي مفاهيم السيادة وتبدلاتها وتحولاتها في ظل ثورة المعلومات والوسائط الاتصالية المتعددة‏,‏ أي دولة في اطار معولم‏.‏

‏2‏ ـ دولة ما بعد الرفاهية وسياساتها‏,‏ وانجازاتها‏.‏

‏3‏ ـ دولة حقوق الانسان عموما‏,‏ لا حقوق الانسان ـ المواطن‏,‏ حيث سيدفع التطور في أوروبا الي الغاء شرط المواطنة وتعميم حق المقيم علي ارضها في الانتخابات‏,‏ أي دولة في اطار مواطنة ذات طبيعة عولمية‏.‏

‏4‏ ـ دولة في اطار اضفاء مشروعية علي ما يسمي بالحق في التدخل الانساني كما حدث في البلقان‏,‏ وشمال العراق‏,‏ والصومال‏,‏ والعراق مجددا‏,‏ بل واحتلاله واسقاط الدولة ونظامها وقادتها والقبض علي غالبيتهم‏,‏ أي دولة في اطار نزعة أمريكية امبراطورية عولمية وامبريالية‏,‏ ومن ثم دولة ـ ولاسيما في جنوب العالم ـ ذات قابلية للاختراق والهشاشة أكثر من ذي قبل‏,‏ لحاجتها للمعونات والقروض والمساعدات الاقتصادية والفنية‏,‏ وتخضع لاشكال متعددة للتأثير علي صورتها‏,‏ وعلي سياساتها من الدول الكبري‏,‏ ومؤسسات التمويل‏,‏ والشركات متعددة الجنسيات‏,‏ والمنظمات غير الحكومية والاجهزة الاعلامية المتعددة‏,‏ والإنترنت‏..‏ الخ‏.‏

‏5‏ـ دولة القانون لم تعد تعتمد فقط علي سيادة قوانينها فقط‏,‏ وانما علي شبكة من المنظومات القانونية العولمية تتكون من معاهدات واتفاقيات عولمية الطابع والأطراف‏,‏ وقوانين دول مانحة أو قوانين دول كبري كالولايات المتحدة تفرض قيودا علي المشرعين وسياسات النظم في الدول الأخري‏,‏ كما في مجال الحريات الدينية مثلا‏,‏ أو حقوق الأنسان‏.‏

ان خطورة مفاهيم دولة القانون في الإطار العولمي أن المنظومات القانونية العولمية الاتجاه تستأثر بتحديد القيم القانونية والمعايير الكبري التي يتعين علي الدولة ـ في طور تحولها الجديد ـ أن تتبناها وتطبقها في تشريعاتها الوطنية‏.‏ ان هذه المعايير لم تعد مقصورة علي حقوق الانسان فقط أو قوانين التجارة‏,‏ وانما تمتد الي طبيعة تكوين سلطات الدولة وتمايزاتها البنائية والوظيفية‏..‏ إلخ‏.‏

‏6‏ـ دولة لم تعد هي الفاعل الأساسي في العلاقات العولمية مع المنظمات الحكومية‏,‏ وانما ثمة فواعل آخري تلعب ادوارا أكثر تأثيرا في السياسات العولمية كبعض الجماعات الطوعية‏.‏

‏7‏ـ دولة تحابي الفئات الهشة والمهمشة كالمرأة والأطفال والأقليات الصغيرة العرقية والمذهبية والدينية‏..‏ الخ‏,‏ ومن ثم فهي دولة يتم نزع ديكتاتورية الفحولة الذكورية عنها‏,‏ بالنظر الي الضغط الذي يمارس الآن من دول كبري‏,‏ ومنظمات حكومية وطوعية‏,‏ واتفاقيات عولمية بخصوص عدم التمييز ضد المرأة علي سبيل المثال‏.‏

‏8‏ ـ دولة لم تعد تحتكر الفرد والمواطن‏,‏ حيث يمكن رفع دعاوي امام دول أخري علي اشخاص وقادة قاموا بممارسة انتهاكات لحقوق الإنسان ومارسوا التعذيب في بلدان آخري‏,‏ وهو تطور جديد وسيتنامي مستقبلا‏.‏

إن نظرة مدققة علي بعض المتغيرات السابقة‏,‏ تشير الي ضرورة تجديد الدولة المصرية كمدخل ضمن مداخل عديدة لإعادة تجديد حياتنا كلها لمواجهة مسببات واعراض المرض المصري‏,‏ وهو الدولة ضد الديمقراطية وضد الفرد‏,‏ ووجهه الآخر المواطن يقف بعيدا عن الدولة والسياسة ما امكن‏.‏

إن تطوير ومقرطة وضبط الإفراط الدولتي والبيروقراطي‏,‏ يتطلب التصدي الحاسم للحكم التسلطي واحتكار السلطة وهيمنة وسطوة الشيخوخة الجيلية والفكرية علي حياة الدولة واجهزتها في مصر الآن‏!

http://www.ahram.org.eg/Index.asp?CurFN=FI...E1.HTM&DID=7802

"اللهم إنَّا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم".

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
  • الموضوعات المشابهه

    • 0
      فى صالة شقة بدور أرضى من بيت قديم فى منتصف شارع مدرسة التوفيقية الثانوية العريقة بحى شبرا تجمع ما لا يزيدعرض المقال كاملاً
    • 0
      تشابكت ثلاثة مفاهيم تتعلق بالتعليم فى ظل خفوت اهتمام «الماميز» هذه الأيام بالمنظومة، فارتأيت أنه وقت مناسب لمناقشتها. تساءلت قبل أشهر فى مقالات ولقاء تليفزيونى عن السبب الذى يدعونا أو لا يدعونا لنتعلم. بمعنى آخر، ما الذى يدفع الأب والأم لإرسال ابنتهما أو ابنهما إلى المدرسة أو يقرران بقاءه فى البيت، ثم العمل؟، وبدأ يومى أمس بحوار سريع مع سيدة محترفة تسول فى مدينة «الشروق»، حيث تتمركز تقريبًا فوق مطب يجبر السيارات على تهدئة سرعتها، واضعة يدها على خدها أو باكية كل يوم على مدار أيام العام وحولها عدد
    • 0
      كثير من اللغط والاختلاف يظهر دائما حينما تثار قضية ما.. أو حدث تاريخى معين ومن تلك القضايا التاريخية هو ما حعرض المقال كاملاً
    • 2
      جريمة «سعد الهلالى»     منذ بضعة أيام، ظهر الدكتور «سعد الدين الهلالى»، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، مع «عمرو أديب»، ليدلى بدلوه في مسألة «حجاب الأنثى»، وهل هو «فريضة» أم لا. حسب منهجه المعروف به، عرض «الهلالى»- مع حفظ الألقاب- مختلف الآراء الفقهية في المسألة، مع تأكيده أنه «لا يوجد نص يؤكد فرضية الحجاب». انتفضت المؤسسات الإسلامية وقادتها وأذرعها الإعلامية، وتوالت البيانات والتصريحات لتؤكد «فرضية» الحجاب. وكذلك ثار العديد من الناس وعبّروا عن غضبهم بكتاباتهم عبر وسائل التواصل
    • 0
      هى الصبيّةُ المتفوقة الجميلة التى كانت من أوائل الجمهورية فى شهادة الثانوية العامة، ثم اختارت أن تلتحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة، لتتخرج فيها حقوقيةً نابهةً ذات عقل نيّر مشرق تعرف حقوق الإنسان وحقوق المجتمع وتمتهن المهنة الأشرف: «مهنة صناعة العدل». بعد تخرجها فى الجامعة امتهنت المحاماة ثلاثين عامًا لتدافع عن المظلومين وتعيد الحقوق إلى أصحابها. نظرًا لفرادتها وتميّزها، كانت أول امرأة مصرية تعتلى كرسى القضاء، لتغدو «قاضية»، بعدما ظلَّ ذلك المنصب الرفيع حكرًا على الرجال وحسب. وشكرًا للرئيس عبد الف
×
×
  • أضف...