اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

عنبر أفندي .. الرجل الذي غير مجري حياة علي مبارك ..


محمد عبده العباسي

Recommended Posts

عنبر أفندي الرجل الذي غير مجري حياة علي مبارك

تعد حياة علي باشا مبارك " أبو التعليم في مصر " والذي شغل العديد من المناصب الهامة في تاريخ مصر ، نموذجاً حياً ورائعاً لرجل استطاع أن يصنع نفسه بنفسه وسط تحديات لا حصر لها ، عبرحياة لابد وأن تقدم بشكل مختلف للأجيال الحالية ليكون لها قدوة ومثلاً أعلي يدفع الكثير منهم للإقدام علي الحياة بكل قوة مهما وضعت أمامه من المتاريس وحالت دون تحقيق آماله وأحلامه الصعاب ، ومهما واجه من محن وتحديات ، فتلك هي النماذج التي يجب أن يحتذي بمثلها الشباب بدلاً من معول اليأس الذي يجمله البعض منهم فوق عاتقه وهو لم يزل علي أعتاب الحياة .

فقد بدأ الصبي علي مبارك في تلقي دروسه الأولي في القراءة والكتابة بقريته تلك النائية ـ وقتها ـ برمبال وهي من أعمال مركز دكرنس محافظة الدقهلية ، كان شيخه فقيهاً ضريراً ..

وبعد أن لقيت أسرة علي مبارك الكثير من العنت والظلم وأرهقتهم الضرائب الباهظة التي يفرضها والي مصر محمد علي باشا ، لم تجد العائلة مفراً سوي الهجرة من برمبال وتفرقوا في البلاد ونزلت أسرته الصغيرة في قرية الحماديين من أعمال فاقوس محافظة الشرقية ، فلم يطب المقام لعائلها وقرر الرحيل إلي عرب السماعنة بنفس المحافظة ، وهناك استقبلتهم القرية استقبالاً حسناً وأكرموا وفادتهم ..

لم يكن بالقرية وقتها فقيهاً فجعلوا من الأب مرجعاً دينياً لهم وشرعوا في بناء مسجد وجعلوا من الرجل إماماً ، وقتها كان الصبي علي مبارك في السادسة من عمره وقام الأب علي تعليمه بنفسه ، ثم أسلمه بعدها إلي فقيه يدعي الشيخ أحمد أبو خضر من ناحية " الكردي " من أعمال مركز دكرنس فحفظ الصغير القرآن الكريم علي مدي سنتين ، ولما كان الشيخ بالغ القسوة في معاملة الصبي ـ كما هي العادة عند المعلمين والفقهاء في تلك الأونة ـ فدعا ذلك الصبي إلي التمرد وامتنع عن الإختلاف إليه في إباء ، وعاد ثانية بين يدي أبيه يقرأ ويتعلم ، ولم يكن بوسع الأب أن يتفرغ لتعليم إبنه وسط مشاغله الكثيرة مما ادي لتراخي الصبي عن الدرس فكاد أن ينسي سابق ما حفظه .ز

وأراد الأب أن يجبر ابنه في الرجوع إلي الشيخ، لكن الصبي أبي ، بل وحدثته نفسه بالفكاك من الأسر والخروج عن طوع أبيه لما كان يلقاه من قسوة وسوء معاملة ، وتدخل أخوة الصبي بينه وبين أبيه ولكن الصبي أبدي نفوراً بل وأعرض أن يصبح في قابل الأيام " فقيهاً " وود لو يصبح " كاتبا " لما رآه علي الكتاب من حسن الهيئة والقربي من الحكام .

وصادف ان كان لأبيه أحد الأصدقاء من ناحية " الأخيوة " وهي قرية قريبة منهم فأسلمه الأب إليه ليقوم علي تعليمه ، ولازمه الصبي في داره يتعلم علي يديه ، وعاد ليري فيه القسوة والغلظة وناله الكثير من الأذي علي يديه ومن ذلك أن الصبي قد أخطأ في مسألة من المسائل ، فما كان من الرجل إلا أن ضرب الصبي بـ "مقلاة بن " فشج رأسه وكان ذلك علي مشهد من الناس ، وعاد يشكو إلي أبيه فلم يحفل الأب بهذا الأمر مما جعل الصبي يفكر في الهروب من أسرته ..

وعاد الصبي يلوذ بقريته البعيدة وحيداً حزيناً حتي رُد بعد قليل إلي أسرته ..ورأي الأب أن يعهد به من جديد إلي صديق له يعمل كاتباً لأحد المساحين " الذي يعملون بالمساحة وقياس الأراضي " فرضي الصبي بذلك وصار ملازماً له علي مدي ثلاثة أشهر ، ثم عاد وانفض عنه وعاد ثانية إلي بيت أبيه ..

بعدها عمل علي مبارك كاتباً في مأمورية ضرائب أبي كبير براتب شهري قدره خمسون قرشاً ومرت الأيام ولم ينل علي مبارك أجره من الكاتب ، وحدث أن قام علي مبارك بتحصيل الجباية من البلدة وقام علي اقتطاع راتبه منها ، مما أثار حفيظة الكاتب و ثارت ثائرته وأراد الانتقام من عامله فأوغر صدر مأمور الناحية واتفق وإياه علي تجنيده ليؤدبه علي فعلته ..

وتم اعتقال الكاتب علي مبارك واقتيد إلي السجن مغلولاً بالقيود وقضي بين جدرانه أكثر من عشرين يوماً قاسي فيها الشدائد والآلام ..

علم الأب بالأمر فجن جنونه ، فرفع مظلمته إلي عزيز مصر الذي كان وقتها في زيارة لناحية منيا القمح ، فأمر محمد علي بإخلاء سبيله وإطلاق سراحه ، وذهب الأب لتنفيذ الأمر ..

وقتها جاء إلي السجن صديق لسجان وحكي لصاحبه أن مأمور زراعة القطن بأبي كبير ويدعي " عنبر أفندي " في مسيس الحاجة إلي كاتب ، وكانت تلك هي بداية إبتسام الحظ لعلي مبارك حيث قدمه السجان لصديقه مشفوعاً بأوصاف النجابة والفلاح وحسن الخط وجماله ، وبعدها جاء أمر الإفراج ..

كان مأمور الزراعة عنبر أفندي أسود حبشياً ، سرعان ما أعجب به فاتخذه كاتباً عنده مقابل جراية يومية وراتباً شهرياً يبلغ خمسة وسبعون قرشاً ..

رضي علي مبارك بالأمر ورأي في أخلاق عنبر أفندي وطيبة قلبه ومثالاً رائعاً في الشفقة والرأفة وحسن المعاملة مما حببه في الاستمرار بالعمل ، ومما يرويه علي مبارك عن نفسه وأن يختلف كثيراً عمن عمل معهم في السابق فبذل الجهد المخلص في العمل عن طيب خاطر ..

ولعلنا من ذلك كله نطرح أمام أجيالنا سيرة لشخصية صلبة ، لديها إصرار تام علي النجاح الصبر والصمود والكفاح مهما لقيت في طريقها من متاعب وقست في وجهها الحياة ..

وجد علي مبارك نفسه يسأل فراش المأمور عنبر أفندي عن أخبار سيده ، وعن أسباب بلوغه هذا المركز العالي في الحكومة علي الرغم من سمرة بشرته ، وكان علي مبارك لايري في مثل هذه المناصب إلا الأتراك ذوي الوجوه البيضاء ومن علي شاكلتهم حسبما جرت به العادة في ذلكم الزمان ..

فعلم من الفراش أن سبب ارتقاء عنبر أفندي لمكانته يرجع إلي أنه كان عبداً اشترته سيدة من ذوات المكانة والجاه ولما وجدت فيه نبوغاً أدخلته مدرسة القصر العيني وهي إحدي المدارس النظامية التي أنشأها محمد علي باشا في ربوع البلاد المصرية حتي تعلم فيها وتخرج وصار أهلاً لتلك الوظيفة التي شغلها وعرف علي مبارك بأن خريجي هذه المدارس يحصلون علي الوظائف العالية ..

وعاد علي مبارك يسأل الفراش من جديد عن السبيل إلي دخول هذه المدارس :

ـ هل يدخلها أحد من أبناء الفلاحين ؟

فأجابه الفراش :

ـ يدخلها صاحب " الواسطة " فقط ..

امتعضت نفس علي مبارك ، ولم يغمض له جفن واعتزم من جديد ترك العمل والذهاب إلي مصر المحروســـــة

" القاهرة" ليدخل مدرسة القصر العيني ..

ورب صدفة خير من ألف ميعاد ، فقد قرر علي مبارك زيارة أهله فاستأذن عنبر أفندي فأذن له ومنحه إجازة مدتها خمسة عشرة يوماً ..

وهناك عاد الحظ من جديد ليقدم ابتسامة عريضة لهذا الساعي نحو هدفه بإصرار وعزيمة ، فقد رأي جماعة من الأطفال بقرية " أبي عياض " بالقرب من مركز ههيا ـ شرقية ـ يختلفون إلي رجل يعمل خياطاً ، وكل منهم يحمل دواة وقلماً ، واستظلوا بظل شجرة وعرف أنهم تلاميذ إحدي المدارس النظامية التي أرسي دعائمها والي مصر ، فأجتمع مع الأطفال ورأي فيه الخياط تميزاً ونجابة وامتيازاً وخطاً جميلاً ورغب الخياط لعلي مبارك أن يدخل مكتب قرية " أبو العز" فإنها السبيل الوحيد أمامه لتزكيته في دخول مدرسة القصر العيني ..

أفهمه المعلم الذي يعمل خياطاً بأنها الوسيلة الوحيدة التي تؤهله لدخول مدرسة القصر العيني بدلاً عن الواسطة ، ورأي أن الاجتهاد في المكتب سينحي هذه العقبة الكؤود عن سبيله ..

وكان ناظر مكتب " ابو العز" من معارف أبيه ، ويعرف أن دخول ابنه المكتب لن يرضيه ، فأراد أن يصرفه عن الدخول ، ولكنه وجد من التلميذ عزماً أكيداً علي الاستمرار ، وجاء الأب يسعي لإرجاعه ولكنه أبي ..

وبعد محاولات عدة من الأب علي إثناء إبنه عن التحصيل والدرس ، والعودة ثانية للعمل كاتباً تحت رئاسة عنبر أفندي الرجل الذي تفتحت مدارك الصبي وطموحاته في ظلاله ..

ولولا هذا الرجل " عنبر أفندي " الذي كان مثلاً أعلي لعلي مبارك وقتها لما بزغ نجمه في سماء الحياة المصرية في مجلات التعليم والهندسة والعسكرية المصرية ، ولبقي علي مبارك في مكانه كاتباً مثل آلاف من المصريين الذين طوتهم صفحات النسيان ، ولم يذكرهم التاريخ في سجله وبين صفحاته بمداد مشرف ، مصرياً يشار عليه بالبنان ويحترمه كل من عرف سيرته وكفاحه ..

ــــــــــــــــــــــــ

محمد عبده العباسي

عضو اتحاد كتاب مصر

بورسعيد

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...