اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

بوغوص يوسفيان بك .. وزير مالية مصر الذي مات فقيراً ومديوناً ..


محمد عبده العباسي

Recommended Posts

بوغوص يوسفيان بك .. وزير مالية مصر الذي مات فقيراً ومديوناً ..

نوبار في مصر ـ عنوان كتاب عرضه وقدمه الكاتب المصري نبيل زكي وصدر عن سلسلةكتاب أخبار اليوم ـ القاهرة فبراير 1991 م . وأعادت إصداره مؤخراً الهيئة العامة لقصور الثقافة 2007م .

الكتاب يضم سيرة ذلك الأرمني نوبار نوباريان المولود في أصقاع أرمينيا في الرابع من يناير عام 1825م ، ووفد إلي مصر عام 1842م بناء علي دعوة من خاله بوغوص يوسفيان بك الذي كان يعمل في خدمة والي مصر محمد علي باشا وكان بمثابة الساعد الأيمن له في شئون المال والاقتصاد ..

والآن هل يعرف الناس هذا الأرمني المخلص بوغوص يوسفيان بك الذي بلغت شهرته الآفاق ، وكانت تجري تحت يديه كل مقدرات مصر المالية وعلي الرغم من ذلك كله فقد مات الرجل فقيراً معدماً حتي ان محمد علي باشا تحسرعليه كثيراً ..

عمل بوغوص يوسفيان بكل ما أوتي من جهد وبذل كل ما ملك من إخلاص في خدمة الجالس علي الأريكة المصرية والي مصر محمد علي باشا فماذا حدث ؟

والعمل في تلك الأجواء التي كانت تحيط برجل مثل محمد علي لابد وان يثير الغبار علي صاحبه ، لذا فقد نال الرجل ما ناله من ظلم وعنت ولم يسلم علي الرغم من علو مكانته وقربه من الباشا شخصياً مما حاكه ضده الحاقدون عليه من دسائس ..

ثمة أناس لابد من ان يجدهم المرء في طريقه يكنون له الغل والحقد ويتمنون زوال قدراته وضياع مكانته ..

وهكذا كان بوغوص من الذين وضع له الحساد المتاريس في طريقهم ، فدبروا ضده المكائد ولكنه كان قادراً علي اجتيازها بنجاح نتيجة إخلاصه ودابه ومثابرته في العمل ..

وبرغم ذلك نجحوا في الوقيعة بينه وبين الرجل القوي محمد علي ، وأوغروا صدرالرجل ضده ، فقد كان بوغوص هو وزير المالية وجابي الضرائب من كافة الأصقاع المصرية لتصل تحت يد الباشا ليبدا بها تحقيق حلمه للنهوض بمصر وبناء دولتها الحديثة القوية التي ألبت عليه أطماع الدول الكبري وعملت علي إجهاض تجربته والنيل من أحلامه ووقف مشروعه الكبير ..

أوغر الحساد صدر الباشا ضد بوغوص فأمتلأ غضباً عليه ، ففي الوقت الذي كان بوغوص منهمكاً في عمله في جباية الضرائب في دمياط ذلك الثغر المصري الهام ،وعلي أثر عودة بوغوص من مهمته نشب شبه جدال بين الباشا وبينه بلغ الغضب بمحمد علي فصاح علي الفور ليطلب القواص:

ـ اسحبوه من قدميه إلي خارج الغرفة ..

( معني العبارة واضح هنا وجلي ، فهذا الأمر هو بمثابة الحكم علي الرجل بالإعدام )..

خرج بوغوص يوسفيان بك مسحوباً من قدميه ، في انتظار رصاصة الرحمة علي يدي القواص ( الحاجب) ، لم تبق إذن إلا لحظات ويتم التنفيذ ، وهنا تتدخل إرادة القدر ، حن قلب الحاجب الذي سينفذ حكم الاعدام في بوغوص وتذكر أن للرجل من قبل جميلاً في رقبته ، ووجد الفرصة سانحة لرد الجميل الذي سبق أن أسداه الرجل إليه ..

وبدلاً من الذهاب ببوغوص إلي شاطئ النيل لتنفيذ الحكم بإعدامه ثم رميه في أعماق النهر ليطويه النسيان كما طوي غيره من قبل وبدون عدد ..

توجه الحاجب ومعه بوغوص إلي بيت الأخير ، أبلغه الحاجب وهو يرجوه بضرورة الاختفاء عن الأنظار ، ثم عاد لمولاه يبشره بالخبر ..

كان محمد علي ساعتها يرفل في زينته علي ظهر ذهبيته التي تطفو علي سطح ماء النيل ..

ودارت الأيام دورتها وجرت في النهر مياه كثيرة ـ مثلما يقولون ـ ووجد الباشا أنه وقع في حيص بيص بسبب المشكلات المالية التي جاءت تحاصره من كل جانب ولم يجد من حوله من يستطيع حل طلاسمها أو أن يفك ألغازهافقد كان الفشل حليف كل من حاول تقديم حل وزاد الأمر تعقيداً..

كل من حول محمد علي رأي حيرة الرجل تشتد يوماً بعد يوم ، كان يرغي ويزبد ويصيح نادماً في أسي وأسف :

ـ آه لو أن المرحوم " يقصد بوغوص " كان هنا لحل كل المعضلات ..

كان يبدي ندمه ويعود ثانية لولولته :

ـ لو كان بوغوص علي ظهر الحياة لما بقيت علي هذه الحيرة !!

سمع الحاجب الكلام الذي يدور في رأس الباشا وقد ضاق ذرعاً بكل من حوله ، وشيئا فشيئاً ساور الشك نفس الحاجب ، لقد انقلب الحال ، لابد أن الباشا علم بحقيقة الأمر وبالتالي فهو يدبر شيئاً ما له ..

تحسس الحاجب رقبته وهو يشعر بدنو الأجل ، فسلم أمره لله وفكر جيداً في الأمر :

ـ لابد وأن الباشا عرف الحقيقة أو أنه يدبر لي حتي يستدرجني للإعتراف ..

تقدم الحاجب ترتعد فرائصه وبخطوات وجلة مرتعشة ، دخل علي الباشا وهو يلقي التحية ويطلب العفو والسماح ويبدي الندم من جراء ما أقدم عليه من تسرع في تنفيذ حكم الباشا بقتل بوغوص ..

كان الحاجب يتصبب عرقاً من مجلس سيده وخر ساجداً أمام الباشا يسترحمه والباشا في عجب مما انتاب الرجل من حال ، راح يسأله عما به ، اعترف الرجل علي الفور بأن بوغوص لا زال علي قيد الحياة وهو حي يرزق ..

هنا انتابت الباشا حالة من البهجة وعمته الفرحة ، قال علي الفور :

ـ اذهب لتأتي به قبل أن تحل رأسك مكان رأسه ...

وجاء بوغوص إلي مجلس الباشا ترتسم علي وجهه علامات الغرابة ،في الوقت الذي لم تبدوعلي وجه محمد علي أي ملامح للحنق أو الغضب ، بل بدا لطيفاً رقيقاً علي غير عادته ، وقام بعرض مالقيه من مشاكل مالية علي بوغوص الذي أخذ يتفحص الحسابات بعين الخبير الحذق حتي وصل إلي الأخطاء وقدم الحلول وهو يعرض محصلة عمله النهائية علي الباشا الذي سر بها سروراً كبيراً ..

وعاد بوغوص مرة أخري إلي سابق عهده بعد أن رد له الأعتبار ولتجري من تحت يديه كل موارد مصر الاقتصادية ..

لكن الرياح تأتي دائماً بما لا تشتهي السفن " الربان" فقد تدهورت صحة الباشا وداهمته الشيخوخة ووصلت أيادي أصحاب الشر إلي مراميها ، وبدأت المؤامرات تحاك ضده من جديد ، وزادت المضايقات تحيط ببوغوص من كل جانب حتي أصيب بما يشبه الكأبة وفقد شهيته للطعام وللشراب حتي نال منه الضعف والوهن أي مبلغ ، ومات في الأسكندرية في ينايرعام 1844 عن عمر يناهز 72 عاماً ..

وعند فحص التركة التي خلفها الرجل وجدوها هزيلة لا تليق بمقام رجل كانت تحت تصرفه أموال الديار المصرية ، كل ما في الأمر أن التركة كانت تسعة عشرة شلناً فقط ، مما حدا بولي النعم الجالس علي الأريكة المصرية محمد علي باشا أن يضرب كفاً بكف في عجب ويردد بينه وبين نفسه:

ـ كيف لهذا الرجل الذي جعلت يده مطلقة كيفما يشاء الذي والذي كانت لديه كل الصلاحيات وصدر له أمر بأخذ ما يشاء أن يترك مثل هذا القدر الضئيل من المال ؟

أول الأمر ظن محمد علي أن بوغوص قد تعرض ماله للسرقة او النهب ، مؤكداً أن رجلاً مثله لا يمكن أن يكون بمثل هذه الحال من العدم ..

وعاد ليؤكد لمن حوله :

ـ لقد أودعت لديه سبعة عشر قيراطاً من الماس ، فإن لم توجد فقد صدق حدسي ..

ولكن زكي أفندي محافظ الاسكندرية ، وراتب بك كبير موظفي الجمارك تحريا الأمر بدقة وأجريا التحقيقات اللازمة وأسفر البحث والتفتيش عن وجود السبعة عشر قيراطاً من الماس في صندوق بوغوص الخاص ولم تمتد إليه أي يد ، وأكدت التحريات سلامة ذمة بوغوص ونزاهته ..

لم تمتد يدبوغوص ذات مرة إلي المال العام الذي كان يجري بين يديه جريان الماء في النهر ، وأسفر البحث أيضاً عن وجود ست ورقات بيضاء كان الباشا قد أمهرها بتوقيعه وجعلها تحت إمرة بوغوص ليتصرف بها في الأمور ويحل من خلالها المشكلات التي تعوق عمله في السودان حين زارها وفقاً لما تقتضيه مصالح البلاد ، وجدت الأوراق بيضاء كما هي لم يمسسها سوء ولا شابتها شائبة ، ولم يترك الرجل لذويه سوي هذه الشلنات التسعة عشرة بل وبعض الديون ..

هنا تنهد محمد علي باشا قائلاً:

ـ لو كنت أعلم أن بوغوص بك لم يترك شيئاً لخبأت في فراشه مئة ألف ريال حتي لا يقال أن محمد علي يهمل مرؤوسيه ..

ويوم دفن الرجل بالأسكندرية نما إلي علم الباشا بأن عثمان باشا قائد الحامية هناك لم يحضر الصلاة علي روح بوغوص بك ولم يشارك في جنازته أحد من ضباطه أو جنوده ، بينما خرجت جماهير الأسكندرية عن بكرة أبيها وعلي اختلاف طبقاتها وطوائفها تودع الرجل حتي مثواه الأخير ..

علم الباشا بالأمر فغضب غضبة شديدة وأرسل برسالة شديدة اللهجة فيها من اللوم والتوبيخ الكثير إلي عثمان باشا يتهمه بالتقصير والإهمال في أداء الواجب تجاه رجل خدم البلاد المصرية بصدق وأمانة ..

وفي غمرة حزنه أصدر محمد علي أوامره بنبش قبر بوغوص بك واخراج جثته لتأدية التحية العسكرية لصاحبها ، غير أنه عاد ووافق بعدم نبش القبر مكتفياً بأن يقام حفل لتأبينه يحضره الجميع ويقف الجنود عند ساحة الكنيسة وهم يشهرون أسلحتهم احتراماً وتبجيلاً لرجل بمثل هذه القامة وتلك السيرة .

ـــــــــــــــــــــ

محمد عبده العباسي

عضو اتحاد كتاب مصر

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...