جزاء عرابي السمنار

[KANE]

في القلب غصة !!

أحمد بهاء الدين شعبان : بتاريخ 6 - 11 - 2006 احتفظ على مكتبي بصفحة من جريدة "الوفد" ، مضى على صدورها فترة من الزمن ، تحوى تحقيقا موسعا عما تبقى من أسرة الزعم الوطني العظيم أحمد عرابي ، يتصدرها عنوان دال : "أوضاع عائلة الزعيم أحمد عرابي.. عار على مصر"!.. "أحفاده : بائع طعمية وسائق وترزي وقهوجي.. وآخر رفضوا تعيينه فراشا في مدرسة!" ، وتحتل موقعا كبيرا فيها صورتان : الأولى لأحد أحفاد الزعيم ، وأسمه محمد عرابي ، يرتدي الأسمال ويقف بجوار كشك بيع الطعمية البائس الذي يعمل به ، والثانية لبيت الزعيم الكبير عرابي ، في قرية "هرية رزنة" بمحافظة الشرقية وتبدو عليه مظاهر التداعي ، حيث يدب فيه الوهن ، وتظهر على ملامحه آثار الإهمال والخراب وبؤس الحال !.

***

ولا أظن أن هناك من يجهل اسم ودور الزعيم البطل أحمد عرابي ، وصحبه ، في تأسيس الوطنية المصرية الحديثة ، وبناء مصر المعاصرة ، والقوات المسلحة المصرية ، كما لا أعتقد أن هناك من يشكك في دوره التاريخي الحقيقي في صنع الاستقلال المصري ، وتحقيق الجلاء لقوات الاحتلال البريطاني ، على يد الرعيل التالي من أبناء الجيش المصري ، على الرغم من أن معركته المباشرة لم تكلل بالنجاح ، بل وانتهت بهزيمة قواته واحتلال الجيش البريطاني ، الأكثر عدة وتجهيزاً لمصر ، غير أن الروح الوطنية التي بثتها "الحركة العرابية" في الشعب المصري ، كانت مقدمة كل ما تلاها من مبادرات وطنية {الحزب الوطني (مصطفى كامل ومحمد فريد)} ، ثورة 1919 ، وقائع سنوات 1935 ـ 1946 ، إرهاصات ما قبل 1952 وثورة يوليو ، ... إلخ .. إلى حرب أكتوبر.. وحتى الآن ، بل أن صيحات المطالبة بالديمقراطية واحترام الإنسان ، كانت في الأساس صيحة عرابي الخالدة ، التي نطق بها ـ معبراً عن كل أماني الشعب المصري ـ أمام الخديوي توفيق ، في ساحة قصر عابدين : " والله الذي لا إله إلا هو.. لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً ، ولن نستعبد أو نورث بعد اليوم"!.

***

وغير خافٍ على المطلعين ما حاق بالزعيم أحمد عرابي ورفاقه من إذلال وامتهان ، وتحقير وتصغير ، وهو يرحل متعقلا من قبل الإنجليز وأعوانهم من الخونة المصريين (وعلى رأسهم الخديوي توفيق) إلى المنفى ، وما فعله به السفهاء من أتباع السلطة تذكره كتب التاريخ ، مما يدمي القلب ، ويوجع الروح. غير أن ما يعزي النفس أن هذا هو قدر القادة وأصحاب الرسالات ، في التاريخ كله ، وأن المبادئ العظيمة التي نادى بها عرابي وصحبه ، وتجرع في سبيلها المرارة والهوان ، انتصرت في النهاية ، وجلل أعداءه العار المقيم !

***

وقد كان من الطبيعي ، بعدما زال العصر الملكي برموزه وأفكاره ، وأشخاصه وعناصره ، واستقر على كرسي الحكم في البلاد مواطنون مصريون من أصلاب هذه الأرض ، ومن رحم المؤسسة العسكرية المصرية التاريخية ذاتها التي انتمى عرابي وزملاؤه إليها ، أن يتم إنصاف عرابي ورفاقه ، وتاريخهما وأسرهما ، وأن يعوضا خيراً ، جزاء ما قدماه للبلاد من جهد وتضحية ، غير أن المدهش أن هذا لم يحدث ، بل وتركت آثار هذا الوطني الكبير تتداعى على النحو المؤلم الذي صورته صحيفة الوفد ، وكتب عنه الزميل "محمد شعبان" ، وجعلته يكتب بقلم يقطر حزناً وحسرةً : "هل حقاً مصر قاسية على زعمائها ولا ترد الجميل إليهم ؟... أحمد عرابي الحركة الوطنية وقائد الثورة الشعبية في فترة من أهم فترات مصر الحديثة يعاني من التجاهل الواضح والإهمال الحكومي المتعمد ، في شخص أحفاده الذين يعيشون الآن في مسقط رأسه في قرية هرية رزنة بمحافظة الشرقية.. إنهم يعانون من الحاجة الشديدة ، والبطالة ، والحرمان ، وسوء الأحوال ، التي فرضته عليهم واقع الحياة بعد تأميم أملاك الزعيم عرابي في مصر ، قبل أن يتم نفيه إلى سيلان !.. والأمر لم يقتصر على ذلك ، بل أن المسئولين قاموا بإخلاء المتحف الخاص به والموجود في مسقط رأسه من كل متعلقاته ، والآثار الخاصة به وتحطيم معظمها!" ،(جريدة الوفد ، 20/7/2006).

***

ويعرف الجميع أن من لا يهتم بماضيه لا يهتم بحاضره أو مستقبله ، وأن من يفرط في أمسه لن يضمن غده ، وفي زمن النهب المنظم ، والتخريب المنهجي ، والفساد المؤسسي القائم ، فإن الحرب على ذاكرة الأمة : مسحها وتزييفها ، هي واحدة من أهم حروب الاستلاب والاستعمار والهيمنة ، إن لم تكن أهمها على الإطلاق ، إذ بدون النجاح في "حروب الذاكرة" سيكون صعباً على أعداء الشعب والوطن النفاد إلى عمق وجدان الأمة وتجريفها ، وتسطيح مكوناتها ، حتى تكون مهيئة للغسل ، والاستبدال ، وبمعنى آخر قابلة للهزيمة.

***

ومن هناك فإن تصحيح هذا الوضع المهين ، ليس لذكرى زعيم الأمة أحمد عرابي وزملائه ، والمنتسبين إليهم وحسب ، وإنما لنا نحن أيضا بصورة مباشرة ، وهو أمر ضروري للغاية ، بل شديد الضرورة للحفاظ على وعي الشعب وتراثه الحضاري ومقوماته الروحية والتاريخية. ولأني أعرف جيدا أن هذا النداء ، مثله مثل الآف النداءات السابقة ، والتالية ، التي وجهها ، وسيوجهها ، كل الحريصين على مستقبل هذه الأمة ، ستذهب أدراج الرياح ، ولن يلتفت إليها المسئولون والذين بيدهم سلطة اتخاذ القرار في البلاد (فهم ـ والحق يقال ـ مشغولون بما هو أهم وأفيد .. لم بالطبع !) ، فإني أتوجه بهذا النداء للقوى الحية في المجتمع ، لأبناء الوطن الأوفياء ، للأحزاب السياسية والحركات الشعبية الوطنية ، وللمجتمعات الأهلية ، والمؤسسات الثقافية والفكرية أدعوهم للتحرك بأسرع ما يمكن لتصحيح هذا الوضع الشائن ، ولإنقاذ بيت الزعيم العظيم من الانهيار والتداعي ، وأسرته من ذل الحاجة ومرارة الفاقة والتجاهل ونكران الجميل.

***

في القلب غصة..

وفي الروح حزن مقيم ،

فمن ينقذ تاريخ مصر من عبث الصغار ، واستهتار أنصاف الرجال ، والممسكين بأغيّةِ الوطن عُنوة !

http://www.almesryoon.com/ShowDetailsC.asp...6235&Page=1