اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

آكلة اللحوم وأنا - قصة حقيقية


Recommended Posts

بسم الله الرحمن الرحيم

عشت الحدث مع صديقي ساعة بساعة .. بل لحظة بلحظة ..

سجلت التفاصيل في لحظاتها في ذاكرة أضناها ما حوت ..

أحببت أن اكتب ذلك بلسانه .. وراجعته فيما كتبت .. شجعه ذلك على نشر قصته في الموقع الخاص بحالته باللغة الإنجليزية ..

أنشر ذلك ها كقصة .. بغرض الاعتبار والحذر ..

آكلة اللحوم وأنا

بتثاقل شديد فتحت عيناي وأجلت النظر من حولي، كمامة بلاستيكية تقبع فوق أنفي وفمي، خراطيم عبر الكمامة تقتحم أنفي إلى مكان أجهله من جوفي، جسدي مسجى على سرير في حجرة أشاهدها لأول مرة ولكن كل المعطيات تشير إلى أنني في أحد أقسام المستشفى.

امتد نظري ليشمل محيطا أوسع من سريري، وجه ترتسم عليه ابتسامة … هندامه يدل على أنه من العاملين في سلك التمريض.

- السلام عليكم ورحمة الله

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حمدا لله على سلامتك

- الله يسلمك … كم الساعة الآن؟

ازدادت الابتسامة اتساعا على وجهه

- بل قل ما هو اليوم … إنه الأربعاء … إنك في قسم العناية المركزة … لا تحف، كنا نبقيك مخدرا طوال الوقت لضرورات طبية … وحتى لا تشعر بالألم الناجم عن العملية.

إذا فقد مضى علي ثلاثة أيام مغيبا عن الوجود! في تلك اللحظة بدأت أشعر بذلك الألم الذي كانوا يهربون بي منه أو هكذا برروا لي العلة في استمرارية التخدير.

ما الذي حدث؟ وبدأت ذاكرتي تستيقظ هي الأخرى وتعود بي إلى ما قبل ذلك التغييب المتعمد، تذكرت لحظة دخولي إلى قسم الطوارئ في مستشفى حمد يوم الأحد 2-7-2000 وكيف كان تشخيص طبيب الاستقبال لحالة التورم الشديد الذي بدا أشبه ما يكون بالانتفاخ والذي كان يغطي مساحة كبيرة من الجزء السفلي من جسمي مستحوذا على كل منطقة الأعضاء التناسلية وما حولها بأنها غير مستعجلة!

أول من شاهدني من أطباء الطوارئ خرج مسرعا ليعود بعد دقائق مصطحبا زميل له حيث تناوبا على الفحص والتشخيص، أول ما تبادر إلى ذهنهما أنها تتعلق بالمسالك البولية ونفيت لهما أية معاناة من هذا الجانب، ويمضي الوقت سريعا وأنا قابع أتألم بصمت على السرير الذي خصص لي في قسم الطوارئ.

انفرجت الستارة عن كوكبة من الأطباء … ثلاثة من الأطباء حضروا جملة واحدة … بعد الفحص والتشاور أجمعوا على ضرورة إجراء تصوير للمنطقة المصابة بالموجات فوق الصوتية … نتيجة التصوير جاءت لتؤكد أن الجهاز التناسلي سليم وانحصار الإصابة في طبقات الجلد فقط.

لم يطل بي الانتظار حتى أقبل اثنان من الأطباء حيث تحلقا من حولي، على الفور بدأ الطبيب الواقف عن يميني في فحص الإصابة بيديه بينما وقف زميله على يساري يتأمل ذلك الانتفاخ الغريب بعين فاحصة.

- انظر هذه بكتيريا تأكل الطبقة الدهنية تحت الجلد … نحن نسميها عملية إنقاذ حياة.

قالها الطبيب الواقف عن شمالي منبها زميله الذي كان منهمكا في الفحص، ثم التفت إلي مكملا

- ستجرى لك عملية جراحية لإزالة الجلد من كل المنطقة المصابة ثم تجرى فيما بعد عمليات ترقيع بالجلد! بيت القصيد ليس هنا، بل هو في تدارك الأمر واستئصال المنطقة المصابة والتخلص من هذه البكتيريا، هذا ما توارد إلى ذهني في تلك اللحظة الحرجة.

لا أدعي الشجاعة، لكن حالة من السكينة نزلت علي في تلك اللحظات لم أشعر بمثلها من قبل، بهدوء شديد خرجت الكلمات من فمي:

- قدر الله وما شاء فعل، أنا راض بما قسمه لي ربي، كلي ثقة بأن ربي لن يتخلى عني في هذا المقام، افعلوا ما ترونه مناسبا.

وبالفعل تمت إجراءات إدخالي إلى قسم الجراحة بمستشفى حمد العام بتاريخ 2-7-2000 على أن تجرى لي العملية صباح اليوم التالي.

حتى تلك الساعة لم أكن مدركا لمستوى خطورة ذلك البلاء الذي أحدق بي، حقيقة أن ذلك الطبيب العراقي قد صرح لي بأنها عملية إنقاذ حياة، ولكن لم أكن أتوقع أن يصل الأمر إلى هذا الحد … أن أستمر تحت التخدير لثلاثة أيام متواصلة … ما الذي حدث خلال تلك الأيام الثلاث، لم يشأ ذلك الممرض أن يزيد من آلامي بسرد الأحداث الجسام التي جرت خلال الحرب المريرة مع تلك البكتيريا التي ابتلاني بها الله قبيل أيام من موعد إجازتي السنوية التي كنا قد بدأنا نعد لها العدة على قدم وساق.

البداية

البداية كانت حكة شديدة أحدثت خدشا دخلت البكتيريا من خلاله تحت الجلد، لم أشعر بتلك الدخيلة التي اقتحمت جسدي لتكون محطة رئيسية كادت أن تكون هي النهاية، انتفاخ بسيط في مكان الحكة لم أعره أدنى اهتمام في ذلك اليوم، شعور بالإنهاك تناولني مع صبيحة اليوم التالي تفاقم مع الظهيرة بشكل أزعجني مما اضطرني لمراجعة العيادة الطبية بالشركة، على الرغم من ضآلة حجم التورم في ذلك الوقت فإن الممرض صرف لي مضادا حيويا كإجراء احترازي.

بدأت نوبات من الحمى تتناولني مع فجر اليوم التالي، مزيد من الشعور بالإرهاق وآلام في المفاصل والعضلات أقعدتني ذلك اليوم بالمنزل، استمراري بتناول المضاد الحيوي لم يؤدي إلى أي تحسن، لم يطرأ أي تغيير في حجم أو شكل ذلك الورم رغم انقضاء يومين عليه.

الطبيب المناوب في المركز الطبي في مسيعيد (والذي آلت إدارته حديثا إلى المؤسسة العامة القطرية للبترول) أدرك بأن هناك التهاب حاد ولكن ما لم يدركه هو نوع وسبب ذلك الالتهاب ولذا فقد قام باستبدال المضاد الحيوي الذي أتناوله بنوع أقوى إضافة إلى استخدام الأنسولين لضبط معدل السكر في الدم بدلا من الأقراص التي اعتدت على استخدامها لهذا الغرض.

كانت ليلة ليلاء، اشتدت خلالها الحمى وتناولتني موجات متتالية من الآلام المبرحة لم أشهد لها مثيلا من قبل. السكر مازال مرتفعا، مع تباشير الفجر أفقت على ألم شديد في موضع الانتفاخ الذي كان مازال على حجمه حتى البارحة، تحسست موضعه لأفاجأ بزيادة ملحوظة في حجمه بحيث يزيد على عشرة أضعاف ما كان عليه بالأمس.

لقد فشلت الوسائل الذاتية والمساعدة الخارجية في السيطرة على ذلك الدخيل الذي شعر بأن السيادة قد دانت إليه فبدأ بالتكاثر والزحف بتؤدة ملتهما ما يجده في طريقه ليحيل تلك المناطق إلى أرض بور وأطلال ينعق فيها غراب البين، استسلمت جميع القوى المضادة وخلال سويعات قلائل دمر مساحات ملحوظة أسفل الجلد مباشرة مع انتفاخ شديد في المناطق المصابة صاحبة احمرار داكن يشبه ذلك الذي ينجم عن الاحتراق، الألم زاد عن الحد الذي يمكن لي احتماله، لم يعد قاصرا على الشعور بالإنهاك والانحطاط العام فالألم الموضعي في المناطق التي طالها ذلك الدخيل بزحفه المتواصل فاق كل وصف.

في الصباح الباكر وجدتني وقد استولى الدخلاء على مساحة من جلدي غطت جميع الأجزاء الحساسة أسفل جسمي وما حولها، وجدتني أحصل على تحويل عاجل لقسم الطوارئ في مستشفى حمد العام.

كل ذلك جال في خاطري كالحلم وأشبه ما يكون بشريط مصور والممرض واقف يترقب رد فعلي على طول فترة تغييبي عن الوعي.

لم يجب الممرض على سؤالي عن الساعة، أيام انصرمت وأنا مغيب عن الوعي في قسم العناية المركزة، ولم تعد الساعة هي المهمة بل الحالة التي آلت إليها صحتي، في تلك اللحظة دلفت إلى الغرفة ابنة عمتي وبرفقتها طبيب عرفت فيما بعد أنه يعمل في قسم الأطفال الذي تعمل فيه ابنة عمتي وقد حضر برفقتها للاطمئنان على حالتي الصحية، تهلل وجهها عندما وجدتني وقد أفقت واستعدت وعيي وحمدت الله على سلامتي.

همست إليها وأنا أنظر نحو يداي وقدماي المكبلة إلى السرير متسائلا عن ضرورة ذلك التكبيل، وجاءني الجواب من الممرض الذي لم تفارق الابتسامة وجهه بأنه وقد اطمأن على الهدوء الذي واكب إفاقتي فإنه لا يمانع في رفع تلك القيود وفورا شرع في تخليصي منها.

- حمدا لله على سلامتك

دخلت زوجتي وقد أشرق وجهها ودموع الفرح تتلألأ في عينيها

- لا تقتربي منه، الكلام عن بعد، ممنوع الاقتراب من سريره، ممنوع دخول أكثر من شخص واحد إلى الغرفة في نفس الوقت

جاءت تعليماته سريعة وصارمة، تناولته عيناها بنظرة فيها تعبير عن مزيج من الامتنان والخضوع التام للتعليمات، كانت تعلم أن سلامتي هي الهدف المنشود من كل هذه التعليمات والاحتياطات، وخروجي معافى من هذا البلاء الذي ألم بي هو أقصى ما تتمناه هذه الأيام.

هززت برأسي وقد ارتسمت على وجهي ابتسامة جاهدت كثيرا كي لا تنبئ بما يعتصرني من ألم وقلق فقد كنت أعلم من خبراتي السابقة بما كان يصيبها عندما يلم بي عارض لا يقارن بالذي أنا فيه الآن.

بعبارات غاية في الإيجاز استفسرت عن أولادي فأبلغتني بأنهم خارج الغرفة والفرحة لا تسعهم الآن وكذلك أشقائي وباقي الأهل.

- اعتني بنفسك والمهم أن تخلد إلى الراحة الآن ولا تلق بالا لغير صحتك لا شئ أهم منها اليوم

قالت ذلك والدموع مازالت تترقرق في مقلتيها.

- ماذا عن والداي؟ إياكم أن يصلهما أي خبر عني

- لا تقلق لم نجر معهما أي اتصال

مع مرور الوقت في ذلك اليوم رفعت عني كمامة الأوكسجين وأبقي على خرطوم صغير ينفث ذلك الهواء قبالة أنفي، وعادني الجراح الذي أجرى لي العملية حيث اطمأن على استقرار حالتي الصحية.

لست وحدي

أسمع في نفس الغرفة من حين إلى آخر صوت نسائي، ظننت في بادئ الأمر أن الجزء الآخر من الغرفة فيما وراء الستارة يستخدم للغيار على المرضى، هذا ما تبادر إلى ذهني ولم أولي أدنى اهتمام للسؤال عن صاحبة الصوت ذي النبرة الخاصة.

في اليوم التالي تطوع أحد الممرضين ليهمس في أذني أن شريكتي في الغرفة امرأة في ربيع العمر (25 سنة) وأن حالتها حرجة ولذا فإن إفاقتها من المخدر تكون جزئية ولفترات محدودة حيث تتم تغذيتها وتلتقي مع ذويها لبعض الوقت قبل أن يعاد تخديرها من جديد.

لا أدري لم كنت أتهرب من الحديث عنها، كنت أستلقي على ظهري طوال الوقت، عاجز حتى عن الالتفات إلى يميني فقد كانت هناك إبرة قد غرست في رقبتي لتزويد جسمي بالأدوية والمحاليل إضافة إلى الإبر الأخرى التي وزعت على كلتا يداي، ناهيك عن الهاجس الذي كان ينتابني بسبب حالتي المرضية، حقيقة أنني كنت متعاونا جدا مع طاقم التمريض ممتنا لأدنى التفات منهم تجاهي، إلا أن ذلك لم يمنع حالة من القلق كانت تنتابني بسبب جهلي لما آل إليه وضعي الصحي، كنت أشعر بأن هناك تعتيم مقصود وشح في المعلومات التي يجودون بها علي، وراء الأكمة ما ورائها.

الفرج جاء هذه المرة عن طريق الطبيب الشاب الذي قيل لي أنه هو الذي أجرى لي عملية إنقاذ الحياة واستمر في متابعتي بشكل مباشر وقاد قوات التدخل السريع التي استخدمت كافة الأسلحة المتاحة من مضادات حيوية وغيرها ومتابعة كل وسائل الاستكشاف الحديثة لضمان الحصار الشامل لتلك البكتيريا الشرسة تمهيدا للقضاء عليها تماما وتحرير جسدي من كل الدخلاء الذين اقتحموه وعاثوا فسادا فيه في غفلة منه.

الابتسامة المشرقة تعلو وجهه الذي منحه الله جمالا طبيعيا فازداد نورا على نور، بادرني بتحية رقيقة أعادت إلى روحي طمأنينة افتقدتها طويلا، شرع في الكشف عن مكان العملية بأنامل غاية في الرقة ولكنها تعرف سبلها بمنتهى الدقة، الغيار على الجرح الشاسع الذي خلفته العملية وتفقد آثار الدمار الناجم عن المعارك الطاحنة مع المعتدي الغاشم مع أخذ عينات استكشافية للزراعة والفحص المخبري، كل ذلك كان يحرص على أدائه بنفسه.

- لقد استقرت حالتك الصحية بشكل مشجع … آمل أن تستمر في التحسن ليتسنى لنا نقلك إلى غرفة عادية قريبا.

- الحمد لله … هذا من فضل ربي … جهودكم المثمرة وحسن رعايتكم ومتابعتكم اللصيقة لا بد لها أن تكلل بالنجاح والتوفيق … إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا … التوفيق من الله هو رديف المجتهدين.

- الحمد لله لقد اجتزت المرحلة الصعبة ولتكن مطمئنا والقادم خير بإذن الله

بهذه الكلمات الواثقة غادرني بعدما بث في روحي آمالا عظيمة رسخت في قلبي طمأنينة جديدة كنت أحوج البشر إليها في تلك الأوقات العصيبة.

صديق جديد أضيف إلى قائمة من سهروا علي رعايتي في قسم العناية المركزة، أسلوبه المرح في التعامل مع المرضى وحتى مع الأدوات التي يستخدمها ومعاكساته المستمرة لزملائه كانت تضفي على الجو الكئيب في ذلك المكان مسحات باسمة وتبعث في الروح نفحات خفية من الأمل وراحة نفسية في جو جذاب يخلقه بنفسه، الزمن يمضي معه سريعا، جو الفوضى المنظمة بدقة الذي كان يثيره من حوله يخلق مرحا لطيفا دون المساس بأصوليات العمل الصارم الخاص بالمهام المناطة بوظيفته الحساسة.

كان بشير – وهذا هو اسمه - يشجع جارتي في الغرفة على تناول قدرا أكبر من الآيسكريم قائلا لها بلهجته التونسية المحببة بأن ذلك مفيد لبلاعيمها عندما انفجرت ببكاء شديد، هرع لفيف من الممرضين والممرضات والأطباء وقد تكهرب الجو وتعكر صفوه بذلك النحيب الموجع، الكل يتساءل عن السر الكامن وراء هذا الانقلاب المفاجئ في حالتها النفسية، هل عرفت بما حدث لها من بتر لساقها! أم أن إساءة قد بدرت من ذلك الممرض المرح الذي يكن له الجميع كل مودة ومحبة! وأخيرا حضر الطبيب المناوب الذي استفسر منها بلهفة عن سر ذلك البكاء

- لقد قال لي ملاعيبك … أأنا متلاعبة! هل ما أنا فيه هو تلاعب مني أو تمارض؟

- ما الذي قلته لها بالضبط؟ تساءل الطبيب باستغراب

- كنت أقول لها أن الآيسكريم مفيد لبلاعيمها. أجاب الممرض المسكين وقد أصيب بإحباط مفاجئ.

- بلاعيمك وليس ملاعيبك … بلاعيمك ويعني بذلك بلعومك وهذا سليم تماما.

فجأة صفا الجو بعيد تعكر، فاختلاف اللهجات العربية أدى إلى سوء الفهم المؤقت وبادرت الفتاة باعتذار رقيق أعاد إلى ممرضنا التعس الروح التي افتقدها لبعض الوقت فبادرها بالتفاتة مرحة:

- ولكنك أفسدت الآيسكريم خلال ذلك وعلينا استبداله لك الآن.

الخروج من العناية المركزة

اليوم هو الجمعة، منذ الصباح الباكر بشرني الممرض المناوب بنقلي إلى غرفة عادية في قسم الجراحة بالدور الرابع، هذه نقلة موضوعية وتطور مهم في حالتي المرضية، هذا يعني أنني قد خرجت من دائرة الخطر وانتقلت إلى مرحلة الاستشفاء من جراح كبيرة خلفتها العملية الجراحية، هذا ما تبادر إلى ذهني واستقر في روعي بينما كانوا يعدون لنقلي من قسم العناية المركزة، لم يدر في خلدي أن ذلك الانتقال كان هو بدية لمعاناة من نوع جديد، أشكال متعددة من الآلام وصنوف من المنغصات لم تكن في الحسبان.

لا نوم في المستشفى!

انتقلت إلى غرفة ذات أربعة أسرّة، آلام الجراح بدأت في التصاعد مع الانتقال إلى مرحلة جديدة صاحبها التوقف عن إعطاء الأدوية المنومة وخفض في جرعات الأدوية المسكنة أو تغيير في النوعية للتخلص منها بشكل مرحلي.

أربعة نزلاء في غرفة واحدة، لا ضابط لأعداد الزوار ولا لمواعيد الزيارة، كان لدي في الغرفة شريكان من السجن المركزي ويرافقهما شرطي ينام على كرسي في نفس الغرفة!

إذا اشتكى نزيل في الغرفة في أي وقت من الليل أو النهار فعلى جميع النزلاء التضامن مع المريض الذي استدعى الممرضة المناوبة إذ أن الأنوار تضاء فجأة وتتعالى الأصوات وعلينا متابعة الحوار حتى الختام.

نظام صارم في موعد الفحص الدوري لدرجات الحرارة والضغط والسكر في تمام الرابعة صباحا.

انصرم اليوم الأول بلا نوم، طبيبي قام بالغيار على الجرح بمساعدة زميل له حتى يضمن الدقة التامة في هذه المرحلة البالغة الخطورة.

زارنا في اليوم التالي طبيب بدا من سنه واللفيف من الأطباء والمتدربين من طلبة الطب الذين رافقوه في جولته أنه أستاذ كبير ومن ذوي الاختصاص في الجراحة. قام بعرض حالتي على مرافقيه وشرع في طرح الأسئلة عليهم حول ما يتخذونه من إجراءات في هذه المرحلة ومن ثم يأمر من يجيب بتنفيذ اقتراحه فورا أو يشير على الممرضة بتنفيذ ذلك في الوقت المناسب. بناء على توصية أحدهم أخذت عينة جديدة للزراعة في المختبر للتأكد من القضاء المبرم على البكتيريا القاتلة.

مضت ثلاث ليال عصيبة في ذلك العنبر الكئيب جفا خلالها النوم أجفاني، لم يكن من السهل حجز غرفة منفردة مدفوعة الأجر وقائمة الانتظار طويلة.

في منتصف نهار اليوم الثالث أقبلت الممرضة المناوبة متهللة الوجه حاملة البشرى بنتيجة الزراعة في المختبر والتي كانت بحمد الله وعظيم شكره سالبة أي أنه لم يعد لذلك الدخيل الشرس وجود في جسمي. خففت تلك البشارة من آلامي بعض الشيء، بسرعة البرق انتشر الخبر في أوساط العائلة، رنين الهاتف لم ينقطع بالتهنئة، أقبل علي الجميع مستبشرين كل يحمد الله الذي لطف بعبده الفقير إليه ومن عليه بالخلاص من تلك البكتيريا الفتاكة.

البشرى التالية كانت بالتمكن من الانتقال إلى غرفة مفردة بعد دفع أجرة أربعة ليال مسبقا، المزية الوحيدة لتلك الغرفة هي أنها منفردة، فالأثاث لا يتناسب إطلاقا مع الأجرة المدفوعة والتي تتجاوز أجرة غرفة مزدوجة في أغلى فنادق الدوحة! ولكنها منفردة وأمكنني النوم عميقا ولليال ثلاث متتالية تم خلالها الإعداد لنقلي إلى مستشفى الرميلة للخضوع لعملية التجميل التي كانت ضرورية لترقيع المواضع التي تمت تعريتها أثناء عملية الإنقاذ الضخمة التي قادها الطبيب العراقي الشاب (د. أحمد بيستوني) جزاه الله عني كل خير.

كنت قد بدأت في التدرج في محاولات المشي ولمسافات قصيرة داخل جناح الجراحة.

الانتقال إلى مستشفى الرميلة

معلوماتي عن مستشفى الرميلة كانت قديمة وتعود لأكثر من عشرين عاما، تطوع أحد أفراد العائلة لطمأنتي بأنها ستكون مفاجأة كبيرة لي فالتغيير شمل كل شئ في المستشفى ولم يتركوا من القديم سوى الاسم فقط والمظهر الخارجي للمباني.

بتاريخ 15-7-2000 انتقلت بسيارة الإسعاف إلى قسم جراحة التجميل بمستشفى الرميلة، صرح عظيم ذلك المستشفى الذي يعود تاريخ إنشائه إلى منتصف القرن الماضي، اكتسب عظمة جديدة بذلك التجديد الذي طال كل شئ فيه، التحديث لم يكن في المباني والتجهيزات فحسب، بل امتد ليتناول أطقم العاملين في مختلف التخصصات.

سكون غريب، وكأن الجناح خال إلا مني! اختفت العنابر القديمة واستبدلت بغرف مزدوجة فقط، كل شئ فيها حديث، أطقم التمريض أحسن اختيارهم فكانوا على مستوى تلك الحداثة، فخر لقطر الغالية أن يكون في ربوعها هذا المستشفى بذلك المستوى الراقي الذي تضاهي ولا أغالي إذا ما قلت أنه يفوق الكثير من أرقى وأحدث المستشفيات وعلى المستوى العالمي.

أشرف استشاري التجميل الذي تولاني بنفسه على ترتيبات العلاج لتأهيل الجرح بشكل مناسب للعملية المنتظرة، أولاني الدكتور خالد كل عناية ولم يترك شاردة أو واردة إلا وأولاها ما يلزمها من اهتمام حتى يضمن النجاح التام للعملية التي كانت في غاية الصعوبة والتعقيد.

ممنوع الاستعجال إذ كان على الجرح أن يلتئم إلى أقصى درجة ممكنة للتقليل من مساحة الجلد المطلوب انتزاعه من فخذي لاستخدامه في عملية الترقيع، أعلى مستوى من النظافة للجرح ومحيطه شرط أساسي التزم به طاقم التمريض وفقا للتعليمات الصارمة وشبه اليومية التي كان يصدرها ذلك الطبيب الاستشاري العراقي المتمرس، أقابل الدكتور خالد في المسجد الملحق بالمستشفى في أوقات الصلاة فيبهرني تواضع المؤمن (ولا أزكي على الله أحدا) وبنفس بشاشته المعهودة يزيد من طمأنينتي ويفرح لتمكني من المشي وبشكل منتظم مما يساعد على انتظام جريان الدم في عروقي في هذه المرحلة الحرجة. أثناء الكشف تم أخذ عينة جديدة للزراعة المختبرية ومرة أخرى كانت النتيجة سلبية أي لا أثر للبكتيريا في جسمي والحمد لله.

أخيرا جاء اليوم الموعود، نقلت إلى غرفة العمليات وشتان بين الليلة والبارحة، معنويات عالية والكل مستبشر والدعاء للعلي القدير بالنجاح وانتهاء الأزمة التي عصفت بنا على حين غرة أوائل الشهر.

تكللت العملية بالنجاح، تهلل وجه د. خالد بعد الكشف على العملية وبشرني بنجاحها وأن الجلد الذي تم نقله قد استقر بشكل طبيعي.

كان علي أن أبقى في المستشفى بعيد العملية لبضعة أيام حتى اطمأن الطبيب للنجاح المطلق للعملية وبالتالي سمح لي بمغادرة المستشفى، كان ذلك بتاريخ 3-8-2000 أي بعد شهر من دخولي لمستشفى حمد العام.

د. صلاح موسى رئيس القسم الطبي بالشركة أصر على الإشراف بنفسه على إجراءات الغيار والتمريض منذ اللحظة الأولى لمغادرتي للمستشفى، ولقد سخرت لي العناية الإلهية الأخ صالح  وهو ممرض محترف يعمل بالقسم الطبي بالشركة وسبق له أن عمل من قبل في أقسام العناية المركزة بمستشفى حمد العام حيث قام بتمريضي خلال تلك المرحلة.

السفر إلى القاهرة

أصر شقيقاي المقيمان في بريطانيا على التحاقي بهما هناك خلال فترة النقاهة ولإجراء بعض الفحوص الطبية للاطمئنان، لم يكن بمقدوري السفر منفردا وحاجتي إلى عناية خاصة تستدعي اصطحاب زوجتي لترعاني من جهة ومن جهة أخرى لتنال قسطا من الراحة هي أحوج ما تكون إليه بعد كل هذا العناء الذي سببته لها.

الموظف المختص في القنصلية البريطانية أصر على إجراء مطول سوف يستغرق إجازتي قبل أن يسمح لنا بالتأشيرة لدخول بريطانيا، لم يكن الوقت يسمح بتلبية طلباته ففضلت الالتحاق بأولادي بالقاهرة عوضا عن ذلك.

كان لزاما على أن أتابع العلاج والتمريض طوال إقامتي بالقاهرة، أشار على صديق لي أن أراجع أستاذا مشهورا في جراحة التجميل.

في عيادته الخاصة أخضعت لفحص شامل ودقيق من قبل الدكتور أحمد أبو السعود ونجله الدكتور حسن الذي هو أيضا مختص وزميل جمعية جراحي التجميل الفرنسية.

- من الذي أجرى لك هذه العملية. سألني الدكتور أحمد

- إنه طبيب عراقي في قطر. أجبت باقتضاب مع تساؤل ممزوج بالخوف

- أريد أن أهنئ ذلك الطبيب، لقد قام بعمل رائع، إنه أفضل ما يمكن أن يعمل لك، من الواضح أن الجراحة كانت صعبة جدا وما نجم عن العملية الأصلية كان دمارا شاملا للمنطقة.

تابعت إرشادات الطبيب بعناية وداومت على زيارة عيادته حتى عودتي من القاهرة، وفي أول مراجعة لي مع الدكتور خالد كان لزاما علي أن أنقل الأمانة بالتهاني من الأستاذ الكبير في قاهرة المعز.

أخيرا تمكنت من الجلوس أمام الحاسوب والدخول إلى الإنترنت، بحث بسيط عن تلك البكتيريا أوصلني إلى ما أذهلني، هناك مواقع عديدة تتحدث بإسهاب عنها وعن أعراض الإصابة بها وطرق الوقاية منها … الخ.

وما لفت نظري موقع خاص أنشأته امرأتان تمكنتا من النجاة من براثن تلك البكتيريا وبالتالي سخرتا كل جهدهما لتنوير الناس ونقل كل معلومة متاحة مع خدمات أخرى عديدة في هذا المجال، وعنوان هذا الموقع الممتاز هو:

www.nnff.org (National Nicrotizing Fasciitis Foundation)

- Flesh-Eating Bacteria البكتيريا آكلة اللحم

 

أدعو الجميع لزيارة هذا الموقع وتقديم كل دعم ممكن له واتباع الإرشادات الخاصة بالوقاية المنشورة في الموقع فدرهم وقاية خير من قنطار علاج، وإذا كانت العناية الإلهية قد كتبت لي النجاة فإنها قد فتكت بمعظم ممن أصيبوا بها إذ أن 75 – 80% من الإصابات في العالم لم يتم تشخيصها بشكل سليم أو في الوقت المناسب، وهذا ما حدث لزميلتي في غرفة العناية المركزة إذ فارقت الحياة (أسأل الله لها الرحمة) بعد صراع لم يدم طويلا مع البكتيريا الفتاكة.

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

الاخ العزيز والفاضل اسامه كباريتى

نورت باب الشعر ويا ريت من وقت للتانى ما تحرمنا من انسك

ليك وحشه كبيره والله

إنّ القلوب إذا هوت أوراقها        فالمال لا يحيى ربيعاً ذهبا

رابط هذا التعليق
شارك

حلوة القصة

ياعم اسامة وهى عظة وعبرة

جزاك الله

مصر أكبر من نظام الحكم الفردى الديكتاتورى الإستبدادى

الذى فرضه علينا عسكر حركة يوليو فى الخمسينات

وصار نظاما لحكم مصر

برنامج الرئيس الإنتخابى لإسكان فقراء الشباب ..

سرقه مسؤولون وزارة الإسكان مع المقاولين ..!

رابط هذا التعليق
شارك

الأخ الفاضل / أسامه ...

حمداً لله على سلامة صديقك .. وسبحان من سخر له صديقاً صدوقاً مثلك ، ليكتب قصة معاناته ، تفاعلاً أخوياً منه مع معاناته الدامية، بهذا الأسلوب القصصى البديع . هنيئاً له النجاة ، وهنيئاً له عليك ، وهنيئاً لنا المتعة بأسلوبك القصصى البديع الرشيق . جزاك الله خيرا.

بلدى وإن جارت علىّ عزيزةٌ

                 وأهلى وإن بخلوا علىّ كرامُ

رابط هذا التعليق
شارك

الجسم: الوطن العربي

مكان الورم  (مكان الرجولة من الجسم): فلسطين

البكتيريا: إسرائيل

الأطباء: القادة

التخدير لثلاثة أيام: كي لا تشعرالشعوب العربية بالألم

عدم إعطاء معلومات: التعتيم الإعلامي

العملية: الحرب

التحليل المخبري: لنتأكد أنه لن تعود هناك إسرائيل.

{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا }

رابط هذا التعليق
شارك

قصه رائعه وواقعيتها شكلت رمزيتها ...

وكعادتك دائما يا متسائل تسبقنى فى ما كنت سأقول ..

والسؤال الان من هى الضحيه التى توفت قبل التشخيص؟؟؟؟

إن ربا كفاك بالأمس ما كان.... يكفيك فى الغد ما سوف يكون

 

رابط هذا التعليق
شارك

ليه بس  كده ياعم فارو ؟؟؟؟؟

أهو أنا دلوقتي مش هاعرف أنام  :D

ممنوع الرجوع للوراء

رابط هذا التعليق
شارك

والسؤال الان من هى الضحيه التى توفت قبل التشخيص؟؟؟؟

الثقة بالنفس

{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا }

رابط هذا التعليق
شارك

دايما نفلسف المسائل ونديها ابعاد سياسيه

القصة دى قرأتها قبل كده فى منتدى شئون مصريه على ما اذكر وراويها أكد انها حقيقيه ونقلت عن بطلها الحقيقى

كما اننا الان فى زمن لم يعد يلتفت للرمز فى الكتابه فالاباحيه المطلقه نسفت هذا النوع من الكتابه

إنّ القلوب إذا هوت أوراقها        فالمال لا يحيى ربيعاً ذهبا

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

صدقت يا أخ دكترة .. القصة حقيقية 100% .. وما زال صديقي يعاني بعض الشئ من آثارها .. إذ انه لن يصلح النجار ما أفسده الدهر ..

وأشكر الجميع على الإطراء الذي لا أستحقه .. فقد قصدت فعلا التنبيه لهذا الخطر الذي لم أسمع به من قبل ..

والاعتبار من ذلك أيضا فلا صحة تدوم .. والعمر قصير .. والاجال بيد الله ..

ولقد أعجبت كثيرا بذلك الموقع الذي تديره اثنتان ممن اصيبوا بتلك البكتيريا .. ففيه نرى من العبر .. والتكاتف والتعاون .. مايجعلنا نتسائل .. أوليس حري بنا أن نتجمل بمثل ذلك في عالمنا العربي والإسلامي .. ولدينا كل المقومات الدينية والعلمية والمادية لنبزهم في مجالات التعاضد بكل أبعادها ...

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...