اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

قراءة في يوميات مهاجر(3)


Recommended Posts


قراءة في يوميات مهاجر(3)

تلتصق أول زيارة في ذهن المهاجر؛ فهي التي ترسم صورة المستقبل سواء عاد صاحبنا إلى وطنه الأم أمْ استمرتْ مسيرته المستقيمة أو المتعثرة.
النجاح والفشل نسبيٌ؛ ويرتبط بالهدف من السفر وبما ينتظره القريبون منه، فمن سافر للمال فقط فلن تعثر في ذاكرته إلا على اللون الأخضر، فالدولارات هي الأوراق المقدسة!
ومن سافر لأسباب عاطفية أو عائلية أو هروبا من واقع يُضيـّـق عليه الخناق غير من سافر غاضبا ومتمردًا وثائرًا على أوضاعه في البيت والمدرسة والجامعة والعمل و.. البطالة.
ومن سافر ليتحرر من الدين المفروض عليه غير من هاجر ليُحرر نفسَه بخطاب ديني جديد يُجدد فكره به، بعيدا عما وجد عليه آباءَه.
الأهم أن أسباب السفر تتغير عدة مرات كلما طالت فترة الإقامة في الخارج إلى أن يصبح الخارجُ هو الداخلَ، وتتبدل صورة الوطن الأم أيضا عدة مرات حتى ترسمها الذكريات من جديد فيظن صاحبها أنها تنتمي إليه، والحقيقة أنه هو الذي زركشها ولوّنها و.. أعاد تشكيلــَها.
هناك مثل فرنسي يقول بأنك لو غادرت وطنك الأم لعام أو أكثر، ثم عدت في زيارة؛ فأنت لست نفس الشخص، حتى الروائح والنغم والتقاليد والطعام تتغير ولو ظننتها امتدادًا لقديمك.
أتذكر أنني منذ سنوات قد تزيد عن الأربعين كنت في القاهرة المزدحمة أحاول العثور على تاكسي شاغر. فجأة توقف أمامي شاب وجعل يشير إليَّ بالركوب. بدا أنني أعرفه، فوجهه مألوف. جلستُ بجانبه فبادرني بقوله: هل تتذكرني؟  لقد عملنا معاً في جنيف!
أسعفتني الذاكرة بعد حين، وسألته عن كيفية التقاطي من بين الزحام وهو يقود سيارته في عاصمة الألف مأذنة! قال لي: لقد لاحظتُ في ثوانٍ خاطفة أنك تقف غير حائر، وتحمل شنطة اليد على كتفك بطريقة أوروبية، ولا تزوُغ عيناك ذات اليمين وذات الشمال، فعرفتُ أنك أنت الذي عملت معه في سويسرا!
تلك كانت ملاحظة ذكية لكنها تصف الشخصية القديمة التي أضفت عليها الغُربة ملامح جديدة.
أول لقاء لي بالعاصمة البريطانية في يونيو 1972 كان في ساوث كينسجتون، كوينز جيت .. حيث لا أملك في جعبة معارفي الأبعدين غير ورقة صفراء صغيرة كتبها عادل، وهو شقيق صديقي سعيد جورج، إسكندراني جدع موجهة إلى صديقه اللبناني جيمس كاسوف يطلب فيها منه مساعدتي.
وفتَح لي جيمس كاسوف قلب لندن بتهذيب ومودة، كالصياد الماهر الذي يفتح قلب السمكة فيُخرج ألذَّ ما فيها ويلقيه في فمك!
 وقضيت الليلة الأولىَ في شقته الصغيرة جدا، وذهب هو في الصباح إلى العمل ثم عاد بعد قليل حاملا إفطارًا لي مكونـًـا من بيض ولحم الخنزير. وكنتُ جائعـًـا ولم أَقْربه، فاليوم الأول هو تجربة الغــُـربة حتى آخر يوم فيها.
بعد دقائق قليلة عاد جيمس كاسوف آسفـًـا فقد تذكّر أنني مسلم ولن أتناول هذا الإفطار.
عاد إلى الشقة ومعه إفطار آخر وقدّمه لي معتذرًا، وظل في ذهني هذا المضيف الشهم الطيب المتسامح ولم أنسَ ملامحه الودّية والدافئة طوال 47 عامــًــا!
في ظــُهر هذا اليوم بدأتْ حياتي الغربية التي لم تنفصل عن حياتي العربية، فتلتصقان تارة، وتنفصلان تارة أخرى.

محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 18 مارس 2019
إلى الحلقة الرابعة بإذن الله   

  • أعجبني 1
رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...