اصل الطغيان

[mohameddessouki]

اصل الطغيان

كثيرا ما يتسأل البعض لماذا المصريين على ماهم عليه من استكانة وعبودية ومزمار يجمعهم وعصاة تفرقهم ؟،وهم نوعان لاثالث لهم عبد او فرعون ولقد كان لعمرو بن العاص حكما فى ذلك.

واسمحوا لى ان انقل لكم تحليلا علميا للاستاذ العظيم الدكتور جمال حمدان فى كتابه الشهير " شخصية مصر " تحت عنوان اصل الطغيان لنفهم ما اوصلنا لتلك الحال

قال الدكتور جمال حمدان :

"كيف ولماذا ؟ ادوات الانتاج الاساسية فى مصر الزراعية كعالم فيضى نهرى انما هى فى التحليل الاخير الارض والماء . ان يكون الماء دم الحياة فان الارض جسمها ، وان تكن الارض خامة الزراعة فان الماء وقودها،

فاما الارض فقد الغيت الملكية الفردية بضربة واحدة منذ اللحظة الاولى التى اعتبرت فيها كل ارض البلد ملكا قانونيا للدولة ممثلة فى الحاكم فرعون

والواقع ان هذه الظاهرة الموغلة فى القدم هى احتكار قانونى او مصادرة عظمى من حيث الشكل اما من حيث الموضوع فقد قصرت حيازة الارض على حق الانتفاع فقط دون حق الرقبة (الملكية).

بهذا تحولت مصر ابتداء الى ضيعة كبرى للحاكم بينما اصبح الفلاح مجرد اداة انتاج بشرية، وفى مراحل كان فرعون يملك ثلث اراضى مصر وحده

وفى التوراةان ضريبةالارضالتى كان فرعون يجمعهامن الفلاحين بلغت خمس المحصول بينما قدر البعض مقابلها باسعار 1924 بنحو 42ـ61 مليون جنية (اى باسعار اليوم 63مليون جنيه استرلينى)

اما الماء فله بحكم البيئة الفيضية ، فى يد الحاكم اكثر من الارض ومن يملك الماء فى مناخ صحراوى يملك الحياة تذكر "اعطنى ارضك وجهدك...الخ" وبحكم الطبيعة وطبيعة الاشياء ايضا كان الماء " مؤمما " بشكل ماء كما كان تقليديا وكما يقال دائما سلعة مجانية فى مصر طوال التاريخ، غير ان هذا صحيح شكلا فقط وعلى السطح ... اما فى الحقيقة فقد كان للماء ثمنه ،وكان هذا الثمن هو" حرية الفلاح " التى سلمت بالكامل للدولة بما فى ذلك حق او فرض" السخرة " اى وضع نفسه تحت تصرفها للعمل لحسابها لفترة ما كل عام احيانا بتكاليف " البطن" واحيانا مع التزامه او الزامه او الزام اهله بتكاليف معيشته، وذلك فى مشاريعها العامة ابتداء من اقامة السدود الواقية ضد خطر الفيضان الى شق الترع والطرق ويناء المعابد والاهرامات...الخ ومن الواجب هنا ان نلاحظ ان نظام السخرة وتوطنة وتوطده فى مصر كان يتناسب تناسبا عكسيا مع ظاهرة تستجلاب الرقيق والعبيد من الخارج فقد حدت الاولى من الثانية الى حد بعيد

بهذا اذن تجمعت كل حقوق الملكية وخيوط القوة وازمة السلطة فى يد فرعون بحيث صار الحكم هو الحكم الفردى المطلق فى اعتى صوره اى الاوتوقراطية، وكانت الاوتوقراطية العارمة هى نظام الفرعون الطبيعى والدولة الفرعونية بدورها هى سلطة مركزية ونظام شمولى يحكم كما يملك ويتحكم كما يحكم ، كانت الفرعونية باختصار نظاما دكتاتوريا مطلقا وكانت مصر بذلك تقليديا ابعد شىء عن الديموقراطية وليس صدفة بعد ذلك ان مصر الفرعونية لم تشتهر بقانون كبير ولم يغرف فيها " منحة قوانين" حتى مثل حمورابى او الرومان

ولعل الحكم الاوتوقراطى المطلق على علاته قد ادى وظيفته فى البداية والى حين حيث وضع اساس الحضارة المصرية وارسى دعائمها غير انه لم يلبث ان تعدى نفسه الى القهر السياسى والاجتماعى حين اصبح موزع الماء هو مالك الماء ، والحاجز بين الرقاب هو المتحكم فى الرقاب، ومانح الحياة هو مانع الحياة ،لقد انبثقت الدولة عن المجتمع ولكنها وضعت نفسها فوقه وتحولت والسلطة مفسدة

{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ }الزخرف51

تحولت من قوة قهر الى قوة بطش

ولعلنالانتجاوز الحقيقة اذا قلنا ان الفرعونية كانت نوعا من "الاستعمار الداخلى " او اذا اقتبسنا تعبيرا موفقا من صبحى وحيده نوعا من " الاستعمار الاجتماعى" ، ورغم مسخة سطحية من الابوية او النظام الابوى ينظر بها فرعون الى رعاياه كأبنائه القصر ـ وان كانت النظرة لاتخلو ايضا من مفهوم التملك ـ فلقد كانت الفرعونية دولة بوليسية استبدادية اساسا تتبع سياسة القمع والارهاب والترويع والتخويف والتنكيل والتمثيل بالنسبة للجميع

يقول الملك " خيتى " لابنه " مريكارع" ـ حوالى 2000 ق.م. "اذا وجدت فى المدينة رجلا خطرا اكثر من اللازم ومثيرا للاضطرابات ، فاقض عليه واقتله وامح اسمه وازل جنسه وذكراه وانصاره الذين يحبونه ، فان رجلا يتكلم تكثر من اللازم لهو كارثة على المدينة"

لاغرابة ان تلح نصوص الاخلاق فى مصر القديمة الحاحا شديدا على كلمة "الصمت" بالذات كفضيلة اساسية تتطلبها من الفلاح وغير الفلاح وهى كلمة يمكن ترجمتها كما يقول ويلسون (بالهدؤ السلبى) ، السكون ، الخضوع،المذلة،والانكسار. لقد اكتمل الطغيان الفرعونى وبلغ الطغيان المائى ذروته، وبتص القرآن ايضا:

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى }طه24

لقد جاء الطغيان الفرعونى نتيجة حتمية للدولة المركزية وكانت الدولة المركزية ضرورة حتمية للبيئة الفيضية، وكما كان لهذه المعادلة او المسلسلة الايكولوجية مزاياها الواضحة فلقد كان لها عيوبها الاوضح ، نعم ، بها كانت مصر اول وحدة سياسية او اول دولة موحدة فى التاريخ لكنها ايضا صارت بها على الارجح اول دولة طغيان فى الارض،واقدم واعرق حكومة مركزية فى العالم ، ولكن اقدم واعرض استبداد ايضا، لقد دفع المصرى منذ البداية ثمن وحدته السياسية المبكرة من حريته السياسية، واشترى الامن الاجتماعى بالحرية الاجتماعية، وفى النتيجة اصبحت العلاقةعكسية بين المواطن والدولة ، فتضاءل حجم الشعب بقدر ما تضخم وزن الحكم ، وكلما كبرت الحكومة صغر الشعب،من هنا فان الحكومة المركزيةالسباقة التى تسرف فى التفاخر بها عادة ليست خيرا محضا بل لها مثالبها وثمنها الفادح وسنرى كم يصدق هذا حتى وقتنا الحالى