اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

نظرة على التاريخ السياسي الأسلامي - مقال أعجبني


wahed_masry

Recommended Posts

السلام عليكم

نشر المقال في مجلة الواحةمجلة الواحة

وفيما يلى نصه

مجلة الواحة

العدد 10-11

الفقهاء والواقع التاريخي..

محنة السياسة في الفكر الإسلامي

فؤاد ابراهيم

 

لم تؤسس الكتابات السياسية في الاسلام في بداياتها على التجربة السياسية التاريخية الاسلامية، كما لم تستند ابتداءً على الاصول المبدئية والضوابط المقررة للسياسة كما وضعها الاسلام، ولذلك لم يعهد الفكر الاسلامي الكتابات السياسية المستقلة حتى منتصف القرن الخامس الهجري، أي حتى بدء أبي الحسن الماوردي (عاش ما بين 364 ـ 450هـ) وضع كتابه (الاحكام السلطانية). ذلك لا يعني انعدام الجدل السياسي في الاسلام، قبل هذا التاريخ، وإنما الكلام عن تلك الكتابات السياسية التي تعالج موضوعة السلطة بكونها موضوعاً رئيسياً ومستقلاً عن باقي موضوعات الفكر الاسلامي.

ومن المعروف أن الكتابات السياسية في بلاد المسلمين بدأت بمجموعة "مرايا الأمراء" التي صّبت اهتمامها في توجيه النصح للحكام، ويعد عبد الله بن المقفع (ت 137 أو 139هـ ـ 759م) أول من بدأ هذا النوع من الكتابات، وقد ساعده لسانه الفارسي على نقل التراث السياسي الفارسي كما في ترجمة كتاب (كليلة ودمنه)، وحاول عبر كتابات سياسية أخرى (رسالة الصحابة نموذجاً) استيعاب تجربة الملك الفارسي ضمن المجال السياسي الاسلامي النظري، انطلاقاً من "إن الحكومة في التاريخ الاسلامي قائمة منذ البداية على الآراء والاجتهادات العقلية وليس على الدين الموحى(1)" حسب إ.روزنتال.

وقد تركت هذه الكتابات تأثيراً واضحاً على سيرة حكام الدولة الاموية، ولذلك قيل "أن النظام السياسي في الدولة الاموية كان متأثراً بالنظام الذي كان سائداً في الدولتين الفارسية والبيزنطية(2).

وتواصلت حركة الترجمة، للكتابات السياسية اليونانية والفهلوية، حيث نقلت رسائل أرسطو الى العربية، فيما بدأ ابو عثمان الجاحظ (159 ـ 252هـ/775 ـ 868م) في هذا الفترة وضع كتابيه:التاج واستحقاق الامامة. وكان الجاحظ معتزلياً وضمن حاشية المأمون العباسي. وقد خصّ كتابه (التاج) الامير الفتح بن خاقان، والكتاب في مجمله يحاول استعادة اخلاق ملوك ساسان واعادة شرحها وتكييفها مع المُلك العربي، ويبدي الجاحظ في هذا الكتاب اعجاباً كبيراً بتجربة السياسة الفارسية في الحكم والادارة، ولا يخفي هذا الاعجاب إذ أكد ذلك بما نصه "عنهم ـ أي عن ملوك العجم ـ أخذنا قوانين الملك والمملكة وترتيب الخاصة والعامة، وسياسة الرعية، والزام كل طبقة حظّها، والاقتصار على جديلتها(3)". فأراد من هذه السيرة الملوكية الفارسية أن يتعلم العرب كيفية التعامل مع ملوكهم "إن أكثر العامة وبعض الخاصة، لما كانت تجهل الاقسام التي تجب لملوكها عليها، وإن كانت ممسكة بجملة الطاعة، حصرنا آدابها في كتابنا هذا(4)..".

ويذكر ايضاً في سياق الكتابات السياسية المترجمة عن اليونانية كتاب (سلوك المالك في تدبير الممالك) لإبن أبي الربيع، ألفه في زمن الخليفة المعتصم العباسي(218 ـ 227هـ)، وقد "اعتبر أول عمل سياسي في الاسلام(5)"، ولكنه اعتمد فيه على الفكر السياسي اليوناني وبخاصة فكر ارسطو وافلاطون، وأكد على شكل موحد للحكومة وهو الشكل الملكي، الذي يقوم على حكم الفرد، مشفوعاً بالتفويض الالهي للحكام "إن الله خصّ الملوك بكرامته، ومكّن لهم في بلاده، وخوّلهم عباده(6)..".

واجمالاً، اذا تجاوزنا ما نقل عن اليونانية والفهلوية، فإننا لن نعثر على كتابات متخصصة حول قضايا السياسة والدولة. نعم أنتجت الفتنة الكبرى داخل مجتمع المسلمين في مرحلة مبكرة نقاشات سياسية تبلورت لاحقا مع الانتقال من مرحلة الخلافة الى مرحلة الملك مع وصول بني امية الى الحكم(7)، والتي احتسبت بداية نشوء الملك العضوض، وبداية الدولة العصبية في التاريخ الاسلامي، ايذاناً بانفصال المؤسسة السياسية عن المؤسسة الدينية، بحيث جعلت الدولة الدين تحت اشرافها مستبعدة الفقهاء ومستقلة في سن القوانين والتشريعات الدينية..

لقد دشّنت الفترة الانتقالية مابين زوال الدولة الاموية ونشوء الدولة العباسية التي توسلت في احتواء موجات الاحتجاج ضد الامويين بشعار (الرضا لآل محمد)، دشّنت مرحلة استحقاقات هامة، وحفّزت الجدل الكلامي حول الامامة والخلافة المؤسسة على الصورة المثالية التي تكوّنت لدى كل فريق حول مبدأ الحكم في الاسلام، فكتب الشيعة والمعتزلة حول الامامة(8)، ودخلوا بها في معارك كلامية، فيما بدأت فرق المسلمين جميعاً تولي في بحوثها الكلامية عناية خاصة للامامة، وتفرد باباً خاصاً تؤسس فيه لاطروحتها في الحكم بما ينطوي على ردود وردود مضادة.

الامامة

أجمع المسلمون على وجوب الامامة وقال ابن حزم (ت 456هـ) في (الفصل في الملل والاهواء والنحل):"اتفق جميع أهل السنة، وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج على وجوب الامامة، وأن الامة واجب عليها الانقياد لامام عادل يقيم فيها أحكام الدين، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي اتى بها الرسول p1.gif حاشا ـ عدا ـ النجدات من الخوارج فإنهم قالوا:"لا لزم فرض الامامة(9)"، واختلفت الفرق في طبيعة هذا الوجوب، وحسب تلخيص عضد الدين الايجي (ت 756هـ): "نصب الامام عندنا (أهل السنة) واجب علينا سمعاً، وقالت المعتزلة والزيدية بل عقلاً، وقال الجاحظ بل عقلاً وسمعاً، وقالت الامامية والاسماعيلية بل على الله، الا أن الامامية أوجبوه لحفظ قوانين الشرع والاسماعيلية ليكون معروفاً لله، وقالت الخوارج لا يجب أصلاً(10)".

وبحسب تقسيم العلامة الشيخ حسن ابن المطهر الحلي(:اختلف الناس في نصب الامام فقال بعضهم:

ـ بوجوبه عقلاً. واختلف هؤلاء فقال بعضهم بوجوبه من الله تعالى وهم الاسماعيلية، وقال بعضهم بوجوبه على الله تعالى وهم الشيعة، وقال بعضهم بوجوبه على الخلق وهم المعتزلة.

ـ بوجوبه سمعاً. وهم أهل السنة.

ـ بلا وجوبه. وهم الخوارج والأصمّ من المعتزلة(11).

ولكن وراء هذا الاجماع، وقع انشعاب عظيم سالت على جنباته الدماء واندلعت بسببه الحرب الاهلية في الاجتماع الاسلامي، يقول الشهرستاني:"وأعظم خلاف بين الامة خلاف الامامة، اذ ما سل سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الامامة في كل زمان(12)".

وقد انبعث الجدل السياسي في بدايته بين الفرق الاسلامية حول الامامة متمحوراً حول مشروعية امامة الخلفاء الراشدين، فكان السعي يتجه للبحث عن نصوص تسهم في تعضيد مركز الخلافة ورمزها، ومن المعلوم أن الشيعة بدأت في منتصف القرن الثاني الهجري التنظير في الامامة، وقالت بأن الرسول p1.gif قد نصّ على علي وبنيه بالامامة من بعده(13)، قبل أن يضع ابن قتيبة (213هـ ـ 276هـ) كتابه (الامامة والسياسة) للرد على الشيعة بنفس المنهجية الشيعية، أي التوسل بالنص، ويروى أن جماعة من علماء السنة استنبطت خلافة أبي بكر من آيات القرآن فأخرج البيهقي عن الحسن البصري في قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" قال: هو والله أبو بكر واصحابه لما ارتدت العرب جاهد أبو بكر وأصحابه حتى ردوهم الى الاسلام. وأخرج ابي حاتم عن جبير في قوله تعالى:(قل للمحلفين من الاعراب ستدعون الى قوم أولي بأس شديد) قال هم بنو حنيفة قال ابن ابي حاتم وابن قتيبه هذه الآية حجة على خلافة الصديق لأنه الذي دعا الى قتالهم وقال تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض..الآية) قال ابن كثير: هذه الآية منطبقة على خلافة ابي بكر(14).

ويعتبر ابو الحسن الاشعري (260 ـ 324هـ) في طليعة المتكلمين في موضوع الامامة من المدرسة السنية، والمؤسس الاول لبنى الامامة وفق اصول الفقه السني على مذهب الامام الشافعي (150 ـ 204هـ) وهي (الكتاب والسنة والاجماع والقياس)، حيث أمكن رؤية دور غير معهود لهذه الاصول في تحليل وتشريع الحوادث التاريخية ذات الصلة بالامامة، فها هو في كتابه (الابانة عن اصول الديانة) ينحو منحى الفرق الشيعية في الاستدلال على امامة ابي بكر بالنص، ومما ذكره "وقد دلّ الله تعالى على امامة ابي بكر الصديق (رضي الله عنه) في سورة براءة فقال تعالى للقاعدين عن نصرة نبيه (صلى الله عليه وسلم) والمتخلفين عن الخروج معه: {فقل لن تخرجوا معي ابداً ولن تقاتلوا معي عدواً} وأورد عدداً من الايات الدالة على امامة ابي بكر، ومنها أثبت صحة امامة عمر بن الخطاب كونها تمت بنص من ابي بكر، كما نصّ الستة الشورى على عثمان ونص الصحابة على علي(15).

ويرى الدكتور حسين فوزي النجار في لجوء الاشعري الى النص في اثبات امامة ابي بكر رداً على الشيعة بما نصه:"ولعل ما ذهب اليه أهل السنة في وجوب الخلافة شرعاً كان للرد على ما ذهب اليه أهل الشيعة في الوجوب والنص الالهي ضماناً للعصمة(16)".

وأياً كان السبب، فإن التوسل بالدليل النقلي في الاحتجاج السياسي المتصل بالامامة والخلافة، لم يكن خياراً شيعياً محضاً، بل إن الروايات السنيّة المروية بطرق مختلفة وفي أزمان مختلفة تشي بأن ثمة جدالاً واسع النطاق بين مختلف الفرق الاسلامية حول الامامة النصّية صرفت الكثيرين من أعلام هذه الفرق للتفتيش عن نصوص يمكن التعويل عليها في إثبات امامة هذا الخليفة أو ذاك.

ويحلل المفكر المغربي محمد عابد الجابري آراء الأشعري في الامامة بأنها:"حصرت مهمة الكلام في الامامة في التشريع للماضي، الشيء الذي جعل الفكر السياسي السني يبقى سجين هذا التوجيه الماضوي الذي يجعل الناس يستعيدون باستمرار صراعات الماضي وينخرطون فيه(17)".

والواقع، أن التشريع للماضي لم تكن مهمة الاشعري وحده، بل هو ديدن علماء الفرق الاسلامية المتمذهبة عموماً، ويكفي ما ضخّته السجالات المذهبية بين السنة والشيعة من مصنفات في الامامة، رهنت اتباعهما للسكون في التاريخ والانحباس في أحداثه وملابساته، وهي سجالات ومن أي زاوية نظرنا اليها لا تخرج عن اطار التشريع للماضي، والتوجيه الماضوي.

وعلى أية حال، ان كلام الاشعري في الامامة أصبح الاساس الذي اعتمده أكثر الباحثين في موضوع الامامة، بل اقتفوا جميعاً المنهج الاشعري في إخضاع الفقه وفي شقه السلطاني حصراً لجهة تبرير وشرعنة الواقع التاريخي، واعتبار كل ما جرى في التاريخ بما في ذلك خصومات الصحابة وحروبهم قابلاً للتبرير، في مقابل تنامي الاتجاه الكلامي الشيعي في الامامة لجهة تفسير وتالياً تبرير مواقف أئمة أهل البيت p2.gif وخصوصاً المتصالحة منها مع الواقع، وإخضاعها لمنطق التقية وصولاً الى تقويض المنهج السني في الامامة. وبالرغم من أن الشيعة توسلت بالنصوص للتنظير للامامة المنشودة الالهية، فيما نظّرت السنة بالنصوص للامامة العظمى، الا أن الفرقتين تسالمتا على سلطة الامر الواقع، كما سيظهر لاحقاً.

الفلسفة والسياسة

في مقابل انخراط الفرق الاسلامية المتمذهبة في الشان السياسي من بوابة الامامة والخلافة، كان هناك مجال آخر يشق طريقه نحو التبلور والاتساع مستمداً من الضخ الفلسفي المندفع من أواسط العصر الاموي، ومتأثراً من جهة ثانية بالنقاشات السياسية الجديدة داخل الدائرة الاسلامية حول الامامة والخلافة.

استطاع فلاسفة المسلمين وفي مرحلة مبكرة هضم التراث السياسي اليوناني الذي أفادوا منه في تحديد النظام الافضل، واستعانوا به في وعي الشريعة، ولكنهم باينوا الفقهاء في طرق المعرفة، فبينما التمس الفقهاء والمتكلمون من الشريعة ما يوجب الخلافة، أرجع الفلاسفة هذا الوجوب الى العقل الذي أخذ يمد سلطانه الى كافة موضوعات الشريعة، وأجازوا لأنفسهم الخوض حتى في حقل اليقينيات بما في ذلك التوحيد والنبوة، بما يتيح لهم تأمين الحق في تشكيل رؤية خاصة في الشريعة.

والواقع، أن آراء أرسطو وافلاطون شكلت على امتداد التاريخ الاسلامي حافزاً نشطاً لأغلب فلاسفة المسلمين الذين بالغوا في تعظيم الفلسفة واظهار تفوقها على غيرها من العلوم، باعتبارها المدخل الى كل العلوم واكتساب الفضائل، حتى ذهب ابن رشد (520 ـ 595هـ) الى أولوية الحكمة على الشريعة، والمحور الذي يدور حوله الشرع وكتب ما نصه "وعلى العلماء أن يجمعوا بين الحكمة والشريعة وأن يعملوا من الشريعة ما يوافق الحكمة وأن يتأوّلوا من الشريعة ما لا يوافق الحكمة حتى يكون عملهم في كل شيء موافقاً للحكمة(18)". فيما اعتبر ملا صدرا الشيرازي (ت 1050هـ) الحكماء هم العلماء الحقيقيين، وعد الفلاسفة "أولياء الله وقوام الدين وفقهاء شريعة سيد المرسلين(19)".

وفي المضمار السياسي، بدأ المشتغلون بالفلسفة باحتواء الفلسفة السياسية اليونانية وبخاصة رسائل ارسطو وافلاطون في المدينة الفاضلة داخل مجال الفكر السياسي الاسلامي، فبينما كان الاشعري مشتغلاً بالتنظير للامامة، كان ابو نصر محمد بن طرخان المشهور بـ (الفارابي) (257 ـ 339هـ/870 ـ 950م)، يؤسس بنى اطروحته في المدينه الفاضلة. نذّكر هنا بأن الفارابي عاش فترة اضطراب سياسي في بلاد المسلمين أي بين فترتي حكم المعتمد (256 ـ 279هـ) وحتى حكم المطيع (334 ـ 336هـ)، التي سادت فيها الفتن والثورات بفعل عوامل دينية وسياسية وثقافية.

تمثل الفارابي منهج أرسطو وافلاطون في السياسة، فكان يربط بين السياسة والاخلاق، والفلسفة، ويرى بأن الدولة ـ المدينة يجب أن تشتمل على صفات: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة.

والرأي الفلسفي في الدولة للفارابي يتلخص في كون الانسان يميل فطرياً الى الاجتماع بجماعات كثيرة متعاونين "يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج اليه في قوامه، فيجتمع، مما يقوم به جملة الجماعة لكل واحد، جميع ما يحتاج اليه في قوامه وفي أن يبلغ الكمال" ولذلك فإن الكمال "إنما ينال أولاً بالمدينة، لا باجتماع الذي هو أنقص منها(20)". ولذلك يرى الفارابي بأن دولة ـ المدينة هو النموذج الاعلى للنظم السياسية مطلقاً، وسنجد أن الفاربي ينفصل عن التجربة السياسية التي عاش فيها ويسعى الى التأسيس لبنى سياسية نظرية خالصة مقطوعة الصلة بالواقع التاريخي. ويميل الفاربي في رئيس المدينة الفاضلة الى الرأي الشيعي ـ والذي صاغه فميا بعد الخواجة نصير الدين الطوسي في الامام المعصوم ـ "فليس في فطرة كل انسان أن يعلم من تلقاء نفسه السعادة ولا الاشياء التي ينبغي أن يعلمها بل يحتاج في ذلك الى معلم ومرشد(21)".

ولذلك فهو يستوحي مواصفات رئيس المدينة الفاضلة من المواصفات المرصودة في الامامة الشيعية "ورئيس المدينة الفاضلة ليس يمكن أن يكون أي انسان اتفق، لأن الرئاسة إنما تكون بشيئين: أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معداّ لها، والثاني بالهيئة والملكة الارادية. والرياسة تحصل لمن فطر بالطبع معداً لها. فليس كل صناعة يمكن أن يُرأس بها..(22)".

وقد تأثر الفارابي في هذا الرأي بما قاله افلاطون في رئيس المدينة ـ الدولة:"ما من دولة، ولا نظام، ولا فرد، عليه أن يبلغ الكمال ما لم تلق مقاليد الحكم فيها الى ايدي الفلاسفة(23)..".

أما ابو علي ابن سيناء (373 ـ 430هـ/980 ـ 1037م) الذي تعمق في درس فلسفة أرسطو وتأثر بالافلاطونية المستحدثة، وكان يعد الفارابي معلمه الأكبر، ورغم غموض رؤية ابن سينا في المدينة ـ الدولة، الا أنه وجد في آراء الفارابي في المدينة الفاضلة نطاقاً ممتازاً شجّعه على صياغة تلك الآراء في عبارات أخرى أكثر وضوحاً، وقدّم لذلك بما نصه: "يجب أن يفرض السان، طاعة من يخلفه، وأن لا يكون الاستخلاف الا من جهته، أو باجماع من أهل السابقة على من يصححون علانية عند الجمهور أنه مستقل بالسياسة، وأنه اصيل العقل حاصل عنده الاخلاق الشريفة من الشجاعة والفقه وحسن التدبير، وأنه عارف بالشريعة حتى لا أعرف منه، تصحيحاً يظهر ويستعلن ويتفق عليه الجمهور عند الجميع ويسن عليهم أنهم اذا افترقوا أو تنازعوا للهوى والميل أو أجمعوا على غير من وجد الفضل فيه والاستحقاق له، فقد كفروا بالله (24)"، وخلص في ذلك الى أن "الاستخلاف بالنص أصوب فإن ذلك لا يؤدي الى التشعب والتشاغب والاختلاف(25).."، ولكن هذا التصويب لا يلغي في وعي بن سينا صحة الخلافة غير المنصوصة، طالما أن المتقدّم يحسن الايالة، على أن يعضده الخليفة المنزوع في تدبير السلطة "ويلزم أعقلهما أن يعتضد به ويرجع اليه، مثل مافعل عمر وعلي(26)".

ولكن بن سينا الذي يلج ساحة الجدل الامامي متطفلاً، لا يلبث أن يعود سريعاً الى الفضاء الارحب الذي يحقق فيه ذاته الفلسفية، ليستأنف بناء مدينته الفاضلة، في وقت كانت عساكر قبائل الترك قد توغلت في خراسان والعراق والشام، والتي ضربت بأمواجها العاتية أسوار المدينة الفاضلة كما يتصوّرها ابن سينا، الذي عبّر عن معارضته الشديدة لاختلاط الترك والزنج في المجتمع الاسلامي أي الذين نشأوا حسب ابن سينا في غير (الاقاليم الشريفة) وهي كما يعرفها "التي أكثر أحوالها أن ينشأ فيها امم حسنة الامزجة صحيحة القرائح والعقول".

ويحدد ابن سينا وظائف السلطان والتي بتمامها وكمالها تستقر المدينة "واما ضبط المدينة ـ الدولة، يعد ذلك بمعرفة ترتيب الحفظة ومعرفة الدخل والخرج واعداد اهب الاسلحة والحقوق والثغور وغير ذلك فينبغي أن يكون ذلك الى السايس من حيث هو خليفة، ولا يفرض فيها احكاما جزئية، فإن فرضها فسادٌ لأنها تتغير مع تغير الاوقات وفرض الكليات منها مع تمام الاحتراز غير ممكن، فيجب أن يجعل ذلك الى اهل المشورة ويجب أن يكون السان يسن ايضاً في الاخلاق والعادات سنناّ تدعو الى العدالة التي هي الوساطة، والوساطة تطلب في الاخلاق والعادات بجهتين: فإما ما فيها من كسر غلبة القوى، فلأجل زكاة النفس خاصة واستفادتها الهيئة الاستعلائية وأن يكون في تخلصها من البدن تخلصاً نقياً. وأما ما فيها من استعمال هذه القوى فلمصالح دنيوية، واما استعمال اللذات فلبقاء البدن والنسل، واما الشجاعة فلبقاء المدينة).

وقال ابن سينا فإن من فاز في كسب الفضائل الثلاثة: التوسط في الشهوات (الطعام والنكاح..) والتوسط في الغضبيات (الخوف والغضب والغم والحقد والحسد..) والتوسط في التدبيرية.. ورؤوس هذه الفضائل عفة وحكمة وشجاعة ومجموعها العدالة، "ومن اجتمعت به معها الحكمة النظرية فقد سعد، ومن فاز مع ذلك بالخواص النبوية كاد أن يصير رباً انسانياً وكاد أن تحل عبادته بعد الله تعالى وهو سلطان العالم الارضي وخليفة الله فيه(27)".

ولعل من اللفتات الهامة، أن بن سينا وهو يشيّد بنيان المدينة ـ الدولة يهب حكومتها سلطة تشريعية غير عادية، إذ يجوز لها تغيير الاحكام ذات الصلة بالمعاملات بحسب تبدّل الظروف والاحوا ل"يجب أن تكون السنة في العبادات والمزاوجات والمزاجر معتدلة لا تشدد فيها ولا تساهل، ويجب أن يفوّض كثير من الاحوال خصوصاً في المعاملات الى الاجتهاد فإن للاوقات احكاماً لا يمكن أن تنضبط(28)..".

إن أول ما يظهر من قراءة الفلسفة السياسية للفلاسفة المسلمين بدءا من الفارابي وابن سينا وابن طفيل (1100 ـ 1185م) في قصة (حي بن يقظان) وابن باجه (ت 1138م) في (تدبير المتوحد) و(رسالة الوداع)، وابن رشد وحتى ابن خلدون، وهؤلاء جميعاً ممن اشتغلوا بشرح أو دراسة ارسطو، وحاولوا التوفيق بين الفلسفة والدين، أن ثمة قاسماً مشتركاً لدى كل هؤلاء أنهم سعوا للتفتيش عن معرفة المضمون الفلسفي للرابطة السياسية، ومبررات وجودها، وتكييف هذه المعرفة مع الشريعة، ولكنهم اختلفوا في العلاقة بين النظام السياسي للجماعة والشريعة، فبينما ذهب بعض الفلاسفة (الفارابي وابن رشد) الى ضرورة وجود الجماعة السياسية كإطار لمزاولة وتنمية الفضائل والملكات الانسانية، فأن بعضهم وبخاصة ابن سينا يرد وجود الجماعة السياسية الى الشرع الذي يتولى تأسيس الجماعة وفق مقتضيات الشريعة، وإن كان الجميع متفقاً على أن الرابطة السياسية مهما اختلفوا في كيفية نشوئها والطريق الموصلة اليها كفيلة بأن تؤمّن بيئة خصبة لتنمية الفضائل والمواهب وملكات الخير، ولذلك أيضاً فهم متفقون على أن النظام السياسي الافضل هو المشدود الى الشريعة وأحكامها كما نزلت على الرسول p1.gif، ولذلك رأى ابن رشد في الشريعة التي بعث بها رسول الله "القانون الكامل للدولة الكاملة أو الفاضلة:الاسلام(29)"، ولكن مع فارق يميّز الفلاسفة عن الفقهاء والمتكلمين، وهو العقل، فالفلاسفة يولون العقل اهتماماً أكبر ويفوّضوه دوراً رئيسياً في وعي مقاصد الشريعة فيما يكتفي الفقهاء بحيز الشرع الموحي المنصوص مع الاحتفاظ بحق اشراك العقل في وعي أحكام الشريعة، وافترق الفلاسفة عن الفقهاء أيضاً في نقطة جوهرية: رأس السلطة، فبينما قبل الفقهاء بسلطان حائز على قبول العامة، اشترط الفلاسفة وجود شخص فريد بمواصفات خاصة لا تتوفر في فرد آخر من رعاياه، شخص يتسم بالذكاء والملكات الخيّرة والفضائل، التي تسري في سياسته للجماعة، وتتربى الرعية عليها حتى ترتقي لنيل الفضائل. وهذه ليست سوى نظرة متشائمة تعكس الى حد كبير الاوضاع السيئة للسلطة التي عاش فيها الفلاسفة حتى باتوا ينشدون حلاً طوباوياً، ممثلاً في المدينة الفاضلة أو جمهورية افلاطون.

أصالة النظام

شدّد فقهاء المسلمين في أبحاثهم السلطانية على ضرورة الرابطة السياسية للجماعة وعدّوا ذلك اصلاً وركيزة أساسية لوحدة الجماعة، دون تفريق في أشكال السلطة المختلفة: الخليفي والسلطاني والملوكي، من ذلك قولهم بأن النظام أصل، وإن كان تحت سلطان جائر، جاهل، غاصب، الامر الذي بالغ الفقهاء معه في مناجزة السلطان، بناءً على أن وحدة السلطة وتماسكها حائل دون اضطراب حبل الامن، وشياع الفوضى، وارتكاب المنكرات وتالياً تشتت الجماعة، وحسب رأي الشريف المرتضى (355 ـ 435هـ) "إن وجود الرئيس المطاع المهيب المنبسط اليد أدعى الى فعل الحسن وأردع عن فعل القبيح..وأن الناس عند الاهمال وفقد الرؤوساء يبالغون في القبيح، وتفسد أحوالهم ويختل نظامهم(30)" ليخلصوا من ذلك الى التشدد في مبررات خرق النظام أو الاطاحة به لما في ذلك من فساد وفتنة ما لم يثبت العكس، ومقصدهم في ذلك حفظ النظام الاجتماعي لا طاعة الحاكم وإن كانت الثانية متحققة بالاولى ولازمة لها.

ويقول الاشعري (260 ـ 330هـ) "ونرى الدعاء لائمة المسلمين بالصلاح والاقرار بإمامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم اذا ظهر منهم ترك الاستقامة. وندين بإنكار الخروج بالسيف وترك القتال في الفتنة(31)".

وقد أجمع على ذلك علماء المسلمين قاطبة، يقول الامام احمد بن حنبل (164 ـ 241هـ) ما نصه"ومن غلبهم ـ أي المسلمين ـ صار خليفة وسمي أمير المؤمنين ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم والآخر أن يبيت ولا يراه اماماً براً كان أو فاجراً فهو أمير المؤمنين(32)".

وقال الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (385 ـ 460هـ) من كبار علماء الشيعة الامامية بأن "تصرف الغاصب لأمر الامة اذا كان عن قهر وغلبة، وسوغت الحال للامة الامساك عن النكير، خوفاً وتقية، يجرى في الشرع مجرى تصرف المحق في باب جواز أخذ الاموال التي بقيت في يده، ونكاح السبى، وماشاكل ذلك، وإن كان هو بذلك الفعل موزوراً ومعاقباً(33)".

الجهل أصل كل بلاء ، ومنبع كل نقيصة

رابط هذا التعليق
شارك

قراءة في الفكر السياسي الاسلامي

بعد أن هدأ الجدل الكلامي حول الامامة، و توارت مبررات الخوض في سجالات الماضين، انطلقت الحاجة في وقت متأخر، أي إبان ضعف الخلافة العباسية التي أصبحت رهينة السلطنات المنبعثة من داخل دولة الخلافة والمستحوذة على صلاحيات الخليفة، بدأ البحث عن النظام السياسي الاسلامي، وربما بسبب سوء الاوضاع العامة في بلاد المسلمين، أصبحت التجربة السياسية الماضية أملاً منشوداً يرتجى استئنافها، فتمّثل العلماء في التأسيس لأبنية نظرية للدولة الاسلامية، التجربة السياسية التاريخية في بلاد الاسلام، وحاولوا التعرف على الحكم الاسلامي من خلال سيرة الخلفاء والولاة الماضين، وكان المشتغلون بوضع الاحكام السلطانية أمام تجربتين: الاولى ـ القديمة تمثل النموذج الاعلى، والثانية ـ الراهنة، تمثل النموذج الواقعي.

فقد وضع أبو الحسن الماوردي (ت 450هـ) أول كتاب حول شؤون الدولة باسم (الاحكام السلطانية والولايات الدينية) بطلب من أحد الخلفاء من بني العباس كما يظهر من مقدمة الكتاب(34). وقد اعتبر دارسو كتاب الماوردي بأنه نزعة مثالية انفصامية عن الواقع كما عدوّه تصوراً نظرياً يتناقض والواقع كما قال بذلك بروكلمان وسوفاجيه.

ولا شك، إن وعي الماوردي للسلطة لا ينفك عن الرابطة الوثيقة مع الخلافة العباسية، والتي دافع عنها باعتبارها مؤسسة تاريخية ضرورية لاستمرار وحدة الامة(35). وقد عاصر الماوردي القادر بالله (ت422هـ) والقائم بأمر الله (ت 467هـ)، وظل على ولائه للخلافة العباسية ودافع عنها في وجه البويهيين والسلاجقة، وإن أضفى في كتابه على مشروعية الدويلات التي نشأت داخل الخلافة العباسية كما يشير لذلك في (امارة الاستيلاء)(36)..بل إن الماوردي لم يقف الى جانب الخلافة نظرياً فحسب، بل عمل موظفاً في خدمة الخليفتين(37)، وحمل لقب (أقضى القضاة) عمل في بلاط القادر بالله وبعد موته عمل وبشكل علني في بلاط القائم بأمر الله وموظفاً رسمياً في حكومته لا متطوعاً وعهد اليه بمهمات سياسية وأرسله موفداً الى البويهيين والسلاجقة، فكتابات الماوردي تأتي في سياق العلاقة الوطيدة بالخلافة العباسية، فصنّف (الاحكام السلطانية) وعالج فيه موضوعات الامامة، وحين تولى ابن المسلمة (ت 450هـ) وزيراً للخليفة ألّف الماوردي (قوانين الوزارة وسياسة الملك) لتكون عوناً للوزير في ادارة شؤون وزارته.

واستناداً لما تقدم، يصيغ الماوردي أفكاره في الاحكام السلطانية، مستعيراً من الواقع التاريخي والواقع الذي يحيا فيه، ما يسعف على توكيد هذه الاحكام وتبريرها دون اسقاط من الحسبان تحريه الدقة في تحصيل الادلة الشرعية من الكتاب والسنة على موضوعات الدولة الواردة في الابواب العشرين من الكتاب بدءا من الامامة وانتهاء بالولايات. واستعارته من الواقع التاريخي تبدو واضحة في باب الامامة حيث حصر انعقاد الخلافة في وجهين: أحدهما باختيار أهل الحل والعقد، وثانيها: بعهد الامام من قبل(38). فاستند في ذلك على عصر الخلافة الراشدة، أعني خلافة ابي بكر ولا نزل به الوحي.

وأراد ابن الجوزية تأسيساً على هذا المحدد، استجلاء الاشكالية الرئيسية المصوّبة لمفهوم السياسة الشرعية، "فإن اردت بقولك (الا ما وافق الشرع) أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح وإن اردت: لا سياسة الا ما نطق به الشرع. فغلط وتغليط للصحابة. فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن.." ويمضي في شرح ذلك: "فإذا ظهرت امارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه والله سبحانه اعلم واحكم واعدل أن يخص طرق العدل واماراته واعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو اظهر منها، وأقوى دلالة، وأبين امارة فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها(73).

ويزيد في شرح ذلك " قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق: أن مقصوده اقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له فلا يقال: أن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقه لما جاء به، بل هي جزء من اجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعاً لمصلحتهم، وإنما عدل الله ورسوله، ظهر بهذه الامارات والعلامات".

وقسّم ابن الجوزية السياسة الى نوعين: سياسة ظالمة وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر فهي من الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها"، بتعديل طفيف لرأي امام الحرمين الجويني (ت478هـ) في كتابه (غياث الامم) الذي كان يرى في شرعية السلطة تطبيقها للشريعة وانفاذ احكامها، فكل دولة قامت بتطبيق الشريعة هي دولة شرعية بصرف النظر عن شكل السلطة فيها، فكانت (دولة تطبيق الشريعة) نموذج الدولة التاريخية للامة الماثلة أمام فقهاء القرن السابع الهجري ومابعده.

ورغم انتقاد اعلام السلفية للسياسة الظالمة واعتبارها غير شرعية الا أنهم شدّدوا على طاعة السلطان تعزيزاً لفكرة (عدم الخروج) على الظالم وطالبوا بالاعتراف بـ(من غلب) كما أخذ بذلك الامام احمد والشيخ ابن تيمية. وقد نجد في تراث ابن القيم مايبرر رأي الامام وشيخ الاسلام ولذلك يقول:"ان الانكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم هو اساس كل شر وفتنة الى آخر الدهر..ومن تأمل ماجرى على الاسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من اضاعة هذا الاصل وعدم الصبر على المنكر فطلب ازالته فتولد منه ماهو أكبر منه، ولهذا لم يأذن الرسول في الانكار على الامراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ماهو اعظم منه". ويمضي في توكيد هذا الرأي "..فلو منعت امامة الفساق وشهادتهم واحكامهم وفتاويهم وولاياتهم لعطلت الاحكام، وفسد نظام الخلق..وبطلت اكثر الحقوق..فإمام الضرورة والغلبة بالباطل ليس الا الاصطبار .. والقيام بأضعف مراتب الانكار".

ومما تجدر الاشارة اليه هنا، أن كل الذين كتبوا في الدولة والاحكام السلطانية، استحضروا ـ إبان استجابتهم لسلطة الأمر الواقع ـ الدولة/المثال والنموذج كطموح وأمل منشود، فالفلاسفة (الفارابي وابن سينا والشيرازي، والطوسي وابن رشد وابن ماجه..) وثّقوا صلاتهم بالمدينة الفاضلة كما رسمها ارسطو في رسائله وافلاطون في جمهوريته، واستوعبها ـ أي الفلاسفة المسلمين ـ ضمن المجال السياسي الاسلامي، فيما جعل فقهاء السنة من الخلافة الراشدة، النموذج الاعلى (الماوردي وابي الفراء الحنبلي..) أو دولة العدل (ابن جماعة، ابن تيمية، ابن القيم الجوزية) فيما اعتصم فقهاء الشيعة بدولة الامام المهدي الموعود.

الوعي العصري للسياسة الاسلامية: البحث عن مخرج

انتهت التجربة السياسية والتراث السلطاني في المجال السياسي العربي والاسلامي الى مأزق حرج عند أكبر مواجهة حضارية مرّت بها الجماعة الاسلامية منذ بدء انهمار سيل الثقافة الغربية الحديثة، التي صوّبت طيفاً من الاسئلة التشكيكية لكل الافكار السائدة.

والواقع، ضاعف الانكفاء على الذات من مشكلة انفصام العلاقة بين الدين وشؤون الدولة عموماً، حيث برزت مشكلات جديدة مع تطور حركة المجتمع الاسلامي والتعقيدات التي برزت خلال التجربة السياسية العربية والاسلامية بدءا من الدولتين الاموية والعباسية وحتى العثمانية والصفوية، وكانت الحاجة الى رأي ديني متجدد ومتسق مع حركة التطور في هذه الدول، مما يعني أن الانعزال عن الحياة السياسية ضيّع على العلماء فرصة البحث في موضوعات عديدة ومتنوعة، وبخاصة الموضوع السياسي مما ألزمهم بمسئوليات مضاعفة وخصوصاً في مرحلة كان لابد للاسلام أن يقول فيها كلمته.

ولا شك أن التحدي كان قاسياً، نلحظه بوضوح في القراءات المتأخرة للتاريخ وللتراث الاسلاميين، وهي قراءات تتسم بالقسوة والغلظة، يثيرها رد فعل واحد يعبّر عن نفسه في الصيغة التالية:أن الكتابات الممتدة من القرن الخامس الهجري وحتى القرن الرابع عشر الهجري لم تسعف المتأخرين على تحديد النظام السياسي الاسلامي أو تعينهم على تثبيث مبدأ للسلطة في الاسلام.

ووجدنا في بدايات هذا القرن، عالمين مسلمين بارزين يعتصرهما الألم إبان مقاربتهما لمفهوم الشورى، ففي مقالة للشيخ رشيد رضا في مجلة المنار في 11 يونيو 1906 تحدث فيها عن اقتباس الشرقيين طبيعة الحكومة من الاوروبيين وقال مانصه "فأعظم فائدة استفادها أهل المشرق من الاوروبيين معرفة مايجب أن تكون عليه الحكومة واصطباع نفوسهم بها حتى اندفعوا الى استبدال الحكم المقيد بالشورى والشريعة بالحكم المطلق الموكول الى ادارة الأفراد فمنهم من نال أمله على وجه الكمال كاليابان ومنهم من بدأ بذلك كايران، ومنهم من يجاهد في سبيل ذلك بالقلم واللسان كمصر وتركيا" ثم يقول "لا تقل أيها المسلم أن هذا الحكم أصل من أصول ديننا فنحن قد استفدناه من الكتاب المبين ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الاوروبيين والوقوف على حال الغربيين، فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك بأن هذا من الاسلام ولكان أسبق الناس الى الدعوة الى اقامة هذا الركن علماء الدين من الاستانة وفي مصر ومراكش(74)".

وفي عام 1907 انتهى الشيخ محمد حسين النائيني (1273 ـ 1355هـ) من كتابة رسالته الموسومة بـ (تنبيه الامة وتنزيه الملة) وهي تعالج الاشكاليات المثارة حول نشاط حركة المشروطة في ايران، أثنى فيها على حكماء الغرب الذين اكتشفوا الصيغة المثلى للسلطة وقال ما نصه:"ولا يسعنا..الا الاعتراف بجودة استنباط أول حكيم التفت الى هذه المعاني وبنى السلطة العادلة الولايتية وكونها مسؤولة وشوروية ومشروطة على اساس الاصلين الاولين الحرية والمساواة" وأبدى أسفاً بالغاً ينطوي على تقريع لأولئك النفر المتمنعين عن الأخذ بهذا الاصل العظيم اشارة الى الشورى بمضمونها الديمقراطي ويقول ما نصه:"أما اليوم وقد حصلنا بعد اللتيا والتي على شيء من التنبه والشعور، وقمنا نأخذ مقتضيات ديننا من الاجانب مع تمام الخجل قائلين هذه بضاعتنا ردت الينا، فقد انهت الفرقة الجاهلة الخاملة عبدة الظلمة وحاملة شعبة الاستبداد الديني اعانتها للظالمين للنقطة الاخيرة والدرجة النهائية وأصبحت تعد سلبنا للظالمين صفات الذات الاحدية..منافياً للدين الاسلامي والقرآن المجيد(75)..".

وانداحت القراءات السياسية الاسلامية في الربع الاول من هذا القرن في هيئة مراجعات في اتجاهين مختلفين: قراءة تقويضية، أخذت شكل القطيعة المعرفية والتاريخية، والاخرى: قراءة تبريرية، أعادت تفسير التاريخ السياسي الاسلامي على قاعدة تبريرية.

ومن نماذج القراءة التقويضية، كتاب الشيخ علي عبد الرازق (الاسلام وأصول الحكم) الصادر عام 1923م، الذي انتهى فيها من تحليل للواقع التاريخي الخليفي والسلطاني، الى "أن الغلبة كانت دائماً عماد الخلافة.." وفي مكان آخر "أن الخلافة في الاسلام لم ترتكز الا على اساس القوة الرهيبة، وأن تلك القوة كانت الا في النادر قوة مادية مسلحة(76)". والكتاب في مجمله يتجه الى إثبات نتيجة واحدة: نفي النظام السياسي في الاسلام، أي فصل الدين عن الدولة.

أما نموذج القراءة التبريرية، فتظهر في كثير من الكتابات السياسية الاسلامية في هذا القرن، ونكتفي بكتاب (نظام الاسلام.. الحكم والدولة) للاستاذ محمد المبارك، حين عوّل كثيراً على التجربة السياسية في التاريخ الاسلامي، ولم يتصوّر شكلاً آخر للحكم غير (حكومة الامر الواقع) كما يصطلح عليه، واعتبار ذلك مورد اجماع الصحابة، والمبدأ الذي يعتمد عليها(77)، وتطورت القراءات تدريجياً لتتماهى في مجال المفاهيم السياسية الحديثة، بعد أن برزت مشكلات جديدة ذات صلة بشؤون الدولة، فلم يتوقف الامر عند حدود نشأة السلطة وشكلها وطبيعة مشروعيتها، وإنما انسحبت ـ بمرور الوقت ـ على السياسات العامة والوظائف الادارية للدولة.

وتجلّت تلك المشكلة مع اشتداد الهجمة على الاسلام في القرن التاسع عشر من قبل الغرب والنخب الحديثة، تلك الهجمة التي قامت على اساس نقد الموروث الديني وتفكيك الايديولوجيا بوصفها أهم متطلبات الانبعاث النهضوي، من خلال التشكيك في قدرة الدين على مد مظلته الى العصور المتأخرة، وافتقاره الى اجابات حاسمة على المسائل الجديدة بما يشمل الاقتصاد والسياسة والنظام الاجتماعي والتشريعات الديمقراطية والمرأة والتشكيلات السياسية والنقابية والحزبية..الخ.

وخلال هذه الفترة برزت الحاجة الى الانخراط في البحث السياسي والتنظير لموضوعة الدولة، فانبرت جماعة من العلماء والمصلحين في أرجاء البلاد الاسلامية لدفع الشبهات عن الدين، فانخرطت في الشأن العام، وهكذا أثارت حملات المقاومة مسألة البعث الديني وتجديد المفاهيم الاسلامية بما يواكب العصر الحديث، فبدأت تطرح وبقوة مسألة العلاقة مع الآخر الغربي، في أكبر احتكاك حضاري من نوعه، فظهرت الفوارق بين الفكر الديني الذي حمله العلماء المسلمين والفكر الغربي الوضعي. وبرز في وسط العلماء تياران رئيسيان:

ـ تيار سلفي أو تيار الرفض المطلق واللجوء الى الماضي والابقاء على صفاء الاسلام ونقاوته، وتحصين الدين من تأثير التيار الغربي من خلال اتباع الدين الحنيف.

ـ تيار تصالحي مع الغرب يتبنى موقفاً وسطاً بين التيار التقليدي (الرفض المطلق)، والتيار التحديثي (القبول المطلق)، فكان دعاة هذا التيار وهم الاغلبية يعتمدون منطلقاً واحداً وهو حماية الدين قبالة الهجمة الغربية، ولكن بنظرة مغايرة ترفض الركون الى التفسير التقليدي لمفاهيم الدين، وكان يدفع هذا التيار حرصه على دفع اشكالات (الجمود، والتعصب، والتحجر) عن الاسلام فحاول التوفيق بين المفاهيم الاسلامية وماجاء به الفكر الغربي، واجتهد العلماء في تقديم الاسلام في ثوب عصري وإن كان ذلك يؤدي في بعض الاحيان للوقوع في محذورات واشكالات، في ظل الهجوم السياسي والعسكري الغربي على الشرق وفي ظل علاقة الغالب والمغلوب التي سادت عملية الانتقاء والاقتباس والتوفيق من حيث اضطراب معايير الانتقاء لما يفيد العرب والمسلمين من منجزات الغرب، وشمل ـ الاضطراب ـ القدرة على التمييز بين النافع وغير النافع، وانطمست الفروق بين التجديد والتقليد، وبين النهوض والتغيير، وبين الاصلاح والاستبدال(78).

ومع تدفق فكر الوافد الغربي بسيل من الشكوك في قدرة الدين على مواكبة العصر والانسجام مع الواقع المعيش، وإثارته فكرة فصل الدين عن الدولة، بدأ العلماء ومن منطلق الممانعة، في تقديم قراءة عصرية للاسلام تفضي الى ايجاد نوع من المزاوجة بين المفاهيم الاسلامية والمفاهيم الغربية في مجال الدولة، للخروج من مأزق التحصن بالتراث وتجسير الفجوة في حركة التنظير الفقهي، وكان السيد جمال الدين الافغاني في طليعة المتصدرين للحركة من خلال دعوته الى سلطة تقوم على رضا الشعب واختياره، ثم طوّر الشيخ محمد عبده هذه الدعوة في عمليات مزاوجة واسعة النطاق بين مفاهيم اسلامية وعصرية مثل: الشورى والديمقراطية، والاجماع ورأي الاغلبية، والضريبة والزكاة وهلم جرا، كما قدّم تصورات جديدة حول المرأة(79).

وكان حرص علماء المسلمين على مقاومة الشكوك التي يروجها بعض المثقفين الليبراليين دفع بالبعض من العلماء للتسامح في ما يوردونه من أدلة لاستنباط أحكام تلتقي مع الطروحات الجديدة. وجاءت صدمة انهيار الخلافة العثمانية عام 1924م لتحدث هزة عنيفة للضمير الاسلامي، فتدافع العلماء ورجال الفكر المسلمين للمنافحة عن الاسلام، فأجروا محاولات جادة ومضنية لبعث المفاهيم الاسلامية في الحكم، وإن كان البعض يضع من مفاهيم الدولة الحديثة (الغربية) نظاماً معيارياً يقارب به مفاهيم الخلافة أو الامامة في التراث الاسلامي، بحيث أدى الى قطيعة معرفية وتاريخية، بمعنى ادراج الخلافة والامامة في اطار مفهومي حديث يتصل بالدولة الحديثة، بحيث لا نجد صورة الخلاف بين المسلمين علىالخلافة أو الامامة بعد وفاة الرسول p1.gif محتفظة بنفس عناصرها، فهناك مكوّنان رئيسيان لمفهوم الخلافة: ديني، وسياسي لا بمعنى الفصل بين المكوّنين وإنما الفصل بين الغايتين.

ويأتي أبو الاعلى المودودي في مقدمة علماء المسلمين الذين بحثوا مسألة الحكم في الاسلام على نحو اجمالي في كتابه (نظرية الاسلام السياسية) وهو عبارة عن محاضرة ألقاها المودودي في مدينة لاهور في أكتوبر عام 1939، وطرح فيها لأول مرة فكرة "الحاكمية" التي ترددت فيما بعد في كتابات الشهيد سيد قطب وأخذها عنه جملة من العلماء والمفكرين الاسلاميين الحركيين في فترات لاحقة. ينطلق المودودي في اطروحته من مبدأ أساسي للنظرية السياسية في الاسلام هي "الحاكمية لله.. له وحده وبيده التشريع وليس لأحد.. وإن كان نبياً.."، وبعد استعراضه لبعض الآيات يخلص المودودي الى الخصائص الاولية للدولة على النحو التالي:

1 ـ ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدولة نصيب من الحاكمية فإن الحاكم الحقيقي هو الله والسلطة الحقيقة مختصة بذاته تعالى وحده..

2 ـ ليس لأحد من دون الله شيء من أمر التشريع والمسلمون جميعاً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يستطيعون أن يشرعوا قانوناً ولا يقدرون أن يغيّروا شيئاً مما شرع الله لهم.

3 ـ أن الدولة الاسلامية لا يؤسس بنيانها الا على ذلك القانون المشرع الذي جاء به النبي من عند ربه مهما تغيّرت الظروف والاحوال والحكومات التي بيدها زمام هذه الدول(80).

وتأسيساً على الخصائص تلك، عالج المودودي موضوعة الديمقراطية "إن الديمقراطية عبارة عن منهاج للحكم تكون السلطة فيه للشعب جميعاً فلا تغيّر فيه للقوانين ولا تبدّل الا برأي الجمهور، ولا تسن الا حسب ماتوحي اليهم عقولهم. فلا يتغير فيه من القانون الا ما ارتضته أنفسهم وكل ما لم تسوغه عقولهم يضرب به عرض الحائط ويخرج من الدستور"، ويعلّق على ذلك "إنها ليست من الاسلام في شيء. فلا يصح اطلاق كلمة الديمقراطية على نظام الدولة الاسلامية(81)".

ولكن المودودي لم يجد ضيراً في استخدام مصطلح (الديمقراطية الاسلامية) في مجال اثبات الحريات في الاسلام، على هذا النحو:

1 ـ المجتمع الذي يكون كل عضو فيه خليفة لا يتسرب اليه فساد التفريق بين الطبقات، ولا شر الامتيازات التي تأتي من جهة الحياة الاجتماعية والفوارق النسبية، ويكون أفراد هذا المجتمع سواسية.

2 ـ لا تحول عقبات النسل أو الحرفة أو المنزلة في المجتمع بين الفرد أو جماعة من الافراد وبين مواهبهم الشخصية وتنمية سجاياهم الفردية وملكاتهم المتنوعة المستودعة في نفوسهم.

3 ـ لا يكون لرجل أو طائفة أن تستبد بالامر أو تتسنم عرش الديكتاتورية، لأن كل فروق افراد هذا المجتمع خليفة، ولا يجوز لطائفة أو فرد من أفرادها أن ينتزع حق الخلافة من جمهور المسلمين وينصب نفسه مسيطراً عليهم.

4 ـ ومن حق كل فرد في هذا المجتمع سواء كان ذكراً أو أنثى ـ إذا كان عاقلاًً بالغاً ـ أن يكون له رأي في مصير الدولة لأنه منعم عليه بنصيب من الخلافة العمومية ، ولم يخص الله تلك الخلافة بشروط خاصة من الكفاءة والقوة، بل هي مشروطة بالايمان والعمل(82).

وبناء على هذه المعطيات قبل المودودي بالديمقراطية في ظل الحاكمية الالهية "إن الاسلام قد أقرّ نيابة الشعب واستخلافه عن الله في ظل سيادته وحاكميته..ففي الاسلام حاكمية شعبية..إن ديمقراطيتنا الاسلامية هي كديمقراطية الغرب لا تتألف فيها الحكومة ولا تتغير الا بالرأي العام ولكن الفرق بيننا وبينهم أنهم يحسبون ديمقراطيتهم حرة مطلقة العنان ونحن نعتقد الخلافة الديمقراطية متقيدة بقانون الله عز وجل..فالامة نائبة عن الله وهي انتخبت حاكمها ونوابها وأهل الحل والعقد فيها بطريقة ديمقراطية على العكس من القيصرية أو البابوية أو الثيوقراطية..إننا نعارض سيادة فرد أو أفراد أو طبقة سيادة مطلقة تستأثر بالسلطة أكثر من المتحمسين للديمقراطية.. ونؤكد المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص أكثر من تأكيد أنصارها، ونحارب كل نظام يكبت الحريات فلا يبيح حرية التعبير أو التجمع أو العمل أو يضع العراقيل في سبيل بعض الافراد لاختلافهم في الجنس أو الطبقة أو أصل الولادة(83)".

وكان المودودي دخل مطلع الاربعينات في سجال فكري مع أنصار القومية الهندية والقومية المسلمة المتطرفة، وعارض بشدة فكرة اقتباس منظومة الدولة، على أساس أن الدولة "لا توجد بالطرق الصناعية فليست هي بالتي تصنع في مصنع ثم تنتقل منه وتثبت في موضع آخر، بل إنها تنشأ في المجتمع نشوءا طبيعياً لأسباب اخلاقية ونفسية وعمرانية وتاريخية وتفاعل هذه الاسباب فيما بينها، فتكون لها أمور أولية لازمة ومحركات اجتماعية ومقتضيات فطرية تتجمع وتتقوى حتى تنبعث منها الدولة انبعاثاً.."، وعاود تأكيده على مبدأ الحاكمية في الدولة الاسلامية وعدّه "الاساس الذي يقوم عليه بناؤها(84)".

وقد لقيت أفكار المودودي رواجاً واسعاً في الوسط الاسلامي والمصري منه تحديداً، حيث كان الصراع الفكري محتدماً، ومع تنامي المد الاسلامي في الثلاثينات والاربعينات اجتذب اليه عددا من أقطاب التيار العلماني، فعزز من موقف التيار التوفيقي ومنحه دفعات قوية، من هؤلاء: طه حسين ومحمد حسين هيكل، ويأتي خالد محمد خالد الذي قدّم توبة علنية في مقدمة هؤلاء، فكتب كتابه (الدولة في الاسلام) تنازل فيه عن فكرة فصل الدين عن الدولة، وأكد على تماهي الاسلام والدولة، وبدأ ينظّر لمفهوم الدولة الاسلامية، فكتب حول تماثل الشورى والديمقراطية وعرّف الشورى على النحو التالي:

"إنها الديمقراطية التي نراها اليوم في بلاد الديمقراطيات، وأركانها وعناصرها هي:

أولاً ـ الامة مصدر السلطات بما فيها السلطة التشريعية فيما لا يناهض نصاً شرعياً قطعي الدلالة.

ثانياً ـ حتمية الفصل بين السلطات فصلاً حقيقياً لا زائفاً حتى لا تطغى إحداها على الاخرى.

ثالثاً ـ الامة صاحبة الحق المطلق في اختيار رئيسها بطريقة الانتخاب الحر لا الاستفتاء.

رابعاً ـ وصاحبة الحق المطلق في اختيار ممثليها ونوابها في برلمان حر رشيد شجاع يراقب الحكومة ويقاوم اعوجاجها.

خامساً ـ حق الشعب في تعدد الاحزاب التي لا تقتصر وظيفتها فقط على تنمية الآراء القومية داخل الامة بل هي الوسيلة الوحيدة لخلق الكوادر السياسية الناضجة التي اذا وليت الامر أو تولى بعضها أن تكون على وعي ورشد.

سادساً: قيام معارضة برلمانية لها وضعها الدستوري القانوني تستطيع اسقاط الحكومة اذا هي انحرفت أو ضلت سواء السبيل.

سابعاً: حرية الصحافة..حرية كاملة.. وحرية الفكر والرأي والعقيدة(85).

وأياً كان الرأي، فقد أبدى العلماء والمفكرون الاسلاميون اهتماماً كثيفاً في بحث الدولة الاسلامية، ويمكن القول بأن الكتابات السياسية الاسلامية في هذا القرن فاقت بعشرات الأضعاف كل ما كتب منذ القرن الخامس وحتى القرن الثالث عشر الهجري، وكان من الطبيعي أن تتباين وجهات النظر وتتعارض أحياناً لطبيعة الظروف والاجتهادات زائداً غياب النموذج التاريخي والايديولوجي للدولة الاسلامية الحائز على اجماع الفقهاء أو الغالبية منهم، فعالج المتأخرون موضوعة الدولة بالنظر الى مفاهيم الدولة الحديثة بما يعد قطعاً مع التجربة التاريخية للدولة الاسلامية.

وقد أجمعت الكتابات السياسية الاسلامية الصادرة خلال هذا القرن، على أن الامة هي المصدر الوحيد لشرعية الحكم، وكما يترجم ذلك محمد يوسف موسى في كتابه (نظام الحكم في الاسلام): "إن الخليفة يستمد سلطانه أو سيادته من الامة التي يمثلها، والتي وكلته في القيام بمهام منصبه، وأن عقد الوكالة يقوم على ايجاب الاصيل وقبول الوكيل" ويخلص من ذلك للقول "فإذا وضعنا هذه الحقائق، تبين لنا أن توليه الخليفة لا يمكن شرعاً وقانوناً أن تكون بمجرد عهد الخليفة القائم لأحد من بعده، حتى لو قبل منه هذا الاخير بل لا بد من رضا الامة بهذا العهد(86)".

وكان رأي علماء الشيعة المتأخرين أن بيعة الحاكم "لا تنعقد، الا أن يحضرها عامة الناس لا أهل الحل والعقد فقط" والسبب في ذلك "بأن يقول بأن اجتماع العامة أو اجتماع الاكثرية يعطيهم رؤية حسنة، وهي ماتسمى بمحكمة الاجماع" ويعد الشيعة بيعة الناس عامة للحاكم ضماناً لعدم تزييف البيعة في حال انحصارها في أهل الحل والعقد الذين قد يتعرضون لضغوطات الحاكم أو تأثير المصالح الذاتية أو الطبقية أو الدعايات على اتجاهاتهم(87)، ويقول الفيلسوف الشيعي المعاصر السيد محمد حسين الطباطبائي أن "أمر الحكومة الاسلامية بعد النبي p1.gif وبعد غيبة الامام كما في زماننا الحاضر الى المسلمين من غير اشكال، والذين يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك، أن عليهم ـ أي المسلمين ـ تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله p1.gif وهي سنة الامامة، دون الملوكية والامبراطورية والسير فيهم بحفاظة الاحكام من غير تغيير، والتولي بالشور(هكذا) في غير الاحكام من حوادث الوقت والمحل(88)".

وأصبحت موضوعة الشورى الغائبة في التجربة السياسية التاريخية العربية والاسلامية والغائمة في بحوث الفقه السياسي الاسلامي، تستعيد مركزها بعيداً عن مجريات التاريخ وتراث الاحكام السلطانية، كما احتلت الصدارة في الابحاث الفقهية والفكرية المعاصرة، إذ بات الحديث يدور حول تموضع الشورى في نظام الحكم الاسلامي، وبدأ الفقهاء والعلماء والمفكرون حملة بحث واسعة حول الشورى وأصبح النقاش يدور حول آفاق الشورى وترددها بين الالزام وغير الالزام، ففي تفسير الشيخ محمد عبده لآية (وشاروهم في الامر) عالج موضوعة الشورى باعتبارها أصلاً عاماً في حياة الجماعة المؤمنة ووظيفة للحاكم والمحكوم "إن الشورى في الامور الشرعية الواجبة فمن رام أمراً شرعياً قضت به الشريعة وحتمته على الحاكم والمحكوم جميعاً، بحيث لو منعناه لا كتسبنا بذلك اثماً مبيناً(89)".

وعالج علماء المسلمين المعاصرين الشورى في تصنيفاتهم وأبحاثهم الفقهية والفكرية، وأفردوا لها كتباً خاصة، واذا كان العلماء اختلفوا في تقرير وجوب الشورى أو استحبابها، فإن حاصل ابحاثهم أن نظام الحكم في الاسلام:شوري.

وقد أجاد الاستاذ الشيخ راشد الغنوشي في بحث موضوع الشورى في جوانبه المختلفة التشريعية والسياسية والاقتصادية في كتابه النفيس (الحريات العامة في الدولة الاسلامية) الصادر عام 1992، حيث يلمس القارىء في بحثه القيّم تفانيه لجهة تقديم الاسلام في صورة مشرّفة، وإن كان ذلك يدفعه ـ ومن منطلق المنافحة عن الاسلام والمسلمين ـ الى تصوير مثالي للدولة في تاريخ المسلمين في أحقاب مختلفة، ففي بحثه حول الشورى ـ وهو بحث يستحق الإهتمام والدراسة ـ حاول الشيخ الاستاذ ـ ومن منطلق المنافحة أيضاً ـ أن يؤكد على تاريخانية الممارسة الشورية في المجال السياسي الاسلامي، ورغم تحفظنا على تلك التاريخانية كون الادلة المستفيضة تخبر بخلاف ذلك(90)، الا أن ذلك لا يقلل من أهمية الجهد الكبير المبذول لجبه الاشكالات المثارة حول السياسة الاسلامية.

وسنلاحظ ذات الاهمية تكتسي البحث التأصيلي الشرعي للشيخ حسين علي المنتظري لبيان الموقف الشيعي من الشورى، متجاوزاً تراث الامامة الزاخر في الكتابات الشيعية المطبقة على تعليق الدولة في عصر الغيبة انتظاراً لظهور الامام المهدي الغائب منذ عام 329هـ حيث يستدل على (صحة انعقاد الامامة بانتخاب الامة) من خلال مجموعة روايات أوردها الشيخ المنتظري في كتابه النفيس (دراسات في ولاية الفقيه)، يخلص منها الى ما نصه "يستفاد من خلال مجموع هذه الاخبار الموثوق بصدور بعضها اجمالاً كون انتخاب الامة أيضاً طريقاً عقلائياً لانعقاد الامامة والولاية، وقد أمضاه الشارع أيضاً(91)".

استخلاصات

نخلص من قراءة الفقه السلطاني الاسلامي الى أن أزمات التاريخ السياسي الاسلامي عكست نفسها في تنظيرات الفقهاء وهي صورة للواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون في المجال السياسي، وهكذا تجاوزت الغالبية من فقهاء المسلمين الذين كتبوا في الشأن السلطاني، المثال الاعلى للدولة في الاسلام، واكتفوا بالنظر في الواقع التاريخي بعد أن تبدد الأمل باصطلاح الاحوال السياسية في بلاد المسلمين. وهنا نسجل بعض الملاحظات من خلال عرضنا السابق على النحو التالي:

ـ إن أول ملاحظة تكشف عنها الكتابات السياسية الاسلامية، أن ثمة اجماعاً اسلامياً مطبقاً على حفظ النظام ـ من منظور اجتماعي وليس سياسيا ـ،إذ اتفق المسلمون على اختلاف مدارسهم الفقهية والعقدية على أن "حفظ النظام من أوجب الواجبات، والهرج والمرج واختلال امور المسلمين من أبغض الاشياء لله تعالى، ولا يتم حفظ النظام الا بالحكومة(92)" استناداً على طائفة من الروايات الصحيحة عن النبي p1.gif المبثوثه في كتب فرق المسلمين، حتى بات علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين يضعون من هذا المبدأ السياسي الاسلامي أصلاً في الاجتماع السياسي الاسلامي، فقد كبح الشهيد الشيخ حسن البنا في عقد الاربعينات من هذا القرن جموح الجماهير الملتّفة حول جماعة الاخوان المسلمين ورغبتها في الثورة، بغية تجنب الفتنة(93)"، كما ورد في كتاب (لماذ اغتيل الامام الشهيد ص73)ما نصه:" أن الاخوان العائدين من حرب فلسطين وقد رأوا مخطط الملك في ابادة الاخوان بدأ تنفيذه استأذنوا الامام البنا في ردع الملك، فقال رحمه الله "أتريد أن تشعلها حرباً أهلية كالتي وجدت في اليونان..إنما نصبر ونحتسب ونحقن الدماء". ومما يروى عن الشيخ محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين 1920م في العراق أنه تمنّع ـ في بداية الامر ـ عن اصدار فتوى للشعب العراقي بالثورة، ودخل في جدال عريض مع زعماء العشائر الشيعية وقال "أخشى أن يختل النظام ويُفقد الامن. وإن الامن أهم من الثورة وأوجب منها"، وحين طمأنه زعماء العشائر وتعهدوا له بحفظ الامن أصدر فتواه الشهيرة في 23 يناير 1919 (ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب أو يختار غير المسلم للامارة والسلطنة على المسلمين)(94).

ولكن خلف الاجماع الاسلامي الصلب على وجوب حفظ النظام تقبع اشكالية جوهرية تتجاوز موضوع حفظ النظام وطاعة الامير، وتحدق في النتائج التي أسفرت عنه في واقع البحث والتأصيل الشرعي لنظام الحكم في الاسلام، فكثافة الاحكام القاضية بتحريم الخروج أدت الى مصادرة الحديث عن أي شكل للسلطة، لأن التحريم يفتح الباب واسعاً أمام أي طريقة للحكم وأي شكل للسلطة.

ومصدر الخطر في ذلك اندفاع الفقهاء للاستناد على الاحاديث الناهرة عن العصيان السياسي لتبرير تجاوزات السلطة. فقد تأوّلت طائفة كبيرة من الفقهاء تلك الاحاديث للخروج من مأزق المسئولية الشرعية وضمان السلامة في الدين والدنيا، فاعتزلوا ميدان السياسة ونبذوا البحث في شؤون الدولة، وفضلوا السكوت على جور الحكام، والتزام الصمت حيال المظالم السياسية والاجتماعية خشية السقوط في الفتنة التي حذّرت منها الاحاديث، فيما قرر قسم من العلماء والفقهاء ـ استناداً على تلك الاحاديث ـ مخالطة السلطان ومعونته ودعوة الناس الى طاعته والتحذير من الخروج عليه، وكان للاستبداد السياسي دور كبير في تعزيز نمط التفسيرات الحرفية تلك.

لقد كان الخوف من الوقوع في الفتنة مبرر تحريم الخروج ولكنه حقق أكبر انتصار للسلطة على العلماء، فتراجع كثير من الاحاديث الداعية الى مقاومة الظلم حتى في حدوده الدنيا "افضل كلمة حق عند سلطان جائر"، ولذلك شرعنّ الفقهاء التعايش مع السلطات الظالمة لاجتناب الفتنة ليتحول فيما بعد الى مبدأ فقهي/سلطاني عام يملي حكماً بالطاعة لكل سلطان جائر حتى وإن توفرت الظروف والامكانيات لاستبدالة(95).

وباستناء قلة نادرة من العلماء، وضعت خيار الثورة على الجائر في حال طغيانه وامكانية الاطاحة به واستبداله (القاضي عبد الجبار، الشريف المرتضى..)، الا أن الغالبية استعاضت عن الثورة باستعمال أقصى الاساليب الوعظية عبر دعوة السلاطين والامراء للورع والخشية من الله سبحانه وتعالى والتحذير من العقاب الأخروي، ولهذا السبب أكدوا على لزوم التناصح بين العلماء والامراء للحيلولة دون تسرب الفساد لمؤسسة الحكم والحد من طغيان السلطان.

ولعل من أفدح الخسارات أن الفقهاء الذين سلّموا للسلطة أياً كانت لم يعطّلوا امكانية مساءلة السلطة عن اعمالها فحسب، بل عطّلوا امكانية نشوء فكر سياسي وتقاليد سياسية، ويقرر د. محمد جابر الانصاري بما نصه:"فإن غلبة سلطة الأمر الواقع من دون اعتبار للضوابط المبدئية التي وضعها الاسلام للسياسة، قد حالت دون نمو الفكر السياسي الاجتهادي في النظرية والتطبيق خصوصاً "فالسلطان هو من قتل السلطان" كما أصبح العرف في السياسة المملوكية التي آل اليها مصير العرب السياسي بلا بيعة أو مشاورة(96)".

ولعل من المصادفات التاريخية المثيرة للاستغراب، أن المسلمين ـ والفقهاء بدرجة أساس ـ كانوا طيلة التاريخ السلطاني الاسلامي أمام خيارين: إما التسليم بسلطة مستبدة، شمولية، مركزية، أو الانفلات والفتنة، وكأنما التاريخ استجاب لفحوى النص القائل "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"، فاستجابت الجماعة لتوجيه النص، وقبلت التسليم للسلطان الجائر، واذا ما تصاهر الشرع والحكم فإن طاعة الحاكم الجائر تصبح واجبة، تبعاً لالتحام: الشرع والسلطان والجماعة، إذ الاتفاق قائم بين جميع المسلمين على أن تطبيق الشريعة مقترن بوجود السلطة ووحدتها، كما أن الاتفاق قائم على اقتران وحدة الجماعة بوحدة السلطة، ولا شك تبعاً لذلك أن انهيار السلطة مصوّب للدين نفسه، كما أن تهديدها أو الخروج عليها يعتبر تهديداً للدين والخروج عليه.

وطالما التصق مصير الدين بمصير السلطة، فإن العلماء تجاوزوا عن أي شكل للسلطة، وأصبح للسلطان الحرية الكاملة في ممارسة سلطته كيفماء شاء، طالما بقيت ـ أي سلطته ـ خارج دائرة المحاسبة والمراقبة فهي مصانة ومحمية بطريقة غير مباشرة من الدين الذي يرى العلماء بقاءه في بقاء السلطة.

ـ أوقع نمط التفسيرات الحرفية للنص، علماء المسلمين في ثنائية مربكة ومعوّقة: فبينما وقع علماء السنة في حصار بين الخروج وحفظ النظام، وقع علماء الشيعة في حصار بين: حفظ النظام والخروج (كل راية تخرج قبل راية الامام المهدي فهي راية ضلال) وتالياً اعتبار اقامة الدولة في عصر الغيبة مصادرة لحق الامام المعصوم.ولذلك تعطّلت امكانية فكرة الدولة الشرعية لعطالة فكرة المقاومة.

ـ مما يثير الانتباه ويبعث على الاسى، أن أعلام المذاهب الاسلامية وهم في حالة سعي حثيث لسبر غور المسائل الشرعية غير المحلولة في زمانهم، والتي انصرفوا لاشباعها بحثاً وتحقيقاً ظهر في تراث فقهي ضخم وثري، وجدنا في المقابل أن ملكات ابداعهم تقصر عن تقديم فقه سياسي متطور، إذ ظلت ـ ومازالت ـ المفردات الكبرى في السياسة الاسلامية مثل:البيعة، الشورى، الخلافة ـ الامامة، أهل الحل والعقد، دار الاسلام ودار الحرب، غير محسومة وفي بعض الاحيان يلفّها الغموض حتى بات المتأخرون ينخرطون بكثافة للتعويض عن الجهد غير المبذول من جانب العلماء المتقدمين في هذا المجال، سعياً الى تأصيل هذه المفاهيم شرعياً، مع ما تثيره الابحاث المتأخرة من تباينات حادة في جهات الرؤية، بالنظر الى الانشعاب العظيم الذي جرى في المجال السياسي الاسلامي في وقت مبكر ثم انسيابه في صراعات على السلطة، وحروب اهلية تشعلها وقود الاطماع السياسية، حتى بات الجميع ينشد يوتيبا الامامة ـ الخلافة التي لم تتجاوز كونها مؤسسة تاريخية رمزية غير سارية المفعول وغير ممتدة في حركة تاريخ جماعة المسلمين، فيما صار خيار التعايش والتنظير لسلطة الوقت القائمة على القهر والغلبة خياراً نهائياً وكافياً بحسب فحاوى الاحكام السلطانية.

فما غاب في التاريخ السياسي الاسلامي، غاب ايضاً في الفقه السياسي الاسلامي، فغياب الشورى والبيعة وأهل الحل والعقد وغيرها من آليات للمشاركة السياسية وعدم تمؤسسها في الحياة السياسية الاسلامية، قابله أيضاً غياب هذه المفاهيم في التنظير الفقهي الاسلامي، بحيث لم يعد بالامكان قراءة هذه المفاهيم الا من خلال المدرسة السياسية الحديثة، بعد أن أعيت المتأخرون الحيلة في العثور على مفاهيم سياسية اسلامية متطور قادرة على مضاهاة نظيرها الغربي.

ـ إن الدولة التي قامت في التاريخ العربي والاسلامي صادرت خصوصيات الامة ومميزاتها واستحقاقاتها ولم تتحول الى دولة/الامة وانما دولة الاسرة، السلالة، الفرد..بمعنى آخر أن الدولة في التاريخ العربي الاسلامي لم تعبر عن الامة تعبيراً جزئياً أو كلياً ولم تعبر عن ارادة الامة وهويتها لغياب دورها، وهذا مانظّر له الفقهاء وشرّعوا له. وعلى هذا الاساس، فإن الدول الاسلامية التاريخية بطابعها التجريبي ـ حسب د. الانصاري ـ مرتهنة للظرف التاريخي الذي نشأت فيه كل دولة، من حيث اعتمادها طريقة محددة في الحكم، بحيث لا يمكن قراءة النظام السياسي الاسلامي من خلال سيرة الدول الاسلامية التاريخية، التي قد لا تعبّر بصورة جزئية أو كلية عن المضمون الحقيقي والدقيق للحكم الاسلامي، كما أن الكتابات السلطانية الاسلامية التي ظهرت في تاريخ الدويلات الصغيرة في ديار المسلمين تبقى أسيرة الظرف التاريخي الاستثنائي أيضاً، بما يجعل قراءتها محبوسة ضمن ذلك الظرف التاريخي الذي تنقطع معه بتبدّل ذلك الظرف، إذ لا نتعامل هنا مع مراكمة سياسية نظرية أوعملية وإنما مع تجارب تاريخية مقطوعة السياق، ما تلبث أن تطويها تجربة جديدة، ويذويها فكر جديدة ناشيء عن تلك التجربة، وهكذا تتواصل التجارب والافكار وتتواصل الانقطاعات، وحينئذ لابد من عملية فصل بين الثابت والمتحول في المجال السياسي الاسلامي.

ـ لقد تأول علماء المسلمين المتأخرين حوادث التاريخ الاسلامي بما يدافعون به عن الاسلام قبالة هجمات التيارات العلمانية اليمينية واليسارية، وتطلبت تلك المدافعة تكييف تاريخ المسلمين مع روح العصر ووفق التصورات الجديدة، على أن العلماء مازالوا يشعرون بالحرج في الخروج من إسار التاريخ فضلاً عن نقده وتقويمه، وهكذا يتحول التاريخ الى (عقيدة) يدين بها الفقهاء والمفكرون الاسلاميون للاستدلال به واعتباره مصدراً من مصادر الشرعية يصل احياناً الى مستوى الكتاب والسنة، رغم ما تتطلبه النهضة الاسلامية من اعادة وعي التاريخ عبر قراءات نقدية تقويمية وجريئة تجريدية.

--------------------------------------------------------------------------------

الهوامش :

1- الاجتهاد، العدد الثاني، السنة الثالثة صيف 1991/1412هـ بحث: إروين روزنتال ـ دور الدولة في الاسلام، ص 61

2- د.محمد جلال ابو الفتوح شرف و د.علي عبد المعطي محمد ـ الفكر السياسي في الاسلام، دار المعرفة الجامعية ـ الاسكندرية 1987 ص 125

3- الجاحظ ـ كتاب التاج..في اخلاق الملوك، دار صعب ، بيروت تموز/يوليو 1970 ص 31

4- المصدر السابق ص 10

5- شرف ، ومحمد ـ الفكر السياسي في الاسلام، مصدر سابق ص 208 عن هارون خان شيرواني ـ دراسات في الفكر والنظام السياسي في الاسلام ، باللغة الانجليزية ص 47

6- المصدر السابق ص 218 عن ابي ابي الربيع ـ سلوك المالك في تدبير الممالك ص 99

7ـ لمزيد من التفصيل انظر: ابو الاعلى المودودي ـ الخلافة والملك، تعريب أحمد ادريس، دار القلم ـ الكويت، الطبعة الاولى 1389 ـ 1978 البابين الرابع والخامس من الكتاب.

8- للتفصيل حول كتب الامامة أنظر: ابي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي ـ الفهرست، مؤسسة الوفاء بيروت الطبعة الثالثة 1983 وأنظر ايضاً: ابن النديم ـ الفهرست، مطبعة دانشكاه طهران ـ ايران (د.ت)

9- ابن حزم الاندلسي ـ الفصل في الملل والاهواء والنحل، الجزء الاول ص 87 دار التعارف للمطبوعات بيروت ـ لبنان 1983

10- ـ عبد الرحمن بن أحمد الايجي ـ الموافق في علم الكلام، مكتبة المتنبي، القاهرة د.ت ص 395

11- مجموعة الرسائل منشورات مكتبة اية الله العظمى المرعشي النجفي ، قم ـ ايران 1404هـ رسالة كشف الفوائد للعلامة الحلي (بدون ترقيم)

12- ابو الفتح الشهرستاني ـ الملل والنحل، على هامش الفصل في الملل والاهواء والنحل لابن حزم، مكتبة السلام العالمية، القاهرة الجزء الاول ص 25 وأنظر ايضاً: ابو الحسن الاشعري ـ مقالات الاسلاميين، مكتبة النهضة ـ القاهرة، 1969 الجزء الاول ص 34

13 - حول مصنفات الشيعة في الامامة أنظر: الشيخ محمد بن الحسن الطوسي ـ الفهرست، مؤسسة الوفاء بيروت الطبعة الثالثة 1983 ـ 1964

14- العلامة الشيخ عبد الحميد الكتّاني ـ نظام الحكومة النبوية المسمى بالتراتيب الادارية، دار الكتاب اللبناني ـ بيروت (د.ت) الجزء الاول ص 3

15- ابو الحسن الاشعري ـ الابانة في اصول الديانة ،، تقديم وتحقيق وتعليق د.فوقية حسين محمود، توزيع دار الانصار ـ مصر الطبعة الاولى 1977م ، ص 251 ومابعدها من الجزء الثاني

16- الدكتور حسين فوزي النجار ـ الاسلام والسياسة، دار الشعب ـ القاهرة 1977 ص 205

17- محمد عابد الجابري ـ تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت الطبعة السادسة أيار/مايو 1994 ص 111 وأنظر ايضاً للمؤلف نفسه: بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت الطبعة الرابعة تشرين الاول/اكتوبر 1992ص 318

18- ابن رشد ـ فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، تقديم د.ابو عمران الشيخ والاستاذ أحمد جلول البدوي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ـ الجزائر (د.ت) ص 12

19- محسن الامين العاملي ـ اعيان الشيعة، حققه وأخرجه حسن الامين، دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت 1983 المجلد التاسع ص 329 عن ملا صدرا الشيرازي ـ رسالة المبدأ والميعاد ص 278

20- أبي نصر الفارابي ـ آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، قدّم له وعلق عليه وشرحه الدكتور علي بو ملحم، دار مكتبة الهلال ـ بيروت الطبعة الاولى 1995 ص 112، 113

21- الفارابي ـ السياسات المدنية ص 48عن د. محمد جلال ابو الفتوح شرف و د. علي عبد المعطي محمد ـ الفكر السياسي في الاسلام، دار المعرفة الجامعية ـ الاسكندرية 1987

22- الفارابي ـ آراء في أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، مصدر سابق ص 118

23- جمهورية افلاطون ـ الكتاب السادس، ترجمة حنا خباز

24- ابن سينا ـ الشفاء (الالهيات)، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم ـ ايران 1404هـ ص 451 ـ 452

25- المصدر السابق ص 452

26- المصدر السابق ص 452

27- المصدر السابق ص 455

28- المصدر السابق ص 454

29- الاجتهاد العدد الثاني عشر، السنة الثالثة صيف 1991/1412 إي.روزنتال، ص 54

30- رسائل الشريف المرتضى ـ اعداد السيد مهدي رجائي، دار القرآن الكريم، قم ـ ايران 1405هـ ـ 1985 المجموعة الثانية ص 294

31- ـ الابانة في أصول الديانة ـ طبعة 1985 بيروت ص 23

32- ـ رشيد رضا ـ الخلافة والامامة ـ ص 299

33- أبو جعفر الطوسي ـ تلخيص الشافي جـ1 ق 2 ص 158، تحقيق السيد حسين بحر العلوم طبعة النجف الاشرف ـ العراق سنة 1383 ـ 1384هـ

34- جاء في مقدمة (الاحكام السلطانية):"ولما كانت الاحكام السلطانية بولاة الامور أحق ، وكان امتزاجها بجميع الاحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتاباً امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته.."، اشارة الى أن الكتاب تم بناء على طلب من الخليفة.

35- كوثراني ـ الفقيه والسلطان، مصدر سابق ص 43

36- الماوردي ـ الاحكام السلطانية، مصدر سابق ص 33 ـ 34

37- أبو الحسن الماوردي ـ قوانين الوزارة وسياسة الملك، تحقيق ودراسة الدكتور رضوان السيد، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت الطبعة الاولى مارس 1979 ص8

38- الاحكام السلطانية والولايات الدينية ـ ص ص 6، 10، أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي الماوردي، دار الكتب العلمية ـ بيروت ، لبنان ط1982

39- ـ المصدر السابق ص 15 ـ 16

40- ـابي يعلى الفراء ـ الاحكام السلطانية، مصدر سابق ص 25

41- ـ القاضي عبد الجبار المعتزلي ـ المغني الجزء الثاني القسم الثاني ص 6

42- الاجتهاد ـ العدد الثاني عشر ص 56

43- الشهب اللامعة في السياسة النافعة ـ لأبي الحسن القاسم بن رضوان المالقي، تحقيق الدكتور علي سامي النشار، دار الثقافة ، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الاولى 1984 ص 59 ـ 60

44- ابو الحسن على بن محمد بن حبيب البصري الماوردي ـ ادب الدنيا والدين، حققه وشرح غوامضه عبد الله أحمد أبو زينة، الجزء الثاني مؤسسة دار الشعب للصحافة والطباعة والنشر، القاهرة 1979 ص ص 246، 247

45- القاضي أبي يعلى محمد بن الحسن الفراء الحنبلي ـ الاحكام السلطانية، صحّحه وعلّق عليه المرحوم محمد حامد الفقي ، دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان 1983 ص 19

46- ـ محمد المبارك ـ نظام الاسلام الحكم والدولة ص 83 مصدر سابق

47- المصدر السابق

48- العلامة عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ـ مقدمة ابن خلدون، الجزء الثاني، دار نهضة مصر للطبع والنشر، الطبعة الثالثة (د.ت) ص 581

49- أبو بكر الجزائري ـ الدولة الاسلامية، مكتبة الكليّات الازهرية ـ القاهرة ـ الازهر (د.ت) ص 34

50- ـ ابي يعلي الفراء الحنبلي ـ الاحكام السلطانية، مصدر سابق ص 19

51- ابي عبد الله بن الازرق ـ بدائع السلك في طبائع الملك، تحقيق وتعليق الدكتور علي سامي النشار، منشورات وزارة الاعلام، الجمهورية العراقية، سلسلة كتب التراث (45) 1977 ج1 ص 75 وابن خلدون ـ المقدمة الجزء الثاني ص 694 ـ 695

52- مقال (ابن خلدون وجدلية العصبية والفكرة في نشوء الدولة السلطانية) د. وجيه كوثراني، والمقال جزء من بحث مقدم لندوة التعددية التي نظمها المعهد العالمي للفكر الاسلامي ـ المستقلة عدد 29 السنة الثانية 13 جمادى الاول 1414هـ ـ 17 اكتوبر 1994

53- محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ـ الاعمال الكاملة، مطبعة المنار بمصر، 1344، ج 2 ص 391.

54- عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ـ مقدمة ابن خلدون، حققها وضبط كلماتها وشرحها وعلق عليها وعمل فهارسها الدكتور علي عبد الواحد وافي، الجزء الثاني الطبعة الثالثة دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة ـ القاهرة 1401هـ ص ص 489، 499

55- تحفة الوزراء ـ كتاب منسوب الى ابي منصور عبد الملك بن محمد بن اسماعيل الثعالبي ـ تحقيق حبيب على الراوي ود. ابتسام مرهون الصفار ـ مطبعة العاني ـ بغداد 1977 وزارة الاوقاف ـ الجمهورية العراقية ص 38

56- ـ كتاب السياسة أو الاشارة في تدبير الامارة ـ لأبي بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرمي، تحقيق الدكتور سامي النشار، دار الثقافة ، الدار البيضاء ـ المغرب الطبعة الاولى 1981 ص 53 ـ 55

57- سراج الملوك ـ محمد بن الوليد الطرطوشي، تحقيق جعفر البياني، دار رياض الريس للكتب والنشر الطبعة الاولى آب/أغسطس 1990 ص ص 52،165،166، 243

58- الامام ابو حامد الغزالي ـإحياء علوم الدين، دار المعرفة بيروت ـ لبنان(د.ت) الجزء الثاني ص 142 وما بعدها

59- ابو حامد الغزالي ـ أيها الولد، بيروت (د.ن) 1959 ص 45 ـ 59 نقلاً عن مجمد جابر الانصاري ـ تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، الطبعة الاولى أيار/مايو 1994ص 18

60- ابو حامد الغزالى ـ إحياء علوم الدين ، مصدر سابق الجزء الثاني ص 140

61- الامام أبو حامد محمد بن محمد العزالي ـ التبر المسبوك في نصيحة الملوك ، دراسة وتحقيق الدكتور محمد أحمد دمج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، المركز الاسلامي للبحوث ـ بيروت الطبعة الاولى 1987 ص 72

62- الاقتصاد في الاعتقاد ـ أبو حامد الغزالي، المطبعة الادبية بمصر الطبعة الاولى ، اعتنى بتصحيحه مصطفى القباني الدمشقي (د.ت) ص ص 105، 106 ـ 107

63- ابو حامد الغزالي ـ فضائح الباطنية، حققه وقدّم له عبد الرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت ـ حولي (د.ت) ص 181 ـ 182

64- نقلاً عن جب هاملتون ـ دراسات في حضارة الاسلام (مترجم) ص 188 بيروت 1964

65- ابن تيمية ـ منهاج السنة النبوية، تحقيقد. محمد رشاد سالم، مكتبة دار العروبة 1962 مطبعة المدني الجزء الاول ص 366

66- وجيه كوثراني ـ الفقيه والسلطان، دار الراشد بيروت ص 36

67- انظر: ابن تيمية ـ منهاج السنة، مصدر سابق الجزء الاول ص 365 وما بعدها

68- تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني ـ الحسبة في الاسلام، دار الارقم ـ الكويت (د.ت) ص 9 ـ 10

69- ابن الطقطقي ـ الفخري في الآداب السلطانية والدول الاسلامية ، دار بيروت للطباعة والنشر 1400 ـ 1990 ص 17

70-محمد حسين كاشف الغطاء ـ الدين والاسلام أو الدعوة الاسلامية، دار المعرفة بيروت (د.ت) الجزء الاول ص 116

71- ـ منهاج السنة ج2 ص 78

72- ـ أبو يعلي الفراء الحنبلي ـ الاحكام السلطانية ص 5و7

73- ابن القيم الجوزية ـ الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، دار المدني للطباعة والنشر ـ جدة، مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر 1985 ص ص 14، 16

74- ـ رشيد رضا ـ مختارات سياسية من مجلة المنار، تقديم ودراسة وجيه الكوثراني ، دا

الجهل أصل كل بلاء ، ومنبع كل نقيصة

رابط هذا التعليق
شارك

[b:post_uid0]إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة

ابن تيمية

بسم الله الرحمن الرحيم .. إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا .. صدق الله العظيم ( النساء – 145 )
رابط هذا التعليق
شارك

  • بعد 4 أسابيع...

نقل للثقافة بمعرفتى ..

بسم الله الرحمن الرحيم .. إن المنافقين فى الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا .. صدق الله العظيم ( النساء – 145 )
رابط هذا التعليق
شارك

بلغ عدد قراء هذا المقال واحد وستون

حتى الان

علامة جيدة

!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

الجهل أصل كل بلاء ، ومنبع كل نقيصة

رابط هذا التعليق
شارك

  • بعد 2 شهور...

مقال هام جدا و يجب ان يقرأه كل مسلم

فهو يعطي للقارئ البعد التاريخي للحكم في الاسلام، و تعامل الفقهاء معه على مختلف العصور

و في هذا المقال الرد على النقيضين

- ففي الجانب اللاديني، يرد على من قال ان الدين يقصى من الحكم بالكامل

- و في الجانب الديني المتشدد يرد على من قال ان الديمقراطية و الانتخابات ليس لها في الاسلام مكان

الشعب اراد الحياة و القيد انكسر

رابط هذا التعليق
شارك

المقال يمثل إضافة جيدة للمنتدى .. وأعتقد أن هذا هو بيت القصيد ونهاية للجدل الطويل الذى ثار حول الموضوع ..

ويأتي خالد محمد خالد الذي قدّم توبة علنية في مقدمة هؤلاء، فكتب كتابه (الدولة في الاسلام) تنازل فيه عن فكرة فصل الدين عن الدولة، وأكد على تماهي الاسلام والدولة، وبدأ ينظّر لمفهوم الدولة الاسلامية، فكتب حول تماثل الشورى والديمقراطية وعرّف الشورى على النحو التالي: 

"إنها الديمقراطية التي نراها اليوم في بلاد الديمقراطيات، وأركانها وعناصرها هي: 

أولاً ـ الامة مصدر السلطات بما فيها السلطة التشريعية فيما لا يناهض نصاً شرعياً قطعي الدلالة. 

ثانياً ـ حتمية الفصل بين السلطات فصلاً حقيقياً لا زائفاً حتى لا تطغى إحداها على الاخرى. 

ثالثاً ـ الامة صاحبة الحق المطلق في اختيار رئيسها بطريقة الانتخاب الحر لا الاستفتاء. 

رابعاً ـ وصاحبة الحق المطلق في اختيار ممثليها ونوابها في برلمان حر رشيد شجاع يراقب الحكومة ويقاوم اعوجاجها. 

خامساً ـ حق الشعب في تعدد الاحزاب التي لا تقتصر وظيفتها فقط على تنمية الآراء القومية داخل الامة بل هي الوسيلة الوحيدة لخلق الكوادر السياسية الناضجة التي اذا وليت الامر أو تولى بعضها أن تكون على وعي ورشد. 

سادساً: قيام معارضة برلمانية لها وضعها الدستوري القانوني تستطيع اسقاط الحكومة اذا هي انحرفت أو ضلت سواء السبيل. 

سابعاً: حرية الصحافة..حرية كاملة.. وحرية الفكر والرأي والعقيدة(85). 

عزيمة فرد واحد يمكن أن تحدث فرقاً .. وتصنع التغيير

رابط هذا التعليق
شارك

  • بعد 1 شهر...

كنت طبعت البحث في ذلك الوقت .. و لا امل من ان القي نظرة عليه من وقت للاخر .. لو ان هناك سبب حقيق لمشاركتي في المنتدي هو وجود تلك النوعية من المداخلات الراقية و المتميزة

الرئيس مسئول عن كل ما تعاني منه مصر الأن

لا

رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم

الاخوة الكرام

جزاكم الله خيرا

البحث أو المقال دسم جدا ويستعرض تاريخ قضايا في منتهى الأهمية

أما ما أعجبني فيه أولا أنه مؤيد بالمراجع تقريبا في كل ما ذكر وثانيا أنه لا يحاول جذب القارئ إلى اتجاه معين ولكن يستعرض جميع الاتجاهات بموضوعية

شخصي المتواضع ليس له علاقة تخصصية لا بالتاريخ الاسلامي ولا بالفلسفة الاسلامية

فأنا أعمل في مجال الكومبيوتر ، يعني مجرد قارئ!!

الاستاذ أبو حلاوة

أليك المداخلى التالية

وهي ليست تلخيص للمقال ، ولكن سرد لرؤس ا لموضوعات

الجهل أصل كل بلاء ، ومنبع كل نقيصة

رابط هذا التعليق
شارك

المقدمة

تتناول عرضا سريعا لاهم الكتابات السياسية الاولى في التاريخ الاسلامي منذ عهد الفتنة وحتى منتصف العهد العباسي

معظمها مترجمة عن اليونانية أو الفارسية بتصرف

الموضوع الاول

الامامة

موقف الفرق الاسلامية المختلفة من قضية الامامة (وجود أمام ووجوب اتباعة) والخلافات بينها في حكم هذا الوجوب

)

(واختلفت الفرق في طبيعة هذا الوجوب، وحسب تلخيص عضد الدين الايجي (ت 756هـ): "نصب الامام عندنا (أهل السنة) واجب علينا سمعاً، وقالت المعتزلة والزيدية بل عقلاً، وقال الجاحظ بل عقلاً وسمعاً، وقالت الامامية والاسماعيلية بل على الله، الا أن الامامية أوجبوه لحفظ قوانين الشرع والاسماعيلية ليكون معروفاً لله، وقالت الخوارج لا يجب أصلا(10)".

الموضوع الثاني

الفلسفة والسياسة

يتناول ترجمة فلاسفة المسلمين واستيعابهم للفلسفات اليونانية

وأرارءهم في كيفية الحكم وصفات الحكام والمحكومين

(الفاراربي ، ابن سينا ، ابن طفيل ، ابن رشد ،)

الموضوع الثالث

أصالةالنظام

ويبحث في مسألة وحدة الدولة كمنفعة في وجود حاكم ظالم

ومسألة الطاعة ويستعرض أراء كل من

رأي الشريف المرتضى والاشعري والامام احمد بن حنبل ومحمد بن الحسن الطوسي

الموضوع الرابع

قراءة في الفكر السياسي الاسلامي

ويشمل الكتب والابحاث التي ظهرت في العصر العباسي الثاني حول تسيير شئون الدولة وشرعية الحكم

وأهمها كتابات الماوردي مثل الاحكام السلطانية

وكتاب أخربنفس الاسم (الاحكام السلطانية) لأبي يعلى الفراء الحنبلي

وأيضا يركز على احكام امارة الاستيلاء في فك المتقدمين ومنهم

الفقيه الاندلسي أبو بكر الطرطوشي (ت 520هـ)و عبد الرحمن بن عبد الله

ثم يقارن أراء هؤلاء باراء الغزالي وابن تيمية وابن القيم الجوزية

الموضوع الخامس

الوعي العصري للسياسة الاسلامية

يتناول الفكر السياسي المعاصر (القرن العشرين)في مصر والمغرب

ويقسم القراءات التاريخية للسياسة الاسلامية إلى نجين

قراءة تقويضية، أخذت شكل القطيعة المعرفية والتاريخية، والاخرى: قراءة تبريرية، أعادت تفسير التاريخ السياسي الاسلامي على قاعدة تبريرية.

ومن الاولى يأتي بمثال الاسلام واصول الحكم لعلي عبد الرازق

ومن الثانية يأتي (نظام الاسلام.. الحكم والدولة) للاستاذ محمد المبارك

ثم يتحدث عن الهجمة الثقافية الاستعمارية على الاسلام وظهور التيارين السلفي والتصالحي

ويستعرض أفكار أبو الاعلى المودودي والشيخ راشد الغنوشي والشيخ رشيد رضا

ثم تصل المقالة إلى نهايتها في قسم الاستخلاصات وهوحقا جدير بالقراءة

ثم المراجع

ولكم التحية

واحد مصري

الجهل أصل كل بلاء ، ومنبع كل نقيصة

رابط هذا التعليق
شارك

استكمالا للموضوع

هذه مقالة تدرس علاقة الفكر الاسلامي المعاصر بالديمقراطية، و فيها نقل كلام راشد الغنوشي و يوسف القرضاوي

الديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر 

الدكتور عزام التميمي

معهد الفكر السياسي الاسلامي

http://www.ii-pt.com/web/arabic%20papers/a...ldemocratia.htm

لقد شغلت قضية الديمقراطية المفكرين السياسيين في العالم العربي منذ فجر النهضة العربية المعاصرة، أي منذ ما يقرب من قرنين من الزمان. وقد تغير مفهوم الديمقراطية وتعدل منذ ذلك الوقت تحت تأثير مجموعة متنوعة من التطورات الاجتماعية والسياسية.[ii] ولعل أول من أثار حوارا حول الفكرة الديمقراطية في العالم العربي هو الشيخ رفاعة الطهطاوي، الذي كان لويس عوض يطلق عليه لقب أبو الديمقراطية المصرية.[iii] وكان الطهطاوي (1801-1873) بعد تخرجه من الأزهر قد أرسل إلى فرنسا إماما مرافقا لفرقة عسكرية ابتعثها محمد علي إلى هناك للتعلم والتدريب، فأحسن استغلال وجوده بالإقبال على تعلم العلوم الغربية بحماسة منقطعة النظير، فأتقن اللغة الفرنسية ودرس الفلسفة اليونانية والجغرافيا والمنطق، وقرأ مؤلفات رواد الفكر الفرنسي مثل فولتير وروسو. وما أن عاد إلى القاهرة حتى ألف في عام 1834 كتاباً بعنوان "تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز" دو ن فيه مشاهداته حول عادات ومسالك أهل فرنسا،[iv] وكال المديح للنظام الديمقراطي الذي نشأ فيها ووصف مشاعره تجاه انتفاض الأمة الفرنسية للدفاع عن الديمقراطية من خلال ثورة 01830 ضد الملك تشارل العاشر.[v] وحرص الطهطاوي على إثبات أن النظام الديمقراطي الذي كان شهده في فرنسا ينسجم انسجاما تاما مع تعاليم الإسلامي ومبادئه.

ومن الأعلام الذين كان لهم السبق في هذا المجال خير الدين التونسي، رائد حركة الإصلاح التونسية في القرن التاسع عشر، والذي كان عام 1827 قد وضع خطة شاملة للإصلاح ضمنها كتابه "أقوم المسالك في تقويم الممالك". وبينما توجه خير الدين التونسي من خلال كتابه إلي سياسيي وعلماء عصره حاثاً إياهم على انتهاج كل السبل الممكنة من أجل تحسين أوضاع الأمة والارتقاء بها، فقد حذر من مغبة رفض تجارب الأمم الأخرى انطلاقاً من الظن الخاطئ بأنه ينبغي نبذ كل الكتابات أو الاختراعات أو التجارب أو التصرفات الناشئة عن غير المسلمين. وطالب التونسي بإنهاء الحكم المطلق المضطهد للشعوب والمدمر للحضارات.[vi] وسعياً منه لإنفاذ خطته الإصلاحية، أنشأ خير الدين التونسي المدرسة الصادقية لتعليم الفنون والعلوم الحديثة ضمن إطار القيم الإسلامية. وقد جاء في إعلان تأسيس المدرسة أن الهدف منها هو تدريس القرآن والكتابة والمعارف المفيدة، أي العلوم الشرعية واللغات الأجنبية والعلوم العقلانية التي قد يستفيد منها المسلمون شريطة ألا تكون مناقضة للعقيدة. وجاء فيه أيضا إنه يتوجب على الأساتذة أن ينموا في الطلاب حب العقيدة عبر إبراز محاسنها وتميزها، وعبر إخبارهم بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم والمعجزات التي تحققت على يديه، وتذكيرهم بصفات الصالحين.[vii]

أما جمال الدين الأفغاني (1838-1897) فقد توصل بعد تقص لأسباب انحطاط المسلمين أن مرجع ذلك هو غياب العدل والشورى وعدم تقيد الحكومة بالدستور. ولذلك فقد رفع لواء المطالبة بأن يعاد للشعب حق ممارسة دوره السياسي والاجتماعي عبر المشاركة في الحكم من خلال الشورى والانتخابات.[viii]

وقد سار على نهج الأفغاني تلميذه محمد عبده (1849-1905) الذي رأى بأن أهم تحد يواجه الأمة الإسلامية هو نظرتها إلى العلاقة بين الإسلام والعصر. وفي محاولة للتوفيق بين المبادئ الإسلامية وبعض الأفكار الغربية اقترح عبده بأن مصطلح المصلحة عند المسلمين يقابل المنفعة عند الغربيين، وبأن الشورى تقابل الديمقراطية وأن الإجماع يقابل رأي الأغلبية. ولدى معالجته إشكالية السلطة، أكد عبده بأنه لا يوجد حكم ديني (ثيوقراطية) في الإسلام، معتبرا أن مناصب الحاكم أو القاضي أو المفتي مناصب مدنية وليست دينية. ودعا في هذا المجال إلى إعادة إحياء الاجتهاد للتعامل مع الأولويات والمسائل الطارئة والمستجدة على الفكر الإسلامي.[ix]

في نفس الفترة تقريباً، تألق نجم عبد الرحمن الكواكبي (1849-1903) الذي ألف كتابين حول هذه القضايا، الأول بعنوان "طبائع الاستبداد" والآخر بعنوان "أم القرى". في كتابه الثاني، تصور الكواكبي حواراً بين عدد من المفكرين ينحدرون من مدن مختلفة في العالم الإسلامي جمعهم في مكة المكرمة مؤتمر عقد خلال موسم الحج لتبادل الرأي حول أسباب انحطاط الأمة الإسلامية. ومن الأفكار التي حرص الكواكبي على طرحها ما جاء على لسان البليغ القدسي: "يخيل إلى أن سبب الفتور هو تحول نوع السياسة الإسلامية، حيث كانت نيابية اشتراكية، أي ديمقراطية تماماً، فصارت بعد الراشدين بسبب تمادي المحاربات الداخلية ملكية مقيدة بقواعد الشرع الأساسية، ثم صارت أشبه بالمطلقة"، وما جاء على لسان الرومي: "إن البلية أن فقدنا الحرية". ويخلص الكواكبي في النهاية إلى أن التقدم مرتبط بالمحاسبة بينما التخلف مرتبط بالاستبداد.[x]

أما محمد رشيد رضا (1856-1935) فرأى أن سبب تخلف الأمة يكمن في أن المسلمين فقدوا حقيقة دينهم، وأن ذلك مما شجعه الحكام الفاسدون، لأن الإسلام الحقيقي يقوم على أمرين: الإقرار بوحدانية الله، والشورى في شؤون الدولة. واعتبر أن الحكام المستبدين حاولوا حمل المسلمين على نسيان الأمر الثاني بتشجيعهم على التخلي عن الأمر الأول.[xi] وأكد أن أعظم درس يمكن أن يستفيده أهل الشرق من الأوروبيين هو معرفة ما يجب أن تكون عليه الحكومة.[xii]

لقد حاول مفكرو القرن التاسع عشر - الذين تأثروا ولاشك بفكر وممارسة الديمقراطية الأوروبية - إثبات وجود تشابه بين الديمقراطية والمفهوم الإسلامي للشورى، وسعوا في مواجهة أزمة الحكم الخانقة والفساد والسلوك المستبد للحكام في العالم الإسلامي إلى تبرير اقتباس جوانب من النموذج الغربي اعتقدوا بتوافقها مع الإسلام وقدرتها على إخراج المجتمعات العربية من أزمتها السياسية. يرى الشيخ راشد الغنوشي بأن هؤلاء الرواد ابتداء من الطهطاوي ومروراً بخير الدين التونسي وانتهاء برشيد رضا لم يكن أحد منهم ليفكر قط في وضع الدين أو جزء منه موضع اتهام أو شبهة أو يستهدف تغييره أو تبديله، وإنما كان سعيهم يستهدف تجديد في فهم الدين وطرائق تطبيقه والاستناد إلى علماء مجددين قدامى ومحدثين لتبرير الاقتباس من الغرب على اعتبار أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وأن الدين إنما جاء لتحقيق مصالح العباد، وأنه حيث المصلحة فثم شرع الله.[xiii]

الإخوان المسلمون

إلا أن تحولا طرأ على هذه النزعة بعيد الحرب العالمية الأولى، وخاصة بعد الإعلان رسميا عن سقوط نظام الخلافة الإسلامية عام 1924، ذلك الحدث الذي فجع به المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بالرغم من أن كثيرين منهم تكبدوا كثيرا من المعاناة في أواخر عهد الدولة العثمانية بسبب استشراء الفساد وانتشار المظالم. فرغم كل ذلك كانت الخلافة الإسلامية تراثا تنظيمياً ارتبط بمشاعر المسلمين لقرون طويلة، وكانت رمزاً لوحدتهم ودرعاً لدينهم وكيانهم الدولي.[xiv] وإثر سقوط الخلافة، لم يعد التحدي الذي يواجه المسلمين هو الاستبداد، بل ضياع رمز الوحدة الإسلامية التي كان الإصلاحيون يبذلون كل ما في وسعهم لإصلاحه والحفاظ عليه من الزوال. في تلك الحقبة، تحولت النظرة إلى الديمقراطيات الأوروبية التي طالما أعجب بها الإصلاحيون، فأصبحت السمة الغالبة عليها أنها قوى إمبريالية مزقت الخلافة وتقاسمت تركتها وتداعت على المسلمين كما تداعى الأكلة على قصعتها. وأصبح مصدر الخطر هو مخطط التغريب الذي بذل فيه المستعمرون جل جهدهم، والذي ما اقتصر على سلب الخيرات وشل الإرادات بل بات يهدد هوية الأمة المستمدة من عقيدتها ولغتها. وبذلك تبدلت الأولويات وأصبح رأس الأمر هو الكفاح لتحرير ديار العروبة والإسلام وحماية الثقافة من الطمس والتبديل، وتحولت دعوة الإصلاح السياسي إلى دعوة للتجديد.

ولعل أبرز مظاهر هذا الموقف ما مثلته جماعة الإخوان المسلمين في مصر التي تأسست عام 1928 كرد فعل على إسقاط الخلافة، كما ورد على لسان مصطفى مشهور، المرشد الخامس للجماعة، والذي أكد أن حسن البنا، مؤسس الجماعة ومرشدها الأول، قام ليعلن أن إعادة الخلافة فرض عين على كل مسلم ومسلمة.[xv] وكان حسن البنا قد وجه رسالة إلى رؤساء وملوك الدول الإسلامية في حزيران (يونيو) 1947 طالبهم فيها بتحمل مسؤولياتهم والقيام بمهمة خدمة الأمة، وهي المهمة التي قال إنها تنقسم إلى شقين: الأول تخليص الأمة من القيود السياسية حتى تنال حريتها ويرجع إليها ما فقدت من استقلالها وسيادتها، والثاني بناؤها من جديد لتسلك طريقها بين الأمم وتنافس غيرها في درجات الكمال الاجتماعي.[xvi]

لم يكن حسن البنا منظراً سياسياً بقدر ما كان زعيماً وطنياً ملهماً استحوذ على اهتمامه استنفار الأمة ضد الاستعمار والتنبيه إلى آثاره السلبية على المجتمع. دعا البنا إلى استعادة الحكم الإسلامي على قواعد ثلاث هي مسؤولية الحاكم ووحدة الأمة واحترام إرادتها.[xvii] وفي معرض تحليله لأسباب النجاح الأوروبي، رأى البنا حتمية انهيار الحضارة الغربية بسبب ما تفشى فيها من ضعف الأخلاق والربا واضطراب النظم السياسية. كما اعتبر الأحزاب السياسية أحد العوامل المؤذنة بأفول نجم أوروبا.[xviii] ومع أن البنا ترشح للانتخابات النيابية في مصر مرتين، ورغم حرصه على التأكيد على أن النظام البرلماني والدستوري ينسجم من حيث المبدأ مع نظام الحكم الإسلامي، إلا أنه كان يعارض التعددية الحزبية، ويرى أن الأحزاب السياسية تهدد الوحدة الإسلامية، التي اعتبرها أساسية لاستعادة نظام الخلافة. وفي ذلك قال البنا: "لقد انعقد الإجماع على أن الأحزاب المصرية هي سيئة هذا الوطن الكبرى، وهي أساس الفساد الاجتماعي الذي نصطلي بناره الآن، وأنها ليست أحزاباً حقيقية بالمعنى الذي تعرف به الأحزاب في أي بلد من بلاد الدنيا، فهي ليست أكثر من سلسلة انشقاقات أحدثتها خلافات شخصية بين نفر من أبناء هذه الأمة اقتضت الظروف في يوم ما أن يتحدثوا باسمها وأن يطالبوا بحقوقها القومية.... ولا مناص بعد الآن من أن تحل هذه الأحزاب جميعاً ، وتجمع قوى الأمة في حزب واحد يعمل لاستكمال استقلالها وحريتها، ويضع أصول الإصلاح الداخلي العام..."[xix]

في نفس الوقت، وفيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، استمر منتسبو التيار الليبرالي في العالم العربي، كأسلافهم من رواد العلمنة في القرن التاسع عشر،[xx] في الدعوة إلى التغريب، ونادوا بصياغة دساتير وأنظمة قانونية حديثة تحاكي التجربة الأوروبية في استبعاد الدين من شؤون الحياة العامة. ورفعوا شعار "فصل الدين عن الدولة" معتبرين أن الإسلام كان السبب وراء تخلف العرب.[xxi] ويذكر في هذا المجال أن إلغاء الخلافة عام 1924 كان قد أثار جدلًا في أوساط المفكرين آنذاك حول أهمية الخلافة وحول رد فعل المسلمين على سقوطها. وكانت أخطر مساهمة في هذا الجدل للشيخ علي عبد الرازق (1888-1966)، الذي كان بعد تخرجه من الأزهر قد قضى بضع سنين في أكسفورد ببريطانيا متابعاً للدراسات العليا. تمثلت مساهمة علي عبد الرازق في كتاب مثير بعنوان "الأسلام وأصول الحكم" ادعى فيه أن الإسلام دين لا دولة، ونفى وجود نظام سياسي في الإسلام وأنكر الدور السياسي للنبي صلى الله عليه وسلم بحجة أن ولايته على قومه كانت ولاية روحية.[xxii]

الاستقلال والإرث الاستعماري

استثار الاستعمار شعوب المسلمين، فنهضوا ثائرين يناضلون لاستعادة الاستقلال. إلا أن زعامة الحركات التحررية - التي كان منشؤ كثير منها إسلامياً - آلت إلى النخب المتغربة التي تحولت فيما بعد إلى أنظمة مستبدة حلت محل المستعمر لتقوم نيابة عنه بكافة مهامه. ولذلك تعرض الإسلام، دينا وثقافة، خلال فترة ما بعد الاستقلال لهجوم شرس باسم الحداثة والتحديث. فلقد حول الأزهر إلى جامعة علمانية وأغلقت أبواب جامعة الزيتونة في تونس، وأممت الأوقاف وحلت المحاكم الشرعية أو همش دورها تماماً ، وحظرت الأحزاب والتجمعات السياسية. ووجهت للإخوان المسلمين خلال الحقبة الناصرية ضربات متتالية تمخضت عن إعدام مجموعة من رموزها وسجن المئات من أعضائها ودفع ما تبقى منهم للفرار أو العمل السري.

وبذلك تغير نوع التحدي مرة أخرى، ولم يعد النضال من أجل الاستقلال هو المطروح، وإنما الكفاح لمقاومة الهجوم الشرس على الإسلام وعلى الهوية الثقافية للأمة لا من قبل المستعمر بل من قبل أنظمة الحكم التي سادت بعد الاستقلال. منذ ذلك الوقت وحتى مطلع السبعينيات كان الفكر السائد في أوساط الحركة الإسلامية هو فكر أبي الأعلى المودوي وأبي الحسن الندوي وسيد قطب.

منذ منتصف الخمسينيات أصبح سيد قطب (1906-1966)، الذي اعتقل عام 1954 لعشر سنين ثم أعدم عام 1966، المنظر الرئيس للإخوان المسلمين، وصار كتابه "معالم في الطريق" - الذي صنف ردا على بطش النظام الناصري بالإخوان - من أكثر الكتب انتشارا في العالمين العربي والإسلامي، وخاصة بعد هزيمة العرب في حرب عام 1967. وضع قطب في هذا الكتاب نظريته حول الجاهلية التي جاء الإسلام لينقذ البشرية منها، فقسم الأنظمة الاجتماعية بناء على هذه النظرية إلى نوعين: النظام الإسلام والنظام الجاهلي. واعتبر هذا الأخير فاسداً من النوع الذي ساد في جزيرة العرب قبل الإسلام، والذي خضع الناس بموجبه لا لخالقهم وإنما للطواغيت. وجزم قطب بأن المجتمع الإسلامي نفسه ينقسم إلى قسمين: قسم إسلامي وآخر جاهلي، وبأن الجاهلية الآن لم تعد مقتصرة على الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي، بل وصلت عدواها إلى العالم الإسلامي. فتصورات الناس ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم ومصادر ثقافتهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم، والفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي، صارت كلها حسب رأيه من صنع الجاهلية ويظنها كثير من الناس ثقافة إسلامية.[xxiii]

رغم تأثر سيد قطب بفكر المودودي حول قضية الجاهلية، إلا أنه خالفه فيما يتعلق بالديمقراطية. فقد كان المودودي يرى أن الإسلام بإرسائه مبدأ الشورى دين ديمقراطي، ولذلك فقد دعى - رغم تحفظه على الممارسة الغربية للديمقراطية الليبرالية - إلى إعطاء الديمقراطية فرصة لتتكيف وتنجح في البلدان الإسلامية.[xxiv] أما سيد قطب فاتخذ موقفاً حازماً ضد أي محاولة للتوفيق بين الإسلام والديمقراطية، وعارض بشدة وصف الإسلام بأنه ديمقراطي، ودعا إلى دكتاتورية عادلة تضمن الحريات السياسية للصالحين فقط. وكان يتساءل إذا كان نظام الحكم الديمقراطي قد أفلس في الغرب، فلماذا نستورده نحن في الشرق؟ مما لاشك فيه أن سيد قطب ومن تأثر بفكره انطلقوا في معالجتهم لموضوع الديمقراطية من موقع مناهض للغرب، ولا يخفى أن خطاباتهم لا تبدى أدنى اهتمام بأصل أو طبيعة أو تطور أو حتى تنوع الفكرة أو الممارسة الديمقراطية، وإنما يغلب عليها التنديد بسياسات ومسالك الحكومات الديمقراطية في الغرب التي كابد العرب والمسلمون بسبب سياساتها الخارجية وبسبب عدوانها على شعوب الأرض، وبالتالي فإن الموقف الرافض للديمقراطية لا يعدو كونه رد فعل.

في هذه الأثناء ظهرت مدرسة فكرية مختلفة في المغرب العربي تعود جذورها إلى ما أرساه خير الدين التونسي في القرن التاسع عشر من أفكار وما تركه محمد عبده من آثار بعد زيارته لتونس مرتين متتاليتين أقام خلالهما علاقات متينة مع عدد من المفكرين هناك وحثهم على تطوير جامع الزيتونة. كما تعود إيضا إلى أعلام من أمثال الشيخ عبد الحميد بن باديس أحد مؤسسي جمعية علماء الجزائر عام 1931، والثعالبي والطاهر الحداد وعلال الفاسي، ثم المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973)، الذي جمع بين الثقافتين الإسلامية والفرنسية وكان يرى أن نهضة أوروبا أفادت المسلمين من حيث أنها حفزتهم على القيام من غفلتهم وعلى البحث عن مخرج مما هم فيه من تخلف سب به انعدام القدرة على التفكير وتردي المعنويات وفساد الخلق. ومن أهم المواضيع التي شغلت بن نبي وكتب وحاضر فيها قضايا الحضارة والثقافة والمفاهيم والاستشراق والديمقراطية.

في محاضرة بعنوان الديمقراطية في الإسلام ألقاها في نادي الطلبة المغاربة عام 1960، حاول بن نبي الإجابة على سؤال "هل في الإسلام ديمقراطية؟" مشيراً إلى أن تعريف مفهومي الإسلام و الديمقراطية بالطريقة التقليدية قد يؤدي إلى استنتاج عدم وجود علاقة بينهما من حيث التاريخ والجغرافيا، منبهاً في ذات الوقت إلى أن تفكيك المصطلح في معزل عن محموله التاريخي وإعادة تعريف الديمقراطية في أبسط أشكالها تحريراً من القيود اللغوية والأيديولوجية قد يوصل إلى استنتاج مختلف. ورأي أنه ينبغي النظر إلى الديمقراطية من ثلاث زوايا: الديمقراطية كشعور نحو ال- (أنا)، والديمقراطية كشعور نحو الآخرين، والديمقراطية كمجموعة من الشروط الاجتماعية والسياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد. فهده الشروط ليست من وضع الطبيعة ولا من مقتضيات النظام الطبيعي، على خلاف ما تتصوره الفلسفة الرومانتيكية في عهد جان جاك روسو، بل هي خلاصة ثقافة معينة وتتويج لحركة الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان، تقديره لنفسه وتقديره للآخرين. ثم لفت بن نبي النظر إلى أن أصول الديمقراطية الغربية بعيدة وبسيطة، وإلى أن الشعور الديمقراطي تكون ببطء قبل أن يتفجر بالتالي في التصريح بحقوق الإنسان والمواطن. ورأى في المحصلة أن الشعور الديمقراطي سواء في أوروبا أو في أي بلد آخر هو الحد الوسط بين طرفين يمثل كل واحد منهما نقيضاً للآخر، النقيض المعبر عن نفسية وشعور العبد المسكين من ناحية، والنقيض الذي يعبر عن نفسية وشعور المستعبد المستبد من ناحية أخرى. والإنسان الحر الذي تتمثل فيه قيم الديمقراطية والتزاماتها هو الحد الإيجابي بين نافية العبودية ونافية الاستعباد.

ورغم انتقاد بن نبي للنموذج العلماني من الديمقراطية وإبرازه لما فيه من سلبيات إلى أنه سعى إلى التأكيد على أن الإسلام بمعارضته الاستبداد وتحريره للإنسان فإنه ينمي الشعور الديمقراطي، ولذلك فإن بالإمكان التوصل إلى نظام ديمقراطي إسلامي يجمع محاسن الديمقراطية ويتجنب مثالب العلمانية. ورأى أن الجواب على سؤال هل توجد ديمقراطية في الإسلام لا يتعلق ضرورة بنص فقهي مستنبط من السنة والقرآن، بل يتعلق بجوهر الإسلام الذي لا يسوغ أن يعتبر مجرد دستور يعلن سيادة شعب معين، ويصرح بحقوق وحريات هذا الشعب، بل ينبغي أن يعتبر مشروعاً ديمقراطياً تفرزه الممارسة، وترى من خلاله موقع الإنسان المسلم من المجتمع الذي يكون محيطه بينما يسير في الطريق نحو تحقيق القيم والمثل الديمقراطية. ويخلص بن نبي إلى أن في الإسلام ديمقراطية، لا في الزمن الذي تحجرت فيه التقاليد الإسلامية وفقدت فيه إشعاعها، كما هو شأنها اليوم بصورة عامة، ولكن في زمن تخلقها ونموها في المجتمع.[xxv]

لقد كان تحليل بن نبي ثورياً في زمنه لأن التوجه العام لدى منتسبي التيارات الإسلامية في العالم العربي كان لايزال متأثرا بأفكار سيد قطب وتلاميذه الذين اعتبروا الديمقراطية نقيضاً للإسلام دون بذل أدنى جهد لفهمها. ويمكن القول بأن مواقف الإسلاميين بدأت في التحيز نحو الديمقراطية والتعددية منذ أوائل الثمانينيات، لا بمعنى التبني المطلق وإنما بمعنى التمحيص والتمييز، وإدراك أن الديمقراطية شيء بالغ التعقيد لا يمكن بحال مقارنته بالإسلام واعتباره عقيدة نافية له أو نظام قيم مناقض لنظام قيمه. وقد كتب ونظر في هذا الأمر عدد كبير من المفكرين والعلماء. ولعل من المفيد أن يختم هذا الفصل بإيراد ملخص لما ورد في قضية الديمقراطية على لسان رائدين من رواد الفكر الإسلامي المعاصر، الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ راشد الغنوشي.[xxvi]

يقول الشيخ راشد الغنوشي:

"إن مفهوم الديمقراطية مفهوم واسع يتسع لمعان كثيرة ولكنها قد تلتقي عند معنى أنها نظام سياسي يجعل السلطة للشعب ويمنح المحكومين الحق في اختيار حكامهم وفي التأثير فيهم والضغط عليهم وعند الاقتضاء تغييرهم عبر آليات قد تختلف من نظام ديمقراطي إلى آخر ولكنها تلتقي عند آلية الانتخاب الحر. وبالتالي يحقق هذا النظام التداول على السلطة عبر صناديق الاقتراع ويضمن للناس حريات عامة، كالتعبير وتكوين الأحزاب، كما يضمن استقلال القضاء. وبالتالي فالديمقراطية آلية تضمن للشعب سيادته على النظام السياسي وتحقق جملة من المضامين والقيم التي تصون الحقوق وتحمي الحريات وتحصن الناس ضد الجور والاستبداد.

يتوجس بعض الناس من الديمقراطية لأنها مصطلح أجنبي جاء من الغرب الذي لا يرجو منه البعض خيراً وقد أتانا مستعمراً . هذا مع أن ديننا ليس فيه ما يمنعنا من أن نأخد بكل خير أقره العقل وأثبتت التجربة جدواه. ولعل من أسباب رفض البعض للديمقراطية أننا ورثنا الاستبداد كابراً عن كابر لزمن طويل. فدولة الشورى غابت منذ القرن الأول، وابتلينا بالتقليد - وهو شكل من أشكال الاستبداد - في مجال الفقه والتربية في أزمان ساد فيها التصوف الذي يلغي إرادة الناس. فأصبحنا بذلك مجتمعناً ينتج الاستبداد ويتحرك في إطاره. فلما انفتحت النوافذ وجاء الهواء لم نستطع أن نتعايش مع الفكر الحديث وبادرنا برفضه. ولا أدل على ذلك مما حصل في أفغانستان على سبيل المثال. لقد دمر البلد على يد مجاهدين لو اتفقوا على الديمقراطية كآليات لحسم خلافاتهم ورجعوا إلى الشعب الأفغاني واحتكموا إليه لما حدثت المأساة ولما سفكت الدماء وخربت الديار. ولكن هؤلاء يرفضون الديمقراطية ويقولون إنها حرام ويرون أن الشعب ليس محل ثقة. لقد خرب البلد نتيجة أن أهله - بغض النظر عن صلاحهم أو جهادهم - ورثوا التخلف في فقهنا السياسي فلم يتوفقوا إلى آليات لحسم خلافاتهم. لقد كان الاستبداد السبب الأساسي في انهيار حضارتنا، وما أقر الإسلام مبدأ الشورى إلا ليحول دون انفراد شخص أو مجموعة بالتحكم في مصائر الأمة. ولذلك فإن غياب فكرة المشاركة وإقصاء الأمة عن شأنها واستبداد الأفراد بالمجموع - الذي قال عنه الشيخ محمد عبده بأنه ممنوع - هو الذي أنهك حضارتنا وأسلمها إلى الانهيار على حين توفق الغرب في أن يقتبس مبدأ الشورى العظيم ويطور له آليات جعلت الشورى نظاماً يحقق التداول على السلطة ويحقق الأمن من الجور ويمنح الشعب وسائل الضغط على الحكام ووسائل النصح والتغيير. وبالتالي أمن الغرب من الاستبداد وبقينا نحن لا أمل لنا في نصح حكامنا فضلا عن تغييرهم إلا أن ننتظر زيارة ملك الموت، أو إعلان انقلاب عسكري في الهزيع الأخير من الليل، وتلك كارثة على الحاكم والمحكوم."

أما الشيخ يوسف القرضاوي فيقول:

"حينما نتحدث عن الديمقراطية لابد أن نتحدث على بصيرة، فكثير من المسلمين الذين يقولون بأن الديمقراطية منكر أو كفر أو إنها ضد الإسلام لم يعرفوا جوهر الديمقراطية، ولم يدركوا هدفها ولا القيم التي تقوم عليها. لقد قال علماؤنا من قديم بأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، بمعنى أننا إذا لم نتصور الشيء فلا يجوز أن نحكم له ولا عليه.

لا أرى أن الديمقراطية بجوهرها تنافي الإسلام، لأنها تقوم على أن يختار الناس من يحكمهم، فلا يقود الناس من يكرهون ولا يفرض عليهم نظام لا يرضون عنه. فإذا كان حكم الإسلام في الإمامة الصغرى أن الذي يؤم الناس في الصلاة والناس يكرهون إمامته لا ترتفع صلاته فوق رأسه، فما بالنا بالإمامة الكبرى، أي قيادة الحياة السياسية للأمة. لقد ورد في الحديث خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم - أي تدعون لهم ويدعون لكم - وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. وإذا كان الإسلام لا يجيز أن يتحكم الأب ولا الجد ولا الأخ بحياة الفتاة يزوجها من يريد هو لا من تريد هي، واعتبر ذلك باطلا ، فمن باب أولى أن يقود الناس من يرضون عنه. وكما شرع للأمة اختيار الحاكم، فإنه شرع لها محاسبته، فلا معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل إنسان معرض لأن يخطئ وأن يصيب. ولابد أن يقوم الخطأ وأن يعاد المخطئ إلى الصواب. كان أبو بكر رضي الله عنه يقول أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول على المنبر رحم الله امرأ أهدى إلي عيوب نفسي، مرحبا بالناصح أبد الدهر، مرحبا بالناصح غدواً وعشياً ، من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومه.

ومحاسبة الحاكم يعبر عنها أحيانا بالنصيحة في الدين لقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله؟ قال لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم. وقد يعبر عنها بالأمر بالعروف والنهي عن المنكر، وهذا من حق كل الأمة. بل إن من حق كل فرد في الرعية مهما صغر شأنه أن يقول للحاكم أخطأت، وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة وبالرفق. ولقد اعتبر الإسلام مسلك الطغاة المتجبرين الذين يحكمون الناس رغم أنوفهم نوعا من التأله. ولذلك حمل القرآن حملة شعواء على المتألهين في الأرض، مثل نمرود الذي قال لإبراهيم أنا أحيي وأميت، وفرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى، ومع فرعون أدان هامان السياسي الوصولي وقارون الرأسمالي الإقطاعي وكلاهما كان سنداً وعوناً للطاغية المتجبر. وندد الإسلام بالشعوب التي تنصاع لهؤلاء وتنقاد لهم، فقال الله عن قوم نوح واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ، وقال عن عاد قوم هود واتبعوا أمر كل جبار عنيد وقال عن فرعون فاستخف قومه فأطاعوه وقال عن قوم فرعون فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد . وحمل الإسلام الأمة تبعات اختيار الحاكم ومساءلته، وحذرها من أن تكون قطيعاً يسوقه الحاكم بعصا.

رفض الإسلام هذا كله وأوجب الشورى على الحاكم وحرم عليه أن يستبد بالرأي. قال الإمام ابن عطية في تفسيره: الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين من الأمراء فعزله واجب وهذا ما لا خلاف فيه.

كل المبادئ والقيم التي قامت عليها الديمقراطية من الحرية والكرامة ورعاية حقوق الإنسان هي مبادئ إسلامية، يعتبرونها هم حقوقاً وهي عندنا فرائض. فما يعتبر في الديمقراطية حقاُ يعتبر في الإسلام فرضاً ، وثمة فرق لأن الحق يجوز للإنسان أن يتنازل عنه. فإذا رأى المرء خطأ قال من حقي أن أقومه أو أتركه. أما في الإسلام فإنه فرض على المسلم أن يقو م الخطأ، بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإلا دخل في الذين لعنوا كما لعن بنوا إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.

يؤسفنا أن هناك تيارات لم تحسن فهم الإسلام، يقول أصحابها إن الديمقراطية كفر، وهؤلاء موقفهم ناتج عن سوء فهم للإسلام وأصوله وقيمه. وترى البعض يعترض على استخدام لفظة الديمقراطية، ولهؤلاء نقول نحن لسنا هواة استيراد المصطلحات الأجنبية، وعندنا من ديننا وشريعتنا وتراثنا ما يغنينا. ولكنا أيضا تعلمنا من ديننا أن الحكمة ضالة المؤمن أنا وجدها فهو أحق الناس بها. وقد استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من مكائد الفرس في الحروب. حينما رأى المشركون الخندق قد حفر حول المدينة قالوا ما كانت هذه مكيدة تكيدها العرب. فقد كان ذلك من تدابير الفرس ووسائلهم في الحصار. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يخطب على جذع نخلة، ثم اقترح بعض الصحابة أن يصنعوا له منبرا ، وكانوا قد رأوا في بلاد الروم مثل هذه المنابر. فجيء بنجار رومي وصنع له منبراً . ثم إن الصحابة اقتبسوا أشياء من البلاد الأخرى مثل تدوين الدواوين. فالاقتباس من الغير ليس ممنوعاً بشرط أن نضفي عليه نحن من روحنا وقيمنا ومبادئنا ما يدخله في المنظومة الإسلامية.

لقد أكد القرآن والسنة - كلاهما - على الشورى وعلى مشاركة الأمة في الحكم، ولكن ميزة ما نأخذه نحن من الديمقراطية أن الديمقراطية وصلت إلى صيغ ووسائل وأساليب وآليات معينة استطاعت بها أن تقلم أظافر الطغاة المستبدين. فالحكم الذي وصف في الحديث بأنه حكم الملك العضود أو ملك الجبرية يرفضه الإسلام. ومن فضائل الإسلام أنه لم يعط لنا أو يفرض علينا صورة معينة في كيفية الشورى وهذا من فضل الله ورحمته وسعة دينه لأنه لو فرض علينا صورة لجمدنا عليها، ولقلنا هذه منصوص عليها ولا خروج لنا عنها. إنما ككثير من الأمور نص الإسلام على المبادئ الكلية وترك التفصيلات لاجتهادات المسلمين التي تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال. فإذا وجدنا الناس الآن يتحدثون عن أهل الحل والعقد، لابد من التساؤل كيف نختار أهل الحل والعقد؟ كان الناس في مجتمع المدينة معروفين ولم يكن يتجاوز تعدادهم تعداد قرية صغيرة. ولكن في المجتمعات الكبيرة ذات التعداد المليوني، كيف نختار أهل الحل والعقد؟ ليس هناك إلا طريقة الانتخاب وتقسيم البلاد إلى مناطق أو دوائر يختار أهل كل دائرة من يمثلهم. نحن بحاجة ولاشك إلى أن ندخل هنا بعض القيم والتعاليم الإسلامية كالشروط التي ينبغي توفرها في الناخب، وهي شروط الشاهد من الأمانة والاستقامة. يقول الله في ذلك أشهدوا ذوي عدل منكم ويقول ممن ترضون من الشهداء فأيما ناخب لا تتوفر فيه هذه الشروط يسقط حقه في الانتخاب. وبذلك ندخل التعاليم الإسلامية ونعدل المنظومة المستوردة إلى أن تصبح إسلامية. إن ما في الديمقراطية من مبادئ أصله عندنا، ولكن الوسائل والأساليب والآليات ليست عندنا، ولا مانع إطلاقا أن نأخذها من عند غيرنا لنحقق بها المبادئ والقيم الأساسية التي جاء بها الإسلام.

هناك من يفهم الديمقراطية على أنها حكم الشعب بينما الإسلام حكم الله، أي أن الديمقراطية ضد حكم الله. هذا غير صحيح، فالذين يقولون بالديمقراطية لا يعارضون بالضرورة حكم الله وإنما يعارضون بها حكم الفرد المطلق، أي أن المعادلة هي حكم الشعب ضد حكم الفرد المتسلط وليس حكم الشعب في مواجهة حكم الله. ونحن المسلمون لا نريد أن يحكم الأمة فرد متسلط يفرض عليها إرادته ويقودها رغم أنوفها. ولذلك نطالب بالديمقراطية في مجتمع مسلم بمعنى أن الدستور ينص على أن دين الدولة الإسلام، وأن الإسلام هو المصدر الأساسي للحكم أو المصدر الوحيد للقوانين. وعلينا ألا نأخذ تجربة الغرب الديمقراطية بعجرها وبجرها وخيرها وشرها وحلوها ومرها كما يقول بعض الناس، بل نأخذها مقيدة بالأصول الإسلامية القطعية. ولذلك ينبغي النص في دستور الدولة الإسلامية على أن الإسلام هو المرجعية العليا وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين، بمعنى أن أي قانون أو نظام أو وضع يخالف قطعيات الإسلام فهو باطل ومردود. وهذا في الحقيقة تأكيد لا تأسيس، إذ يكفي أن نقول إن دين الدولة الإسلام والشريعة مصدر القوانين. نود أن نؤكد على ذلك ليطمئن إخواننا الذين يخافون من الديمقراطية، ويظنون أنها إذا قامت ستلغي الإسلام.

--------------------------------------------------------------------------------

هذا المقال هو ملخص لباب حول نشأة الديمقراطية في الفكر السياسي المعاصر ضمن أطروحة الدكتوراه التي أعد لها بمركز دراسات الديمقراطية بجامعة ويستمنستر في لندن وعنوانها: "الفكر السياسي للشيخ راشد الغنوشي وموقفة من الديمقراطية".

[ii] د. أحمد صدقي الدجاني "تطور مفاهيم الديمقراطية في الفكر العربي الحديث" ورقة ضمن كتاب أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، ص. 115، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 1987.

[iii] نفس المرجع، ص. 121.

[iv] ألبرت حوراني "الفكر العربي في العصر الليبرالي" (النسحة الإنجليزية) ص. 70، كامبردج، 1991.

[v] الدجاني: نفس المرجع في (2) أعلاه، ص. 121.

[vi] نفس المرجع أعلاه، ص. 121-123.

[vii] تشارلز ميكوب، ميون كارل، كليمنت مور "تونس وسياسة التحديث" (مرجع بالإنجليزية)، ص. .1، الناشر: بول مول بريس، لندن.

[viii] د. رفعت سيد أحمد "الدين والدولة والثورة"، ص. 44-47، الدار الشرقية، القاهرة، 1989.

[ix] نفس المرجع أعلاه، ص. 48-50.

[x] عبد الرحمن الكواكبي "أم القرى"، دار الشروق العربي، بيروت، 1991.

[xi] حوراني، نفس المرجع في (4)، ص. 228.

[xii] الدجاني، نفس المرجع في (2)، ص. 124-125.

[xiii] راشد الغنوشي "الحالة التونسية في سياق علاقة الإسلام بالغرب .. الواقع والآفاق"، محاضرة في المعهد الملكي للشؤن الدولية، شتم هاوس – لندن، 9/5/1995.

[xiv] د. فتحي عثمان"من أصول الفكر السياسي الإسلامي"، ص. 48، الرسالة، بيروت، 1984.

[xv] مصطفى مشهور: من محاضرة ألقاها بدار الرعاية الإسلامية في لندن يوم 26/5/1995.

[xvi] حسن البنا: رسالة نحو النور، الرسائل، ص. 185، مؤسسة الرسالة، بيروت.

[xvii] البنا: "مشكلانتا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي" نفس المرجع أعلاه، ص. 389.

[xviii] البنا: "بين الأمس واليوم"، نفس المرجع أعلاه، ص. 389.

[xix] البنا: نفس المرجع في (17)، ص. 405-407.

[xx] تشتمل رسالة الدكتوراه على مبحث حول نشأة وإزدهار حركة العلمنة في العالم العربي.

[xxi] الدجاني: نفس المرجع في (2)، ص. 137.

[xxii] د. محمد البهي: "الفكر السياسي الحديث وصلته باإستعمار"، ص. 206-209، مكتبة وهبة، القاهرة، 1991.

[xxiii] إيلي كيدوري: السياسية في الشرق الأوسط (مرجع إنجليزي)، ص. 332، أكسفورد 1992.

[xxiv] المودودي: "الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة"، ترجمة خليل الحامدي، ص. 249-252، دار القلم، الكويت، 1971.

[xxv] مالك بن نبي: " القضايا الكبرى"، 133-164، دار الفكر العربي المعاصر، بيروت، 1991.

[xxvi] في ندوة تلفزيونية بثتها محطة الجزيرة الفضائية ضمن برنامج الشريعة والحياة يوم الأحد 16 شباط (فبراير) 1997.

الشعب اراد الحياة و القيد انكسر

رابط هذا التعليق
شارك

السلام عليكم

مقال ممتاز وموثق

وأن كان يميل لاقناع القارئ بنظرية الديموقراطية الوسيطة دون أن يتطرق ألى قضايا شائكة مثل حدود الديموقراطية أو الحريات العامة

أستاذ طفشان بما أن سيادتك موسوعة في الكتب المنشورة على الانترنت

هل تعرف أي موقع لكتاب عبد الرحمن الكواكبي "طبائع الاستبداد ومصارع العباد"؟؟؟؟

جزاك الله خيرا ولا حرمنا من مساهماتك القيمة

الجهل أصل كل بلاء ، ومنبع كل نقيصة

رابط هذا التعليق
شارك

انا نفسي اقرا الكتاب دة برضه، لاني قريت مقتطفات منه

و دورت عليه على الانترنت و مالقيتوش للاسف

الكواكبي كتب كتابه انتقادا للسلطان عبد الحميد و انه جمد مجلس الاعيان و التنظيمات و الدستور

اللي يلاقيه يقول لنا

الشعب اراد الحياة و القيد انكسر

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...