يسقط سيبويه

[assawy]

يسقط سيبويه (5)

بقلم محمد الصاوي

حدثني حسين المقطري أنه تلكأ في باريس طويلا، بعدما نال درجة الدكتوراه. وحدثني أنه كان يتلقى من إدارة المبعوثين الإنذار تلو الإنذار، يطلبون إليه العودة على جناح السرعة إلى أرض بلقيس. وصارحني بأنه لم يعد قادرا على فراق ”باري“ ، وأنه كان يجزع كلما خطر له أنه عائد إلى دنيا الوطن.. الوطن الذي يعشقه بكل ما فيه، بآلامه وإحباطاته، بهمومه وتعاساته ، وبأحلامه المقبورة فيه. كثيرا ما كان يردد على مسامعي أبيات حفظتها لكثرة ما أسمعنيها:

يمانيــــــــون في المنفى ومنفيون في اليمن

جنوبيون في صنعـــــــا شماليون في عدن

خطى أكتوبر انقلبت حزيرانية الكفن

تنهد صديقي، وسألني: أتعرف بقيتها يا ( تكتور )؟

بادرت إلى البيت الموجع:

فمِن مستعمرٍ غازٍ إلى مستعمر وطني

قال: والله يا تكتور لقد هممت أن أطلب الشقراء للزواج، لا لشيء سوى التشبث بالبقاء في باري.

قلت: ألهذا الحد يا حسين؟

قال: أنت لا تتصور مدى الحسرات التي غشيتني يوم الاحتفالية.

سألته: أبسبب تقاعس الملحقين الثقافيين العرب عن تقديم التهاني لك؟

رد كمن ينفي عن نفسه تهمة مخلة: أبدا أبدا. إنهم على الدوام غائبون. غائبون عن أبسط المجاملات، بل غائبون عن واجبهم الوظيفي. وأقول لك إنهم كثيرا ما يغيبون عن الوعي.

تعجبت وقلت : فما مصدر الحسرات إذن؟

قال وهو يعبث بشاربه نصف الحليق: في الوقت الذي كان الأصدقاء يحتفلون فيه بانتهائي من دراستي، كان هناك في قاعة مجاورة في الفندق نفسه اجتماع عربي آخر.. كان جمعا حاشدا !

سألت بخبث: احتفال بطالب دكتوراه مهم، جذب الأضواء منك؟

قال بقرف: كان يا سيدي ” اجتماع المفوضين العرب لشؤون السجون“.

قلت: هذه قصة لم تذكرها لي من قبل قط. ما رأيك في وجبة أسماك، في مقابل أن تحكي لي بالتفصيل؟

تهلل وجه المقطري قليلا؛ فحاولت أن أتظاهر بالبلاهة، وقلت: أنا أعرف إن باريس هي المقر المعروف لليونسكو، ولنادي باريس للدائنين. أما حكاية السجون هذه فعجيبة.

قال: الليالي من الزمان حبالى، يلدن كل عجيبة، وصار كل ما فيها عجيب، حتى لم يعد فيها شيء واحد عجيب. أتصدق أن مقاعد المندوبين كانت مشغولة بأكملها، فلم يتخلف عن الحضور منهم من أحد؟!!!

سألته في مكر خفي: كيف عرفت ولم تكن شاهدا اجتماعهم؟

رد بعفوية: جاءتني الشقراء بتسجيل كامل للاجتماع ( السري) بالصوت والصورة.

كدت أصرخ: وماذا شاهدت في الشريط؟

قال: هذه يلزمها نصف دستة بيرة أصلية، مما ينتج للتصدير.

قلت: لك عندي دستة، ولكن احكِ أولا.

أخرج حسين مشطه وراح يمشط شعره نصف المجعد، وقال: بدأ المتحدث الرسمي باسم ”المنظمة القومية لحقوق الإنسان“ بالحديث عن عقد ”اللجنة التحضيرية للمؤتمر الإلكتروني الرابع عشر للسجون الوطنية المطورة“. وسأل رئيس الجلسة الافتتاحية الحاضرين، أن يصوتوا على نوع المشروب، الذي يريدونه في الجلسة المخصصة لإلقاء البيان الختامي. طلب مندوب شرقستان (الكريزي هورس) أما مندوب جنوبستان فقد طلب (البلاك هورس)، في حين رشح مندوب غربستان مشروب القرنبيط مع مسحوق السقنقور، وامتنع الباقون عن التصويت العلني.

كانوا جميعا يضعون نظارات سوداء قاتمة، جعلتني أتساءل عما إذا كانوا قادرين على الرؤية من خلالها.

أعطيت الكلمة لمندوب سجن وسطستان فقال: ”في ضوء توجيهات مولانا سيبويه المعظم، نحن الآن نعد لمرحلة مهمة، في سبيل الترتيبات النهائية، للمهرجان التجريبي الشعبي التاسع لحظر التجول“

مندوب سجن غربستان: ”بناء على توجيهات مولانا سيبويه المفدى ، أرسلت إدارتنا مجموعة من أكفأ رجالنا للتدريب – في دولة صديقة – على أحدث أساليب مكافحة «المجرمين». و قد حقق الأسلوب الجديد نجاحا ملحوظا، فصار (رجالنا) عندما يتوجهون - مع القوات - إلى منزل ” المطلوب“ للقبض عليه، يحملون طبعا إذنا من النيابة، لكنهم إذا لم يجدوه، فإنهم يعتقلون أمه فورا“.(تصفيق حاد). لم يقطع التصفيق سوى صوت مندوب سجن عمومستان: ”لكن يا زميل، هذا خرق صارخ لحقوق المواطن، وانتهاك للحريات، وجرح للكرامة، وتشويه لسمعة الوطن في الخارج، ونحن مقبلون على مدة ولاية عاشرة ، لمولانا سيبويه سلطان عمومستان المعظم“.

همهم مندوب سجن غربستان والوفد المرافق له همهمة غير واضحة في التسجيل، ثم جاء صوت يبدو أنه رئيس الجلسة يقول: ”بناء على رغبة موقعة من واحد وعشرين عضوا، تنتقل الجلسة إلى القاعة السرية“.

سرت همهمة أكثر حدة، ثم تحدث مندوب سجن جنوبستان: ”أتحدى منظمة حقوق الإنسان أن تثبت خرقا واحدا للقانون. إن ضباط السجن جميعا حاصلون على دورات قيادية في حقوق الإنسان، من جمهورية فولتا العليا وساحل العاج. ومن موقعي هذا، أتحدى أي مواطن، أن يستدل على مقر المنظمة القومية لحقوق الإنسان. وأشكر معالي وزير السياحة الفرنسي لحسن الضيافة“ (تصفيق)

مندوب سجن شمالستان : ”أحب أن أعرض على حضراتكم تسجيلا وثائقيا عن أحوال السجون في عهد صاحب شمالستان“. (موسيقى تصويرية) ثم صوت يبدو أنه لمواطن شمالستاني يقول: " أنا المواطن أبو أصلان الغلبان.. تفضّل معالي اللواء الوزير ووافق على أن أغادر السجن لمدة 24 ساعة، لحضور جنازة أمي. وأشكر سيادته على هذه اللفتة الإنسانية الكريمة. أنا والحمد لله معتقل منذ تسع سنوات بدون محاكمة، وأكرر شكري للبرنامج، وللمخرج، ولمدينة الإنتاج الإعلامي". (ابتسامات صفراء، والتفاتات الثعالب)

ساد المكان لغط غير مبين، ثم تنحنح رئيس الجلسة وقال: الكلمة الآن لمندوب دولة شرقستان.

بدا صوت مندوب سجون شرقستان واهنا: ”زعموا أن سجوننا مكتظة بالأطفال. كلا ثم كلا. تلك والله فرية لن نسكت عليها أبدا، وسوف نقطع كل الألسنة التي رددت هذا الهراء“.

جاء من بعيد صوت نسائي يتحدث العربية بلكنة أفرنجية: ”فخامة الجنرال! هذه معلومات موثقة، نشرتها ”النيويورك تايمز“ و ”يدعوت أحرونوت“ و ”عالم سمسم“.

سألت المقطري: أليس من العجائب وجود صاحبة هذا الصوت في جلسة سرية !!

أشار حسين إلى الشاشة وقال: انتبه للرد، انتبه.

جاء رد الجنرال بصوت أوهن من سابقه: ”أنا أقصد إن هؤلاء الأطفال لا يزيد عددهم ، في أسوأ الظروف ،عن مائة طفل، ونحن نعتقلهم في أضيق الحدود، من أجل الضغط فقط على آبائهم، الإرهابيين المحتملين؛ لكي يعترفوا. وهذا كله يتم بالقانون“ (تصفيق).

طلب مندوب قمعستان الكلمة، فأعطيت له ، فقال: ”أولا أسجل ببالغ القلق، الاحتجاج على نظام ترتيب الكلمات في الجلسة؛ فقد كان يحق لنا الكلمة قبل مندوب عمومستان. وإنني ممثلا عن مولاي سيبويه الأكبر لن أسمح بتكرار ذلك مهما كانت الظروف.“

ثم قال كلاما كثيرا فحواه أنه يهدد بالانسحاب من الجلسة القادمة، إذا لم يراعَ حق قمعستان في أولوية الكلام.ثم جعل ينظر في أوراق أمامه، وقال بحدة وانفعال ظاهرين: ”يطلبون من الإفصاح عن عدد المعتقلين. يطلبون منا.. الإفصاح.. عن أعداد المعتقلين. كيف بالله عليكم؟ هل هذا معقول؟ ثم إن بيانات المعتقلين ليست من شؤون قائممقام مجلس النواب كما تعلمون. ولماذا نحن بالذات؟ دول كثيرة عريقة في الديموقراطية، لا تعلن أبدا عن أعداد المعتقلين. وأنا أقول لمن سألوا عن حصر أعداد المعتقلين: موتوا بغيظكم ،موتوا بغيظكم.(تصفيق). أشكركم، وأعطي الكلمة الآن لمندوب ”وراءستان“.

بدا مندوب وراءستان في هيئة راسبوتين، لكنه قال بصوت يأتي من ”القرار“، كما يقول أهل المغنى: ”رفضنا بكل حسم التدخل في شئوننا الداخلية، ولم نستقبل أي وفد دولي للتفتيش على سجوننا. أريد أن أسأل: ما جدوى التفتيش على السجون؟ لا شيء أبعد من تمجيد الجريمة، وتعظيم أقدار المجرمين، في نظر البسطاء والكادحين من شعبنا الوديع. أجل، ماذا أفاد الكشف عن جرائم سجن « أبو حبيب »، هل تحرّك العالم؟... لقد استخدموها كورقة انتخابية في معاركهم الانتخابية، ليس أكثر!. إنني أتمسك بالسيادة الوطنية على أهم مؤسساتنا العصرية في وراءستان. وأدعو كم إلى مؤازرة بلادي في موقفها العادل في مواجهة تعنت فرق التفتيش، وإصرارها الدائم على العثور على الزنزانات السرية تحت سطح الأرض، وتحت سطح البحر“

قام شخص يشبه أبطال السينما الصينية، عرف نفسه على أنه مندوب منظمة سجون بلا حدود، ثم توجه بسؤاله إلى رئيس الجلسة (السرية)! فقال: ”لماذا لا تعلنون في وراءستان عن عمليات الاعتقال، ومداهمة بيوت المعارضين السياسيين، واحتجاز الناشطين في منظمات المجتمع المدني؟“

رد الرئيس في عصبية: ”الفكر الإصلاحي يلزم البوليس بنشر أخبار هذه الغزوات الظافرة، لكن يبدو أن السائل لا يقرأ صفحات الحوادث، لأنها فقط المخصصة لأخبار المعارضين في وراءستان.. إنكم تهتمون فقط بحرية القول، أما نحن فالمهم هو حرية البول.. أرجو أن يكون جوابي شافيا“

ترفقت وأنا أسأل المقطري: كيف وصل مندوب ”سجون بلا حدود“ للاجتماع السري؟

كاد المقطري يصرخ وهو يقول: ألم أقل لك إن الليالي من الزمان حبالى يلدن كل عجيبة؟!

بعد فاصل من الأحضان والقبلات والابتسامات للكاميرات، وصلنا إلى البيان الختامي، الذي كان مقتضبا على غير العادة:

بند أول: ” تطابق تام في وجهات النظر“

بند ثان: سرعة ضبط وإحضار " سوار الذهب " زعيم المجلس الاستشاري الأعلى للحملة القومية لمقاطعة أحمر الشفاه.

بند ثالث: مناشدة الدول المانحة، زيادة الأموال المخصصة لتطوير منظومة السجون العربية، من أجل استيعاب المزيد من النزلاء.

بند رابع: رفع برقية تهنئة وتأييد للمبجل الفخيم سيبويه بمناسبة فوزه في الاستفتاء على مدة ولايته التاسعة.

بند خامس: الإعلان عن ميثاق العهد، الذي ينص على توفير الملاذ الآمن لوزراء القمع السابقين، وعدم جواز ملاحقتهم قضائيا، أمام محاكم عموم ستان.

بند سادس: منح كل سجّان متقاعد لقب ”خبير سياحي“، ومنح كل جلاد متقاعد لقب ”خبير أمني“.

فوجئت أنا والمقطري بالقهوجي يدير صوت المذياع بحدة، فارتفع الصوت الموجوع:

أشكيك لمين؟ أشكيك لمين؟ لمين لمين أشكيك؟.. إن كان ضميرك نفسه ما بيقدر عليك.. أشكيك لمين؟

[mashi]

شر البلية gsm::