اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

مذكرات امرأة عادية جداً ..


عشتار

Recommended Posts

ما الذي يفعله بنا الشتاء؟

إنه فصل يشبه فيه الإنسان إلى حد كبير سائر الكائنات والموجودات، يشبه الطبيعة ذاتها. ينسحب الكائن في الشتاء إلى داخله، يلم في هدوء متعلقاته الشخصية المبعثرة خارج كهف ذاته، يطفأ نيران السامر الجماعي التي أشعلها تحت نجوم الصيف، وترك نسيم الليلات الصيفية يداعب أطراف لهبها ويلهو بها، ليشعل نيرانا أخرى بالداخل..داخل كهف ذاته. حيث يغلق المرء على ذاته باب ذاته ويستدفئ بنيرانه الداخلية الحميمة وحدها.

ما الذي يفعله بنا الشتاء؟

إنه يقودنا إلى دواخلنا، يسحبنا إلى أعماقنا الأكثر دفئا، والأكثر إشعاعا. كمهاجر كان بعيدا عن وطنه يعود المرء ليتجول في دروب ذاته، يشاهد المعالم التي طال هجرانها خلال صيف طويل، يتأمل في التغيرات الطفيفة أو العميقة التي وقعت، وفي الكيفيات التي استحدثت، يتأمل ما يجرى في خارجه، ويتأمل ما يجري في داخله، من أحداث. يغوص في ماضيه وذاكرته أو ذاكراته التي أكتسبها خلال سنوات عمره، يراقب خطوات ما رحل ويبتعد في الزمن ويقيس حجم الفراغ الذي خلفه، ويهيئ داخله لما حل ويقترب في المستقبل ويفسح له داخل ذاته مكانا يضيق أو يتسع..

ما الذي يفعله بنا الشتاء؟

إنه يقرب الكائنات من ذواتها، يعطي كل منها منظارا مقربا أو ميكروسكوبا يدقق به ذاته، ويقرب إليه ذوات الآخرين

..

في الشتاء يا عشتار يستدفأ كل منا بنيران ذاته..نيران ذات هي الأكثر صفاء ونصوعا وقربا من حقيقتنا الداخلية العميقة

هناك من الذوات من تطارده في الشتاء لعنة الوحدة، فيجلس أمام نيران ذاته الخافتة كذبالة تعاني الانطفاء، تلقي بظلال كئيبة مضخمة في كل مكان من حوله، يستشعر برد الوحدة ويعاني كآبتها منفردا

لكن المحظوظ من البشر من يمكنه أن يمزج نيران ذاته بوقود يستمده من ذوات الآخرين

المحظوظ من البشر هو الذي تبلغ نيرانه هذا الحد من القوة وقدرات العطاء ومنح الدفء وحميمية الأمل، فيمنح دفئه ليس لذاته وحدها ولكن لذوات أخرى تشاركه بحميمية مسيرته الشتائية المتوغلة في الحقيقة وفي الإيمان

أنت يا عشتار واحدة من هذه الذوات المحظوظة التي يجاوز دفئها دائما حدود ذاتها فتصنع دفئا إنسانيا صافيا وحميما..تجعلين من حولك دائرة من الضوء المستمد من علاقتك الطبيعية بالشمس وإيمانك بها، دائرة لا تقترب أبدا منها ظلمات البرودة والتوحد ولا شياطين العزلة والكآبة

وها أنا يا عشتار أتخذ مكاني حول نار حميميتك الشتائية..أتابع وأنتظر نصيبي من دفء الحكايا ومن دفء الحب

:clappingrose: :clappingrose:

 

ما الذى يفعله بنا الشتاء ؟

فى الشتاء يا طائرى ..

تغسل أمطاره قلوبنا ..اذا ما تلونت بأصباغ الكراهية والحقد ..فتصفو ..

يزيل الأصباغ .. والألوان الصناعية المفتعلة من على المرايا والوشوش والأسطح ..فيعيدها برونق ..نظيفة ..طبيعية ..كما خلقها الله ..

فى الشتاء ..قد ترق قلوب الطغاه حين يستمعون لقصف الرعد ..وضوء البرق ..ويتذكرون أن الله هناك ..الله الجبار ..القادر على عزل دول الظلم من الأرض والإطاحة بغرور القلب ..وغرور النفس ..مهما بلغتهما القوة ..

فى البرودة والصقيع ..تفيق القلوب القاسية ..وتعود لصوابها ..وحرارتها عندما تدرك معنى البرودة ..ومعنى الجليد ..فى الشتاء

فى الشتاء تهطل السماء خيرا وفيرا..يسقط المطر فى فرح ..نشعر بالحياة ..نشعر بالولادة ..نشعر بالخصب والنماء ..فهناك رب لن يصيعنا ..

فى الشتاء..يحلو اللقاء ..لقاء الحب ..لقاء الصداقة ..لقاء الأخوة ..لقاء الفراشات ..ولقاء الغرباء ..مجرد مد اليد بالمصافحة..مجرد لمسة ..مجرد قبلة ..مجرد هفهفة جناح وكلمة " حمدا لله على السلامة " .. تشيع الدفء فى الجسد بمجرد الحدوث ..

اصنع قهوتك الساخنة فى الشتاء..حسائك الدافىء الدسم ..واجلس وسط أهلك وناسك ..اناس يحبونك وتحبهم لتمتلأ الأرض دفئاً..

فى الشتاء ..تقترب القلوب ..تقترب ..وتتذكر ..كم هو مسكين ..من عانى من فقد ..ومن فقد حب ..فتدعو له الله العطوف ..فى الشتاء ..

هكذا يفعل بناء الشتاء يا طيرى الجميل ..يا ملهمى ..

وهكذا تفعل بى حين أقرئك ..

أقرأ نفسى ..

أفهم نفسى ..

أجد نفسى

طابت لك الحياة والدفء

:give_rose:

http://www.youtube.com/watch?v=xLZfNOo13Fs

رابط هذا التعليق
شارك

جدتى ..راحت فى مثل هذه الأيام ..ولم تعد !!

259968_182774745111718_124076310981562_440241_8160512_n.jpg

لا أستطيع حتى الآن أن أجزم ما الذى دفعنى ليلتها للنهوض من الفراش..هل كنت عطشى بالفعل وقمت لأشرب ؟ أم أنه الهاجس الذى أيقذنى لينذرنى نذر الشؤم ؟..

كانت ليلة صيفية غير كل ليلة..سمائها مضطربة..غاصت فيها النجوم بلا رحمة ..وتوارى القمر بوميضه الضعيف خلف الغيمات الرمادية الباهتة بقهر من لا حيلة له..

أصرت ليلتها على أن تنام فى الصالة وليس فى غرفتها كما تعودنا ..وبرغم أنها كانت أمسية شتوية إلا أن الجو كان يهب علينا بنسمات شاردة من فرط سخونتها كانت تلفح وجوهنا وكأنها تلطمنا..ولم تفلح كل المحاولات وقتها أن تثنيها عما تريد..فقام أبى بتجهيز منامة مريحة لها ..ولحسن الحظ أنه كانت لدينا كنبة من النوع (الأمريكانى) ..تفتح فتكون على هيئة سرير لا بأس به ..كنا قد أهديناها إياها أنا وأخوتى فى ذكرى ميلادها منذ عامين..

ظللت بجوارها ..يدى تحتضن يديها..وبقيت على هذه الحالة ما يقرب من الساعة حتى غفت عيونها وراحت فى النوم..أحكمت من حولها الغطاء ونظرت ملياً فى وجهها..كنت أفعل مثلما كانت تفعل معى تماماً فى مرحلة لاحقة من عمرى..كانت تأخذنى فى أحضانها الرحبة ولا تتركنى حتى يأخذنى النوم لأصحو فى اليوم التالى على الشمس المطلة من نافذة غرفتى...

آه

كانت تعطينى كل أحاسيس الأمان فى الدنيا..

بعدما أطمئن قلبى إلى أنها نامت ...نهضت من على الكرسى فى هدوء وأنا أحاول أن أسير على أطراف أصابعى حتى لا أزعجها..وقبل أن أتوارى عنها فى الردهة ..التفت..والقيت عليها نظرة أخيرة..وذهبت..

لم أدر كم من الوقت مرّ عندما نهضت من الفراش لأشرب ..

راودتنى نفسى أن أذهب لألقى عليها نظرة اطمئنان..

اقتربت بنفس الطريقة..فى صمت حذر على أطراف أصابعى..جثوت بهدوء على ركبتى أمام الكنبة..أحاول أن أسترق النظر اليها وسط حجب الظلام..كانت عيونى قد تعودت على الظلام عندما رأيت وجهها بوضوح..مسبلة جفنيها فى دعة..إحدى يديها تستقر بجوارها فى تأدب..والأخرى تحتضن المساحة اسفل صدرها فى حنو..كان وجهها وضاءاً منيراً بشكل يعزى لست أدرى لماذا بالبكاء!!!

مددت يدى فى رفق حثيث..خيل إلى وقتها أن هذه الحركة استغرقت منى لحظات طوال أكثر كثافة وتركيزاً من أى لحظات أخرى قد مرت علىّ من قبل فى حياتى ..كانت للوقت ثقل ولأنفاسى ثقل وللحركة بطئها الثقيل القاتل وكأننى أتجمد ..لاشك أن هناك لحظات فى حياة الإنسان تعتبر فارقة..يكون الوقت فيها ما قبل اللحظة عمر..ويكون بعدها عمراً آخر..وكأن هذه اللحظة المهيبة الفارقة تنقلنا إلى زمانيين مختلفين مع أننا مازلنا فى نفس العالم..!

عندما مددت يدى برفق أحاول أن أحتضن يدها تجمدت كل أحاسيسى فى فزع صامت مرعب انطلق مهرولاً داخل أعماقى يفتك بكل احاسيس الأمان والأمل عندى..لم يتحرك جسدى قيد أنملة..وبدأ عقلى يدرك ويفسر ما تستشعره يدى..كانت يدها باردة كثلج يناير..متخشبة تماماً وكأن طاقة الحياة قد فارقتها وقررت الدماء أن ترحل عنها بلا عودة..

رفعت وجهى الجامد ببطء إلى وجهها ليقابلنى شعاع قادم من "وناسة" قريبة وكأننى فى مشهد خرافى يضاهى أعتى المشاهد السينمائية فى الحبكة والإتقان ..رحت أنظر فيها بلا انفعال..أتمعن فى جسدها المسجى.. كنت أستجديه ربما لست أدرى..هززتها فى رفق يائس..أحاول أن أصدق أنها لا ترد ..لن ترد ..ولكن لم يحدث أى شىء..

بيدى المترددة ..رحت أمسح على كفها المتجمد..ونزف عصبى حاد لا يتوقف ..فجأة تمنيت لوكنت صرصاراً جباناً مرتعداً يفر إلى مخبأ يؤيه هرباً من ضربات متلاحقة تستهدفه..تمنيت لو أن كل الدنيا من حولى تتحول إلى مخبأ يأوينى ويبتلعنى..مخبأ أفر إليه واحتمى من العراء والتشرد الذى اكتنفنى فجأة..كانت كل خلية فى جسدى تلعب مع الأخرى لعبة "المساكة"..شىء أشبه بذبذبة قوية منتظمة تفكك كل خلية وتجعلها فى حالة بحث مستمر عن جارتها..

صرخة صامتة تنقل معنى اللا معقول كانت تمزق كيانى.."هل ماتت؟؟..لا..لا..لم تمت..لم تمت..لم تمت.."

هيأ إلى أننى أصبحت عاجزة حتى عن الصراخ ..أو أن نوعاً من أنواع الشلل المؤقت قدأصاب أطرافى وعقلى ولسانى..ويبدو أننى ظللت على هذه الحالة حتى الصباح..أحتضن يدها وشفتاى متجمدتان فوقها تطبع قبلة مستمرة لا نهائية ..وكأننى أحاول بطاقتى وإرادتى أن أبثها الحياة..أو..قبلة الحياة..

هل فارقت الحياة أنا الأخرى؟؟..ربما..فما الفرق بين أن يقتنصك الموت وأن تواجه الموت بهذا السفور؟؟

كان هذا أول لقاء لى مع الموت..هذا الوهم الذى نحيا فيه طالما أنه لم يقربنا بعد..ونحيا ونحيا على أنه لن ينال منا أبداً..برغم أن كل شىء من حولنا يشى بأنه حقيقة..الموت حقيقى يخفى عنا اناس فى طرفة عين..كيف هذا..لا أعلم..ولكنها راحت..اقتنصها الموت بين انيابه..وظللت لساعات من قسوة مواجهته أعيش بلا قلب..وكأننى لا أصدق أننى التقيته ولا أود أن أقر بأنه هو الموت نفسه الذى خطفها فى لحظات قصار مابين غفوة عينى وصحيانها..!

انتزعوها منى وانتزعونى منها..زحفت أمتاراً طويلة وأنا لاأزال اتشبث بيدها..أطلقوا فىّ صرخة الحياة وهم يوارونها عن ناظرى..صرخة صامتة ..غير منطوقة إلا بهدير مخيف لم يتعد داخلى ..لم أصرخ فى الحقيقة ولم أبك..وإنما تكفل الدمع لا أعرف كيف بأن ينساب كالأنهار فى صمت على وجنتى وبلا أدنى مجهود..هو الحزن الذى هطل على قلبى فجأة كالطلقة ..لا تستشعره على مهل بقدر ما يقتحمك على هيئة جرعة واحدة فجائية لا يمكن تداركها..

كانت "جدتى" هى الكهف الذى انطلقت منه ذاتى..الكهف السحرى الذى دخلته وخرجت منه الإنسانة المعجونة بتفاصيل صوفية أصيلة حاكتها فىّ حكاياتها وطقوسها وأفعالها وأقوالها..كنت أرى من خلالها كل المعالم من حولى وكأنها العدسة التى تعطى النور لعيونى لتكتشف فى الأشياء نوراً مضاعفاً..

اندهش كثيراً ..كيف أننى عشت وقتها..وكيف أننى مازلت أعيش دونها وأمارس حياتى..على ما يبدو أن الإنسان فى أحيان كثيرة يتصرف مثل الآلة..يؤدى واجباته لاشعورياً وكأنه مبرمج على هذه الآلية..

فلقد عشت بعدها أتجرع الألم فى كأس من الصبر..وامارسه فى شىء من الإعتياد..بل والإدمان..نعم اعتدت الألم وأدمنته وقتها ربما لأن روحى كانت قد وصلت إلى درجة مفرطة من التشبع به حتى أنه أصبح يطفو ويفيض على الآخرين من حولى..فيبكون لحالى ويبكون لفراقها وأنا..أنا المتمرسة فى تفاصيل الألم وفراقها لا أستطيع..

لم أنساها..ولم أنس الفيض المتراكم من الخبرات والعبر والعظات التى أصقلت روحى بهم..ولازلت حتى اليوم أعيد ترتيب وصياغة كل ذكرياتى معها..قطع من ملابسها..ابريقها..خاتم زواجها..صورها..كل كل شىء لا يزال يرافقنى ويؤنسنى ويغدق علىّ بدفقات من الحنان الخالص الذى لم يضع بعد مع الزمن وقسوته ..

فى مثل هذه الأيام راحت بعيداً..عند الله..تماماً كما نقول لأطفالنا عندما يسألوننا عن الإختفاء المفاجىء لبعض الأشخاص ونريد أن نقرب لهم المعنى..أو نضحك عليهم..ولكنه حقيقى..فنقول أنه ذهب للسماء ..صعد لله ..فهى راحت عند الله..ولم تمت..فلا تزال حية نابضة فى ذكراى..ولازالت ماكثة أمام عيونى ..تلتبس روحى..كأنه الأمس القريب..

آه يا غالية..كم أشتاقك.. وحنانك..

فى ذكراك..مازلت أتذوق طعم قبلاتك..

قبلاتك الشتوية الدافئة

آه يا جدتى

قبلينى يا غالية

قبلينى..

رابط هذا التعليق
شارك

جدتى ..راحت فى مثل هذه الأيام ..ولم تعد !!

259968_182774745111718_124076310981562_440241_8160512_n.jpg

لا أستطيع حتى الآن أن أجزم ما الذى دفعنى ليلتها للنهوض من الفراش..هل كنت عطشى بالفعل وقمت لأشرب ؟ أم أنه الهاجس الذى أيقذنى لينذرنى نذر الشؤم ؟..

كانت ليلة صيفية غير كل ليلة..سمائها مضطربة..غاصت فيها النجوم بلا رحمة ..وتوارى القمر بوميضه الضعيف خلف الغيمات الرمادية الباهتة بقهر من لا حيلة له..

أصرت ليلتها على أن تنام فى الصالة وليس فى غرفتها كما تعودنا ..وبرغم أنها كانت أمسية شتوية إلا أن الجو كان يهب علينا بنسمات شاردة من فرط سخونتها كانت تلفح وجوهنا وكأنها تلطمنا..ولم تفلح كل المحاولات وقتها أن تثنيها عما تريد..فقام أبى بتجهيز منامة مريحة لها ..ولحسن الحظ أنه كانت لدينا كنبة من النوع (الأمريكانى) ..تفتح فتكون على هيئة سرير لا بأس به ..كنا قد أهديناها إياها أنا وأخوتى فى ذكرى ميلادها منذ عامين..

ظللت بجوارها ..يدى تحتضن يديها..وبقيت على هذه الحالة ما يقرب من الساعة حتى غفت عيونها وراحت فى النوم..أحكمت من حولها الغطاء ونظرت ملياً فى وجهها..كنت أفعل مثلما كانت تفعل معى تماماً فى مرحلة لاحقة من عمرى..كانت تأخذنى فى أحضانها الرحبة ولا تتركنى حتى يأخذنى النوم لأصحو فى اليوم التالى على الشمس المطلة من نافذة غرفتى...

آه

كانت تعطينى كل أحاسيس الأمان فى الدنيا..

بعدما أطمئن قلبى إلى أنها نامت ...نهضت من على الكرسى فى هدوء وأنا أحاول أن أسير على أطراف أصابعى حتى لا أزعجها..وقبل أن أتوارى عنها فى الردهة ..التفت..والقيت عليها نظرة أخيرة..وذهبت..

لم أدر كم من الوقت مرّ عندما نهضت من الفراش لأشرب ..

راودتنى نفسى أن أذهب لألقى عليها نظرة اطمئنان..

اقتربت بنفس الطريقة..فى صمت حذر على أطراف أصابعى..جثوت بهدوء على ركبتى أمام الكنبة..أحاول أن أسترق النظر اليها وسط حجب الظلام..كانت عيونى قد تعودت على الظلام عندما رأيت وجهها بوضوح..مسبلة جفنيها فى دعة..إحدى يديها تستقر بجوارها فى تأدب..والأخرى تحتضن المساحة اسفل صدرها فى حنو..كان وجهها وضاءاً منيراً بشكل يعزى لست أدرى لماذا بالبكاء!!!

مددت يدى فى رفق حثيث..خيل إلى وقتها أن هذه الحركة استغرقت منى لحظات طوال أكثر كثافة وتركيزاً من أى لحظات أخرى قد مرت علىّ من قبل فى حياتى ..كانت للوقت ثقل ولأنفاسى ثقل وللحركة بطئها الثقيل القاتل وكأننى أتجمد ..لاشك أن هناك لحظات فى حياة الإنسان تعتبر فارقة..يكون الوقت فيها ما قبل اللحظة عمر..ويكون بعدها عمراً آخر..وكأن هذه اللحظة المهيبة الفارقة تنقلنا إلى زمانيين مختلفين مع أننا مازلنا فى نفس العالم..!

عندما مددت يدى برفق أحاول أن أحتضن يدها تجمدت كل أحاسيسى فى فزع صامت مرعب انطلق مهرولاً داخل أعماقى يفتك بكل احاسيس الأمان والأمل عندى..لم يتحرك جسدى قيد أنملة..وبدأ عقلى يدرك ويفسر ما تستشعره يدى..كانت يدها باردة كثلج يناير..متخشبة تماماً وكأن طاقة الحياة قد فارقتها وقررت الدماء أن ترحل عنها بلا عودة..

رفعت وجهى الجامد ببطء إلى وجهها ليقابلنى شعاع قادم من "وناسة" قريبة وكأننى فى مشهد خرافى يضاهى أعتى المشاهد السينمائية فى الحبكة والإتقان ..رحت أنظر فيها بلا انفعال..أتمعن فى جسدها المسجى.. كنت أستجديه ربما لست أدرى..هززتها فى رفق يائس..أحاول أن أصدق أنها لا ترد ..لن ترد ..ولكن لم يحدث أى شىء..

بيدى المترددة ..رحت أمسح على كفها المتجمد..ونزف عصبى حاد لا يتوقف ..فجأة تمنيت لوكنت صرصاراً جباناً مرتعداً يفر إلى مخبأ يؤيه هرباً من ضربات متلاحقة تستهدفه..تمنيت لو أن كل الدنيا من حولى تتحول إلى مخبأ يأوينى ويبتلعنى..مخبأ أفر إليه واحتمى من العراء والتشرد الذى اكتنفنى فجأة..كانت كل خلية فى جسدى تلعب مع الأخرى لعبة "المساكة"..شىء أشبه بذبذبة قوية منتظمة تفكك كل خلية وتجعلها فى حالة بحث مستمر عن جارتها..

صرخة صامتة تنقل معنى اللا معقول كانت تمزق كيانى.."هل ماتت؟؟..لا..لا..لم تمت..لم تمت..لم تمت.."

هيأ إلى أننى أصبحت عاجزة حتى عن الصراخ ..أو أن نوعاً من أنواع الشلل المؤقت قدأصاب أطرافى وعقلى ولسانى..ويبدو أننى ظللت على هذه الحالة حتى الصباح..أحتضن يدها وشفتاى متجمدتان فوقها تطبع قبلة مستمرة لا نهائية ..وكأننى أحاول بطاقتى وإرادتى أن أبثها الحياة..أو..قبلة الحياة..

هل فارقت الحياة أنا الأخرى؟؟..ربما..فما الفرق بين أن يقتنصك الموت وأن تواجه الموت بهذا السفور؟؟

كان هذا أول لقاء لى مع الموت..هذا الوهم الذى نحيا فيه طالما أنه لم يقربنا بعد..ونحيا ونحيا على أنه لن ينال منا أبداً..برغم أن كل شىء من حولنا يشى بأنه حقيقة..الموت حقيقى يخفى عنا اناس فى طرفة عين..كيف هذا..لا أعلم..ولكنها راحت..اقتنصها الموت بين انيابه..وظللت لساعات من قسوة مواجهته أعيش بلا قلب..وكأننى لا أصدق أننى التقيته ولا أود أن أقر بأنه هو الموت نفسه الذى خطفها فى لحظات قصار مابين غفوة عينى وصحيانها..!

انتزعوها منى وانتزعونى منها..زحفت أمتاراً طويلة وأنا لاأزال اتشبث بيدها..أطلقوا فىّ صرخة الحياة وهم يوارونها عن ناظرى..صرخة صامتة ..غير منطوقة إلا بهدير مخيف لم يتعد داخلى ..لم أصرخ فى الحقيقة ولم أبك..وإنما تكفل الدمع لا أعرف كيف بأن ينساب كالأنهار فى صمت على وجنتى وبلا أدنى مجهود..هو الحزن الذى هطل على قلبى فجأة كالطلقة ..لا تستشعره على مهل بقدر ما يقتحمك على هيئة جرعة واحدة فجائية لا يمكن تداركها..

كانت "جدتى" هى الكهف الذى انطلقت منه ذاتى..الكهف السحرى الذى دخلته وخرجت منه الإنسانة المعجونة بتفاصيل صوفية أصيلة حاكتها فىّ حكاياتها وطقوسها وأفعالها وأقوالها..كنت أرى من خلالها كل المعالم من حولى وكأنها العدسة التى تعطى النور لعيونى لتكتشف فى الأشياء نوراً مضاعفاً..

اندهش كثيراً ..كيف أننى عشت وقتها..وكيف أننى مازلت أعيش دونها وأمارس حياتى..على ما يبدو أن الإنسان فى أحيان كثيرة يتصرف مثل الآلة..يؤدى واجباته لاشعورياً وكأنه مبرمج على هذه الآلية..

فلقد عشت بعدها أتجرع الألم فى كأس من الصبر..وامارسه فى شىء من الإعتياد..بل والإدمان..نعم اعتدت الألم وأدمنته وقتها ربما لأن روحى كانت قد وصلت إلى درجة مفرطة من التشبع به حتى أنه أصبح يطفو ويفيض على الآخرين من حولى..فيبكون لحالى ويبكون لفراقها وأنا..أنا المتمرسة فى تفاصيل الألم وفراقها لا أستطيع..

لم أنساها..ولم أنس الفيض المتراكم من الخبرات والعبر والعظات التى أصقلت روحى بهم..ولازلت حتى اليوم أعيد ترتيب وصياغة كل ذكرياتى معها..قطع من ملابسها..ابريقها..خاتم زواجها..صورها..كل كل شىء لا يزال يرافقنى ويؤنسنى ويغدق علىّ بدفقات من الحنان الخالص الذى لم يضع بعد مع الزمن وقسوته ..

فى مثل هذه الأيام راحت بعيداً..عند الله..تماماً كما نقول لأطفالنا عندما يسألوننا عن الإختفاء المفاجىء لبعض الأشخاص ونريد أن نقرب لهم المعنى..أو نضحك عليهم..ولكنه حقيقى..فنقول أنه ذهب للسماء ..صعد لله ..فهى راحت عند الله..ولم تمت..فلا تزال حية نابضة فى ذكراى..ولازالت ماكثة أمام عيونى ..تلتبس روحى..كأنه الأمس القريب..

آه يا غالية..كم أشتاقك.. وحنانك..

فى ذكراك..مازلت أتذوق طعم قبلاتك..

قبلاتك الشتوية الدافئة

آه يا جدتى

قبلينى يا غالية

قبلينى..

يا الله يا عشتار

وكأنني أراك وألمس حزنك في هذه اللحظة المأساوية المنقضية..

كأنني كنت هناك في ركن، أتطلع إليك، أمد إليك يدي، أوشك أن أتقدم، أصمت، وأترك دمعا ينساب..

كم هي فاجعة هذه اللحظة ومضيعة ومغيبة .. ماحية للوجود مفنية للوعي فاجعة للشعور ومطفئة للنور الحي في نفوسنا

لقد أبدعت في وصف هذا الحزن الكبير يا عشتار ووصف هذا اللقاء القاتم مع الموت ..

أبدعت حتى وجدتني أقف وجها لوجه أمام لحظات غيابي، متأملا أوقات امتحاني بالموت

ما كان ينقصني حتى هذه اللحظة، هو هذا اللقاء المباشر بالموت وما ينقصني عادة لا أجده إلا لديك

سر من أسرار تهيبي الطاغي من الموت يا عشتار وأحيانا من مجرد التفكير فيه، هو خفاؤه عني، تهربه من وجهي، فراره من حضوري. دائما يفاجئني الموت ويقتنص من أحب في غيابي، لم يفعلها مرة واحدة في حضوري أو – على الأقل – وهو على القرب مني، وأنا على القرب منه. وكأنه يتعمد أن يظهر لي ذاته ملفعة برهبة الخفاء، أن يتوضح لي بظلال غيابه القاتمة، أن يبرز لي بسكونه الجامد البارد كالثلج، أن يخيفني بصمته حد الرعب

دائما كان يأتيني الموت من حيث لا أنتظر ولا أتوقع، ومن غير الجهة التي أطل إليها، يأتيني دوما من دائرة مأمونة تاركا كل دوائر الخطر الأعظم، ليصب في روحي المزيد من الخوف منه والضعف إزاءه. لذلك أقترنت صورة الموت في ذهني ووجداني، بالقتلة المأجورين الذين يكمنون لضحاياهم في مواقع خفية وأماكن نائية لا يظن وجودهم فيها. كما يقترن في ذهني بصورة الثعلب الذي يراوغ ويختفى، يقفز ويتسلل، يحيا ويموت، ليظهر في النهاية فجأة مقتنصا روح ضحيته. كذلك يقترن في وجداني بصور الثعابين المهلكة التي تختفي في الشقوق والجدران القديمة والأحراش الكثيفة والمواقع المهجورة، تلدغ ضحيتها في لمح البصر وقبل حتى أن تراها.

أول ما تعيه ذاكرتي من حديث الموت مستمد من مشهد حدثتني به أمي، مشهد انحفرت تفاصيله وتجسمت مشاعره في روعي حتى لكأني أتذكره بنفسي. كان أبي يصحبني كل مغيب، وأنا في عمر يزيد قليلا عن عمر رضيع، إلى شباك عريض القاعدة، له شيش خشبي وقضبان حديدية، نطل معا على قرص الشمس المحمر الغاطس عند حد الشفق اللامع وراء حديقة خلفية ترى الطريق، ولم يكن يحملني من هناك وينصرف قبل تمام المغيب وحلول الليل، خلال هذا الوقت كان يردد نداءه لأخي، الذي أعتقدت الأسرة في موته لفترة، يجعلني أردد النداء لأخي من وراءه بحروفي المضغمة التي لم تتضح معالمها بعد.

أما أبي نفسه، فقد كان مريضا، وكنت طفلا، مر في مرضه بمراحل من الخطر الشديد كان يعتقد فيها بموته الحتمي، لكنه تجاوزها بإرادة أسطورية أدهشت أطباءه، وعندما أطمأن الجميع إلى قدرته على مواصلة الحياة فاجأ الموت الجميع باختطافه. كنت وقتها في السنة الأولى من الدراسة الابتدائية، أتانا خبر الوفاة في المدرسة التي كانت أختى الكبرى مدرسة بها، لا أزال حتى اليوم أتذكر هلعها واصفرار وجهها وهي تدخل الفصل مباشرة لتصحبني، أتذكر جيدا تخبط خطوتها الواسعة في أطراف رداءها، هرولتي أنا وهي وصولا إلى البيت الذي رأيته لأول مرة يمتلأ بسواد في سواد.

هكذا تقريبا حدث بعد سنوات طويلة مع أمي..في ليلة وفاتها تلقيت مكالمتين تلفونيتين من أختي التي تكبرني مباشرة، واحدة في بداية الليل طمئنتني على صحتها التي حققت تحسنا متواصلا لعدة أسابيع سابقة، أما المكالمة الثانية الفاجعة فكانت في منتصف الليل تخبرني بوفاتها المفاجئة. وقد حرمتني المكالمة الأولى من أن أكون موجودا إلى جانبها لحظات مواجهتها الموت بمفردها.

هكذا تقريبا يا عشتار مات كل من أعرفهم .. واجهوا الموت واختطفهم في غير حضوري

لم أر أحدا من أحبابي في صحبة الموت، ولم ألتق بالموت ماثلا في أحد خلال حياتي، لذلك كنت أرتعب عادة من ذكر الموت وأعتقد أنه – كما هو في حقيقته – كامن يترقب لحظات غيابي ولا أعرف عن لقاءه أكثر من حكايات من ألتقوه مثلك يا عشتار

..

أقول إن حديثك عن رحيل الجدة كان حديثا فائقا جدا بالنسبة لي. ليس لأنه يدور عن الموت وفقط كما شرحت علاقتي به، ولكن لأنه يدور كذلك عن الجدة..تغمدها الله بطيبات رحمته وصافيات مغفرته وطيب خلود الجنات.

كنت آخر أبناء الأسرة، عندما ولدت لم يكون أبواي صغيرين، وكان الأجداد الأربعة كلهم قد رحلوا، رجالا ونساء. والجدود هم الأسلاف، أول خيط الأسلاف الممتد، المتشعب، الضارب في ظلمة الأزمان البعيدة كجذور شجرة عمرها بعمر الأزمنة. لذلك أعتقد أن صور الأجداد والجدات تتجلى في وعي وعيون الأحفاد مقترنة بالرهبة، الرهبة التي تستمد قوتها من كونهم يقفون على رأس هوة زمن بلا قاع، يربطونا هم بها، كما يحجبونها عنا بأجسادهم الحية، ويجسدونها لنا بحكاياتهم القديمة الأسطورية الخلابة.

في الواقع يا عشتار كنت أتمنى أن يكون لي جد وجدة، جدة بالأخص، تمنحني ما لا يمكن لأبي وأمي أن يمنحاني، الاحساس بهذا الامتداد البشري اللانهائي عبر تواصل الأزمنة، الشعور المجسد بالوجود الحي داخل هذه السلسلة المتوالية الحلقات والتي لا يحد امتدادها البصر، لا في الماضي ولا في المستقبل. ثم تمنحني ما هو أكثر من هذا الأثر الناتج عن مجرد الوجود الحيوي، تمنحني مخزون الجدات من أساطير الماضي ومن حكاياه السحرية المليئة بكائنات ما عادت تحيا في أزماننا وحقبنا المحايثة، حكايا وصلني الكثير منها عبر أمي منقولا عن الجدة. كانت هذه الحكايا تصلني دائما مشفوعة باعتذار من أمي عن ضياع تفاصيل شائقة وعن افتقاد محاكاة أسلوب الجدة وانفعالاتها الساحرة، الموحية بالواقع، أثناء السرد، وقدرتها الغامرة للمستمع على التخييل والتجسيد.

..

عشتار

أنا لم أر جدتي التي تمنيتها ولم أر الموت الثعلب الذي كان مصدر خوف عميق لي منذ الطفولة. لكني الآن، وجدت من العلائق ما يمكنه أن يغنيني عن أي شعور مفتقد، كما وأني قد تصالحت للأبد مع الموت، أصبحت لا أخشى أن يفاجئني، بعد أن تيقنت من مثواي الأخير الذي لن يكون غير حضن حبيب دافئ..حضن مطلق الدفء وحصن مطلق الأمان..لن أخشى طالما كنت فيه شيئا..حتى مجيء الموت

يا عشتار..... :clappingrose: :clappingrose: :clappingrose:

tumblr_llk2hb5ESN1qcdmy4o1_500.jpg

رابط هذا التعليق
شارك

جدتى ..راحت فى مثل هذه الأيام ..ولم تعد !!

259968_182774745111718_124076310981562_440241_8160512_n.jpg

لا أستطيع حتى الآن أن أجزم ما الذى دفعنى ليلتها للنهوض من الفراش..هل كنت عطشى بالفعل وقمت لأشرب ؟ أم أنه الهاجس الذى أيقذنى لينذرنى نذر الشؤم ؟..

كانت ليلة صيفية غير كل ليلة..سمائها مضطربة..غاصت فيها النجوم بلا رحمة ..وتوارى القمر بوميضه الضعيف خلف الغيمات الرمادية الباهتة بقهر من لا حيلة له..

أصرت ليلتها على أن تنام فى الصالة وليس فى غرفتها كما تعودنا ..وبرغم أنها كانت أمسية شتوية إلا أن الجو كان يهب علينا بنسمات شاردة من فرط سخونتها كانت تلفح وجوهنا وكأنها تلطمنا..ولم تفلح كل المحاولات وقتها أن تثنيها عما تريد..فقام أبى بتجهيز منامة مريحة لها ..ولحسن الحظ أنه كانت لدينا كنبة من النوع (الأمريكانى) ..تفتح فتكون على هيئة سرير لا بأس به ..كنا قد أهديناها إياها أنا وأخوتى فى ذكرى ميلادها منذ عامين..

ظللت بجوارها ..يدى تحتضن يديها..وبقيت على هذه الحالة ما يقرب من الساعة حتى غفت عيونها وراحت فى النوم..أحكمت من حولها الغطاء ونظرت ملياً فى وجهها..كنت أفعل مثلما كانت تفعل معى تماماً فى مرحلة لاحقة من عمرى..كانت تأخذنى فى أحضانها الرحبة ولا تتركنى حتى يأخذنى النوم لأصحو فى اليوم التالى على الشمس المطلة من نافذة غرفتى...

آه

كانت تعطينى كل أحاسيس الأمان فى الدنيا..

بعدما أطمئن قلبى إلى أنها نامت ...نهضت من على الكرسى فى هدوء وأنا أحاول أن أسير على أطراف أصابعى حتى لا أزعجها..وقبل أن أتوارى عنها فى الردهة ..التفت..والقيت عليها نظرة أخيرة..وذهبت..

لم أدر كم من الوقت مرّ عندما نهضت من الفراش لأشرب ..

راودتنى نفسى أن أذهب لألقى عليها نظرة اطمئنان..

اقتربت بنفس الطريقة..فى صمت حذر على أطراف أصابعى..جثوت بهدوء على ركبتى أمام الكنبة..أحاول أن أسترق النظر اليها وسط حجب الظلام..كانت عيونى قد تعودت على الظلام عندما رأيت وجهها بوضوح..مسبلة جفنيها فى دعة..إحدى يديها تستقر بجوارها فى تأدب..والأخرى تحتضن المساحة اسفل صدرها فى حنو..كان وجهها وضاءاً منيراً بشكل يعزى لست أدرى لماذا بالبكاء!!!

مددت يدى فى رفق حثيث..خيل إلى وقتها أن هذه الحركة استغرقت منى لحظات طوال أكثر كثافة وتركيزاً من أى لحظات أخرى قد مرت علىّ من قبل فى حياتى ..كانت للوقت ثقل ولأنفاسى ثقل وللحركة بطئها الثقيل القاتل وكأننى أتجمد ..لاشك أن هناك لحظات فى حياة الإنسان تعتبر فارقة..يكون الوقت فيها ما قبل اللحظة عمر..ويكون بعدها عمراً آخر..وكأن هذه اللحظة المهيبة الفارقة تنقلنا إلى زمانيين مختلفين مع أننا مازلنا فى نفس العالم..!

عندما مددت يدى برفق أحاول أن أحتضن يدها تجمدت كل أحاسيسى فى فزع صامت مرعب انطلق مهرولاً داخل أعماقى يفتك بكل احاسيس الأمان والأمل عندى..لم يتحرك جسدى قيد أنملة..وبدأ عقلى يدرك ويفسر ما تستشعره يدى..كانت يدها باردة كثلج يناير..متخشبة تماماً وكأن طاقة الحياة قد فارقتها وقررت الدماء أن ترحل عنها بلا عودة..

رفعت وجهى الجامد ببطء إلى وجهها ليقابلنى شعاع قادم من "وناسة" قريبة وكأننى فى مشهد خرافى يضاهى أعتى المشاهد السينمائية فى الحبكة والإتقان ..رحت أنظر فيها بلا انفعال..أتمعن فى جسدها المسجى.. كنت أستجديه ربما لست أدرى..هززتها فى رفق يائس..أحاول أن أصدق أنها لا ترد ..لن ترد ..ولكن لم يحدث أى شىء..

بيدى المترددة ..رحت أمسح على كفها المتجمد..ونزف عصبى حاد لا يتوقف ..فجأة تمنيت لوكنت صرصاراً جباناً مرتعداً يفر إلى مخبأ يؤيه هرباً من ضربات متلاحقة تستهدفه..تمنيت لو أن كل الدنيا من حولى تتحول إلى مخبأ يأوينى ويبتلعنى..مخبأ أفر إليه واحتمى من العراء والتشرد الذى اكتنفنى فجأة..كانت كل خلية فى جسدى تلعب مع الأخرى لعبة "المساكة"..شىء أشبه بذبذبة قوية منتظمة تفكك كل خلية وتجعلها فى حالة بحث مستمر عن جارتها..

صرخة صامتة تنقل معنى اللا معقول كانت تمزق كيانى.."هل ماتت؟؟..لا..لا..لم تمت..لم تمت..لم تمت.."

هيأ إلى أننى أصبحت عاجزة حتى عن الصراخ ..أو أن نوعاً من أنواع الشلل المؤقت قدأصاب أطرافى وعقلى ولسانى..ويبدو أننى ظللت على هذه الحالة حتى الصباح..أحتضن يدها وشفتاى متجمدتان فوقها تطبع قبلة مستمرة لا نهائية ..وكأننى أحاول بطاقتى وإرادتى أن أبثها الحياة..أو..قبلة الحياة..

هل فارقت الحياة أنا الأخرى؟؟..ربما..فما الفرق بين أن يقتنصك الموت وأن تواجه الموت بهذا السفور؟؟

كان هذا أول لقاء لى مع الموت..هذا الوهم الذى نحيا فيه طالما أنه لم يقربنا بعد..ونحيا ونحيا على أنه لن ينال منا أبداً..برغم أن كل شىء من حولنا يشى بأنه حقيقة..الموت حقيقى يخفى عنا اناس فى طرفة عين..كيف هذا..لا أعلم..ولكنها راحت..اقتنصها الموت بين انيابه..وظللت لساعات من قسوة مواجهته أعيش بلا قلب..وكأننى لا أصدق أننى التقيته ولا أود أن أقر بأنه هو الموت نفسه الذى خطفها فى لحظات قصار مابين غفوة عينى وصحيانها..!

انتزعوها منى وانتزعونى منها..زحفت أمتاراً طويلة وأنا لاأزال اتشبث بيدها..أطلقوا فىّ صرخة الحياة وهم يوارونها عن ناظرى..صرخة صامتة ..غير منطوقة إلا بهدير مخيف لم يتعد داخلى ..لم أصرخ فى الحقيقة ولم أبك..وإنما تكفل الدمع لا أعرف كيف بأن ينساب كالأنهار فى صمت على وجنتى وبلا أدنى مجهود..هو الحزن الذى هطل على قلبى فجأة كالطلقة ..لا تستشعره على مهل بقدر ما يقتحمك على هيئة جرعة واحدة فجائية لا يمكن تداركها..

كانت "جدتى" هى الكهف الذى انطلقت منه ذاتى..الكهف السحرى الذى دخلته وخرجت منه الإنسانة المعجونة بتفاصيل صوفية أصيلة حاكتها فىّ حكاياتها وطقوسها وأفعالها وأقوالها..كنت أرى من خلالها كل المعالم من حولى وكأنها العدسة التى تعطى النور لعيونى لتكتشف فى الأشياء نوراً مضاعفاً..

اندهش كثيراً ..كيف أننى عشت وقتها..وكيف أننى مازلت أعيش دونها وأمارس حياتى..على ما يبدو أن الإنسان فى أحيان كثيرة يتصرف مثل الآلة..يؤدى واجباته لاشعورياً وكأنه مبرمج على هذه الآلية..

فلقد عشت بعدها أتجرع الألم فى كأس من الصبر..وامارسه فى شىء من الإعتياد..بل والإدمان..نعم اعتدت الألم وأدمنته وقتها ربما لأن روحى كانت قد وصلت إلى درجة مفرطة من التشبع به حتى أنه أصبح يطفو ويفيض على الآخرين من حولى..فيبكون لحالى ويبكون لفراقها وأنا..أنا المتمرسة فى تفاصيل الألم وفراقها لا أستطيع..

لم أنساها..ولم أنس الفيض المتراكم من الخبرات والعبر والعظات التى أصقلت روحى بهم..ولازلت حتى اليوم أعيد ترتيب وصياغة كل ذكرياتى معها..قطع من ملابسها..ابريقها..خاتم زواجها..صورها..كل كل شىء لا يزال يرافقنى ويؤنسنى ويغدق علىّ بدفقات من الحنان الخالص الذى لم يضع بعد مع الزمن وقسوته ..

فى مثل هذه الأيام راحت بعيداً..عند الله..تماماً كما نقول لأطفالنا عندما يسألوننا عن الإختفاء المفاجىء لبعض الأشخاص ونريد أن نقرب لهم المعنى..أو نضحك عليهم..ولكنه حقيقى..فنقول أنه ذهب للسماء ..صعد لله ..فهى راحت عند الله..ولم تمت..فلا تزال حية نابضة فى ذكراى..ولازالت ماكثة أمام عيونى ..تلتبس روحى..كأنه الأمس القريب..

آه يا غالية..كم أشتاقك.. وحنانك..

فى ذكراك..مازلت أتذوق طعم قبلاتك..

قبلاتك الشتوية الدافئة

آه يا جدتى

قبلينى يا غالية

قبلينى..

يا الله يا عشتار

وكأنني أراك وألمس حزنك في هذه اللحظة المأساوية المنقضية..

كأنني كنت هناك في ركن، أتطلع إليك، أمد إليك يدي، أوشك أن أتقدم، أصمت، وأترك دمعا ينساب..

كم هي فاجعة هذه اللحظة ومضيعة ومغيبة .. ماحية للوجود مفنية للوعي فاجعة للشعور ومطفئة للنور الحي في نفوسنا

لقد أبدعت في وصف هذا الحزن الكبير يا عشتار ووصف هذا اللقاء القاتم مع الموت ..

أبدعت حتى وجدتني أقف وجها لوجه أمام لحظات غيابي، متأملا أوقات امتحاني بالموت

ما كان ينقصني حتى هذه اللحظة، هو هذا اللقاء المباشر بالموت وما ينقصني عادة لا أجده إلا لديك

سر من أسرار تهيبي الطاغي من الموت يا عشتار وأحيانا من مجرد التفكير فيه، هو خفاؤه عني، تهربه من وجهي، فراره من حضوري. دائما يفاجئني الموت ويقتنص من أحب في غيابي، لم يفعلها مرة واحدة في حضوري أو – على الأقل – وهو على القرب مني، وأنا على القرب منه. وكأنه يتعمد أن يظهر لي ذاته ملفعة برهبة الخفاء، أن يتوضح لي بظلال غيابه القاتمة، أن يبرز لي بسكونه الجامد البارد كالثلج، أن يخيفني بصمته حد الرعب

دائما كان يأتيني الموت من حيث لا أنتظر ولا أتوقع، ومن غير الجهة التي أطل إليها، يأتيني دوما من دائرة مأمونة تاركا كل دوائر الخطر الأعظم، ليصب في روحي المزيد من الخوف منه والضعف إزاءه. لذلك أقترنت صورة الموت في ذهني ووجداني، بالقتلة المأجورين الذين يكمنون لضحاياهم في مواقع خفية وأماكن نائية لا يظن وجودهم فيها. كما يقترن في ذهني بصورة الثعلب الذي يراوغ ويختفى، يقفز ويتسلل، يحيا ويموت، ليظهر في النهاية فجأة مقتنصا روح ضحيته. كذلك يقترن في وجداني بصور الثعابين المهلكة التي تختفي في الشقوق والجدران القديمة والأحراش الكثيفة والمواقع المهجورة، تلدغ ضحيتها في لمح البصر وقبل حتى أن تراها.

أول ما تعيه ذاكرتي من حديث الموت مستمد من مشهد حدثتني به أمي، مشهد انحفرت تفاصيله وتجسمت مشاعره في روعي حتى لكأني أتذكره بنفسي. كان أبي يصحبني كل مغيب، وأنا في عمر يزيد قليلا عن عمر رضيع، إلى شباك عريض القاعدة، له شيش خشبي وقضبان حديدية، نطل معا على قرص الشمس المحمر الغاطس عند حد الشفق اللامع وراء حديقة خلفية ترى الطريق، ولم يكن يحملني من هناك وينصرف قبل تمام المغيب وحلول الليل، خلال هذا الوقت كان يردد نداءه لأخي، الذي أعتقدت الأسرة في موته لفترة، يجعلني أردد النداء لأخي من وراءه بحروفي المضغمة التي لم تتضح معالمها بعد.

أما أبي نفسه، فقد كان مريضا، وكنت طفلا، مر في مرضه بمراحل من الخطر الشديد كان يعتقد فيها بموته الحتمي، لكنه تجاوزها بإرادة أسطورية أدهشت أطباءه، وعندما أطمأن الجميع إلى قدرته على مواصلة الحياة فاجأ الموت الجميع باختطافه. كنت وقتها في السنة الأولى من الدراسة الابتدائية، أتانا خبر الوفاة في المدرسة التي كانت أختى الكبرى مدرسة بها، لا أزال حتى اليوم أتذكر هلعها واصفرار وجهها وهي تدخل الفصل مباشرة لتصحبني، أتذكر جيدا تخبط خطوتها الواسعة في أطراف رداءها، هرولتي أنا وهي وصولا إلى البيت الذي رأيته لأول مرة يمتلأ بسواد في سواد.

هكذا تقريبا حدث بعد سنوات طويلة مع أمي..في ليلة وفاتها تلقيت مكالمتين تلفونيتين من أختي التي تكبرني مباشرة، واحدة في بداية الليل طمئنتني على صحتها التي حققت تحسنا متواصلا لعدة أسابيع سابقة، أما المكالمة الثانية الفاجعة فكانت في منتصف الليل تخبرني بوفاتها المفاجئة. وقد حرمتني المكالمة الأولى من أن أكون موجودا إلى جانبها لحظات مواجهتها الموت بمفردها.

هكذا تقريبا يا عشتار مات كل من أعرفهم .. واجهوا الموت واختطفهم في غير حضوري

لم أر أحدا من أحبابي في صحبة الموت، ولم ألتق بالموت ماثلا في أحد خلال حياتي، لذلك كنت أرتعب عادة من ذكر الموت وأعتقد أنه – كما هو في حقيقته – كامن يترقب لحظات غيابي ولا أعرف عن لقاءه أكثر من حكايات من ألتقوه مثلك يا عشتار

..

أقول إن حديثك عن رحيل الجدة كان حديثا فائقا جدا بالنسبة لي. ليس لأنه يدور عن الموت وفقط كما شرحت علاقتي به، ولكن لأنه يدور كذلك عن الجدة..تغمدها الله بطيبات رحمته وصافيات مغفرته وطيب خلود الجنات.

كنت آخر أبناء الأسرة، عندما ولدت لم يكون أبواي صغيرين، وكان الأجداد الأربعة كلهم قد رحلوا، رجالا ونساء. والجدود هم الأسلاف، أول خيط الأسلاف الممتد، المتشعب، الضارب في ظلمة الأزمان البعيدة كجذور شجرة عمرها بعمر الأزمنة. لذلك أعتقد أن صور الأجداد والجدات تتجلى في وعي وعيون الأحفاد مقترنة بالرهبة، الرهبة التي تستمد قوتها من كونهم يقفون على رأس هوة زمن بلا قاع، يربطونا هم بها، كما يحجبونها عنا بأجسادهم الحية، ويجسدونها لنا بحكاياتهم القديمة الأسطورية الخلابة.

في الواقع يا عشتار كنت أتمنى أن يكون لي جد وجدة، جدة بالأخص، تمنحني ما لا يمكن لأبي وأمي أن يمنحاني، الاحساس بهذا الامتداد البشري اللانهائي عبر تواصل الأزمنة، الشعور المجسد بالوجود الحي داخل هذه السلسلة المتوالية الحلقات والتي لا يحد امتدادها البصر، لا في الماضي ولا في المستقبل. ثم تمنحني ما هو أكثر من هذا الأثر الناتج عن مجرد الوجود الحيوي، تمنحني مخزون الجدات من أساطير الماضي ومن حكاياه السحرية المليئة بكائنات ما عادت تحيا في أزماننا وحقبنا المحايثة، حكايا وصلني الكثير منها عبر أمي منقولا عن الجدة. كانت هذه الحكايا تصلني دائما مشفوعة باعتذار من أمي عن ضياع تفاصيل شائقة وعن افتقاد محاكاة أسلوب الجدة وانفعالاتها الساحرة، الموحية بالواقع، أثناء السرد، وقدرتها الغامرة للمستمع على التخييل والتجسيد.

..

عشتار

أنا لم أر جدتي التي تمنيتها ولم أر الموت الثعلب الذي كان مصدر خوف عميق لي منذ الطفولة. لكني الآن، وجدت من العلائق ما يمكنه أن يغنيني عن أي شعور مفتقد، كما وأني قد تصالحت للأبد مع الموت، أصبحت لا أخشى أن يفاجئني، بعد أن تيقنت من مثواي الأخير الذي لن يكون غير حضن حبيب دافئ..حضن مطلق الدفء وحصن مطلق الأمان..لن أخشى طالما كنت فيه شيئا..حتى مجيء الموت

يا عشتار..... :clappingrose: :clappingrose: :clappingrose:

tumblr_llk2hb5ESN1qcdmy4o1_500.jpg

لا تعرف يا أثر الطائر كم تأثرت بحكيك عن الموت ..بيد أننى يا عزيزى أغبطك على نعمة عدم مواجهته وجها لوجه !!

وسبحان الله ..ربما لو كنت فى نفس موقعى ومررت بتجربة لقاءه على هذه الشاكلة مثلما واجهته لكنت اتخذت نفس موقفى ..فاللحظة كانت قاسية ..صادمة جدا ..كان موقفا خلعنى تماما من نفسى وقتها ومن معانى لطالما احتضنتها كثيرا ..تماما كما قلت ..وكأن قبل الموت حياة..وبعده حياة أخرى مختلفة عن سابقتها فى كل شىء..فهو انتزاع ..انتزاع من نفسك على لطمة هادرة مخيفة ..ينخلع معها شيئ من قلبك وعقلك ولا يعد مرة اخرى و لن يعود ..تتغير الحياة حقا ..هذا ما حدث بعد وفاة جدتى مباشرة ..كنت وقتها شابة يافعة لم أتجاوز العشرين من عمرى ..اختلفت حياتى بعد هذه الحادثة بدرجة كبيرة ..ربما لو كان الشخص الميت لم يكن له أبلغ الأثر فى حياتى ونفسى مثلما كانت جدتى لكان الأمر مر بسلام ..ربما ..ولكنها جدتى ..جدتى ..منبع كل دفء وسلام ومحبة ..احتضان وبقاء ونماء ..أصالة وامتداد وغرس ..جدتى ..أعظم شخصية كانت فى حياتى على بساطتها وفطرتها ونقائها ..اقول اختلفت حياتى بعدها مباشرة على طريقة فقدان معان كثيرة فى نفس الوقت .. الشعور بالسعادة .. الاقبال على الحياة .. الإحساس بملذات الدنيا .. أشياء كثيرة ضاعت من ذاكرتى .. رائحة الهواء تغيرت .. ذكريات الأماكن تاهت من عقلى .. طعم الأكل نفسه اصبح له مرارة العلقم فى فمي ..

تجربة لم تكن بسيطة أبدا ..ولم تكن أيضا موحشة فيما أدركت بعد ذلك ..

فبرغم مواجهة الموت ..أنا وهو ..وحدنا فى الظلام ..على يد الجدة المتجمدة ..وعروقها الهامدة ..إلا أن هذه المواجهة عرفتنى عليه لأول مرة ..بعدما كنت بالفعل لا أعرف معناه ولا أتصوره ..كنت أؤمن به طبعا كحقيقة مطلقة وثابته من حقائق الحياة ..إنما لم أكن أصدقه بمعنى الحدوث الفعلى لى ..بمعنى الوقوع المباشر معى أو مع أحد من أحبائى ..أن أراه بمثل هذا السفور ..وأواجهه بمثل هذا الوضوح فى ليلة قاتمة ..شريدة ..أتلقاه فيها لأول مرة ..وأكون أنا أول مستقبليه وأول مكتشفيه ..كان الموت حاضرا ..حاضرا جدا ساعتها وكأن ملك الموت مازال هائما بروح جدتى فى المكان ..وكأننى أتيت قبل أن يفر بغنيمته الخالدة ..!

أكسبتنى هذه اللحظة ايمانا مجربا ومجردا ..تصديقا نهائيا للموت ..ليس كمعنى ولكن كحقيقة وجودية مفادها أننا سنموت حقا ..أنا ميتة لا محالة ..كلنا سنموت مهما عشنا ومهما فعلنا ومهما فرحنا أو حزنا ..كسبنا أو خسرنا ..كلنا سنموت ..وسيكون الموت هو الخاتمة النهائية والأخيرة ..تجربة مريعة ولكنها ايمانية جدا ..

مهما عشنا سنموت يا أثر الطائر ..مثلما ماتت جدتى فى لحظة ..لحظة واحدة ..أليس كذلك ؟!

الغريب أن بوادر الموت هى نفسها فى كل مواقفه تقريبا ..له نفس الإقتراب الأملس ..اللزج ..الحثيث ..المرعب ..له نفس المكر حين يقترب من ضحيته ..تذهلنا صحوة مباشرة قبل زيارته بساعات ..فتطمئن قلوبنا .. تستكين أعماقنا ..نقول الحمد لله ونتنفس الصعداء ..ثم ينقض علينا بلا رحمة ليقتنص الروح بلا رجعة ..فيصيبنا الذهول ..ونظل فترة لا بأس بها غير مصدقين وكأنه فاجئنا ..والحقيقة برغم تعدد التجارب ..ووجود الموت كثيرا حولنا وفى كل مكان ..إلا أنه يفاجئنا فى كل مرة !!

ما حدث معك ..يحدث بالفعل معنا جميعا يا أثر الطائر ..مهما كان الموت واضحا ..حاضرا أو غائبا ..يكون صادما ..مفاجئا ..مرعبا ..هى نفس النتيجة ..الإختفاء ..هى نفس المحصلة النهائية ..الفراق ..الموت نفسه كحدث فى الحياة ليس هو المرعب ولا الصادم ..فهو حقيقة لا مفر منها ..أقول أن الموت نفسه كحدث فى الحياة ليس هو المرعب ولا الصادم بقدر ما هو الإختفاء المفاجىء الغريب ..والفراق المؤلم الذى قد يمتد طويلا فى الزمن وقد لا يرحل عنا أبدا بشبحه الموجع ..

نعزى أنفسنا بعد الموت بأن الحياة مستمرة ..والحياة لاهية ..ستستمر الحياة بنا ..شئنا ذلك أو أبينا ..نقول أن الوقت ومشاغل الحياة وقسوتها ودورانها السريع قد ينسنى ما راح .. الا انه أحيانا لا يكون الأمر كذلك ..فكلما مرت الأيام كلما ازداد الحزن وغار الجرح اكثر فأكثر ..

أثر الطائر

من معجزات الموت كذلك ..أنه أحيانا يرحمنا ..وهكذا الحياة من منظور آخر ..لها وجهيها ..ولها لونيها الأساسين..الأبيض والأسود ..لونا الحياة الذين تنبثق منهما كل الألوان الأخرى ..ولذلك فالموت أحيانا يكون رحيما بنا عندما يحفظ لنا أرواح الأحباء حولنا ..محلقة فى سماواتنا ..عندما لا نزال نشعر بهم ..بأنفاسهم وأصواتهم ..ولست أدرى فعلا هل يحدث هذه حقيقة ..يفعله الموت ..أو هو سر الروح ..أم هو ادراكنا غير الواعى بمحبتنا لهذه الروح التى تصر - بعد الموت والفناء- على الوجود ..والبقاء فى حياتنا ..فنتمسك بدون وعى ومن دافع الألم ببقائهم وكأننا نرفض أنهم ماتول ورحلوا عنا ..وبرغم ذلك هناك أشخاص فى الحقيقة باقيين برغم الموت ..لايرحلون ..لا يبتعدون ..بل انهم فى نفوسنا أحياء ..

لذلك فأنا أعتقد أننى لم أفارق جدتى بالمعنى الكامل ..أحيانا يهيأ لى أننى أراها وأسمعها ..أحيانا أحدثها فى المنام وتسمعنى ..كيف لا يكون الموت بنا رحيما ان كان لا يحقق لنا كل هذا الأمل ..ويعود بالغائبين من جديد ولو جزئيا!

أثر الطائر

917ff30e89d9585c2a585629467b5825.gif

لا أراك الله مكروها فى عزيز لديك أبدا ..وأكسبك الصحة والعمر والعافية ..لتعيش الحياة ..تحياها وتحياك ..بحلاوتها ومرها ..بحوادثها جميعها ..يارب تطب لك الحياة ..وتحقق فيها ولها ما تتمنى وتحب ..

كلماتك عن الموت كانت مدهشة ..مثيرة ..فجرت فى نفسى منابع صوفية أصيلة ..فكما لك فلسفة ونظرة عميقة جدا فى الحياة ..هاهى فى الموت تتجلى أيضا بصفاء ..وانسانية .. ورضا ..حملت عظة ..وحملت سلاما وزيتونا ..حتى مع الموت ..!

فلتكن لك ..لنا ..الحياة بمتاعها ..نبقى فيها ..ندخل ونخرج ..نرحل ونعود ..نلتقى ونتعانق ..راضيين مرضيين دائما ان شاء الله ..

دمت دائما فى حفظ الله ..وفى حياة نابضة بالحياة والحب ..

13f14f2c61.jpg

تم تعديل بواسطة عشتار
رابط هذا التعليق
شارك

جدتى ..راحت فى مثل هذه الأيام ..ولم تعد !!

259968_182774745111718_124076310981562_440241_8160512_n.jpg

لا أستطيع حتى الآن أن أجزم ما الذى دفعنى ليلتها للنهوض من الفراش..هل كنت عطشى بالفعل وقمت لأشرب ؟ أم أنه الهاجس الذى أيقذنى لينذرنى نذر الشؤم ؟..

كانت ليلة صيفية غير كل ليلة..سمائها مضطربة..غاصت فيها النجوم بلا رحمة ..وتوارى القمر بوميضه الضعيف خلف الغيمات الرمادية الباهتة بقهر من لا حيلة له..

أصرت ليلتها على أن تنام فى الصالة وليس فى غرفتها كما تعودنا ..وبرغم أنها كانت أمسية شتوية إلا أن الجو كان يهب علينا بنسمات شاردة من فرط سخونتها كانت تلفح وجوهنا وكأنها تلطمنا..ولم تفلح كل المحاولات وقتها أن تثنيها عما تريد..فقام أبى بتجهيز منامة مريحة لها ..ولحسن الحظ أنه كانت لدينا كنبة من النوع (الأمريكانى) ..تفتح فتكون على هيئة سرير لا بأس به ..كنا قد أهديناها إياها أنا وأخوتى فى ذكرى ميلادها منذ عامين..

ظللت بجوارها ..يدى تحتضن يديها..وبقيت على هذه الحالة ما يقرب من الساعة حتى غفت عيونها وراحت فى النوم..أحكمت من حولها الغطاء ونظرت ملياً فى وجهها..كنت أفعل مثلما كانت تفعل معى تماماً فى مرحلة لاحقة من عمرى..كانت تأخذنى فى أحضانها الرحبة ولا تتركنى حتى يأخذنى النوم لأصحو فى اليوم التالى على الشمس المطلة من نافذة غرفتى...

آه

كانت تعطينى كل أحاسيس الأمان فى الدنيا..

بعدما أطمئن قلبى إلى أنها نامت ...نهضت من على الكرسى فى هدوء وأنا أحاول أن أسير على أطراف أصابعى حتى لا أزعجها..وقبل أن أتوارى عنها فى الردهة ..التفت..والقيت عليها نظرة أخيرة..وذهبت..

لم أدر كم من الوقت مرّ عندما نهضت من الفراش لأشرب ..

راودتنى نفسى أن أذهب لألقى عليها نظرة اطمئنان..

اقتربت بنفس الطريقة..فى صمت حذر على أطراف أصابعى..جثوت بهدوء على ركبتى أمام الكنبة..أحاول أن أسترق النظر اليها وسط حجب الظلام..كانت عيونى قد تعودت على الظلام عندما رأيت وجهها بوضوح..مسبلة جفنيها فى دعة..إحدى يديها تستقر بجوارها فى تأدب..والأخرى تحتضن المساحة اسفل صدرها فى حنو..كان وجهها وضاءاً منيراً بشكل يعزى لست أدرى لماذا بالبكاء!!!

مددت يدى فى رفق حثيث..خيل إلى وقتها أن هذه الحركة استغرقت منى لحظات طوال أكثر كثافة وتركيزاً من أى لحظات أخرى قد مرت علىّ من قبل فى حياتى ..كانت للوقت ثقل ولأنفاسى ثقل وللحركة بطئها الثقيل القاتل وكأننى أتجمد ..لاشك أن هناك لحظات فى حياة الإنسان تعتبر فارقة..يكون الوقت فيها ما قبل اللحظة عمر..ويكون بعدها عمراً آخر..وكأن هذه اللحظة المهيبة الفارقة تنقلنا إلى زمانيين مختلفين مع أننا مازلنا فى نفس العالم..!

عندما مددت يدى برفق أحاول أن أحتضن يدها تجمدت كل أحاسيسى فى فزع صامت مرعب انطلق مهرولاً داخل أعماقى يفتك بكل احاسيس الأمان والأمل عندى..لم يتحرك جسدى قيد أنملة..وبدأ عقلى يدرك ويفسر ما تستشعره يدى..كانت يدها باردة كثلج يناير..متخشبة تماماً وكأن طاقة الحياة قد فارقتها وقررت الدماء أن ترحل عنها بلا عودة..

رفعت وجهى الجامد ببطء إلى وجهها ليقابلنى شعاع قادم من "وناسة" قريبة وكأننى فى مشهد خرافى يضاهى أعتى المشاهد السينمائية فى الحبكة والإتقان ..رحت أنظر فيها بلا انفعال..أتمعن فى جسدها المسجى.. كنت أستجديه ربما لست أدرى..هززتها فى رفق يائس..أحاول أن أصدق أنها لا ترد ..لن ترد ..ولكن لم يحدث أى شىء..

بيدى المترددة ..رحت أمسح على كفها المتجمد..ونزف عصبى حاد لا يتوقف ..فجأة تمنيت لوكنت صرصاراً جباناً مرتعداً يفر إلى مخبأ يؤيه هرباً من ضربات متلاحقة تستهدفه..تمنيت لو أن كل الدنيا من حولى تتحول إلى مخبأ يأوينى ويبتلعنى..مخبأ أفر إليه واحتمى من العراء والتشرد الذى اكتنفنى فجأة..كانت كل خلية فى جسدى تلعب مع الأخرى لعبة "المساكة"..شىء أشبه بذبذبة قوية منتظمة تفكك كل خلية وتجعلها فى حالة بحث مستمر عن جارتها..

صرخة صامتة تنقل معنى اللا معقول كانت تمزق كيانى.."هل ماتت؟؟..لا..لا..لم تمت..لم تمت..لم تمت.."

هيأ إلى أننى أصبحت عاجزة حتى عن الصراخ ..أو أن نوعاً من أنواع الشلل المؤقت قدأصاب أطرافى وعقلى ولسانى..ويبدو أننى ظللت على هذه الحالة حتى الصباح..أحتضن يدها وشفتاى متجمدتان فوقها تطبع قبلة مستمرة لا نهائية ..وكأننى أحاول بطاقتى وإرادتى أن أبثها الحياة..أو..قبلة الحياة..

هل فارقت الحياة أنا الأخرى؟؟..ربما..فما الفرق بين أن يقتنصك الموت وأن تواجه الموت بهذا السفور؟؟

كان هذا أول لقاء لى مع الموت..هذا الوهم الذى نحيا فيه طالما أنه لم يقربنا بعد..ونحيا ونحيا على أنه لن ينال منا أبداً..برغم أن كل شىء من حولنا يشى بأنه حقيقة..الموت حقيقى يخفى عنا اناس فى طرفة عين..كيف هذا..لا أعلم..ولكنها راحت..اقتنصها الموت بين انيابه..وظللت لساعات من قسوة مواجهته أعيش بلا قلب..وكأننى لا أصدق أننى التقيته ولا أود أن أقر بأنه هو الموت نفسه الذى خطفها فى لحظات قصار مابين غفوة عينى وصحيانها..!

انتزعوها منى وانتزعونى منها..زحفت أمتاراً طويلة وأنا لاأزال اتشبث بيدها..أطلقوا فىّ صرخة الحياة وهم يوارونها عن ناظرى..صرخة صامتة ..غير منطوقة إلا بهدير مخيف لم يتعد داخلى ..لم أصرخ فى الحقيقة ولم أبك..وإنما تكفل الدمع لا أعرف كيف بأن ينساب كالأنهار فى صمت على وجنتى وبلا أدنى مجهود..هو الحزن الذى هطل على قلبى فجأة كالطلقة ..لا تستشعره على مهل بقدر ما يقتحمك على هيئة جرعة واحدة فجائية لا يمكن تداركها..

كانت "جدتى" هى الكهف الذى انطلقت منه ذاتى..الكهف السحرى الذى دخلته وخرجت منه الإنسانة المعجونة بتفاصيل صوفية أصيلة حاكتها فىّ حكاياتها وطقوسها وأفعالها وأقوالها..كنت أرى من خلالها كل المعالم من حولى وكأنها العدسة التى تعطى النور لعيونى لتكتشف فى الأشياء نوراً مضاعفاً..

اندهش كثيراً ..كيف أننى عشت وقتها..وكيف أننى مازلت أعيش دونها وأمارس حياتى..على ما يبدو أن الإنسان فى أحيان كثيرة يتصرف مثل الآلة..يؤدى واجباته لاشعورياً وكأنه مبرمج على هذه الآلية..

فلقد عشت بعدها أتجرع الألم فى كأس من الصبر..وامارسه فى شىء من الإعتياد..بل والإدمان..نعم اعتدت الألم وأدمنته وقتها ربما لأن روحى كانت قد وصلت إلى درجة مفرطة من التشبع به حتى أنه أصبح يطفو ويفيض على الآخرين من حولى..فيبكون لحالى ويبكون لفراقها وأنا..أنا المتمرسة فى تفاصيل الألم وفراقها لا أستطيع..

لم أنساها..ولم أنس الفيض المتراكم من الخبرات والعبر والعظات التى أصقلت روحى بهم..ولازلت حتى اليوم أعيد ترتيب وصياغة كل ذكرياتى معها..قطع من ملابسها..ابريقها..خاتم زواجها..صورها..كل كل شىء لا يزال يرافقنى ويؤنسنى ويغدق علىّ بدفقات من الحنان الخالص الذى لم يضع بعد مع الزمن وقسوته ..

فى مثل هذه الأيام راحت بعيداً..عند الله..تماماً كما نقول لأطفالنا عندما يسألوننا عن الإختفاء المفاجىء لبعض الأشخاص ونريد أن نقرب لهم المعنى..أو نضحك عليهم..ولكنه حقيقى..فنقول أنه ذهب للسماء ..صعد لله ..فهى راحت عند الله..ولم تمت..فلا تزال حية نابضة فى ذكراى..ولازالت ماكثة أمام عيونى ..تلتبس روحى..كأنه الأمس القريب..

آه يا غالية..كم أشتاقك.. وحنانك..

فى ذكراك..مازلت أتذوق طعم قبلاتك..

قبلاتك الشتوية الدافئة

آه يا جدتى

قبلينى يا غالية

قبلينى..

يا الله يا عشتار

وكأنني أراك وألمس حزنك في هذه اللحظة المأساوية المنقضية..

كأنني كنت هناك في ركن، أتطلع إليك، أمد إليك يدي، أوشك أن أتقدم، أصمت، وأترك دمعا ينساب..

كم هي فاجعة هذه اللحظة ومضيعة ومغيبة .. ماحية للوجود مفنية للوعي فاجعة للشعور ومطفئة للنور الحي في نفوسنا

لقد أبدعت في وصف هذا الحزن الكبير يا عشتار ووصف هذا اللقاء القاتم مع الموت ..

أبدعت حتى وجدتني أقف وجها لوجه أمام لحظات غيابي، متأملا أوقات امتحاني بالموت

ما كان ينقصني حتى هذه اللحظة، هو هذا اللقاء المباشر بالموت وما ينقصني عادة لا أجده إلا لديك

سر من أسرار تهيبي الطاغي من الموت يا عشتار وأحيانا من مجرد التفكير فيه، هو خفاؤه عني، تهربه من وجهي، فراره من حضوري. دائما يفاجئني الموت ويقتنص من أحب في غيابي، لم يفعلها مرة واحدة في حضوري أو – على الأقل – وهو على القرب مني، وأنا على القرب منه. وكأنه يتعمد أن يظهر لي ذاته ملفعة برهبة الخفاء، أن يتوضح لي بظلال غيابه القاتمة، أن يبرز لي بسكونه الجامد البارد كالثلج، أن يخيفني بصمته حد الرعب

دائما كان يأتيني الموت من حيث لا أنتظر ولا أتوقع، ومن غير الجهة التي أطل إليها، يأتيني دوما من دائرة مأمونة تاركا كل دوائر الخطر الأعظم، ليصب في روحي المزيد من الخوف منه والضعف إزاءه. لذلك أقترنت صورة الموت في ذهني ووجداني، بالقتلة المأجورين الذين يكمنون لضحاياهم في مواقع خفية وأماكن نائية لا يظن وجودهم فيها. كما يقترن في ذهني بصورة الثعلب الذي يراوغ ويختفى، يقفز ويتسلل، يحيا ويموت، ليظهر في النهاية فجأة مقتنصا روح ضحيته. كذلك يقترن في وجداني بصور الثعابين المهلكة التي تختفي في الشقوق والجدران القديمة والأحراش الكثيفة والمواقع المهجورة، تلدغ ضحيتها في لمح البصر وقبل حتى أن تراها.

أول ما تعيه ذاكرتي من حديث الموت مستمد من مشهد حدثتني به أمي، مشهد انحفرت تفاصيله وتجسمت مشاعره في روعي حتى لكأني أتذكره بنفسي. كان أبي يصحبني كل مغيب، وأنا في عمر يزيد قليلا عن عمر رضيع، إلى شباك عريض القاعدة، له شيش خشبي وقضبان حديدية، نطل معا على قرص الشمس المحمر الغاطس عند حد الشفق اللامع وراء حديقة خلفية ترى الطريق، ولم يكن يحملني من هناك وينصرف قبل تمام المغيب وحلول الليل، خلال هذا الوقت كان يردد نداءه لأخي، الذي أعتقدت الأسرة في موته لفترة، يجعلني أردد النداء لأخي من وراءه بحروفي المضغمة التي لم تتضح معالمها بعد.

أما أبي نفسه، فقد كان مريضا، وكنت طفلا، مر في مرضه بمراحل من الخطر الشديد كان يعتقد فيها بموته الحتمي، لكنه تجاوزها بإرادة أسطورية أدهشت أطباءه، وعندما أطمأن الجميع إلى قدرته على مواصلة الحياة فاجأ الموت الجميع باختطافه. كنت وقتها في السنة الأولى من الدراسة الابتدائية، أتانا خبر الوفاة في المدرسة التي كانت أختى الكبرى مدرسة بها، لا أزال حتى اليوم أتذكر هلعها واصفرار وجهها وهي تدخل الفصل مباشرة لتصحبني، أتذكر جيدا تخبط خطوتها الواسعة في أطراف رداءها، هرولتي أنا وهي وصولا إلى البيت الذي رأيته لأول مرة يمتلأ بسواد في سواد.

هكذا تقريبا حدث بعد سنوات طويلة مع أمي..في ليلة وفاتها تلقيت مكالمتين تلفونيتين من أختي التي تكبرني مباشرة، واحدة في بداية الليل طمئنتني على صحتها التي حققت تحسنا متواصلا لعدة أسابيع سابقة، أما المكالمة الثانية الفاجعة فكانت في منتصف الليل تخبرني بوفاتها المفاجئة. وقد حرمتني المكالمة الأولى من أن أكون موجودا إلى جانبها لحظات مواجهتها الموت بمفردها.

هكذا تقريبا يا عشتار مات كل من أعرفهم .. واجهوا الموت واختطفهم في غير حضوري

لم أر أحدا من أحبابي في صحبة الموت، ولم ألتق بالموت ماثلا في أحد خلال حياتي، لذلك كنت أرتعب عادة من ذكر الموت وأعتقد أنه – كما هو في حقيقته – كامن يترقب لحظات غيابي ولا أعرف عن لقاءه أكثر من حكايات من ألتقوه مثلك يا عشتار

..

أقول إن حديثك عن رحيل الجدة كان حديثا فائقا جدا بالنسبة لي. ليس لأنه يدور عن الموت وفقط كما شرحت علاقتي به، ولكن لأنه يدور كذلك عن الجدة..تغمدها الله بطيبات رحمته وصافيات مغفرته وطيب خلود الجنات.

كنت آخر أبناء الأسرة، عندما ولدت لم يكون أبواي صغيرين، وكان الأجداد الأربعة كلهم قد رحلوا، رجالا ونساء. والجدود هم الأسلاف، أول خيط الأسلاف الممتد، المتشعب، الضارب في ظلمة الأزمان البعيدة كجذور شجرة عمرها بعمر الأزمنة. لذلك أعتقد أن صور الأجداد والجدات تتجلى في وعي وعيون الأحفاد مقترنة بالرهبة، الرهبة التي تستمد قوتها من كونهم يقفون على رأس هوة زمن بلا قاع، يربطونا هم بها، كما يحجبونها عنا بأجسادهم الحية، ويجسدونها لنا بحكاياتهم القديمة الأسطورية الخلابة.

في الواقع يا عشتار كنت أتمنى أن يكون لي جد وجدة، جدة بالأخص، تمنحني ما لا يمكن لأبي وأمي أن يمنحاني، الاحساس بهذا الامتداد البشري اللانهائي عبر تواصل الأزمنة، الشعور المجسد بالوجود الحي داخل هذه السلسلة المتوالية الحلقات والتي لا يحد امتدادها البصر، لا في الماضي ولا في المستقبل. ثم تمنحني ما هو أكثر من هذا الأثر الناتج عن مجرد الوجود الحيوي، تمنحني مخزون الجدات من أساطير الماضي ومن حكاياه السحرية المليئة بكائنات ما عادت تحيا في أزماننا وحقبنا المحايثة، حكايا وصلني الكثير منها عبر أمي منقولا عن الجدة. كانت هذه الحكايا تصلني دائما مشفوعة باعتذار من أمي عن ضياع تفاصيل شائقة وعن افتقاد محاكاة أسلوب الجدة وانفعالاتها الساحرة، الموحية بالواقع، أثناء السرد، وقدرتها الغامرة للمستمع على التخييل والتجسيد.

..

عشتار

أنا لم أر جدتي التي تمنيتها ولم أر الموت الثعلب الذي كان مصدر خوف عميق لي منذ الطفولة. لكني الآن، وجدت من العلائق ما يمكنه أن يغنيني عن أي شعور مفتقد، كما وأني قد تصالحت للأبد مع الموت، أصبحت لا أخشى أن يفاجئني، بعد أن تيقنت من مثواي الأخير الذي لن يكون غير حضن حبيب دافئ..حضن مطلق الدفء وحصن مطلق الأمان..لن أخشى طالما كنت فيه شيئا..حتى مجيء الموت

يا عشتار..... :clappingrose: :clappingrose: :clappingrose:

tumblr_llk2hb5ESN1qcdmy4o1_500.jpg

لا تعرف يا أثر الطائر كم تأثرت بحكيك عن الموت ..بيد أننى يا عزيزى أغبطك على نعمة عدم مواجهته وجها لوجه !!

وسبحان الله ..ربما لو كنت فى نفس موقعى ومررت بتجربة لقاءه على هذه الشاكلة مثلما واجهته لكنت اتخذت نفس موقفى ..فاللحظة كانت قاسية ..صادمة جدا ..كان موقفا خلعنى تماما من نفسى وقتها ومن معانى لطالما احتضنتها كثيرا ..تماما كما قلت ..وكأن قبل الموت حياة..وبعده حياة أخرى مختلفة عن سابقتها فى كل شىء..فهو انتزاع ..انتزاع من نفسك على لطمة هادرة مخيفة ..ينخلع معها شيئ من قلبك وعقلك ولا يعد مرة اخرى و لن يعود ..تتغير الحياة حقا ..هذا ما حدث بعد وفاة جدتى مباشرة ..كنت وقتها شابة يافعة لم أتجاوز العشرين من عمرى ..اختلفت حياتى بعد هذه الحادثة بدرجة كبيرة ..ربما لو كان الشخص الميت لم يكن له أبلغ الأثر فى حياتى ونفسى مثلما كانت جدتى لكان الأمر مر بسلام ..ربما ..ولكنها جدتى ..جدتى ..منبع كل دفء وسلام ومحبة ..احتضان وبقاء ونماء ..أصالة وامتداد وغرس ..جدتى ..أعظم شخصية كانت فى حياتى على بساطتها وفطرتها ونقائها ..اقول اختلفت حياتى بعدها مباشرة على طريقة فقدان معان كثيرة فى نفس الوقت .. الشعور بالسعادة .. الاقبال على الحياة .. الإحساس بملذات الدنيا .. أشياء كثيرة ضاعت من ذاكرتى .. رائحة الهواء تغيرت .. ذكريات الأماكن تاهت من عقلى .. طعم الأكل نفسه اصبح له مرارة العلقم فى فمي ..

تجربة لم تكن بسيطة أبدا ..ولم تكن أيضا موحشة فيما أدركت بعد ذلك ..

فبرغم مواجهة الموت ..أنا وهو ..وحدنا فى الظلام ..على يد الجدة المتجمدة ..وعروقها الهامدة ..إلا أن هذه المواجهة عرفتنى عليه لأول مرة ..بعدما كنت بالفعل لا أعرف معناه ولا أتصوره ..كنت أؤمن به طبعا كحقيقة مطلقة وثابته من حقائق الحياة ..إنما لم أكن أصدقه بمعنى الحدوث الفعلى لى ..بمعنى الوقوع المباشر معى أو مع أحد من أحبائى ..أن أراه بمثل هذا السفور ..وأواجهه بمثل هذا الوضوح فى ليلة قاتمة ..شريدة ..أتلقاه فيها لأول مرة ..وأكون أنا أول مستقبليه وأول مكتشفيه ..كان الموت حاضرا ..حاضرا جدا ساعتها وكأن ملك الموت مازال هائما بروح جدتى فى المكان ..وكأننى أتيت قبل أن يفر بغنيمته الخالدة ..!

أكسبتنى هذه اللحظة ايمانا مجربا ومجردا ..تصديقا نهائيا للموت ..ليس كمعنى ولكن كحقيقة وجودية مفادها أننا سنموت حقا ..أنا ميتة لا محالة ..كلنا سنموت مهما عشنا ومهما فعلنا ومهما فرحنا أو حزنا ..كسبنا أو خسرنا ..كلنا سنموت ..وسيكون الموت هو الخاتمة النهائية والأخيرة ..تجربة مريعة ولكنها ايمانية جدا ..

مهما عشنا سنموت يا أثر الطائر ..مثلما ماتت جدتى فى لحظة ..لحظة واحدة ..أليس كذلك ؟!

الغريب أن بوادر الموت هى نفسها فى كل مواقفه تقريبا ..له نفس الإقتراب الأملس ..اللزج ..الحثيث ..المرعب ..له نفس المكر حين يقترب من ضحيته ..تذهلنا صحوة مباشرة قبل زيارته بساعات ..فتطمئن قلوبنا .. تستكين أعماقنا ..نقول الحمد لله ونتنفس الصعداء ..ثم ينقض علينا بلا رحمة ليقتنص الروح بلا رجعة ..فيصيبنا الذهول ..ونظل فترة لا بأس بها غير مصدقين وكأنه فاجئنا ..والحقيقة برغم تعدد التجارب ..ووجود الموت كثيرا حولنا وفى كل مكان ..إلا أنه يفاجئنا فى كل مرة !!

ما حدث معك ..يحدث بالفعل معنا جميعا يا أثر الطائر ..مهما كان الموت واضحا ..حاضرا أو غائبا ..يكون صادما ..مفاجئا ..مرعبا ..هى نفس النتيجة ..الإختفاء ..هى نفس المحصلة النهائية ..الفراق ..الموت نفسه كحدث فى الحياة ليس هو المرعب ولا الصادم ..فهو حقيقة لا مفر منها ..أقول أن الموت نفسه كحدث فى الحياة ليس هو المرعب ولا الصادم بقدر ما هو الإختفاء المفاجىء الغريب ..والفراق المؤلم الذى قد يمتد طويلا فى الزمن وقد لا يرحل عنا أبدا بشبحه الموجع ..

نعزى أنفسنا بعد الموت بأن الحياة مستمرة ..والحياة لاهية ..ستستمر الحياة بنا ..شئنا ذلك أو أبينا ..نقول أن الوقت ومشاغل الحياة وقسوتها ودورانها السريع قد ينسنى ما راح .. الا انه أحيانا لا يكون الأمر كذلك ..فكلما مرت الأيام كلما ازداد الحزن وغار الجرح اكثر فأكثر ..

أثر الطائر

من معجزات الموت كذلك ..أنه أحيانا يرحمنا ..وهكذا الحياة من منظور آخر ..لها وجهيها ..ولها لونيها الأساسين..الأبيض والأسود ..لونا الحياة الذين تنبثق منهما كل الألوان الأخرى ..ولذلك فالموت أحيانا يكون رحيما بنا عندما يحفظ لنا أرواح الأحباء حولنا ..محلقة فى سماواتنا ..عندما لا نزال نشعر بهم ..بأنفاسهم وأصواتهم ..ولست أدرى فعلا هل يحدث هذه حقيقة ..يفعله الموت ..أو هو سر الروح ..أم هو ادراكنا غير الواعى بمحبتنا لهذه الروح التى تصر - بعد الموت والفناء- على الوجود ..والبقاء فى حياتنا ..فنتمسك بدون وعى ومن دافع الألم ببقائهم وكأننا نرفض أنهم ماتول ورحلوا عنا ..وبرغم ذلك هناك أشخاص فى الحقيقة باقيين برغم الموت ..لايرحلون ..لا يبتعدون ..بل انهم فى نفوسنا أحياء ..

لذلك فأنا أعتقد أننى لم أفارق جدتى بالمعنى الكامل ..أحيانا يهيأ لى أننى أراها وأسمعها ..أحيانا أحدثها فى المنام وتسمعنى ..كيف لا يكون الموت بنا رحيما ان كان لا يحقق لنا كل هذا الأمل ..ويعود بالغائبين من جديد ولو جزئيا!

أثر الطائر

917ff30e89d9585c2a585629467b5825.gif

لا أراك الله مكروها فى عزيز لديك أبدا ..وأكسبك الصحة والعمر والعافية ..لتعيش الحياة ..تحياها وتحياك ..بحلاوتها ومرها ..بحوادثها جميعها ..يارب تطب لك الحياة ..وتحقق فيها ولها ما تتمنى وتحب ..

كلماتك عن الموت كانت مدهشة ..مثيرة ..فجرت فى نفسى منابع صوفية أصيلة ..فكما لك فلسفة ونظرة عميقة جدا فى الحياة ..هاهى فى الموت تتجلى أيضا بصفاء ..وانسانية .. ورضا ..حملت عظة ..وحملت سلاما وزيتونا ..حتى مع الموت ..!

فلتكن لك ..لنا ..الحياة بمتاعها ..نبقى فيها ..ندخل ونخرج ..نرحل ونعود ..نلتقى ونتعانق ..راضيين مرضيين دائما ان شاء الله ..

دمت دائما فى حفظ الله ..وفى حياة نابضة بالحياة والحب ..

13f14f2c61.jpg

لم يكن لي مناص من العودة مجددا لنفس الموضوع وذات النقاش .. فعذرا يا عشتار

ولكن من يتمالك نفسه أو يكبحها إزاء جلوس مريح دافئ بالقرب من نيران شتوية لها وهج المخيلة وروعة الذكرى وأنوار الحقائق .. نيران عشتارية مقدسة

.

.

ما استوعبته جيدا من كلماتك التي أعدت قراءتها مرات أن الموت، وهو حقا جزء أصيل من الحياة، لا يطيب للإنسان بحق إلا في حالة أن يكتسب طابعا شخصيا، عندما يصبح الموت جزء – قد يكون قاتما حقا لكنه مجرد جزء - من أرواحنا، من خصوصيات وجودنا اليومي، من ممتلكات حياتنا الشخصية.

هكذا يصبح الموت بالنسبة للمرء أكثر من أمر حتمي أو مسلم به، يصبح أمرا مقبولا جدا، بل وحتى محبوبا إذا أتى. بهذا القدر من الاقتراب من الموت، وبالروح التي تصادقه، وبالعيون التي تحدق في وجهه، وبالمخيلة التي تجعل من ذكراه أمرا معاشا وطبيعيا وبسيطا. قسوة الموت كما قلت با عشتار ليست في مجرد وجوده لكن قسوته فيما يصنعه واقعيا من فراق. ألم الموت هو ألم الفراق. وخوف الموت أيضا هو خوف الفراق. وفيما عدا ذلك لا يشكل الموت هاجسا ملموسا لمن يراه. لا يشكل رعبا مجسما لمن يعرفه. ومواجهتك للموت يا عشتار مكنتك بلا شك من إضفاء هذا البعد الشخصي عليه وتجسيده في حيزه الطبيعي من الزمان والمكان، بينما يتزايد حقا الخوف من الموت عندما يكون مقولات نظرية أو كوابيس خيالية أو أشباحا مجردة هائمة في فضاء قاتم من اللا شخصي واللامتجسد واللا متحيز.

وجود من نحب في حياتنا يجعل من الموت أمرا مفزعا لما يسببه من فراق له، لكنه يجعل منه – في نفس الوقت – أمرا محتملا لغياب خطر الانقضاء. حقا نموت يا عشتار لكننا أيضا لا نموت، إننا لا ننقضي، لا نذهب بلا مكث ولا عودة. نرحل بصحبة الموت لما يأتينا حقا لكننا نبقى، رغم الموت، في هذه الحياة ببقاء أرواحنا بصحبة من نحب. يشبه الموت في هذه الحالة انتقالا، مجرد انتقال، رحلة نقوم بها، من المتحيز إلى اللامتحيز، من المادي إلى الروحاني، من المؤقت إلى الدائم، من اليومي إلى الأبدي.

ليس مستغربا إذن أن يبغض الإنسان الموت وأن يحبه في نفس الوقت..

يحبه لنفسه عندما يأتي في الوقت الذي يجب أن يأتي فيه ليضع حدا لتعاسة وألام لا مفر منها في خاتمة الحياة.

ويبغضه لأحبابه عندما يأتي لينتزعهم من أحضاننا كحضور مادي يتسم بإمكانية التجدد ويحولهم إلى صور روحية، صور روحية باقية فعلا لكنها ثابتة..وربما يكون هذا هو الألم الأعمق الكامن في الفراق.

كنت معك في تجربة مواجهة الموت يا عشتار لحظة بلحظة، حظيت بهذه اللذة المؤلمة، كما أنا معك في تجربة مواجهة الحياة، أتجرع كؤوس السعادة الأسمى. مررت بالتجربة متوحدا وممتزجا بأنوار روحك ومنابعها الصوفية المشعة الدافقة. واستفدت جيدا من هذه الرحلة كما من سائر تجليات روحك وإلهاماتك يا عشتاري الملهمة .. استفدت أننا نبغض الموت في صورته الوهمية المجردة فيما لا يوجد سبب حقيقي يدفعنا لنجعل منه عدوا شخصيا أو نكرهه بهذه الصورة اللاشخصية. طالما عرفنا جيدا موقعنا من الموت وعرفنا موقع الموت منا، وقسنا وجودنا إلى وجوده، وأحجامنا إلى حجمه. هذه حكمة صوفية ومن كان في حسن فهم المتصوفة للموت؟ بل من كان في مثل حبهم له؟

"وإني إلى التهديد بالموت راكن.." تعرفين هذه الأبيات الخالدة لسلطان العاشقين "ابن الفارض" من قصيدته (سقتني حميا الحب..) :

ولي منكِ كافٍ إن هَدَرْتِ دمي

ولم أُعدَّ شهيداً علمُ داعي منيَّتي

ولم تَسْوَ روحي في وِصالِكِ بَذلَها

لدَى لِبَونٍ بينَ صونٍ وبذلة ِ

وإني، إلى التّهديدِ بالموتِ، راكنٌ

ومَن هولِهِ أركانُ غيري هُدَّت

ولم تعسِفي بالقتلِ نفسِي بل لها

بهِ تُسعفي إن أنتِ أتلفت مُهجتي

فإنْ صحَّ هذا القالُ منكِ رفعتِني

وأعليتِ مقداري وأغليتِ قيمتي

وها أنا مستدعٍ قضاكِ وما بهِ

رضاكِ ولا أختارُ تأخيرَ مدَّتي

وعِيدُكِ لي وعدٌ، وإنجازُهُ مُنى

ولي بغيرِ البعدِ إن يُرمَ يثبتِ

وقد صِرتُ أرجو ما يُخافُ فأسعِدي

به روح ميت للحياة استعدت

وإني كذلك إلى هذه الرفقة العاشقة في الموت، كما أنني إلى هذه الرفقة العاشقة في الحياة، راكن .. راكن وسعيد

كل دعواتك المباركات يرددها امتنان قلبي ملايينا ملايينا مردودة إليك

وما من مني .. وما من إليك .. كذلك هي كل طيباتك في هذه الحياة وفي الحياة القادمة يا حياة بتمامها :clappingrose: :clappingrose:

تم تعديل بواسطة أثر الطائر
رابط هذا التعليق
شارك

e6e8884ad1.jpg

حاملة رسالة النادمين..اعترفت" هند"...

كانت مجازفة كبيرة منها أن تفتح لنا قلبها المغلق اليوم.. فتحكى عن أسرار دفنتها طويلاً ولم تشأ الإفصاح عنها فى أى مناسبة ..وهند هذه هى إحدى زميلاتى فى العمل .. انسانة على قدر عال من الخلق والإلتزام..معروفة دائما أنها هادئة ..كتومة .. تبدو غامضة ومنكسرة..وهى أرملة فى حدود الثامنة والثلاثين من عمرها ..توفى زوجها منذ ما يقرب من سبع سنوات تاركاً إياها بصحبة أبنائها " مريم ومصطفى " اللذان أصبحا كل حياتها بعد وفاته ..

جمعتنا اليوم بالصدفة جلسة نسائية خفيفة من تلك الجلسات التى اعتدنا أن نسترح فيها من عناء العمل.. وكنا نتجاذب أطراف الحديث عن الأزواج وأفعال الرجال وما إلى ذلك من هذه الأمور .. وكانت من بين الجالسات "مى".. زميلتنا الشابة الحديثة العهد بالزواج التى أخذت تسرد بعض مشكلاتها الزوجية بلا تحفظ طالبة العون والمشورة وخبرة الأقدمين فى هذا الباع ..تلك المشكلات المعروفة والمتوقعة فى العام الأول من الزواج حيث الصدمة المرعبة - حقا- التى يسببها اكتشاف كل من الطرفين لحقيقة الآخر الخفية ..على الطبيعة ..دون زيف أو تمثيل..الأمر الذى استفز "هند" أخيراً كى تخرج عن صمتها الحزين وتتحدث ..ربما أرادت أن تنقل "لمى" ولنا ..حصاد خبرتها الزوجية ..وتفشى سر أسرارها الذى حيرنا حولها طويلا ..

والحقيقة أن الحياة ستظل تأخذنا لأعماقها مهما طفونا على السطح ومهما أرسينا من معاملات الأمان الممكنة ..فقد وجدت فى كلام "هند" الكثير من العظة التى قد تفوت معشر الزوجات فى خضم انشغالهم بتربية الأبناء وفى العمل...أشياء بسيطة قد يتجاهلونها ولكنها عميقة مؤثرة ولها مفعول السحر...سمعت كلام هند بأذنى وصدقه قلبى ...ولذلك وددت لو أن أنقل لكم اعترافاتها القلبية التى تركت أثرا بالغا اليوم فى نفسى ..ربما تأثرتم بها مثلما حدث معى ..والكلام على لسانها .."لازلت أتذكر جثة زوجى وهى مسجاة أمام ناظرى لا تفارق سبحات خيالى..كنت منهارة تماماً ...تارة أبكى بصمت خجول يلفه الذنب...وتغلفه رائحة الندم ...وتارة تردد الجدران صدى صرخاتى التى ضربت رأسى بها كلما تذكرت غرورى وكبريائى معه ..هذه التصرفات القبيحة التى كانت يوما تصدر منى تجاهه على هيئة أوامر متعجرفة وتصرفات مغرورة ..كنت كلما نظرت الى جسده الميت فى لحظات الصمت والوحدة الموحشين الأبديين ..فى هذا اليوم المشئوم وهو مغادرنا لمثواه النهائى عما قليل .. أرى ملامحه كأنها حية تتحرك أمامى .. وتتماوج فى عيونى صور بعيدة ولقطات مطموسة كلما ازداد الدمع الهاطل من عينى ...لم يحب أحداً زوجته مثلما أحبنى زوجى وفضلنى حتى على أقرب الناس له...وأنا الأخرى أحببته منذ أن التقينا لأول مرة...لا أعرف حقيقة ما الذى جرى لى بعد ذلك...ولما تغيرت.. وقد جرت العادة على أن يتغير الرجل وتظل المرأة على العهد...بينما ما حدث معى هو العكس تماماً..صرت أكثر عصبية...أقل اهتماماً بحبه ..رغباته ..متطلباته..ونفسى...هل كان هذا بسبب الإنجاب؟؟ هل بسبب الأولاد الذين يستنفذون طاقتنا فى عملية تربيتهم ؟؟ لا أدرى ...كنت أقنع نفسى بذلك طول الوقت ..برغم أن كل هذه الأشياء العادية من انجاب لانشغالات يومية كثيرة تظل من متع الحياة نفسها ..فما الحياة غير ادوار نحياها بسعادة وحب .. أقول برغم ذلك وبرغم نظرتى القاتمة ظل زوجى يلفنى بحبه..فى حين أننى تحولت تماماً عنه...ربما هى ثقافة كل منا التى تختلف عن الآخر..نظرتنا للحياة نفسها...احترام العشرة وادراك معنى الحب ..هو كان يحسن الإستمتاع بالحياة..بدءاً من عمله وما يقابله من مشكلات وحتى طريقته فى تناول الطعام ...كان يمضغ على مهل وكأنما يريد أن يستمتع بكل ما تهبه اياه الحياة..فى حين أننى كنت الآخر العملى المادى الوقتى..الغريب أننا لم ننتبه حقا إلى هذا الإختلاف من قبل ..ولم يكن يبدو جليا هكذا عندما تعرفنا وأحببنا بعضنا البعض ..!

قسوت عليه وبخلت بالكلمة الطيبة وقت أن كان ينتظرها منى على أحر من الجمر..والمصيبة أننى كنت أشعر به وأعرف احتياجاته ..وأدرك الفارق بيننا ..بين عواطفه وقسوتى ..ومع ذلك أعرضت عن التغيير..حتى نظراته كنت أختبأ منها بين الأوانى والشراشف ..كنت أفسر السبب فى هذه الحالة بأنها ظروف النشئة الأولى.. تربيتى كانت حازمة نعم ...وبعد ذلك ..كنت متعبة نعم ..أعترف..أعترف بكل ذلك ..ولكن مسئوليات المرأة المعاصرة من ناحية أخرى تنهكها تماماً وتجعلها على آخر الليل أشبه برأس المنفضة الأشعس...

وبرغم كل هذه المبررات التى أحاول بها أن ألتمس العذر لنفسى ..كنت أنانية ...فهو الآخر كان يعمل..ومن المعروف أن الرجل يقع عليه العبء الأكبر فى تحمل مسئولية الأسرة على الأقل المادية والمعنوية ..ومع ذلك كان هادئاً مستمتعاً...هل رأيتم زوج كهذا من قبل؟..كانت الدموع تنهمر من عينى "هند" فى ألم والحقيقة كنا متعجبات مما ترويه..كأنها كانت تحك عن شىء خيالى...فأى زوج هذا؟!..

استطردت فى صوت متحشرج..مات زوجى ..مات بعد أن أعطيت أنا له ظهرى..مات قبل أن يعطينى الفرصة كى أحقق له أى شىء مما كان يتمناه..آه لو لى بيوم آخر معه!..آه لو يعود ولو للحظة واحدة أعبر له فيها عن أسفى وندمى وأغمره من فيض حبى وحنانى..!

صمتت "هند" ثم غمغمت بصوت يملئه البكاء...أستكثرت عليه حتى كلمة " شكراً " عندما كان يعود لى متعب ومنهك من عمله حاملاً فى يديه أكياس الفاكهة والخضروات...أستكثرت عليه حتى أن أقابله على الباب كى أحمل عنه بعض هذه الأحمال..لماذا كنت أبدو مستكبرة حمقاء غير مبالية..ألأنه كان محباً طيباً؟؟ ألانه كان رقيقا مثابرا ؟ ماذا كنت سأخسر وماذا كنت سأتجشم ؟ لا أعرف..!!!

لا أعرف لماذا كنت أتعمد تجاهله بهذه العجرفه ؟ وماذا كنت أحاول أن أثبت لنفسى؟؟

أعترف أننى ضيعت لحظات حب وسلام من بين يدى هباء...وكانت تغضبه ردود أفعالى تلك أحياناً وتحيله إلى تعاسة سرية.. وأنا ..أنا لم أكن ألحظها بصلفى وكبريائى...

لما مات كنت أجلس - ولفترات طويلة - مطأطأة الرأس ألملم شتات ذاكرتى الموزعة بين صوره فى مختلف المناسبات..وكأننى كنت أستحث نفسى والأيام والحب والذكرى لكى يرجع كل شىء ..كنت أعيش لحظات حب منفردة حرمت نفسى منها عندما كنت فى احتضانه ..فى كنفه وفى أمانه ..كنت أطابق أصابعى فوق أصابعه المرسومة فوق الصور ..أضع كفى فوق كفه بخيال سارح..أتحسس ملامحه بأناملى على الورق ..وكأننى أستجدى محاولة أخيرة للحاق به والصفح عنى...

كان بمقدورى أن أدير حياتى بسعادة ولكننى لم أفعل وبمقدور كل واحدة منكن أن تفعل الآن ..ليتكم تفعلون قبل أن تضيع الفرصة من بين أيديكم ..صدقونى بمقدوركم أن تجعلعوا السعادة مقيمة فى بيوتكن بالحب والتعاون والكلمة الطيبة التى لن تكلفنا الكثير..لماذ نستكبر ونستأثر بمشاعرنا لنا وحدنا ..لماذا نجعل الأنانية تفسد علينا بهجتنا وحياتنا؟لماذا لا نتصارح بمشاعرنا الحلوة حتى نسعد أنفسنا؟

صدقونى.. الرجل طفل..طفل كبير...كل رجل هو طفل كبير طيب ولو كان شكس أحيانا..يمكن كسب وده بالكلمة الطيبة والفعل الصادق..لا تفعلى مثلى يا صديقتى حتى لا تجلسى مثل جلستى هذه وحيده تتجرعى كأس الندم..افهمى زوجك وطوعيه..تقربى منه وأحبيه..أعطيه من وقتك ومجهودك..كونى له أمة يكن لك عبداً..رغباته تستحق منك التقدير..لا تكونى أنانية بإصرارك على ما تريدين وتقررين دون أن تتدارسى رغباته هو الآخر وتلتفتى إليها..لا تجعلى العند والندية يفسدون عليك حياتك ..لا تنسيه فى زحمة العمل والمشغوليات فالرجل يحتاج دائماً إلى الزوجة الحنونة الهادئة العاقلة..والزوجة بيدها كل مقاليد السعادة خاصة عندما يكون زوجها طيباً محباً..

انتهت كلمات هند تاركة إيانا فى حالة من التأثر ...كل الزوجات فى تلك اللحظة تذكرن أفعالهن وأقوالهن .. كلهن لحظتها حاولن مراجعة أنفسهن والوقوف على مناطق القصور لديهن ..ولكن هل كل الأزواج فى الواقع مثل زوج هند رحمه الله ؟ هل كل الرجال على هذه الشاكلة ..أطفال طيبون كما تقول ؟

كانت قصة حقيقية جداً نسجها خيال الواقع ..

تأملت تحت ظلالها حالنا نحن البشر ...يالنا من جاحدين أحياناً..لا ندرك قيمة ما بين أيدينا من نعمة..نغتر فى أحيان كثيرة عندما يتهيأ لنا أننا نمسك فى أيدينا بزمام كل الأمور ونفجع عندما نكتشف فى النهاية أننا قبضنا على الهواء..على الوهم والعذاب والشقاء...

ليس للحب حقيقة أى قيمة إذا لم نعبر عنه ...ولم نطلقه من الحيز الضيق المظلم الأنانى داخلنا إلى عالم أرحب وأوسع وأسطع..لماذا تربينا فى مجتمعنا على عدم الإعتراف بالعاطفة الإنسانية وخاصة الحب؟ لماذا تضن المرأة بنطق كلمة "أحبك " لزوجها وحبيبها؟؟ ولماذا يفعلها أيضاً الرجل؟..لماذا شببنا على أن هذه الكلمة هى سبب أى ضعف وأنها قد تعطى فرصة للآخر لكى يبتز عواطفنا ويذلنا؟...لماذا العاطفة فى حياتنا وعالمنا ..انحراف !!!!!

نرتكن إلى حجج وأوهام تحمل فى طياتها مغالطات تتسربل ثوباً فضفاضاً مريحا لا يلبث أن يمزقنا نحن ..مرتديه أولا ..فى النهاية وبقسوة..يمزق انسانيتا واحتياجاتنا النفسية العاطفية والضرورية ..هى ظلمة...ظلمة الغفلة عن حقيقة الحياة الجميلة برغم أوجاعها..ومن أروع جماليات الحياة هو بلاشك ..الحب...ما أشقانا حينما نغفل عن حقيقته؟..تلك العاطفة التى تفتح الأبواب الموصدة وتوقظ العقول النائمة..ويفيض بما يفيض به من نور يبدد وحشة ظلام القلب الذى آثر الكثيرون على البقاء فيه..إنه الحب الذى يمدنا بأسباب السعادة ويسدل الستار على الكبر والضغائن...

تأخرت هند ...تأخرت عن جلو قلبها من صدأ أوهام الإنشغال والأنانية والإستعلاء..حبها له كان سيختصر المسافات...يطوى البعد الكائن بين المحسوس والمسكوت عنه....

تأخرت هند ..وفات الأوان

فالفرصة قد تأتينا مرة واحدة فقط فى الحياة وان لم نحسن اقتناصها تضيع ..تضيع للأبد بلا رجعه

كذلك الحب ..

نعمةالدنيا ورضاها

رابط هذا التعليق
شارك

عشتار الجميلة

جميلة هي روحك

كلام مؤثر جدا

خصوصا لو كان هناك حب بين الزوجين

يكون الفقدان خسارة فادحة

شاهدت ذلك الخسران عندما فقدنا أبي رحمه الله

عاشت أمي بعده ميتة رافضة لكل مظاهر الحياة حتى لحقت به بعد ثمانية أعوام

علاقتهما كانت غريبة جدا

حب من نوع غريب

و لكنه يناسبهما هما الاثنين فقط

أتعلمين أنها توفيت رحمها الله يوم ذكرى زواجهما !!!

لقد كان ميلادهما و زواجهما و وفاتها في نفس الشهر

مايو الجميل

كان شهر الحب في بيتنا

كنت أحرص على جلب الزهور ثلاث مرات

مرة في الرابع من مايو لأمي

و مرة في التاسع من مايو لأبي

و مرة في الخامس عشر من مايو في ذكرى زواجهما

لم أبكي يوم وفاتها

لقد كنت سعيدة من أجلها

لقد عاشت معذبة من بعده

و أرجو من الله تعالى أن يسكنهما معا فسيح جناته

أتعلمين أنني أراهما في المنام كثيرا يرتبون لي بيتا جميلا و يختارن أثاثه و ديكوراته

و يزوراني في مناماتي عندما أشعر أن ليس لي أحد في هذا العالم

لقد كانا مثال الحب الرائع

حتى و إن لم يخلو من العيوب

من الخطأ أننا نتوقع أن يكون الحب مثاليا

الحب هو احتياج طرفان لبعضهما يصبح فيه من المستحيل أن يتحمل فيه أحدهما غياب الآخر

صديقتك لو كانت حقا تحبه لما تعمدت إهماله

عبارات الحب و سلوكياته لا يمكن تجنبها

فنحن نشعر بالراحة لدى قولها و فعلها

و كتمانها صعب بل مستحيل

ما أخفته هند هو مشاعر الامتنان التي ترى أن زوجها كان يستحقها

و في رأيي الامتنان و إن كان جزء من الحب فهو ليس حبا بذاته

ما بينهما كان عشرة طيبة على الأقل من جانبه

و في نظري لم يكن حبا

وفقها الله في العثور على ذلك الحب

آمين

:clappingrose:

أعد شحن طاقتك

حدد وجهتك

و اطلق قواك

رابط هذا التعليق
شارك

e6e8884ad1.jpg

حاملة رسالة النادمين..اعترفت" هند"...

كانت مجازفة كبيرة منها أن تفتح لنا قلبها المغلق اليوم.. فتحكى عن أسرار دفنتها طويلاً ولم تشأ الإفصاح عنها فى أى مناسبة ..وهند هذه هى إحدى زميلاتى فى العمل .. انسانة على قدر عال من الخلق والإلتزام..معروفة دائما أنها هادئة ..كتومة .. تبدو غامضة ومنكسرة..وهى أرملة فى حدود الثامنة والثلاثين من عمرها ..توفى زوجها منذ ما يقرب من سبع سنوات تاركاً إياها بصحبة أبنائها " مريم ومصطفى " اللذان أصبحا كل حياتها بعد وفاته ..

جمعتنا اليوم بالصدفة جلسة نسائية خفيفة من تلك الجلسات التى اعتدنا أن نسترح فيها من عناء العمل.. وكنا نتجاذب أطراف الحديث عن الأزواج وأفعال الرجال وما إلى ذلك من هذه الأمور .. وكانت من بين الجالسات "مى".. زميلتنا الشابة الحديثة العهد بالزواج التى أخذت تسرد بعض مشكلاتها الزوجية بلا تحفظ طالبة العون والمشورة وخبرة الأقدمين فى هذا الباع ..تلك المشكلات المعروفة والمتوقعة فى العام الأول من الزواج حيث الصدمة المرعبة - حقا- التى يسببها اكتشاف كل من الطرفين لحقيقة الآخر الخفية ..على الطبيعة ..دون زيف أو تمثيل..الأمر الذى استفز "هند" أخيراً كى تخرج عن صمتها الحزين وتتحدث ..ربما أرادت أن تنقل "لمى" ولنا ..حصاد خبرتها الزوجية ..وتفشى سر أسرارها الذى حيرنا حولها طويلا ..

والحقيقة أن الحياة ستظل تأخذنا لأعماقها مهما طفونا على السطح ومهما أرسينا من معاملات الأمان الممكنة ..فقد وجدت فى كلام "هند" الكثير من العظة التى قد تفوت معشر الزوجات فى خضم انشغالهم بتربية الأبناء وفى العمل...أشياء بسيطة قد يتجاهلونها ولكنها عميقة مؤثرة ولها مفعول السحر...سمعت كلام هند بأذنى وصدقه قلبى ...ولذلك وددت لو أن أنقل لكم اعترافاتها القلبية التى تركت أثرا بالغا اليوم فى نفسى ..ربما تأثرتم بها مثلما حدث معى ..والكلام على لسانها .."لازلت أتذكر جثة زوجى وهى مسجاة أمام ناظرى لا تفارق سبحات خيالى..كنت منهارة تماماً ...تارة أبكى بصمت خجول يلفه الذنب...وتغلفه رائحة الندم ...وتارة تردد الجدران صدى صرخاتى التى ضربت رأسى بها كلما تذكرت غرورى وكبريائى معه ..هذه التصرفات القبيحة التى كانت يوما تصدر منى تجاهه على هيئة أوامر متعجرفة وتصرفات مغرورة ..كنت كلما نظرت الى جسده الميت فى لحظات الصمت والوحدة الموحشين الأبديين ..فى هذا اليوم المشئوم وهو مغادرنا لمثواه النهائى عما قليل .. أرى ملامحه كأنها حية تتحرك أمامى .. وتتماوج فى عيونى صور بعيدة ولقطات مطموسة كلما ازداد الدمع الهاطل من عينى ...لم يحب أحداً زوجته مثلما أحبنى زوجى وفضلنى حتى على أقرب الناس له...وأنا الأخرى أحببته منذ أن التقينا لأول مرة...لا أعرف حقيقة ما الذى جرى لى بعد ذلك...ولما تغيرت.. وقد جرت العادة على أن يتغير الرجل وتظل المرأة على العهد...بينما ما حدث معى هو العكس تماماً..صرت أكثر عصبية...أقل اهتماماً بحبه ..رغباته ..متطلباته..ونفسى...هل كان هذا بسبب الإنجاب؟؟ هل بسبب الأولاد الذين يستنفذون طاقتنا فى عملية تربيتهم ؟؟ لا أدرى ...كنت أقنع نفسى بذلك طول الوقت ..برغم أن كل هذه الأشياء العادية من انجاب لانشغالات يومية كثيرة تظل من متع الحياة نفسها ..فما الحياة غير ادوار نحياها بسعادة وحب .. أقول برغم ذلك وبرغم نظرتى القاتمة ظل زوجى يلفنى بحبه..فى حين أننى تحولت تماماً عنه...ربما هى ثقافة كل منا التى تختلف عن الآخر..نظرتنا للحياة نفسها...احترام العشرة وادراك معنى الحب ..هو كان يحسن الإستمتاع بالحياة..بدءاً من عمله وما يقابله من مشكلات وحتى طريقته فى تناول الطعام ...كان يمضغ على مهل وكأنما يريد أن يستمتع بكل ما تهبه اياه الحياة..فى حين أننى كنت الآخر العملى المادى الوقتى..الغريب أننا لم ننتبه حقا إلى هذا الإختلاف من قبل ..ولم يكن يبدو جليا هكذا عندما تعرفنا وأحببنا بعضنا البعض ..!

قسوت عليه وبخلت بالكلمة الطيبة وقت أن كان ينتظرها منى على أحر من الجمر..والمصيبة أننى كنت أشعر به وأعرف احتياجاته ..وأدرك الفارق بيننا ..بين عواطفه وقسوتى ..ومع ذلك أعرضت عن التغيير..حتى نظراته كنت أختبأ منها بين الأوانى والشراشف ..كنت أفسر السبب فى هذه الحالة بأنها ظروف النشئة الأولى.. تربيتى كانت حازمة نعم ...وبعد ذلك ..كنت متعبة نعم ..أعترف..أعترف بكل ذلك ..ولكن مسئوليات المرأة المعاصرة من ناحية أخرى تنهكها تماماً وتجعلها على آخر الليل أشبه برأس المنفضة الأشعس...

وبرغم كل هذه المبررات التى أحاول بها أن ألتمس العذر لنفسى ..كنت أنانية ...فهو الآخر كان يعمل..ومن المعروف أن الرجل يقع عليه العبء الأكبر فى تحمل مسئولية الأسرة على الأقل المادية والمعنوية ..ومع ذلك كان هادئاً مستمتعاً...هل رأيتم زوج كهذا من قبل؟..كانت الدموع تنهمر من عينى "هند" فى ألم والحقيقة كنا متعجبات مما ترويه..كأنها كانت تحك عن شىء خيالى...فأى زوج هذا؟!..

استطردت فى صوت متحشرج..مات زوجى ..مات بعد أن أعطيت أنا له ظهرى..مات قبل أن يعطينى الفرصة كى أحقق له أى شىء مما كان يتمناه..آه لو لى بيوم آخر معه!..آه لو يعود ولو للحظة واحدة أعبر له فيها عن أسفى وندمى وأغمره من فيض حبى وحنانى..!

صمتت "هند" ثم غمغمت بصوت يملئه البكاء...أستكثرت عليه حتى كلمة " شكراً " عندما كان يعود لى متعب ومنهك من عمله حاملاً فى يديه أكياس الفاكهة والخضروات...أستكثرت عليه حتى أن أقابله على الباب كى أحمل عنه بعض هذه الأحمال..لماذا كنت أبدو مستكبرة حمقاء غير مبالية..ألأنه كان محباً طيباً؟؟ ألانه كان رقيقا مثابرا ؟ ماذا كنت سأخسر وماذا كنت سأتجشم ؟ لا أعرف..!!!

لا أعرف لماذا كنت أتعمد تجاهله بهذه العجرفه ؟ وماذا كنت أحاول أن أثبت لنفسى؟؟

أعترف أننى ضيعت لحظات حب وسلام من بين يدى هباء...وكانت تغضبه ردود أفعالى تلك أحياناً وتحيله إلى تعاسة سرية.. وأنا ..أنا لم أكن ألحظها بصلفى وكبريائى...

لما مات كنت أجلس - ولفترات طويلة - مطأطأة الرأس ألملم شتات ذاكرتى الموزعة بين صوره فى مختلف المناسبات..وكأننى كنت أستحث نفسى والأيام والحب والذكرى لكى يرجع كل شىء ..كنت أعيش لحظات حب منفردة حرمت نفسى منها عندما كنت فى احتضانه ..فى كنفه وفى أمانه ..كنت أطابق أصابعى فوق أصابعه المرسومة فوق الصور ..أضع كفى فوق كفه بخيال سارح..أتحسس ملامحه بأناملى على الورق ..وكأننى أستجدى محاولة أخيرة للحاق به والصفح عنى...

كان بمقدورى أن أدير حياتى بسعادة ولكننى لم أفعل وبمقدور كل واحدة منكن أن تفعل الآن ..ليتكم تفعلون قبل أن تضيع الفرصة من بين أيديكم ..صدقونى بمقدوركم أن تجعلعوا السعادة مقيمة فى بيوتكن بالحب والتعاون والكلمة الطيبة التى لن تكلفنا الكثير..لماذ نستكبر ونستأثر بمشاعرنا لنا وحدنا ..لماذا نجعل الأنانية تفسد علينا بهجتنا وحياتنا؟لماذا لا نتصارح بمشاعرنا الحلوة حتى نسعد أنفسنا؟

صدقونى.. الرجل طفل..طفل كبير...كل رجل هو طفل كبير طيب ولو كان شكس أحيانا..يمكن كسب وده بالكلمة الطيبة والفعل الصادق..لا تفعلى مثلى يا صديقتى حتى لا تجلسى مثل جلستى هذه وحيده تتجرعى كأس الندم..افهمى زوجك وطوعيه..تقربى منه وأحبيه..أعطيه من وقتك ومجهودك..كونى له أمة يكن لك عبداً..رغباته تستحق منك التقدير..لا تكونى أنانية بإصرارك على ما تريدين وتقررين دون أن تتدارسى رغباته هو الآخر وتلتفتى إليها..لا تجعلى العند والندية يفسدون عليك حياتك ..لا تنسيه فى زحمة العمل والمشغوليات فالرجل يحتاج دائماً إلى الزوجة الحنونة الهادئة العاقلة..والزوجة بيدها كل مقاليد السعادة خاصة عندما يكون زوجها طيباً محباً..

انتهت كلمات هند تاركة إيانا فى حالة من التأثر ...كل الزوجات فى تلك اللحظة تذكرن أفعالهن وأقوالهن .. كلهن لحظتها حاولن مراجعة أنفسهن والوقوف على مناطق القصور لديهن ..ولكن هل كل الأزواج فى الواقع مثل زوج هند رحمه الله ؟ هل كل الرجال على هذه الشاكلة ..أطفال طيبون كما تقول ؟

كانت قصة حقيقية جداً نسجها خيال الواقع ..

تأملت تحت ظلالها حالنا نحن البشر ...يالنا من جاحدين أحياناً..لا ندرك قيمة ما بين أيدينا من نعمة..نغتر فى أحيان كثيرة عندما يتهيأ لنا أننا نمسك فى أيدينا بزمام كل الأمور ونفجع عندما نكتشف فى النهاية أننا قبضنا على الهواء..على الوهم والعذاب والشقاء...

ليس للحب حقيقة أى قيمة إذا لم نعبر عنه ...ولم نطلقه من الحيز الضيق المظلم الأنانى داخلنا إلى عالم أرحب وأوسع وأسطع..لماذا تربينا فى مجتمعنا على عدم الإعتراف بالعاطفة الإنسانية وخاصة الحب؟ لماذا تضن المرأة بنطق كلمة "أحبك " لزوجها وحبيبها؟؟ ولماذا يفعلها أيضاً الرجل؟..لماذا شببنا على أن هذه الكلمة هى سبب أى ضعف وأنها قد تعطى فرصة للآخر لكى يبتز عواطفنا ويذلنا؟...لماذا العاطفة فى حياتنا وعالمنا ..انحراف !!!!!

نرتكن إلى حجج وأوهام تحمل فى طياتها مغالطات تتسربل ثوباً فضفاضاً مريحا لا يلبث أن يمزقنا نحن ..مرتديه أولا ..فى النهاية وبقسوة..يمزق انسانيتا واحتياجاتنا النفسية العاطفية والضرورية ..هى ظلمة...ظلمة الغفلة عن حقيقة الحياة الجميلة برغم أوجاعها..ومن أروع جماليات الحياة هو بلاشك ..الحب...ما أشقانا حينما نغفل عن حقيقته؟..تلك العاطفة التى تفتح الأبواب الموصدة وتوقظ العقول النائمة..ويفيض بما يفيض به من نور يبدد وحشة ظلام القلب الذى آثر الكثيرون على البقاء فيه..إنه الحب الذى يمدنا بأسباب السعادة ويسدل الستار على الكبر والضغائن...

تأخرت هند ...تأخرت عن جلو قلبها من صدأ أوهام الإنشغال والأنانية والإستعلاء..حبها له كان سيختصر المسافات...يطوى البعد الكائن بين المحسوس والمسكوت عنه....

تأخرت هند ..وفات الأوان

فالفرصة قد تأتينا مرة واحدة فقط فى الحياة وان لم نحسن اقتناصها تضيع ..تضيع للأبد بلا رجعه

كذلك الحب ..

نعمةالدنيا ورضاها

من بوسعه أن يحفظ بصدره شمسا تشع مثل قلبك يا عشتار !! :clappingrose:

أفتقدنا كثيرا في حياتنا اليومية هذا البوح الحميمي النابع كالبخور من احتراق الزمن والمنبعث كالروائح الأصيلة المعتقة من جسم التجربة الحية

مثلك صدقت ندم هند وتجربتها وأؤمن أنها تجربة يمكن أن تقع لأخريات وآخرين..

"غيبوبة هند"

أجدني مندفعا بجماع الشفقة والتعاطف إلى تعمق تجربة هذه المسكينة النادمة بعد فوات الأوان .. زود سردك قصتها يا عشتار بأجنحة من حميمية وقرب ورقة وعطف كأجنحة يمام حلقت بها في سماء روحي..

تعرفين يا عشتار أن المتصوفة رأوا الحياة أقرب ما تكون للحلم وآمنوا أن الإنسان يعيشها نائما ولا يوقظه من نومه إلا الموت فـ"الناس نيام إذا ماتوا أنتبهوا". ويصدق على هند مقولة موازية يمكن أن تكون :

"الأحباب نيام فإذا مات أحبابهم أنتبهوا"

والمتصوفة لم يظلموا الإنسان عندما رأوا أن "النائمون" هم أكثرية الناس، وحللوا جيدا أسباب نومهم فعرفوا أنها أسباب مملاة عليهم وهو مجبرون عليها. لا يد لهم فيها، أسباب ماثلة في كثافة وتعدد الأغطية التي تخنق الروح وتكبل إنطلاقها وتوهجها ويقظتها، أسباب تتمثل في عمق الغفلة النابعة من قلة ما يتعرض له الناس من "منبهات الروح"، وجفاف الطبع المستمد من جفاف وتجافي مفاعيل التربية، وشيوع المفاهيم الخاطئة التي تعود إلى مواريث الغلظة واللامبالاة واحتقار العاطفة كما يليق بضعف أو خطيئة. أطلق المتصوفة على أصحاب هذا النوم لقب "العامة" لكونهم من عموم الناس وأكثريتهم. وأطلقوا على يقظي الأرواح لقب "الخاصة"، ثم جعلوا من هؤلاء "الخاصة" قاعدة عامة لمن يتمكن منهم بعد اكتساب الوعي من ترقية روحه وصعود درجات جديدة على سلم الحقائق الأزلية، وابتدعوا مفهوم "خاصة الخاصة" و..دواليك، فالترقي الروحي والطبعي البشري هو ترقي مفتوح باتجاه سماء اللانهاية.

لم تكن هند، في الحقيقة، غير "محض امرأة" أو إن شئنا إتباع التصوف الإصطلاحي لقلنا إنها لم تكن غير "امرأة من العامة". إنها لم تلقن أي شيء حقيقي عن "الحب" في مقتبل حياتها، لم تزودها تربيتها ولا ثقافتها الموروثة بغير مستوى الضرورة حتى تعيش وتعمر ببيت زوجها، كما تعيش وتعمر قطع الأثاث والنجف والبسائط وسائر هذه الأشياء التي تستقطب جل انتباه الناس في الزواج. لم تدرب هند أو تعرف، لا في بيتها ولا مدرستها ولا جامعتها ولا بين أقاربها وصديقاتها، على إقامة إتصال نفسي ووجداني وعقلي وروحي بينها وبين من تحب. بل ويمكن ألا تكون قد تأهلت أصلا لفكرة وجود "من تحب"، وكل الذي تعرف أن من سيأتي هو "من تتزوج" ولا دخل للحب.

كانت هند زوجة اعتيادية نمطية، عاشت أيامها مستغرقة في هموم مادية ويومية، صغيرة وكبيرة، واعتقدت أنه هكذا تكون الحياة. ربما – يا عشتار – تكون هند ظالمة نفسها اليوم في ندمها، لكنني لا أظلمها لأن حديثها يدل على أنها كانت تجهل ما هو وراء أسوار حياة سجناء الطبع التي أختار الناس أن يحيوها، ليس بمحض إرادتهم ولكن بمحض غيابها، وليس بمحض وعيهم، ولكن بمحض غياب الوعي.

والذي حدث أن هند أستيقظت..أستردت – بحضور الموت – وعيها..رأت في زوجها : رجلها الذي كان من الممكن أن يكون واحدها الذي لا يشبهه آخر، ثم كان من الممكن أن يكون عاشقها الذي لا يحب ولا يحب (بالضم والفتح) إلا بها ومنها وفيها ولها، ثم كان من الممكن أن يكون الحب ساحرهما الذي يحول الحياة إلى سمفونية من التوافق والتناسق والهارموني، ثم..أن يصير التوافق تمازجا، ويصير التمازج وحدة و...

كما قلت يا عشتار فأن المتصوفة أعتقدوا أن الترقي والسمو الطبعي والروحي البشري هو سماء اللانهاية..

هكذا ولد الوعي لدى هند في لحظة لم يكن من الممكن فيها إلا أن يكون وعيا شقيا، وعيا يسبب لصاحبه الندم والحسرة على ما فاته من نعيم جنة أرضية، وسماء وحي بشري حقيقي، ولذة لا تدانيها كل ما يمكن أن توفره الثروات المادية للناس من لذائذ.

في عبارة لافتة جدا يا عشتار تقول هند عن زوجها :

"..مات قبل أن يعطينى الفرصة كى أحقق له أى شىء مما كان يتمناه.."

ما هي الفرصة التي كانت تنتظر هند أن يعطيها لها زوجها يا ترى؟!

هل هي فرصة أيام أخرى (يوم واحد كما تقول) أو سنوات أخرى؟!

وما الذي كان يضمن أن يؤدي وجود هذه الفرصة إلى استيقاظها؟!

وما الذي فعلته بكل الفرص / الأيام التي أتاحها لها؟!

وهل كان بيده هو أن يتيح فرصة أو فرصا، يوما أو ثانية؟!

من الواضح أنه : لا يمكن، فالموت بيد الله وليس بيد أحد منا. هذه العبارة الدالة في كلامها تشير، في نظري، إلى ما هو أبعد من معنى الحسرة فقط. فالفرصة التي تبحث عنها هند – متأخرة – لدى زوجها الراحل هي فرصة يقظته هو مبكرا، يقظته التي كانت ستمنحها يقظتها أيضا.

من الواضح لي أن هند تلوم زوجها، من طرف خفي، لأنه لم يعمد بفيض عواطفه الجياشه وملاحة طبعه الرقيق إلى محاولة تليين صلابة غفلتها، وكسر جمود مشاعرها نحوه، وهز غفلتها حتى تستيقظ. ويبدو أن الرجل أكتفى بالتحرق لمشاعرها وأنطوى على احتياجه لها دون أن يتمكن هو أيضا من أن يمد لها يدا أو يبذل من أجلها جهدا لينتزع منها ما يريد هو، وما كانت تريد هي أن تنتزع من نفسها. كانت تريد أن ينتزع ييده منها امرأته الحقيقية، عاشقته التي دفنت تحت صلابة وجمود الحس المتوارث، روحها التي أهملت وذوت في ظلام نفسها وواقعها.

لكن..هل كان في وسعه أن يفعل ولم يفعل؟!

أغلب ظني، إذا كان الزوج بهذا الوصف الذي يأتي في كلمات زوجته على الحقيقة، أنه حاول فعلا، بل ربما حاول كثيرا، وربما لم تنتبه هي في نومها – مرة واحدة – إلى محاولاته المضنية في سبيل أن تصحو.

.

.

عشتار

هكذا أتيت على قراءتي لقصة هند..

أما أنت..فتأتين دائما بموائد حافلة..

ولن تمكنك روحك المشرقة

ووعيك المذهل بالواقع

وولعك الإنساني الرائق الرقيق

ونصوع قلبك الشفاف

وقربك الأنثوي الحميم من الحقيقة الحية الخالدة ..

من أن تأتينا بأقل من حقائق الحياة الحية

عشتار لك ... :clappingrose: :clappingrose:

تم تعديل بواسطة أثر الطائر
رابط هذا التعليق
شارك

عشتار الجميلة

جميلة هي روحك

كلام مؤثر جدا

خصوصا لو كان هناك حب بين الزوجين

يكون الفقدان خسارة فادحة

شاهدت ذلك الخسران عندما فقدنا أبي رحمه الله

عاشت أمي بعده ميتة رافضة لكل مظاهر الحياة حتى لحقت به بعد ثمانية أعوام

علاقتهما كانت غريبة جدا

حب من نوع غريب

و لكنه يناسبهما هما الاثنين فقط

أتعلمين أنها توفيت رحمها الله يوم ذكرى زواجهما !!!

لقد كان ميلادهما و زواجهما و وفاتها في نفس الشهر

مايو الجميل

كان شهر الحب في بيتنا

كنت أحرص على جلب الزهور ثلاث مرات

مرة في الرابع من مايو لأمي

و مرة في التاسع من مايو لأبي

و مرة في الخامس عشر من مايو في ذكرى زواجهما

لم أبكي يوم وفاتها

لقد كنت سعيدة من أجلها

لقد عاشت معذبة من بعده

و أرجو من الله تعالى أن يسكنهما معا فسيح جناته

أتعلمين أنني أراهما في المنام كثيرا يرتبون لي بيتا جميلا و يختارن أثاثه و ديكوراته

و يزوراني في مناماتي عندما أشعر أن ليس لي أحد في هذا العالم

لقد كانا مثال الحب الرائع

حتى و إن لم يخلو من العيوب

من الخطأ أننا نتوقع أن يكون الحب مثاليا

الحب هو احتياج طرفان لبعضهما يصبح فيه من المستحيل أن يتحمل فيه أحدهما غياب الآخر

صديقتك لو كانت حقا تحبه لما تعمدت إهماله

عبارات الحب و سلوكياته لا يمكن تجنبها

فنحن نشعر بالراحة لدى قولها و فعلها

و كتمانها صعب بل مستحيل

ما أخفته هند هو مشاعر الامتنان التي ترى أن زوجها كان يستحقها

و في رأيي الامتنان و إن كان جزء من الحب فهو ليس حبا بذاته

ما بينهما كان عشرة طيبة على الأقل من جانبه

و في نظري لم يكن حبا

وفقها الله في العثور على ذلك الحب

آمين

:clappingrose:

الأستاذة عبير ..صديقتى العزيزة

لا أدرى ماذا أقول ..فالموضوع متشابك وعميق وذو تفصيلات متباينة بيننا نحن معشر البشر ..

السؤال ..هل الحب ..هو نفسه مثلما هو عندى أو عندك أو عند غيرنا ..هل يختلف الحب فيما بيننا ..هل تختلف طريقته وممارساته ومعانيه وتتعدد لهذه الدرجة التى يصعب معها فهمه !

هل كلنا نحب بنفس الطريقة ..؟

الحقيقة أنه لكى نفهم ..لابد أن نمتلك الوعى الكافى لنفهم أنفسنا أولا ونحسن تقدير موضع أقدامنا ..ونفهم أين نحن من الحياة ..وماذا يمثل لنا الحب ..ماذا سنقدم له ويقدم لنا ..ماذا سيغير فينا وكيف سنبدو عندما نحب ..وأى ثمار ستطرحه شجراته المتوهجة علينا ..

ولكى نقول أننا نحب ..فلابد أن ندرك ما تعنيه كلمة الحب بالإضافة إلى الوعى الذى سبق الإشارة اليه ..الكثير منا يعيش ولا يعرف أصلا هل يحب ..هل يحب الطرف الآخر ..هل يحب نفسه حتى ..هل سعيد ..هل حزين ..هل ينتقصه شىء ..أم أنه مثلا يحب الحب ..يمثل الحب ..يخدع الحب ..لا يعرف ما معنى أن يحب ..

الحقيقة يا عبير أن الناس لم تعد تحب ..هذا الحب بالمعنى الحقيقة السامى ..الأصلى ..

الحب اليوم أصبح فى إطار التيك واى ..مع سندويتش يمكننا أن نتبادل كلمات الحب وبمجرد أن نلتهم وجبتنا ..ينقضى الحب ..معظم الناس فى الحقيقة لا تعرف ماهو الحب ..واى طاقة هو ..واى معنى ..واى ايجابية ولذلك لا يدركون قيمته ويقللون من أهميته ..الحب الحقيقى هو شعور نادر خالد ..شعور بالتكامل والإمتلاء مع وفى الطرف الآخر ..شعور بالتوأمة ..شعور بالتلاقى ..شعور بإنصاف كونى ..فنحن عندما يتهيأ لنا أننا نحب أو نتزوج ..يعنى ..ننشأ علاقة مع الطرف الآخر أيا كانت ..غالبا لا نملك وعى متقد أو نافذ لنعرف حقيقة الأمر ..هل نحب فعلا وندرك هذا المعنى الأشمل الأعظم ..أم أننا نتزوج مثلا ونريد أن نكون أسرة وتحت هذا الهدف نتغطى بالحب ..أو ..نقنع أنفسنا أننا نحب ..

ربما حدث هذا مع هند ..

أضف يا عبير أن الحب كالنبتة ..قد يولد حقيقيا نعم..ولكنه ضعيف ..تحاصره قيود أو ظروف أو مازال فى طور التهيئة ومن ثم فإنه لن يحيا طويلا إلا إذا لقى الإهتمام والرعاية الكافيين لكى ينمو ويكبر ..ولذلك فممارسات الحب مهمة والتعبير عنه مهم وانتقاصهما لا يعنى أن الحب كان هزل مثلا أو كذب ..ربما يكون هذا صحيحا ..ولكنه يعنى أيضا غياب الوعى ..الكسل ..نقص الإهتمام ..كل هذا بالتأكيد يؤدى إلى البرود والقطيعة حتى لو كان الحب حقيقيا ..وهذا ما فعلته هند ..فحتى لو كانت تزوجت عن حب وعن ادراك واعى لقيمته ..وحدث انها اعتادته ..أو أهملته ..أو تعبت ..فلسوف يموت بكل تأكيد نتيجة أنها ارتكنت إلى ضمانات وهمية تقتل نبتة الحب فى مهدها ..

غير أننا يجب أن نعى جيدا ..وكل من يحب ..أن الحب الحياة ..الحياة بكل مفرداتها واستجاباتها ..وهذا يستلزم من كل طرف تقدير ورحمة ..ولكى يتوافر هذا لابد وأن تتوافر أيضا الثقة ..الثقة فى الحب وثقة كل طرف فى الآخر ..اذ قد يلتمس له الأعذار فى مرة أو أكثر ..يسامحه مرة أو أكثر ..من أجل الحب ..من أجل الثقة ..من اجل وعى الحب ..أما أن يتحول الأمر إلى اهمال واستعلاء فهذا لا يعنى سوى أنه لا حب ..أو أنه لا وعى ..

وجميل جدا ما قصصتيه عن والدك ووالدتك رحمهم الله ..ومايو الجميل والإبنة البارة المحبة ..وهذا ما كنت أقصده أن الحب الحياة ..الحب يحوى الخلاف والوفاق ..يحوى الفرح والحزن ..يحوى حتى بعض الغرابة ..طالما وثقنا من الحب ..وهو أيضا وثق فينا ..وكنا من القوة واليقين لنعى ..ونفهم

أشكرك من كل قلبى يا أستاذة عبير ..وتقبلى خالص مودتى وتقديرى

:clappingrose:

رابط هذا التعليق
شارك

e6e8884ad1.jpg

حاملة رسالة النادمين..اعترفت" هند"...

كانت مجازفة كبيرة منها أن تفتح لنا قلبها المغلق اليوم.. فتحكى عن أسرار دفنتها طويلاً ولم تشأ الإفصاح عنها فى أى مناسبة ..وهند هذه هى إحدى زميلاتى فى العمل .. انسانة على قدر عال من الخلق والإلتزام..معروفة دائما أنها هادئة ..كتومة .. تبدو غامضة ومنكسرة..وهى أرملة فى حدود الثامنة والثلاثين من عمرها ..توفى زوجها منذ ما يقرب من سبع سنوات تاركاً إياها بصحبة أبنائها " مريم ومصطفى " اللذان أصبحا كل حياتها بعد وفاته ..

جمعتنا اليوم بالصدفة جلسة نسائية خفيفة من تلك الجلسات التى اعتدنا أن نسترح فيها من عناء العمل.. وكنا نتجاذب أطراف الحديث عن الأزواج وأفعال الرجال وما إلى ذلك من هذه الأمور .. وكانت من بين الجالسات "مى".. زميلتنا الشابة الحديثة العهد بالزواج التى أخذت تسرد بعض مشكلاتها الزوجية بلا تحفظ طالبة العون والمشورة وخبرة الأقدمين فى هذا الباع ..تلك المشكلات المعروفة والمتوقعة فى العام الأول من الزواج حيث الصدمة المرعبة - حقا- التى يسببها اكتشاف كل من الطرفين لحقيقة الآخر الخفية ..على الطبيعة ..دون زيف أو تمثيل..الأمر الذى استفز "هند" أخيراً كى تخرج عن صمتها الحزين وتتحدث ..ربما أرادت أن تنقل "لمى" ولنا ..حصاد خبرتها الزوجية ..وتفشى سر أسرارها الذى حيرنا حولها طويلا ..

والحقيقة أن الحياة ستظل تأخذنا لأعماقها مهما طفونا على السطح ومهما أرسينا من معاملات الأمان الممكنة ..فقد وجدت فى كلام "هند" الكثير من العظة التى قد تفوت معشر الزوجات فى خضم انشغالهم بتربية الأبناء وفى العمل...أشياء بسيطة قد يتجاهلونها ولكنها عميقة مؤثرة ولها مفعول السحر...سمعت كلام هند بأذنى وصدقه قلبى ...ولذلك وددت لو أن أنقل لكم اعترافاتها القلبية التى تركت أثرا بالغا اليوم فى نفسى ..ربما تأثرتم بها مثلما حدث معى ..والكلام على لسانها .."لازلت أتذكر جثة زوجى وهى مسجاة أمام ناظرى لا تفارق سبحات خيالى..كنت منهارة تماماً ...تارة أبكى بصمت خجول يلفه الذنب...وتغلفه رائحة الندم ...وتارة تردد الجدران صدى صرخاتى التى ضربت رأسى بها كلما تذكرت غرورى وكبريائى معه ..هذه التصرفات القبيحة التى كانت يوما تصدر منى تجاهه على هيئة أوامر متعجرفة وتصرفات مغرورة ..كنت كلما نظرت الى جسده الميت فى لحظات الصمت والوحدة الموحشين الأبديين ..فى هذا اليوم المشئوم وهو مغادرنا لمثواه النهائى عما قليل .. أرى ملامحه كأنها حية تتحرك أمامى .. وتتماوج فى عيونى صور بعيدة ولقطات مطموسة كلما ازداد الدمع الهاطل من عينى ...لم يحب أحداً زوجته مثلما أحبنى زوجى وفضلنى حتى على أقرب الناس له...وأنا الأخرى أحببته منذ أن التقينا لأول مرة...لا أعرف حقيقة ما الذى جرى لى بعد ذلك...ولما تغيرت.. وقد جرت العادة على أن يتغير الرجل وتظل المرأة على العهد...بينما ما حدث معى هو العكس تماماً..صرت أكثر عصبية...أقل اهتماماً بحبه ..رغباته ..متطلباته..ونفسى...هل كان هذا بسبب الإنجاب؟؟ هل بسبب الأولاد الذين يستنفذون طاقتنا فى عملية تربيتهم ؟؟ لا أدرى ...كنت أقنع نفسى بذلك طول الوقت ..برغم أن كل هذه الأشياء العادية من انجاب لانشغالات يومية كثيرة تظل من متع الحياة نفسها ..فما الحياة غير ادوار نحياها بسعادة وحب .. أقول برغم ذلك وبرغم نظرتى القاتمة ظل زوجى يلفنى بحبه..فى حين أننى تحولت تماماً عنه...ربما هى ثقافة كل منا التى تختلف عن الآخر..نظرتنا للحياة نفسها...احترام العشرة وادراك معنى الحب ..هو كان يحسن الإستمتاع بالحياة..بدءاً من عمله وما يقابله من مشكلات وحتى طريقته فى تناول الطعام ...كان يمضغ على مهل وكأنما يريد أن يستمتع بكل ما تهبه اياه الحياة..فى حين أننى كنت الآخر العملى المادى الوقتى..الغريب أننا لم ننتبه حقا إلى هذا الإختلاف من قبل ..ولم يكن يبدو جليا هكذا عندما تعرفنا وأحببنا بعضنا البعض ..!

قسوت عليه وبخلت بالكلمة الطيبة وقت أن كان ينتظرها منى على أحر من الجمر..والمصيبة أننى كنت أشعر به وأعرف احتياجاته ..وأدرك الفارق بيننا ..بين عواطفه وقسوتى ..ومع ذلك أعرضت عن التغيير..حتى نظراته كنت أختبأ منها بين الأوانى والشراشف ..كنت أفسر السبب فى هذه الحالة بأنها ظروف النشئة الأولى.. تربيتى كانت حازمة نعم ...وبعد ذلك ..كنت متعبة نعم ..أعترف..أعترف بكل ذلك ..ولكن مسئوليات المرأة المعاصرة من ناحية أخرى تنهكها تماماً وتجعلها على آخر الليل أشبه برأس المنفضة الأشعس...

وبرغم كل هذه المبررات التى أحاول بها أن ألتمس العذر لنفسى ..كنت أنانية ...فهو الآخر كان يعمل..ومن المعروف أن الرجل يقع عليه العبء الأكبر فى تحمل مسئولية الأسرة على الأقل المادية والمعنوية ..ومع ذلك كان هادئاً مستمتعاً...هل رأيتم زوج كهذا من قبل؟..كانت الدموع تنهمر من عينى "هند" فى ألم والحقيقة كنا متعجبات مما ترويه..كأنها كانت تحك عن شىء خيالى...فأى زوج هذا؟!..

استطردت فى صوت متحشرج..مات زوجى ..مات بعد أن أعطيت أنا له ظهرى..مات قبل أن يعطينى الفرصة كى أحقق له أى شىء مما كان يتمناه..آه لو لى بيوم آخر معه!..آه لو يعود ولو للحظة واحدة أعبر له فيها عن أسفى وندمى وأغمره من فيض حبى وحنانى..!

صمتت "هند" ثم غمغمت بصوت يملئه البكاء...أستكثرت عليه حتى كلمة " شكراً " عندما كان يعود لى متعب ومنهك من عمله حاملاً فى يديه أكياس الفاكهة والخضروات...أستكثرت عليه حتى أن أقابله على الباب كى أحمل عنه بعض هذه الأحمال..لماذا كنت أبدو مستكبرة حمقاء غير مبالية..ألأنه كان محباً طيباً؟؟ ألانه كان رقيقا مثابرا ؟ ماذا كنت سأخسر وماذا كنت سأتجشم ؟ لا أعرف..!!!

لا أعرف لماذا كنت أتعمد تجاهله بهذه العجرفه ؟ وماذا كنت أحاول أن أثبت لنفسى؟؟

أعترف أننى ضيعت لحظات حب وسلام من بين يدى هباء...وكانت تغضبه ردود أفعالى تلك أحياناً وتحيله إلى تعاسة سرية.. وأنا ..أنا لم أكن ألحظها بصلفى وكبريائى...

لما مات كنت أجلس - ولفترات طويلة - مطأطأة الرأس ألملم شتات ذاكرتى الموزعة بين صوره فى مختلف المناسبات..وكأننى كنت أستحث نفسى والأيام والحب والذكرى لكى يرجع كل شىء ..كنت أعيش لحظات حب منفردة حرمت نفسى منها عندما كنت فى احتضانه ..فى كنفه وفى أمانه ..كنت أطابق أصابعى فوق أصابعه المرسومة فوق الصور ..أضع كفى فوق كفه بخيال سارح..أتحسس ملامحه بأناملى على الورق ..وكأننى أستجدى محاولة أخيرة للحاق به والصفح عنى...

كان بمقدورى أن أدير حياتى بسعادة ولكننى لم أفعل وبمقدور كل واحدة منكن أن تفعل الآن ..ليتكم تفعلون قبل أن تضيع الفرصة من بين أيديكم ..صدقونى بمقدوركم أن تجعلعوا السعادة مقيمة فى بيوتكن بالحب والتعاون والكلمة الطيبة التى لن تكلفنا الكثير..لماذ نستكبر ونستأثر بمشاعرنا لنا وحدنا ..لماذا نجعل الأنانية تفسد علينا بهجتنا وحياتنا؟لماذا لا نتصارح بمشاعرنا الحلوة حتى نسعد أنفسنا؟

صدقونى.. الرجل طفل..طفل كبير...كل رجل هو طفل كبير طيب ولو كان شكس أحيانا..يمكن كسب وده بالكلمة الطيبة والفعل الصادق..لا تفعلى مثلى يا صديقتى حتى لا تجلسى مثل جلستى هذه وحيده تتجرعى كأس الندم..افهمى زوجك وطوعيه..تقربى منه وأحبيه..أعطيه من وقتك ومجهودك..كونى له أمة يكن لك عبداً..رغباته تستحق منك التقدير..لا تكونى أنانية بإصرارك على ما تريدين وتقررين دون أن تتدارسى رغباته هو الآخر وتلتفتى إليها..لا تجعلى العند والندية يفسدون عليك حياتك ..لا تنسيه فى زحمة العمل والمشغوليات فالرجل يحتاج دائماً إلى الزوجة الحنونة الهادئة العاقلة..والزوجة بيدها كل مقاليد السعادة خاصة عندما يكون زوجها طيباً محباً..

انتهت كلمات هند تاركة إيانا فى حالة من التأثر ...كل الزوجات فى تلك اللحظة تذكرن أفعالهن وأقوالهن .. كلهن لحظتها حاولن مراجعة أنفسهن والوقوف على مناطق القصور لديهن ..ولكن هل كل الأزواج فى الواقع مثل زوج هند رحمه الله ؟ هل كل الرجال على هذه الشاكلة ..أطفال طيبون كما تقول ؟

كانت قصة حقيقية جداً نسجها خيال الواقع ..

تأملت تحت ظلالها حالنا نحن البشر ...يالنا من جاحدين أحياناً..لا ندرك قيمة ما بين أيدينا من نعمة..نغتر فى أحيان كثيرة عندما يتهيأ لنا أننا نمسك فى أيدينا بزمام كل الأمور ونفجع عندما نكتشف فى النهاية أننا قبضنا على الهواء..على الوهم والعذاب والشقاء...

ليس للحب حقيقة أى قيمة إذا لم نعبر عنه ...ولم نطلقه من الحيز الضيق المظلم الأنانى داخلنا إلى عالم أرحب وأوسع وأسطع..لماذا تربينا فى مجتمعنا على عدم الإعتراف بالعاطفة الإنسانية وخاصة الحب؟ لماذا تضن المرأة بنطق كلمة "أحبك " لزوجها وحبيبها؟؟ ولماذا يفعلها أيضاً الرجل؟..لماذا شببنا على أن هذه الكلمة هى سبب أى ضعف وأنها قد تعطى فرصة للآخر لكى يبتز عواطفنا ويذلنا؟...لماذا العاطفة فى حياتنا وعالمنا ..انحراف !!!!!

نرتكن إلى حجج وأوهام تحمل فى طياتها مغالطات تتسربل ثوباً فضفاضاً مريحا لا يلبث أن يمزقنا نحن ..مرتديه أولا ..فى النهاية وبقسوة..يمزق انسانيتا واحتياجاتنا النفسية العاطفية والضرورية ..هى ظلمة...ظلمة الغفلة عن حقيقة الحياة الجميلة برغم أوجاعها..ومن أروع جماليات الحياة هو بلاشك ..الحب...ما أشقانا حينما نغفل عن حقيقته؟..تلك العاطفة التى تفتح الأبواب الموصدة وتوقظ العقول النائمة..ويفيض بما يفيض به من نور يبدد وحشة ظلام القلب الذى آثر الكثيرون على البقاء فيه..إنه الحب الذى يمدنا بأسباب السعادة ويسدل الستار على الكبر والضغائن...

تأخرت هند ...تأخرت عن جلو قلبها من صدأ أوهام الإنشغال والأنانية والإستعلاء..حبها له كان سيختصر المسافات...يطوى البعد الكائن بين المحسوس والمسكوت عنه....

تأخرت هند ..وفات الأوان

فالفرصة قد تأتينا مرة واحدة فقط فى الحياة وان لم نحسن اقتناصها تضيع ..تضيع للأبد بلا رجعه

كذلك الحب ..

نعمةالدنيا ورضاها

من بوسعه أن يحفظ بصدره شمسا تشع مثل قلبك يا عشتار !! :clappingrose:

أفتقدنا كثيرا في حياتنا اليومية هذا البوح الحميمي النابع كالبخور من احتراق الزمن والمنبعث كالروائح الأصيلة المعتقة من جسم التجربة الحية

مثلك صدقت ندم هند وتجربتها وأؤمن أنها تجربة يمكن أن تقع لأخريات وآخرين..

"غيبوبة هند"

أجدني مندفعا بجماع الشفقة والتعاطف إلى تعمق تجربة هذه المسكينة النادمة بعد فوات الأوان .. زود سردك قصتها يا عشتار بأجنحة من حميمية وقرب ورقة وعطف كأجنحة يمام حلقت بها في سماء روحي..

تعرفين يا عشتار أن المتصوفة رأوا الحياة أقرب ما تكون للحلم وآمنوا أن الإنسان يعيشها نائما ولا يوقظه من نومه إلا الموت فـ"الناس نيام إذا ماتوا أنتبهوا". ويصدق على هند مقولة موازية يمكن أن تكون :

"الأحباب نيام فإذا مات أحبابهم أنتبهوا"

والمتصوفة لم يظلموا الإنسان عندما رأوا أن "النائمون" هم أكثرية الناس، وحللوا جيدا أسباب نومهم فعرفوا أنها أسباب مملاة عليهم وهو مجبرون عليها. لا يد لهم فيها، أسباب ماثلة في كثافة وتعدد الأغطية التي تخنق الروح وتكبل إنطلاقها وتوهجها ويقظتها، أسباب تتمثل في عمق الغفلة النابعة من قلة ما يتعرض له الناس من "منبهات الروح"، وجفاف الطبع المستمد من جفاف وتجافي مفاعيل التربية، وشيوع المفاهيم الخاطئة التي تعود إلى مواريث الغلظة واللامبالاة واحتقار العاطفة كما يليق بضعف أو خطيئة. أطلق المتصوفة على أصحاب هذا النوم لقب "العامة" لكونهم من عموم الناس وأكثريتهم. وأطلقوا على يقظي الأرواح لقب "الخاصة"، ثم جعلوا من هؤلاء "الخاصة" قاعدة عامة لمن يتمكن منهم بعد اكتساب الوعي من ترقية روحه وصعود درجات جديدة على سلم الحقائق الأزلية، وابتدعوا مفهوم "خاصة الخاصة" و..دواليك، فالترقي الروحي والطبعي البشري هو ترقي مفتوح باتجاه سماء اللانهاية.

لم تكن هند، في الحقيقة، غير "محض امرأة" أو إن شئنا إتباع التصوف الإصطلاحي لقلنا إنها لم تكن غير "امرأة من العامة". إنها لم تلقن أي شيء حقيقي عن "الحب" في مقتبل حياتها، لم تزودها تربيتها ولا ثقافتها الموروثة بغير مستوى الضرورة حتى تعيش وتعمر ببيت زوجها، كما تعيش وتعمر قطع الأثاث والنجف والبسائط وسائر هذه الأشياء التي تستقطب جل انتباه الناس في الزواج. لم تدرب هند أو تعرف، لا في بيتها ولا مدرستها ولا جامعتها ولا بين أقاربها وصديقاتها، على إقامة إتصال نفسي ووجداني وعقلي وروحي بينها وبين من تحب. بل ويمكن ألا تكون قد تأهلت أصلا لفكرة وجود "من تحب"، وكل الذي تعرف أن من سيأتي هو "من تتزوج" ولا دخل للحب.

كانت هند زوجة اعتيادية نمطية، عاشت أيامها مستغرقة في هموم مادية ويومية، صغيرة وكبيرة، واعتقدت أنه هكذا تكون الحياة. ربما – يا عشتار – تكون هند ظالمة نفسها اليوم في ندمها، لكنني لا أظلمها لأن حديثها يدل على أنها كانت تجهل ما هو وراء أسوار حياة سجناء الطبع التي أختار الناس أن يحيوها، ليس بمحض إرادتهم ولكن بمحض غيابها، وليس بمحض وعيهم، ولكن بمحض غياب الوعي.

والذي حدث أن هند أستيقظت..أستردت – بحضور الموت – وعيها..رأت في زوجها : رجلها الذي كان من الممكن أن يكون واحدها الذي لا يشبهه آخر، ثم كان من الممكن أن يكون عاشقها الذي لا يحب ولا يحب (بالضم والفتح) إلا بها ومنها وفيها ولها، ثم كان من الممكن أن يكون الحب ساحرهما الذي يحول الحياة إلى سمفونية من التوافق والتناسق والهارموني، ثم..أن يصير التوافق تمازجا، ويصير التمازج وحدة و...

كما قلت يا عشتار فأن المتصوفة أعتقدوا أن الترقي والسمو الطبعي والروحي البشري هو سماء اللانهاية..

هكذا ولد الوعي لدى هند في لحظة لم يكن من الممكن فيها إلا أن يكون وعيا شقيا، وعيا يسبب لصاحبه الندم والحسرة على ما فاته من نعيم جنة أرضية، وسماء وحي بشري حقيقي، ولذة لا تدانيها كل ما يمكن أن توفره الثروات المادية للناس من لذائذ.

في عبارة لافتة جدا يا عشتار تقول هند عن زوجها :

"..مات قبل أن يعطينى الفرصة كى أحقق له أى شىء مما كان يتمناه.."

ما هي الفرصة التي كانت تنتظر هند أن يعطيها لها زوجها يا ترى؟!

هل هي فرصة أيام أخرى (يوم واحد كما تقول) أو سنوات أخرى؟!

وما الذي كان يضمن أن يؤدي وجود هذه الفرصة إلى استيقاظها؟!

وما الذي فعلته بكل الفرص / الأيام التي أتاحها لها؟!

وهل كان بيده هو أن يتيح فرصة أو فرصا، يوما أو ثانية؟!

من الواضح أنه : لا يمكن، فالموت بيد الله وليس بيد أحد منا. هذه العبارة الدالة في كلامها تشير، في نظري، إلى ما هو أبعد من معنى الحسرة فقط. فالفرصة التي تبحث عنها هند – متأخرة – لدى زوجها الراحل هي فرصة يقظته هو مبكرا، يقظته التي كانت ستمنحها يقظتها أيضا.

من الواضح لي أن هند تلوم زوجها، من طرف خفي، لأنه لم يعمد بفيض عواطفه الجياشه وملاحة طبعه الرقيق إلى محاولة تليين صلابة غفلتها، وكسر جمود مشاعرها نحوه، وهز غفلتها حتى تستيقظ. ويبدو أن الرجل أكتفى بالتحرق لمشاعرها وأنطوى على احتياجه لها دون أن يتمكن هو أيضا من أن يمد لها يدا أو يبذل من أجلها جهدا لينتزع منها ما يريد هو، وما كانت تريد هي أن تنتزع من نفسها. كانت تريد أن ينتزع ييده منها امرأته الحقيقية، عاشقته التي دفنت تحت صلابة وجمود الحس المتوارث، روحها التي أهملت وذوت في ظلام نفسها وواقعها.

لكن..هل كان في وسعه أن يفعل ولم يفعل؟!

أغلب ظني، إذا كان الزوج بهذا الوصف الذي يأتي في كلمات زوجته على الحقيقة، أنه حاول فعلا، بل ربما حاول كثيرا، وربما لم تنتبه هي في نومها – مرة واحدة – إلى محاولاته المضنية في سبيل أن تصحو.

.

.

عشتار

هكذا أتيت على قراءتي لقصة هند..

أما أنت..فتأتين دائما بموائد حافلة..

ولن تمكنك روحك المشرقة

ووعيك المذهل بالواقع

وولعك الإنساني الرائق الرقيق

ونصوع قلبك الشفاف

وقربك الأنثوي الحميم من الحقيقة الحية الخالدة ..

من أن تأتينا بأقل من حقائق الحياة الحية

عشتار لك ... :clappingrose: :clappingrose:

صدقت يا أثر الطائر وصدق المتصوفة من قبلك فى رؤيتهم المشعة هذه للناس ..

وفى الواقع ..هى الحقيقة ..

الحقيقة الواضحة جدا سواء اقتربنا أو ابتعدنا عن المتصوفة ..أعنى أنها حقيقة من البديهيات لمن يعقل فعلا ويؤمن بالإختلاف بين الناس..ويتأمل فى حالهم..وإن كان المتصوفة برعوا حقا فى ايجاد هذا الوصف والمعنى الدقيق لمراتب البشر فى الحياة من حيث الثراء الإنسانى والروحى أكثر من أى باحث آخر ..ومن ناحية أخرى ..أو برأى آخر تبدو المشكلة فى أنها ليست فى الإختلاف ذاته ..ولكنها فى كوننا الإنسان ..فطالما نحن الإنسان ..وكلنا انسان ..وتصنيفنا الإنسان ..فهذا يعنى شيئا واحدا ..أننا على وعى وعلى وجدان حافل بالإنسانية والحب ..وعدم وجودهما ليس اختلاف بقدر ما هو نكران وجحود..وشذوذ ..وعدم تقدير واستيعاب لذاته الإنسان ولمعنى الإنسان وقيمة الحب ..

منا من يمتلك وعيه الكامل ..وهذا يضمن بذخ انسانى لا محدود يقترب كما ذكر المتصوفة من حدود السماء ..ومنا من يقع فى منطقة آمنة ..تكفل له التلامس مع نفسه ..ومنا من باع القضية بوعيه أو بدونه والمحصلة واحدة فى النهاية ..

الأمر يبدأ - كما ذكرت للأستاذة عبير أعلاه يا طيرى - من نظرتنا للحياة نفسها ..لماذا خلقنا ..ما هى الحياة ..ما وظيفتنا فيها ..كيف يعمرها الإنسان ..وقضايا أخرى مصيرية تتعلق بالحرية والحب البقاء ..والإستمرار ..اننا لو تأملنا رحلتنا على الأرض ..وخطوات الإنسان الأول فوقها ..والهدف الذى خلقه الله من أجله ..وصولا لما حققه ولما أصبح عليه اليوم من تقدم أو تأخر نحو انسانيته لوعينا الكثير ..وهى مشكلة الوعى مرة أخرى ولا سواها ..

وهند عانت من نفس المشكلة ..مشكلة اختفاء الوعى عند العامة ..وتدرجه كلما ارتقى الإنسان بنفسه لأعلى ..فحتى لو كانت أحبت فهى لم تبذل من وعيها ما يحفظ لها الحب ولو عند مستوى يضمن لها بعض متاع الحياة ..ويبدو أن الإنسان اذا ما سنحت له الفرصة ليعود الى بدائيته الأولى ويمارس لعبة الطرف الأقوى فى الوقت الذى يكون فيه الطرف الثانى الأضعف ..فإنه لن يتوانى عن العودة بشغف لتفوقه الأنانى ووحشيته البدائية ..وقد رأيت هذا المعنى تقريبا فى حكاية زميلتنا..

فلماذا لم تبادل زوجها الحب ؟هل لأنه كان ضعيف ؟ هل لأنه أحبها ؟ هل لأنها أحست بضعفه ؟ وهل هذا ضعف ؟..أم لأنهما - هو وهى - على هذه الشاكلة ..وعلى هذا النموذج ..كانوا مناسبين جدا ..وبقدر الله ..ولحكمة ما ..لبعضهما ..على طريقة الطيور على أشكالها تقع ..أو لكى يكتملا نصفى الدائرة بإحكام ..فضعفه نصف وقوتها نصف .حبه نصف ..وجفائها نصف ..والأقطاب المتنافرة تتجاذب ..؟ وهل بالفعل لو كان لديها ما يكفى من الوقت لأدركت ما فاتها ؟ لا أعتقد فى ذلك ..لو كان الوقت استمر بينهما اكثر ..لازدادات تعنتا أكثر وتمادت أكثر فأكثر..وازداد هو وهما فى المقابل ..ولم تكن لتدرك أو تعى ابدا طالما لم تلطمها اللطمة ..وحتى فى ظل اللطمة ..بدت لى أحيانا أنها تحاول جاهدة أن تقنع نفسها باعترفاتها ..بندمها ..تحاول أن تجد العزاء لنفسها ..أو ألف عذر يبرر جهلها ..

من نفس المنطلق آتساءل يا أثر الطائر عن المحبة أو الحب ..هل يكتسبان قيمتهما الوجدانية التى تشعرنا بالشبع والمتعة النفسية من مجرد ارتباطهما بالسعادة والشقاء ..هل لأنهما فعلا يمثلان وجدانا من نوع آخر غير العواطف العادية ..ولذلك فكلما كان الإنسان من خاصة الخاصة الخاصة الخاصة ....الخ ..كلما كانت عاطفته فى المحبة ذات مرتبة مختلفة ..؟

ثم هل تكون قيمة الحب مقصورة فقط على ما هو وجداني باعتباره ميلا أو نزوعا أو اتجاها وجدانيا..ألا يمكن أن يكون أيضا شكلا من أشكال المعرفة التى نسميها وعيا ؟ وإن كان معظم الناس يجيبون سلبا.. فهل ذلك لأن العنصر المعرفي في الحب يتميز بالغموض والتعقيد لدرجة أنه غير واضح ..أو غير موجود ..أو لا يصدق ؟

مما لاشك فيه يا أثر الطائر أن القيمة المثالية للشخصية تعلو كلما علا فيها منسوب الحب واقترانه بالمعرفة والوعى لا الوجدان فقط وهو الإناء.. وأى قيمة فى الدنيا هكذا ..وإلا كيف يمكن للحب أن يتحرك صوب القيمة المثالية للشخصية والكمال البشرى ..كيف يمكن للإنسان أن يفهم الوجود أو أن يدرك الحياة - وهذا أبسط شىء - ان لم تتوافر لديه معطيات معرفية أو قدر معين من الوعى ؟ فلا غرابة اذن عندما يتطلب أي فهم وجداني أو إدراك عاطفي معرفة أو استدلال أو وعي.. على اعتبار أن الحب كخبرة أو وعي خلقي يتطلب معرفة فعلا..

وبالتالي ليس الحب سوى حياة روحية يقضيها الإنسان في التعرف على ما هو جدير حقا بالمعرفة.. حياة يتعلق فيها الإنسان بأسمى وأرفع ما في الإنسان..يتعلق فيها بما يمنحه عمقا ومعنى وقيمة.. وبما يكسبه اتجاها وقصدا وغاية..وربما لهذا السبب كان تقسيم المتصوفة للناس بالعامة والخاصة بمراتبهما على اعتبار الحب ومدى وعى الإنسان له ..وبه..وفيه ..وعلى اعتبار أيضا أن خبرة الحب لدى الإنسان تعد من أهم الخبرات الخلقية والروحية وأخطرها في حياته على الإطلاق ..

وفى النهاية لابد أن يعى من يقلل من قيمة الحب ..ووجوده فى المجتمع ..ويقابله بالسخرية أو على أساس انه نوع من انواع الترف .. أنه ذو قيمة ايجابية جدا ..في جوهره إثبات وإحياء وبناء..وهو هدف الإنسان فى الأرض ..الهدف الذى خلقه الله من أجله ..الإعمار ..ولا يتحقق الإعمار سوى بقيم فاعلة بناءة سامية..لن يتحقق الخير والعدل والحق ..وكما أراد الله ..سوى بالحب .. فهو فى الأصل ميل إيجابي ونزوع عملي يتجلى في تحول الاهتمام من الأنا إلى الأنت ..من الأنانية إلى الجماعية ..من الذاتية إلى الإيثار ..اتجاه نحو الإكتمال ..نحو الوحدة ..وبالتالي الحب أولا هو نية واتجاه وسلوك..ليس محض كلام جميل ومعسول انما هو عاطفة عملية بناءة ..

الله محبة ..وبمحبة الله نحب بعضنا البعض ونحب حتى جماداتنا ..وبالمحبة التى هى أصلا محبة الله الموصولة فينا نرتقى ونتعلم وننجب ونبقى ..هى محبة الله ..سر الحياة ..سر هذا الكون الفسيح الذى يعبده وكل دقائقه تسبح بحمده ومن محبة الله خلقنا ..وبمحبته نعبده..وبمحبته نحب أنفسنا والآخرين ..

www-St-Takla-org__Come-Unto-Me-by-Reed.jpg

وبمحبة وضعها الله فى قلبينا ..وضعنا الله فى محبته

يا

أثر

الطائر

محبة ومحبة ..ومحبة

:clappingrose: :clappingrose:

رابط هذا التعليق
شارك

e6e8884ad1.jpg

حاملة رسالة النادمين..اعترفت" هند"...

كانت مجازفة كبيرة منها أن تفتح لنا قلبها المغلق اليوم.. فتحكى عن أسرار دفنتها طويلاً ولم تشأ الإفصاح عنها فى أى مناسبة ..وهند هذه هى إحدى زميلاتى فى العمل .. انسانة على قدر عال من الخلق والإلتزام..معروفة دائما أنها هادئة ..كتومة .. تبدو غامضة ومنكسرة..وهى أرملة فى حدود الثامنة والثلاثين من عمرها ..توفى زوجها منذ ما يقرب من سبع سنوات تاركاً إياها بصحبة أبنائها " مريم ومصطفى " اللذان أصبحا كل حياتها بعد وفاته ..

جمعتنا اليوم بالصدفة جلسة نسائية خفيفة من تلك الجلسات التى اعتدنا أن نسترح فيها من عناء العمل.. وكنا نتجاذب أطراف الحديث عن الأزواج وأفعال الرجال وما إلى ذلك من هذه الأمور .. وكانت من بين الجالسات "مى".. زميلتنا الشابة الحديثة العهد بالزواج التى أخذت تسرد بعض مشكلاتها الزوجية بلا تحفظ طالبة العون والمشورة وخبرة الأقدمين فى هذا الباع ..تلك المشكلات المعروفة والمتوقعة فى العام الأول من الزواج حيث الصدمة المرعبة - حقا- التى يسببها اكتشاف كل من الطرفين لحقيقة الآخر الخفية ..على الطبيعة ..دون زيف أو تمثيل..الأمر الذى استفز "هند" أخيراً كى تخرج عن صمتها الحزين وتتحدث ..ربما أرادت أن تنقل "لمى" ولنا ..حصاد خبرتها الزوجية ..وتفشى سر أسرارها الذى حيرنا حولها طويلا ..

والحقيقة أن الحياة ستظل تأخذنا لأعماقها مهما طفونا على السطح ومهما أرسينا من معاملات الأمان الممكنة ..فقد وجدت فى كلام "هند" الكثير من العظة التى قد تفوت معشر الزوجات فى خضم انشغالهم بتربية الأبناء وفى العمل...أشياء بسيطة قد يتجاهلونها ولكنها عميقة مؤثرة ولها مفعول السحر...سمعت كلام هند بأذنى وصدقه قلبى ...ولذلك وددت لو أن أنقل لكم اعترافاتها القلبية التى تركت أثرا بالغا اليوم فى نفسى ..ربما تأثرتم بها مثلما حدث معى ..والكلام على لسانها .."لازلت أتذكر جثة زوجى وهى مسجاة أمام ناظرى لا تفارق سبحات خيالى..كنت منهارة تماماً ...تارة أبكى بصمت خجول يلفه الذنب...وتغلفه رائحة الندم ...وتارة تردد الجدران صدى صرخاتى التى ضربت رأسى بها كلما تذكرت غرورى وكبريائى معه ..هذه التصرفات القبيحة التى كانت يوما تصدر منى تجاهه على هيئة أوامر متعجرفة وتصرفات مغرورة ..كنت كلما نظرت الى جسده الميت فى لحظات الصمت والوحدة الموحشين الأبديين ..فى هذا اليوم المشئوم وهو مغادرنا لمثواه النهائى عما قليل .. أرى ملامحه كأنها حية تتحرك أمامى .. وتتماوج فى عيونى صور بعيدة ولقطات مطموسة كلما ازداد الدمع الهاطل من عينى ...لم يحب أحداً زوجته مثلما أحبنى زوجى وفضلنى حتى على أقرب الناس له...وأنا الأخرى أحببته منذ أن التقينا لأول مرة...لا أعرف حقيقة ما الذى جرى لى بعد ذلك...ولما تغيرت.. وقد جرت العادة على أن يتغير الرجل وتظل المرأة على العهد...بينما ما حدث معى هو العكس تماماً..صرت أكثر عصبية...أقل اهتماماً بحبه ..رغباته ..متطلباته..ونفسى...هل كان هذا بسبب الإنجاب؟؟ هل بسبب الأولاد الذين يستنفذون طاقتنا فى عملية تربيتهم ؟؟ لا أدرى ...كنت أقنع نفسى بذلك طول الوقت ..برغم أن كل هذه الأشياء العادية من انجاب لانشغالات يومية كثيرة تظل من متع الحياة نفسها ..فما الحياة غير ادوار نحياها بسعادة وحب .. أقول برغم ذلك وبرغم نظرتى القاتمة ظل زوجى يلفنى بحبه..فى حين أننى تحولت تماماً عنه...ربما هى ثقافة كل منا التى تختلف عن الآخر..نظرتنا للحياة نفسها...احترام العشرة وادراك معنى الحب ..هو كان يحسن الإستمتاع بالحياة..بدءاً من عمله وما يقابله من مشكلات وحتى طريقته فى تناول الطعام ...كان يمضغ على مهل وكأنما يريد أن يستمتع بكل ما تهبه اياه الحياة..فى حين أننى كنت الآخر العملى المادى الوقتى..الغريب أننا لم ننتبه حقا إلى هذا الإختلاف من قبل ..ولم يكن يبدو جليا هكذا عندما تعرفنا وأحببنا بعضنا البعض ..!

قسوت عليه وبخلت بالكلمة الطيبة وقت أن كان ينتظرها منى على أحر من الجمر..والمصيبة أننى كنت أشعر به وأعرف احتياجاته ..وأدرك الفارق بيننا ..بين عواطفه وقسوتى ..ومع ذلك أعرضت عن التغيير..حتى نظراته كنت أختبأ منها بين الأوانى والشراشف ..كنت أفسر السبب فى هذه الحالة بأنها ظروف النشئة الأولى.. تربيتى كانت حازمة نعم ...وبعد ذلك ..كنت متعبة نعم ..أعترف..أعترف بكل ذلك ..ولكن مسئوليات المرأة المعاصرة من ناحية أخرى تنهكها تماماً وتجعلها على آخر الليل أشبه برأس المنفضة الأشعس...

وبرغم كل هذه المبررات التى أحاول بها أن ألتمس العذر لنفسى ..كنت أنانية ...فهو الآخر كان يعمل..ومن المعروف أن الرجل يقع عليه العبء الأكبر فى تحمل مسئولية الأسرة على الأقل المادية والمعنوية ..ومع ذلك كان هادئاً مستمتعاً...هل رأيتم زوج كهذا من قبل؟..كانت الدموع تنهمر من عينى "هند" فى ألم والحقيقة كنا متعجبات مما ترويه..كأنها كانت تحك عن شىء خيالى...فأى زوج هذا؟!..

استطردت فى صوت متحشرج..مات زوجى ..مات بعد أن أعطيت أنا له ظهرى..مات قبل أن يعطينى الفرصة كى أحقق له أى شىء مما كان يتمناه..آه لو لى بيوم آخر معه!..آه لو يعود ولو للحظة واحدة أعبر له فيها عن أسفى وندمى وأغمره من فيض حبى وحنانى..!

صمتت "هند" ثم غمغمت بصوت يملئه البكاء...أستكثرت عليه حتى كلمة " شكراً " عندما كان يعود لى متعب ومنهك من عمله حاملاً فى يديه أكياس الفاكهة والخضروات...أستكثرت عليه حتى أن أقابله على الباب كى أحمل عنه بعض هذه الأحمال..لماذا كنت أبدو مستكبرة حمقاء غير مبالية..ألأنه كان محباً طيباً؟؟ ألانه كان رقيقا مثابرا ؟ ماذا كنت سأخسر وماذا كنت سأتجشم ؟ لا أعرف..!!!

لا أعرف لماذا كنت أتعمد تجاهله بهذه العجرفه ؟ وماذا كنت أحاول أن أثبت لنفسى؟؟

أعترف أننى ضيعت لحظات حب وسلام من بين يدى هباء...وكانت تغضبه ردود أفعالى تلك أحياناً وتحيله إلى تعاسة سرية.. وأنا ..أنا لم أكن ألحظها بصلفى وكبريائى...

لما مات كنت أجلس - ولفترات طويلة - مطأطأة الرأس ألملم شتات ذاكرتى الموزعة بين صوره فى مختلف المناسبات..وكأننى كنت أستحث نفسى والأيام والحب والذكرى لكى يرجع كل شىء ..كنت أعيش لحظات حب منفردة حرمت نفسى منها عندما كنت فى احتضانه ..فى كنفه وفى أمانه ..كنت أطابق أصابعى فوق أصابعه المرسومة فوق الصور ..أضع كفى فوق كفه بخيال سارح..أتحسس ملامحه بأناملى على الورق ..وكأننى أستجدى محاولة أخيرة للحاق به والصفح عنى...

كان بمقدورى أن أدير حياتى بسعادة ولكننى لم أفعل وبمقدور كل واحدة منكن أن تفعل الآن ..ليتكم تفعلون قبل أن تضيع الفرصة من بين أيديكم ..صدقونى بمقدوركم أن تجعلعوا السعادة مقيمة فى بيوتكن بالحب والتعاون والكلمة الطيبة التى لن تكلفنا الكثير..لماذ نستكبر ونستأثر بمشاعرنا لنا وحدنا ..لماذا نجعل الأنانية تفسد علينا بهجتنا وحياتنا؟لماذا لا نتصارح بمشاعرنا الحلوة حتى نسعد أنفسنا؟

صدقونى.. الرجل طفل..طفل كبير...كل رجل هو طفل كبير طيب ولو كان شكس أحيانا..يمكن كسب وده بالكلمة الطيبة والفعل الصادق..لا تفعلى مثلى يا صديقتى حتى لا تجلسى مثل جلستى هذه وحيده تتجرعى كأس الندم..افهمى زوجك وطوعيه..تقربى منه وأحبيه..أعطيه من وقتك ومجهودك..كونى له أمة يكن لك عبداً..رغباته تستحق منك التقدير..لا تكونى أنانية بإصرارك على ما تريدين وتقررين دون أن تتدارسى رغباته هو الآخر وتلتفتى إليها..لا تجعلى العند والندية يفسدون عليك حياتك ..لا تنسيه فى زحمة العمل والمشغوليات فالرجل يحتاج دائماً إلى الزوجة الحنونة الهادئة العاقلة..والزوجة بيدها كل مقاليد السعادة خاصة عندما يكون زوجها طيباً محباً..

انتهت كلمات هند تاركة إيانا فى حالة من التأثر ...كل الزوجات فى تلك اللحظة تذكرن أفعالهن وأقوالهن .. كلهن لحظتها حاولن مراجعة أنفسهن والوقوف على مناطق القصور لديهن ..ولكن هل كل الأزواج فى الواقع مثل زوج هند رحمه الله ؟ هل كل الرجال على هذه الشاكلة ..أطفال طيبون كما تقول ؟

كانت قصة حقيقية جداً نسجها خيال الواقع ..

تأملت تحت ظلالها حالنا نحن البشر ...يالنا من جاحدين أحياناً..لا ندرك قيمة ما بين أيدينا من نعمة..نغتر فى أحيان كثيرة عندما يتهيأ لنا أننا نمسك فى أيدينا بزمام كل الأمور ونفجع عندما نكتشف فى النهاية أننا قبضنا على الهواء..على الوهم والعذاب والشقاء...

ليس للحب حقيقة أى قيمة إذا لم نعبر عنه ...ولم نطلقه من الحيز الضيق المظلم الأنانى داخلنا إلى عالم أرحب وأوسع وأسطع..لماذا تربينا فى مجتمعنا على عدم الإعتراف بالعاطفة الإنسانية وخاصة الحب؟ لماذا تضن المرأة بنطق كلمة "أحبك " لزوجها وحبيبها؟؟ ولماذا يفعلها أيضاً الرجل؟..لماذا شببنا على أن هذه الكلمة هى سبب أى ضعف وأنها قد تعطى فرصة للآخر لكى يبتز عواطفنا ويذلنا؟...لماذا العاطفة فى حياتنا وعالمنا ..انحراف !!!!!

نرتكن إلى حجج وأوهام تحمل فى طياتها مغالطات تتسربل ثوباً فضفاضاً مريحا لا يلبث أن يمزقنا نحن ..مرتديه أولا ..فى النهاية وبقسوة..يمزق انسانيتا واحتياجاتنا النفسية العاطفية والضرورية ..هى ظلمة...ظلمة الغفلة عن حقيقة الحياة الجميلة برغم أوجاعها..ومن أروع جماليات الحياة هو بلاشك ..الحب...ما أشقانا حينما نغفل عن حقيقته؟..تلك العاطفة التى تفتح الأبواب الموصدة وتوقظ العقول النائمة..ويفيض بما يفيض به من نور يبدد وحشة ظلام القلب الذى آثر الكثيرون على البقاء فيه..إنه الحب الذى يمدنا بأسباب السعادة ويسدل الستار على الكبر والضغائن...

تأخرت هند ...تأخرت عن جلو قلبها من صدأ أوهام الإنشغال والأنانية والإستعلاء..حبها له كان سيختصر المسافات...يطوى البعد الكائن بين المحسوس والمسكوت عنه....

تأخرت هند ..وفات الأوان

فالفرصة قد تأتينا مرة واحدة فقط فى الحياة وان لم نحسن اقتناصها تضيع ..تضيع للأبد بلا رجعه

كذلك الحب ..

نعمةالدنيا ورضاها

من بوسعه أن يحفظ بصدره شمسا تشع مثل قلبك يا عشتار !! :clappingrose:

أفتقدنا كثيرا في حياتنا اليومية هذا البوح الحميمي النابع كالبخور من احتراق الزمن والمنبعث كالروائح الأصيلة المعتقة من جسم التجربة الحية

مثلك صدقت ندم هند وتجربتها وأؤمن أنها تجربة يمكن أن تقع لأخريات وآخرين..

"غيبوبة هند"

أجدني مندفعا بجماع الشفقة والتعاطف إلى تعمق تجربة هذه المسكينة النادمة بعد فوات الأوان .. زود سردك قصتها يا عشتار بأجنحة من حميمية وقرب ورقة وعطف كأجنحة يمام حلقت بها في سماء روحي..

تعرفين يا عشتار أن المتصوفة رأوا الحياة أقرب ما تكون للحلم وآمنوا أن الإنسان يعيشها نائما ولا يوقظه من نومه إلا الموت فـ"الناس نيام إذا ماتوا أنتبهوا". ويصدق على هند مقولة موازية يمكن أن تكون :

"الأحباب نيام فإذا مات أحبابهم أنتبهوا"

والمتصوفة لم يظلموا الإنسان عندما رأوا أن "النائمون" هم أكثرية الناس، وحللوا جيدا أسباب نومهم فعرفوا أنها أسباب مملاة عليهم وهو مجبرون عليها. لا يد لهم فيها، أسباب ماثلة في كثافة وتعدد الأغطية التي تخنق الروح وتكبل إنطلاقها وتوهجها ويقظتها، أسباب تتمثل في عمق الغفلة النابعة من قلة ما يتعرض له الناس من "منبهات الروح"، وجفاف الطبع المستمد من جفاف وتجافي مفاعيل التربية، وشيوع المفاهيم الخاطئة التي تعود إلى مواريث الغلظة واللامبالاة واحتقار العاطفة كما يليق بضعف أو خطيئة. أطلق المتصوفة على أصحاب هذا النوم لقب "العامة" لكونهم من عموم الناس وأكثريتهم. وأطلقوا على يقظي الأرواح لقب "الخاصة"، ثم جعلوا من هؤلاء "الخاصة" قاعدة عامة لمن يتمكن منهم بعد اكتساب الوعي من ترقية روحه وصعود درجات جديدة على سلم الحقائق الأزلية، وابتدعوا مفهوم "خاصة الخاصة" و..دواليك، فالترقي الروحي والطبعي البشري هو ترقي مفتوح باتجاه سماء اللانهاية.

لم تكن هند، في الحقيقة، غير "محض امرأة" أو إن شئنا إتباع التصوف الإصطلاحي لقلنا إنها لم تكن غير "امرأة من العامة". إنها لم تلقن أي شيء حقيقي عن "الحب" في مقتبل حياتها، لم تزودها تربيتها ولا ثقافتها الموروثة بغير مستوى الضرورة حتى تعيش وتعمر ببيت زوجها، كما تعيش وتعمر قطع الأثاث والنجف والبسائط وسائر هذه الأشياء التي تستقطب جل انتباه الناس في الزواج. لم تدرب هند أو تعرف، لا في بيتها ولا مدرستها ولا جامعتها ولا بين أقاربها وصديقاتها، على إقامة إتصال نفسي ووجداني وعقلي وروحي بينها وبين من تحب. بل ويمكن ألا تكون قد تأهلت أصلا لفكرة وجود "من تحب"، وكل الذي تعرف أن من سيأتي هو "من تتزوج" ولا دخل للحب.

كانت هند زوجة اعتيادية نمطية، عاشت أيامها مستغرقة في هموم مادية ويومية، صغيرة وكبيرة، واعتقدت أنه هكذا تكون الحياة. ربما – يا عشتار – تكون هند ظالمة نفسها اليوم في ندمها، لكنني لا أظلمها لأن حديثها يدل على أنها كانت تجهل ما هو وراء أسوار حياة سجناء الطبع التي أختار الناس أن يحيوها، ليس بمحض إرادتهم ولكن بمحض غيابها، وليس بمحض وعيهم، ولكن بمحض غياب الوعي.

والذي حدث أن هند أستيقظت..أستردت – بحضور الموت – وعيها..رأت في زوجها : رجلها الذي كان من الممكن أن يكون واحدها الذي لا يشبهه آخر، ثم كان من الممكن أن يكون عاشقها الذي لا يحب ولا يحب (بالضم والفتح) إلا بها ومنها وفيها ولها، ثم كان من الممكن أن يكون الحب ساحرهما الذي يحول الحياة إلى سمفونية من التوافق والتناسق والهارموني، ثم..أن يصير التوافق تمازجا، ويصير التمازج وحدة و...

كما قلت يا عشتار فأن المتصوفة أعتقدوا أن الترقي والسمو الطبعي والروحي البشري هو سماء اللانهاية..

هكذا ولد الوعي لدى هند في لحظة لم يكن من الممكن فيها إلا أن يكون وعيا شقيا، وعيا يسبب لصاحبه الندم والحسرة على ما فاته من نعيم جنة أرضية، وسماء وحي بشري حقيقي، ولذة لا تدانيها كل ما يمكن أن توفره الثروات المادية للناس من لذائذ.

في عبارة لافتة جدا يا عشتار تقول هند عن زوجها :

"..مات قبل أن يعطينى الفرصة كى أحقق له أى شىء مما كان يتمناه.."

ما هي الفرصة التي كانت تنتظر هند أن يعطيها لها زوجها يا ترى؟!

هل هي فرصة أيام أخرى (يوم واحد كما تقول) أو سنوات أخرى؟!

وما الذي كان يضمن أن يؤدي وجود هذه الفرصة إلى استيقاظها؟!

وما الذي فعلته بكل الفرص / الأيام التي أتاحها لها؟!

وهل كان بيده هو أن يتيح فرصة أو فرصا، يوما أو ثانية؟!

من الواضح أنه : لا يمكن، فالموت بيد الله وليس بيد أحد منا. هذه العبارة الدالة في كلامها تشير، في نظري، إلى ما هو أبعد من معنى الحسرة فقط. فالفرصة التي تبحث عنها هند – متأخرة – لدى زوجها الراحل هي فرصة يقظته هو مبكرا، يقظته التي كانت ستمنحها يقظتها أيضا.

من الواضح لي أن هند تلوم زوجها، من طرف خفي، لأنه لم يعمد بفيض عواطفه الجياشه وملاحة طبعه الرقيق إلى محاولة تليين صلابة غفلتها، وكسر جمود مشاعرها نحوه، وهز غفلتها حتى تستيقظ. ويبدو أن الرجل أكتفى بالتحرق لمشاعرها وأنطوى على احتياجه لها دون أن يتمكن هو أيضا من أن يمد لها يدا أو يبذل من أجلها جهدا لينتزع منها ما يريد هو، وما كانت تريد هي أن تنتزع من نفسها. كانت تريد أن ينتزع ييده منها امرأته الحقيقية، عاشقته التي دفنت تحت صلابة وجمود الحس المتوارث، روحها التي أهملت وذوت في ظلام نفسها وواقعها.

لكن..هل كان في وسعه أن يفعل ولم يفعل؟!

أغلب ظني، إذا كان الزوج بهذا الوصف الذي يأتي في كلمات زوجته على الحقيقة، أنه حاول فعلا، بل ربما حاول كثيرا، وربما لم تنتبه هي في نومها – مرة واحدة – إلى محاولاته المضنية في سبيل أن تصحو.

.

.

عشتار

هكذا أتيت على قراءتي لقصة هند..

أما أنت..فتأتين دائما بموائد حافلة..

ولن تمكنك روحك المشرقة

ووعيك المذهل بالواقع

وولعك الإنساني الرائق الرقيق

ونصوع قلبك الشفاف

وقربك الأنثوي الحميم من الحقيقة الحية الخالدة ..

من أن تأتينا بأقل من حقائق الحياة الحية

عشتار لك ... :clappingrose: :clappingrose:

صدقت يا أثر الطائر وصدق المتصوفة من قبلك فى رؤيتهم المشعة هذه للناس ..

وفى الواقع ..هى الحقيقة ..

الحقيقة الواضحة جدا سواء اقتربنا أو ابتعدنا عن المتصوفة ..أعنى أنها حقيقة من البديهيات لمن يعقل فعلا ويؤمن بالإختلاف بين الناس..ويتأمل فى حالهم..وإن كان المتصوفة برعوا حقا فى ايجاد هذا الوصف والمعنى الدقيق لمراتب البشر فى الحياة من حيث الثراء الإنسانى والروحى أكثر من أى باحث آخر ..ومن ناحية أخرى ..أو برأى آخر تبدو المشكلة فى أنها ليست فى الإختلاف ذاته ..ولكنها فى كوننا الإنسان ..فطالما نحن الإنسان ..وكلنا انسان ..وتصنيفنا الإنسان ..فهذا يعنى شيئا واحدا ..أننا على وعى وعلى وجدان حافل بالإنسانية والحب ..وعدم وجودهما ليس اختلاف بقدر ما هو نكران وجحود..وشذوذ ..وعدم تقدير واستيعاب لذاته الإنسان ولمعنى الإنسان وقيمة الحب ..

منا من يمتلك وعيه الكامل ..وهذا يضمن بذخ انسانى لا محدود يقترب كما ذكر المتصوفة من حدود السماء ..ومنا من يقع فى منطقة آمنة ..تكفل له التلامس مع نفسه ..ومنا من باع القضية بوعيه أو بدونه والمحصلة واحدة فى النهاية ..

الأمر يبدأ - كما ذكرت للأستاذة عبير أعلاه يا طيرى - من نظرتنا للحياة نفسها ..لماذا خلقنا ..ما هى الحياة ..ما وظيفتنا فيها ..كيف يعمرها الإنسان ..وقضايا أخرى مصيرية تتعلق بالحرية والحب البقاء ..والإستمرار ..اننا لو تأملنا رحلتنا على الأرض ..وخطوات الإنسان الأول فوقها ..والهدف الذى خلقه الله من أجله ..وصولا لما حققه ولما أصبح عليه اليوم من تقدم أو تأخر نحو انسانيته لوعينا الكثير ..وهى مشكلة الوعى مرة أخرى ولا سواها ..

وهند عانت من نفس المشكلة ..مشكلة اختفاء الوعى عند العامة ..وتدرجه كلما ارتقى الإنسان بنفسه لأعلى ..فحتى لو كانت أحبت فهى لم تبذل من وعيها ما يحفظ لها الحب ولو عند مستوى يضمن لها بعض متاع الحياة ..ويبدو أن الإنسان اذا ما سنحت له الفرصة ليعود الى بدائيته الأولى ويمارس لعبة الطرف الأقوى فى الوقت الذى يكون فيه الطرف الثانى الأضعف ..فإنه لن يتوانى عن العودة بشغف لتفوقه الأنانى ووحشيته البدائية ..وقد رأيت هذا المعنى تقريبا فى حكاية زميلتنا..

فلماذا لم تبادل زوجها الحب ؟هل لأنه كان ضعيف ؟ هل لأنه أحبها ؟ هل لأنها أحست بضعفه ؟ وهل هذا ضعف ؟..أم لأنهما - هو وهى - على هذه الشاكلة ..وعلى هذا النموذج ..كانوا مناسبين جدا ..وبقدر الله ..ولحكمة ما ..لبعضهما ..على طريقة الطيور على أشكالها تقع ..أو لكى يكتملا نصفى الدائرة بإحكام ..فضعفه نصف وقوتها نصف .حبه نصف ..وجفائها نصف ..والأقطاب المتنافرة تتجاذب ..؟ وهل بالفعل لو كان لديها ما يكفى من الوقت لأدركت ما فاتها ؟ لا أعتقد فى ذلك ..لو كان الوقت استمر بينهما اكثر ..لازدادات تعنتا أكثر وتمادت أكثر فأكثر..وازداد هو وهما فى المقابل ..ولم تكن لتدرك أو تعى ابدا طالما لم تلطمها اللطمة ..وحتى فى ظل اللطمة ..بدت لى أحيانا أنها تحاول جاهدة أن تقنع نفسها باعترفاتها ..بندمها ..تحاول أن تجد العزاء لنفسها ..أو ألف عذر يبرر جهلها ..

من نفس المنطلق آتساءل يا أثر الطائر عن المحبة أو الحب ..هل يكتسبان قيمتهما الوجدانية التى تشعرنا بالشبع والمتعة النفسية من مجرد ارتباطهما بالسعادة والشقاء ..هل لأنهما فعلا يمثلان وجدانا من نوع آخر غير العواطف العادية ..ولذلك فكلما كان الإنسان من خاصة الخاصة الخاصة الخاصة ....الخ ..كلما كانت عاطفته فى المحبة ذات مرتبة مختلفة ..؟

ثم هل تكون قيمة الحب مقصورة فقط على ما هو وجداني باعتباره ميلا أو نزوعا أو اتجاها وجدانيا..ألا يمكن أن يكون أيضا شكلا من أشكال المعرفة التى نسميها وعيا ؟ وإن كان معظم الناس يجيبون سلبا.. فهل ذلك لأن العنصر المعرفي في الحب يتميز بالغموض والتعقيد لدرجة أنه غير واضح ..أو غير موجود ..أو لا يصدق ؟

مما لاشك فيه يا أثر الطائر أن القيمة المثالية للشخصية تعلو كلما علا فيها منسوب الحب واقترانه بالمعرفة والوعى لا الوجدان فقط وهو الإناء.. وأى قيمة فى الدنيا هكذا ..وإلا كيف يمكن للحب أن يتحرك صوب القيمة المثالية للشخصية والكمال البشرى ..كيف يمكن للإنسان أن يفهم الوجود أو أن يدرك الحياة - وهذا أبسط شىء - ان لم تتوافر لديه معطيات معرفية أو قدر معين من الوعى ؟ فلا غرابة اذن عندما يتطلب أي فهم وجداني أو إدراك عاطفي معرفة أو استدلال أو وعي.. على اعتبار أن الحب كخبرة أو وعي خلقي يتطلب معرفة فعلا..

وبالتالي ليس الحب سوى حياة روحية يقضيها الإنسان في التعرف على ما هو جدير حقا بالمعرفة.. حياة يتعلق فيها الإنسان بأسمى وأرفع ما في الإنسان..يتعلق فيها بما يمنحه عمقا ومعنى وقيمة.. وبما يكسبه اتجاها وقصدا وغاية..وربما لهذا السبب كان تقسيم المتصوفة للناس بالعامة والخاصة بمراتبهما على اعتبار الحب ومدى وعى الإنسان له ..وبه..وفيه ..وعلى اعتبار أيضا أن خبرة الحب لدى الإنسان تعد من أهم الخبرات الخلقية والروحية وأخطرها في حياته على الإطلاق ..

وفى النهاية لابد أن يعى من يقلل من قيمة الحب ..ووجوده فى المجتمع ..ويقابله بالسخرية أو على أساس انه نوع من انواع الترف .. أنه ذو قيمة ايجابية جدا ..في جوهره إثبات وإحياء وبناء..وهو هدف الإنسان فى الأرض ..الهدف الذى خلقه الله من أجله ..الإعمار ..ولا يتحقق الإعمار سوى بقيم فاعلة بناءة سامية..لن يتحقق الخير والعدل والحق ..وكما أراد الله ..سوى بالحب .. فهو فى الأصل ميل إيجابي ونزوع عملي يتجلى في تحول الاهتمام من الأنا إلى الأنت ..من الأنانية إلى الجماعية ..من الذاتية إلى الإيثار ..اتجاه نحو الإكتمال ..نحو الوحدة ..وبالتالي الحب أولا هو نية واتجاه وسلوك..ليس محض كلام جميل ومعسول انما هو عاطفة عملية بناءة ..

الله محبة ..وبمحبة الله نحب بعضنا البعض ونحب حتى جماداتنا ..وبالمحبة التى هى أصلا محبة الله الموصولة فينا نرتقى ونتعلم وننجب ونبقى ..هى محبة الله ..سر الحياة ..سر هذا الكون الفسيح الذى يعبده وكل دقائقه تسبح بحمده ومن محبة الله خلقنا ..وبمحبته نعبده..وبمحبته نحب أنفسنا والآخرين ..

www-St-Takla-org__Come-Unto-Me-by-Reed.jpg

وبمحبة وضعها الله فى قلبينا ..وضعنا الله فى محبته

يا

أثر

الطائر

محبة ومحبة ..ومحبة

:clappingrose: :clappingrose:

عدت هذه المرة أيضا من أجل هند :clappingrose:

وما هو أفضل من موضوعاتك المضيئة بالحب يا عشتار حتى لا يسلو الطائر الركون إليها

وحتى يحط فيها ليريح قلبه وروحه وجناحيه..

..

الحقيقة يا عشتار هي أني لا أعتقد أنه كان بين هند وزوجها أدنى قدر من التناسب الزوجي الإنساني

أو ربما ما كان بينهما هو التناسب على ما وصفته ببلاغة دقيقة تحسدين عليها :

" على طريقة الطيور على أشكالها تقع ..أو لكى يكتملا نصفى الدائرة بإحكام ..فضعفه نصف وقوتها نصف .حبه نصف ..وجفائها نصف ..والأقطاب المتنافرة تتجاذب ..؟ "

ومعنى عبارتك أن للتناسب ألوان :

التناسب على طريقة قوانين المادة (الأقطاب المتشابهة والمتخالفة)

التناسب على طريقة قوانين الرياضة (نصفا الدائرة الهندسيان)

التناسب على طريقة قوانين الحياة (تجاذب الطيور وسائر مخلوقات الطبيعة)

ويبقى التناسب على طريقة الحب .. الحب الإنساني .. الحب الإلهي .. هو تناسب التناسب الذي يشمل كل أشكال التناسب المعروفة في المادة والطبيعة والهندسة و..و.. ويزيد عليها الوعي الروحي البشري الإنساني. كما قلتي يا عشتاري فإن وعي الحب يعلي من قيمة الحب. ولكل منا من الحب نصيب يتفاوت بوعي كل منا به، ويتفاوت بقدراتنا الوجدانية والنفسية والعقلية والروحية على الترقي في مدارجه القصوى والتحليق في اتساعاته اللانهائية. ربما تشبه الفروق في الحب بين البشر تدرجا هرميا ما، هناك من يكتفي منه بالقاعدة السفلية العريضة وهم معظم الناس الذين لا يمكنهم تصور وجود الحب منفصلا عن تعبيراته المادية، ولا يمكنهم تصوره كعلاقة شاملة واعية خلاقة تثمر الحياة وتثمر بها الحياة، وهناك من يترقون - كما قلت محقة - إلى منطقة آمنة منه، وهي منطقة الوجدان، التي يشبه الحب فيها إلى حد ما مشاعر المراهقة البكر الطازجة كثيرة الإندفاع قليلة الاحتفال بالوعي، ثم هناك مراحل الحب الأعلى والأسمى والأعمق التي يتجاوز فيها الحب الضرورة الاجتماعية أو الحياتية، ويتجاوز فيها أيضا الضرورة العاطفية، ليصبح وقائع حياة نورانية وحركة روحية شاملة ومتصلة في سبيل تحقيق الوحدة مع الشريك، في سبيل الالتحام بالنصف الآخر وتحقيق التوحد والتمام، وهي حركة حياة كاملة وتستغرق حياة كاملة (لو كفتها)، حياة بالروح وبالجسد وبالعقل وبالوجدان، حياة تشمل كل نواحي الإنسان ومجاليه المترامية.

كما قلت يا عشتار، هي حالة خروج من الذات إلى الآخر، وخروج من الآخر إلى الذات، واكتشاف الكائن المشترك أو الإنسان الكامل الذي سيؤدي هذا اللقاء الملحمي إليه. فكما يلتقي جسدان فيولد منهما جسد، تلتقي روحان فتولد منهما روح، ويلتقي عقلان فيولد منهما عقل، ويلتقي وجدانان فيولد منهما وجدان، وتلتقي فكرتان..و..و..و..

من هنا تصبح المعرفة حب .. ويصبح الحب معرفة. المعرفة حب لأنها تعرّف، وفي التعرّف فهم، وفي الفهم لقاء. والحب معرفة شاملة لا جزئية، معرفة تامة لا ناقصة، معرفة الروح بالروح، وتعرف الذات بالذات، وحتى الجسد بالجسد. بالحب تعرف الذات ذاتها وذات الآخر، ترى الروح روحها وروح الآخر، وتنصهر الأرواح والذوات والأجساد في فعل معرفي الأصل والهدف والمغزى، وهذه معرفة الداخل التي طالب بها الفلاسفة والروحانيون الناس، وهي أسمى أشكال المعرفة. 

لكن يبقى أيضا معرفة الخارج التي لا تقل أهمية عن معرفة الداخل. فالحب رحلة تعرف طويلة..طويلة..بلا نهاية. العالم الذي كنا نعرفه كذوات منفصلة ليس هو نفس العالم الذي أصبحنا في احتياج إلى تلمسه والتعرف إليه بعد اللقاء ووقوع الاتصال والتلاحم. يصبح العالم بعد اللقاء يا عشتار في حاجة إلى إعادة اكتشاف من جديد، في حاجة إلى معرفة من نوع جديد، معرفة إشراقية حافلة لا تستطيع أن تنهض بها ذواتنا المنفردة الناقصة، ولا تؤديها باكتمال غير ذواتنا التامة الكاملة، ذواتنا في حال وحدتها والتئامها وانسجامها السحري. يا لها من رحلة، ويا له من اكتشاف، ويا لها من لذة .. فكلما أعدنا اكتشاف العالم بذاتنا المشتركة كلما دان لنا العالم، ودانت لنا المعرفة، ودان لنا الحب، وأصبحت رحلة التسامي بالحب وفي الحب معراجا هائل الصعود. لذة المعرفة هي واحدة من لذائذ الحب المؤكدة يا عشتاري، ونعمة المعرفة هي واحدة من منن الحب الكثيرة.

هكذا، وبالحب، يمكن لكل إنسان أن يحقق ما أسمي عن حق : أسطورته الخاصة

وأسطورتنا الخاصة - الأسطورة البشرية الخاصة - على الأرض هي كما قال كتاب الله العزيز إعادة إعمارها، بناؤها، التوسع فيها، معرفتها واكتشافها وامتلاكها .. وكل ذلك غير ممكن بدون الحب لأنه - أيضا - غير ممكن بدون المعرفة

creation3.jpg

عشتار :clappingrose: :clappingrose:

دامت لي موضوعاتك التي تعطينا فرصة تنظير ما نمارسه..وتأمل ما نقطعه على الأرض من خطوات

دامت موضوعاتك محلا لإقامة القلب والعقل والروح

ودمت أنتي لي توأم عشق مفرد

تم تعديل بواسطة أثر الطائر
رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...