اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

الكتب الأحباب..ما قرأت بعينيك


أثر الطائر

Recommended Posts

كتاب "توفيق الحكيم يتذكر" من إعداد: جمال الغيطاني..

مكتبة الأسرة 2010

www-St-Takla-org___Tawfik-El-Hakim-01.gif

من أمتع ما يمكن فعلا قراءته من كتب الحوارات الذاتية، تختفي فيه أسئلة الغيطاني ويبدو كلام العملاق "توفيق الحكيم" كأنه مونولوج داخلي مسترسل ينقطع فقط بالعناوين الداخلية وتبويب الفصول حسب الموضوعات التي تتناولها الحوارات، لكن..لا أسئلة..أجوبة الحكيم فقط التي تدور كلها حول حياته وأهم القضايا التي شغلت فكره وفنه وذاته خلال أيام حياته.

الكتابة عن كتاب كهذا نوع من المغامرة الصعبة لأن كل صفحة وسطر وكلمة فيه تقريبا تحتمل أن يتوقف المرء أمامها..يتأمل فيها.. يصعب عليه ألا يذكرها أو يتذكرها..لكني واختصارا سأنتقي من بين ذكريات الحكيم في كتاب الغيطاني ما يهم انشغالنا أكثر..

المنبع/ البذرة/ الرسالة الخفية..

لماذا أحترف الحكيم الكتابة؟ لماذا أصبح فنانا وأختار طريق الكتابة بالذات من بين الفنون التي أنشغل بها كلها وهي تتنوع ما بين التمثيل والرسم وتلاوة القرآن والموسيقى وتأليف الأشعار وأخيرا المسرح (الفن المقرب لقلبه) والقصة والرواية؟ لماذا لم يظل – مثلا – وكيلا للنيابة أو عمل قاضيا كأبيه؟.

أسئلة مهمة ومثيرة عندما يسألها عملاق في قامة الحكيم الفنية والفكرية ومقامه في عالم الخلق الإبداعي، وإجاباتها لديه أكثر إثارة أيضا من زوايا نظرها ونفاذها للحقائق وإبداعيتها ومن جهة قدرتها على توليد المزيد من الأسئلة.

يحكي الحكيم عن احترافه للرسم وإقلاعه عنه سريعا، يقول:

"كان هذا الشيء الجديد الذي انجذبت إليه هو الرسم، كنت أحبه وأجتهد أن أبرز فيه، فقد كان ذلك يملؤني سرورا داخليا غريبا..ولكني لم أستمر في هواية الرسم إلى حد جدي إنما هي تلبية لذلك الصوت الخفي، أو اتجاه غريزي إلى أقرب موارد تلك النزعة الكامنة في أعماق كياني، كانت هذه النزعة تتخذ صورا مختلفة بحسب الأرضية التي تتيحها لها الظروف. كانت تقترب بسرعة كالمنجذبة بمغناطيس..كأنها روح شبح يتحسس الأجساد التي كتب عليه أن يحل في أحدها"

وقد حلت نزعة الحكيم الفنية في الشكل المسرحي بالذات، وهو يعزو ذلك إلى احتمال أن يكون المسرح هو أول فن مارسه بقدر من التنظيم وعلى سبيل الهواية ولفترات جعلت شيطان فنه يرتكن إلى تقمص هذا الجسد المسرحي ويرتاح فيه أكثر من كل أشكال الفنون الأخرى.

لكن ما سر هذه النزعة الفنية الدفينة؟ لماذا يتميز بها البعض دون الآخرين؟ لماذا تسيطر على وجود البعض دون بقية الناس؟ وهل الفنان هو المسئول الوحيد عن إيجاد هذه النزعة؟

وتأتي إجابة الحكيم عن هذه الأسئلة لتحمل حلما كبيرا وقيما بإمكانية تجسيد الأحلام الذاتية في المستقبل، وبوسائل هي أقرب ما تكون إلى أن نسميها "وسائل جينية"، إذ يعزو الحكيم نزعته الفنية إلى.. "بذرة تلقيتها عن أب وأم، ولم تنبت عندهما بفعل الظروف، فألقيا بعبء إنباتها على كاهلي، دون وعي منهما، عن طريق رسالة خفية، ضمناها تلك المنطقة التي منها خلقت"

وفي استعراضه لطباع أبويه يضع الحكيم يد قارئه على شفرات هذه الرسالة الخفية التي تلقاها الحكيم الطفل منهما. فأمه هي السيدة النهمة لقراءة السير في الكتب الصفراء ثم قراءة الروايات التاريخية والعاطفية التي كان يكتبها الأدباء الشوام الذين هاجروا إلى مصر مثل جورجي زيدان. وهي امرأة نشطة، قوية الطبع، ملتهبة العاطفة، وهي شخصية قوية مسيطرة تمكنت في النهاية من السيطرة على أبيه وشغله بمخاطر الفقر والتدهور الاقتصادي لتحرفه عن اهتماماته الثقافية والفلسفية. هذه الاهتمامات الفلسفية الخفية لأبيه لم يعرفها الحكيم الطفل في شخصية أبيه التي عرفها بعد تحولها إلى النزعة المادية العملية، حيث لم يكن يراه إلا منشغلا بشراء الأملاك والبيوت واستثمار راتبه وميراث زوجته، لكنه فوجيء بالتعرف عليها بعد سنوات طويلة، وبالمصادفة، وهو عضو في مجمع اللغة العربية عبر أحد أصدقاء والده القدامى المرحوم "عبدالعزيز فهمي".

تواضع الحكماء

في أكثر من موضع من ذكريات الحكيم يلح الأديب العظيم على فضيلة التواضع، إنه لا يطالب بها الكتاب والأدباء الجدد خصوصا، والناس عموما، فقط. كذلك هو لا يقتصر على ضرب أمثلة تلو الأمثلة من حياة عظماء المسرح والموسيقى والأدب، لكنه يقدم تفسيرا مفصلا لمعنى التواضع في حياته وشخصيته، يقول:

"إنني أشعر دائما بالتردد، وعدم الثقة بالنفس، حتى فيما أكتبه، وهذا الإحساس عطلني كثيرا..إنني أقرأ ما يكتبه الواثقون من أنفسهم وأحسدهم..إصرار الفنان يأتي نتيجة للثقة بالنفس، أنا على النقيض من ذلك، لست ملحا، عندما نجحت أهل الكهف كان بعض الأصدقاء يجيئون إليّ ويهنئوني، وكنت أقول لهم : اسكتوا لا تفضحوني.. أنا وكيل نيابة محترم"!!

هذا التواضع الإنساني الجميل لدى الحكيم والذي كان منبعه الأعمق هو "اهتزاز الثقة بالنفس" أمر يختلف تماما عن فقدان الاتجاه أو اهتزاز الثقة بما للنفس – مع اهتزاز الثقة فيها – من حق في التطلع إلى الأعالي ومحاولة تسنم القمم والذروات وتحقيق الفشل والنجاح في كل ذلك.

وأعتقد أن الشعور بالتواضع هو شعور طبيعي لدى أصحاب النفوس العظيمة كتوفيق الحكيم، بل إنه يكاد يكون لازمة من لوازم الريادة في كافة مجالات النشاط والروح الإنساني، حيث يلزم للرائد – أيا كان مجال طموحه ونشاطه - ولأنه يقدم على الدخول في تجربة كبيرة أو مغامرة قوية - أن يتوفر لديه احساس ملح بالنقص الذاتي فيحاول ملأه بمحاولاته وأفعاله ومغامراته الكبرى أو الرائدة.

وإذن..يقدم "توفيق الحكيم" بما له من ثقة مهزوزة في نفسه على مضاهاة روائع الكلاسيكيات الإنسانية الخالدة في المسرح بمسرحيات فريدة ومجددة مثل "بيجماليون" و"براكسا أو شجرة الحكم" و"أهل الكهف" و"شهرزاد".

"براءة التواضع" هذه يمكنها أن تأتي في كل وقت بالمعجزات.

حدث مثلا أن كتب "الحكيم" في مقدمة إحدى مسرحياته يطلب من قارئها أن يطالع نص أريستوفان بصحبة نص مسرحيته حتى يتمكن من الحكم عليها، وهو ما جعل "طه حسين" مندهشا يسأله : هل تضع قامتك إلى جانب قامة أريستوفان؟!. فأجاب "الحكيم" بتواضع حقيقي لا تنقصه البراءة ولا يشوبه الاصطناع : لا..ولكني أعالج موضوعا عالجه هو من قبل..

البساطة

ليست بساطة الأسلوب وتعقيده عند الأدباء الإنسانيين الكبار قضية بلاغية أو فنية أو حرفية لغوية. لكنها قضية ترتبط بصميم روح الكاتب وحسه الإنساني الصادق بما يعالج في كتابته. قضية الأسلوب ترتبط ارتباطا وثيقا بشخصية الكاتب ومنابعه النفسية والفكرية. وهو ما يجعل الحكيم يعزو تعقيد العقاد الذي لم يكن له حظ الحصول على شهادات التعليم إلى "رغبته في إثبات ثقافته وأنه يفهم أكثر من المتعلمين".

أما بالنسبة للحكيم نفسه فإنه لا يتعمد البساطة لأنه عندما يعالج موضوعات صعبة، فهو لا يفكر في أنها صعبة، كما أنه لا يتعمد "تصعيبها". كان هدف الحكيم دائما أن يكون بسيطا، وهو ما نجح في الوصول إليه، بمعاونة من روحه وشخصيته، وبشكل تلقائي لم يتعمده. يقول:

"لا يخلق الأسلوب الحق إلا الكاتب الصادق في شعوره وتفكيره إلى حد ينسيه أنه ينشئ أسلوبا، البلاغة الحقيقية هي الفكرة النبيلة في الثوب البسيط، هي التواضع في الزي الرسمي والتسامي في الفكرة، وهكذا كان أسلوب الأنبياء في حياتهم، أنظر إلى سيدنا محمد وإلى عيسى على الخصوص، بساطة في الملبس، وتواضع في المظهر، وسمو في الشعور والتفكير."

ولدى الحكيم قضية هامة ترتبط ارتباطا وثيقا بالبساطة وهي قضية التكوين الثقافي الجيد، إذ يلح الحكيم على ضرورة القراءة، للإنسان والمواطن المتحضر في المقام الأول، وللكاتب على الأخص. وهو يدعو كل واحد منا إلى الوصول إلى "أوسع قاعدة للقراة" لكنه ينبه في الوقت ذاته على أن هذه القاعدة الواسعة للقراءة والتي تؤدي إلى "تكوين ثقافي جيد" لا يجب أن تؤدي من جهة أخرى إلى "تعقيد الأسلوب" وإنما يجب أن تؤدي إلى بساطته، يقول:

"إن كل المحصلة الثقافية يتضمنها الأسلوب، مثل شراب الليمون أو البرتقال، الذي يحتوي على أكبر قدر من الفيتامينات دون أن يبدو ذلك في طعمه، أو شكله"

ولذلك هو يدعو إلى أسلوب محدد و(صحي) في قراءة واستيعاب وهضم المحصول الثقافي أو أوسع محصول ثقافي يمكن أن يصل إليه الإنسان، يقول :

"فإن قراءتي..تشبه عملية الطعام الذي يهضمه الجسد، ويتسرب إلى الدماء والعروق فينمو الإنسان ويعيش، هناك البعض الذي يتعمد أن يأكل بشراهة، وأن يفرط، ثم يصاب بعسر هضم، كنت أتشرب ما أقرؤه، أتلقى، وأهضم"

بلاغ الحكيم إلى النائب العام ضد الشيخ الشعراوي

ربما لا يعرف الكثيرون منا بأمر هذه القضية التي عرفها الأديب الكبير توفيق الحكيم أمام النائب العام ضد فضيلة الشيخ الشعراوي.

وهناك الكثيرون أيضا لا يحبون أن يعرفوا عن ذلك شيئا..وهنا مكمن خطورة..

في هذا الوقت كانت لا تزال في بدايتها هذه الحالة من الهوس الديني والتدين الشكلي والمراسيمي الزائف والتي اكتسحت بعد ذلك أوساط وفئات عريضة من الشعب المصري.

كتب الحكيم في جريدة اللواء الإسلامي سلسلة مقالات بعنوان: "حديث مع الله"، واعتبرها الشعراوي (كفرا) من الحكيم، وفضلا عن أن ذلك أثبت وجود قصور حقيقي – وقتئذ - لدى الشيخ الشعراوي في إطلاعه على تراث الفكر الإسلامي الخالد والمستنير، فإن كلمات التكفير الحادة التي تناول بها الشيخ أديبنا الكبير أثبتت ما كان لديه من اندفاع لا يتعاطف معه ولا يؤيده الإسلام دين العقل، وهو ما أعتذر عنه الشيخ الشعراوي بسماحة لاحقا.

جاء في مقال الشيخ الشعراوي عن الحكيم هذه الكلمات الحادة تحمل هذا التهمة الخطرة (التكفير) :

"لقد شاء الله – سبحانه وتعالى – ألا يفارق هذا الكاتب الدنيا إلا بعد أن يكشف للناس ما يخفيه من أفكار وعقائد كان يتحدث بها همسا ولا يجرؤ على نشرها، ولقد شاء الله ألا تنتهي حياته إلا بعد أن يضع كل خير عمله في الدنيا حتى يلقى الله سبحانه وتعالى بلا رصيد إيماني"!!

وتوجه على أثر ذلك توفيق الحكيم إلى النائب العام بهذه العبارات الحكيمة:

"كل ما أطلبه من بلاغي هذا هو حماية مواطن من هذا التهديد، وذلك بالتحقيق في هذا الموضوع لإظهار الموقف الحقيقي لمقدم البلاغ، وهل قد صدر منه حقا ما يستحق عليه التشهير بدينه، وهل هو حقيقة قد ضل هذا الضلال، وتعمد هذا الإضلال الذي أتهمه به علنا الشيخ متولي الشعراوي وأهاج عليه الرأي العام باعتباره من رجال الدين الموثوق بهم لدى الجماهير؟. على النيابة العمومية أن تتحرى الموقف من عقلاء رجال الدين ليظهر الحق وتوضع الحقيقة في نصابها، حتى لا تترك المواطن المتهم بالضلال عرضة لغضب غوغائي خطر"

رحم الله توفيق الحكيم الذي بادر إلى مواجهة تهمة خطرة بمثل هذه الشجاعة..

ورحم الله الشيخ الشعراوي الذي أعتذر متراجعا عنها لما ثبت خطؤها بصورة أشجع..

ليضربا مثلا ساطعا على ضرورة التمسك بالحق في التعبير وبحرية الفكر وفضائل التسامح والتروي وتواضع وعظمة التراجع عن الخطأ أو الإندفاع..

ربما لو حفظنا هذه الأمثال الناصعة وحرصنا على تلقينها لأجيالنا الجديدة لتجنبنا الكثير من المآسي التي رأيناها ولا نزال نراها حولنا من إساءة استخدام للدين والزج به في معارك هو منها براء، معارك "الفكر الغوغائي" – كما أسماها الحكيم.

تماما

تماما يا أثر الطائر ..وكأنك تتحدث بلسانى ..كم تمنيت كثيرا أن أعبر عن تلك الأفكار التى جاءت فى معرض حديثك عن الحكيم ..وللحكيم نفسه ..

استمتعت بتحليلك الرائع لبعض المقتطفات الذاتية من الكتاب ..والحقيقة أننى من هواة قراءة السير الذاتية ..تمتعتنى وتعلمنى وتجعلنى أكتشف أبعاد أخرى للنفس الإنسانية يسبر أغوارها صاحب السيرة ومحاوره ..راقنى جدل كلامك وكلامه عن البساطة والتواضع ..وبخصوص أن الإسلام دين العقل والسماحة ..وكذلك كلام الحكيم عن القراءة والكتابة والنص والأفكار الإبداعية نفسها ..كما تأثرت جدا بموقف الشيخ الشعراوى رحمه الله ..وضربهما - الحكيم والشيخ الجليل - مثلا قلما يتكرر اليوم فى احترام الإختلاف وتقدير المعرفة التى هى الهدف الأساسى ولا شىء سواها ..

ذكرياتى الخاصة عن الحكيم هى ذكريات بعيدة نسبيا ..تعود بى للمرحلة الثانوية ومرحلة الجامعة حيث كنت أيامها شغوفة بالمكتبة الأدبية لكبار آدبائنا وفلاسفتنا ..وكان للحكيم نصيب وافر من الإهتمام حيث قرأت له أغلب أعماله وأتذكر على الخصوص روايته البكر " يوميات نائب فى الأرياف " ..كانت شيقة فى نظرى فى تلك المرحلة العمرية ربما لأن الأحداث نفسها حملت مغامرة ..وفى أرياف مصر التى اختصت وقتذاك بعادات أصيلة وتقاليد ظهر بعضها فى الرواية ..وبشكل عام حملت على أعتاقها نصرة الخير والحق فى صراعهما الأبدى مع قوى الشر ..

مازلت أجد كل متعتى هنا يا أثر الطائر ..مع روحك الراقية وحرفك الأصيل ..

رابط هذا التعليق
شارك

  • الردود 61
  • البداية
  • اخر رد

أكثر المشاركين في هذا الموضوع

أكثر المشاركين في هذا الموضوع

عشتار المحبوبة..

هأنا قد عدت بمحصولي من لالئ العبارات في رواية "البصيرة" لساراماجو كما وعدت.. أود أن أقول لك أنني كنت ممحصا جدا في الاختيار لكنها ليست بالفعل كل ما يمكن أو يهم استخراجه من لالئ عبارات الكاتب البرتغالي النوبلي .. إنها فقط الأهم من وجهة نظر شخصية .. أتمنى أن تعجبك فعلا :

* حتى الأحلام .. تحدث حقيقة

* الذاكرة هي الأذن الثانية .. فالأذن الخارجية تفيد في توصيل ما نسمعه إليها

* اللغات دائما محافظة .. تسير بالأرشيف على عاتقها وتكره التجديد

* لا يصح الحديث عن الحبل في بيت رجل حكم عليه بالإعدام

* القدر عادة ما يقضي على العجرفة

* من آن لآخر تقفز في ذهني فكرة "أن هذا ليس كافيا" .. وحينها تؤلمني روحي أكثر مما يمكن أن أقول

* إن غباء ثانية يمكن أن يقضي على كل ثواني الحياة

* عندما لا ترى العين .. لا يشعر القلب .. ومن لا يعرف كمن لا يرى

* أنصاف الكلمات وجدت لتقول ما لا يمكن أن تقوله الكلمات الكاملة

* أشد تأنيب للضمير هو تأنيب من لم يفعل مكروها .. ولكن سمح بوقوعه

* ألد أعدائك طبقا لقانون العميان .. هو هذا الشخص الأقرب منك

* أقتل نفسك قبل أن يسألوك .. إن كنت ما زلت حيا

* يد واحدة تغسل الأخرى .. واليدان تغسلان الوجه

* هناك أشخاص يظلون واقفين حتى عندما ينهارون

* كم مرة تأتي المخاوف لتضيف المرارة لحياتنا وفي النهاية نكتشف أن لا أساس لها ولا سبب لوجودها

* الحاجة تصنع القانون

وها أنا الأخرى عدت من جديد يا طائرى المغرد أقتات من غناك هاهنا وتحليقك ..وما تلقيه فى نفوسنا من أمل وأحلام ..الحقيقة أن محصولك من " البصيرة " راقنى جدا ..ودائما سيروقنى ما تختاره من وجهة نظر شخصية ..فما يعجبك يعجبنى جدا كما تعرف ..

أخص بالذكر هذه المقولة " حتى الأحلام .. تحدث حقيقة " ..نعم أنا أصدق ذلك ..أصدق الحلم وأؤمن بإمكانية تحقيقه خارج حدود الدماغ ..فغالبا أحلامنا هى جزء من إن لم تكن كل أمانينا ..الأحلام عند الصادقين والمحبين بشائر وعلامات تتحقق بالعمل ..فهى اهتداء يرسخه الإيمان والثبات ..وكم من أعمال عظيمة وأمنيات تحققت وكانت بوادرها ذرات أحلام ..حتى سانتياجو نفسه قال " يكفى أن تريد حتى يريد كل العالم معك " وأظن أن الإرادة لا تنفصل عن الحلم ..فرغباتنا وارادتنا تبدأ من حلم وتصور وخيال ..

كما أعجبتنى أيضا هذه الحكمة " القدر عادة ما يقضي على العجرفة" ..وأظنك تفهمها جيدا وتقدر بكل تأكيد فى هذا السياق معنى وقيمة التواضع الذى طالما سألتنى عنه ..لا يستوى أبدا يا أثر الطائر الإيمان مع العجرفة ..ولا يتلاقى أبدا القدر كذلك مع العجرفة ..فالقدر ايمان فى الأساس ومن يؤمن بقدره يكون دائما فى مرتبة المتواضعين ..ثم لا يستوى الحب مع الغرور ..كما لا يجتمعا ابدا الغرور ورهافة القلب ..والمحبين ايمانيين وقدرين طبعا وقلوبهم مرهفة ..فالحب فى قلوبهما هو روح من عند الله ..والخلاصة أن المحب غير متعجرف أبدا والقدر يعلم الحب ..

" أشد تأنيب للضمير هو تأنيب من لم يفعل مكروها .. ولكن سمح بوقوعه " طبعا أعجبتنى جدا لأننها تتعلق بالضمير والإنسان ..ولا أعرف لماذا بمجرد قراءتها تذكرت حال الوطن ..مصر ..وساءلت نفسى ماذا كان سيجرى لو أن كل الناس كانوا عملوا بهذه الحكمة لصالح أنفسهم والوطن ..

أختتم معك هذه المداخلة التى لا أود لها حقيقة يا أثر الطائر أن تنتهى بهذه الحكمة " كم مرة تأتي المخاوف لتضيف المرارة لحياتنا وفي النهاية نكتشف أن لا أساس لها ولا سبب لوجودها "..لست فى حاجة هنا لأن أسهب فى إيصال ما تعنيه لى هذه الحكمة ..فأنت تعرف جيدا ..ولكننى أقول لكل الناس ..لكل من يمر من هنا أن هذه الحكمة و عن تجربة صحيحة مائة بالمائة ..جربوا بشجاعة التخلص من مخاوفكم ..فهى وهمية ..

كل الشكر لا يكفى ..ولكن يكفى واحدا لك من قلب عشتار

:clappingrose:

شكر واحد من قلب عشتار يكفي ليكدس دروب الكون بالأزهار..ويملأ قلب العالم نعمة ورضا وزهوا..

وأنا لا أخفي زهوي - وحتى غروري - بأن ما قوست حوله من البصيرة راقك وكان جديرا برضاك.. لهذا - فيما أعتقد - يكتب العظماء أمثال ساراماجو.. حتى تحوز كتاباتهم رضا الملائكة..

"حتى الأحلام تحدث حقيقة"..

فعلا عبارة عبقرية.. لاحظتي هذه السيرورة في الفعل المضارع "تحدث".. إنها "تحدث" بمعنى أنها تحدث في نفس اللحظة التي تقع فيها.."تحدث" هو جزء من تحققها.. ومبشرا بكل تحققها.. بالفعل لم يسبق لي أن أحببت فعلا مضارعا قبل هذا الفعل "تحدث"..

"القدر يعلم الحب"..

وهي عبارتك أنت يا عشتار ولسيت عبارة ساراماجو.. القدر دال تقع في دائرته كل أفعال الجبر والإكراه وإلغاء الإرادة البشرية.. لكنك تقرنينه بالحب وهو أسمى أفعال الإرادة البشرية والاختيار الحر.. وأظن أن ذلك له صلة مماثلة بوضع الإيمان في عبارتك كفعل استجابة للقدر وكمضاد في نفس الوقت للعجرفة التي هي سوء استخدام للإرادة البشرية الحرة.. وإذن فإن الإيمان بمعنى آخر هو حسن استخدام للإرادة البشرية بعكس العجرفة.. وحسن استخدام الإرادة البشرية في مواجهة ما قد يعوق هذه الإرادة أو يشلها أو يلغيها (القدر) أظن أنه لا ينفصل عن عبارة سانتياجو الدالة "يكفي أن تريد كي يريد كل العالم معك".. وأعتقد أن المعنى لن يتغير لو قلنا "يكفي أن تريد لتريد كل الأقدار معك"..مثلك يا عشتار أؤمن بهذا التطابق بين هذين المفهومين العسيرين على التطابق (القدر المفروض والإرادة البشرية).. وأسلم معك أن التطابق بينهما - والذي يقع بسحر الحب دائما - سيظل للأبد عسيرا على من لم يتعرف على جوهرة الحب وأسراره الفريدة..

" أشد تأنيب للضمير هو تأنيب من لم يفعل مكروها .. ولكن سمح بوقوعه "..

وإذن دعيني يا عشتار أشكر في وطننا كل مخلصة ومخلص ممن لم يسمحوا بوقوع الخطأ.. صحيح أنهم يستهدون في ذلك بقلوبهم العظيمة المحبة المتواضعة ولا ينتظرون شكرا من أحد.. لكن غياب الشكر لهؤلاء المحبين والمتواضعين الكبار هو من الأخطاء التي لا يجب أن يسمح أحد بوقوعها

" كم مرة تأتي المخاوف لتضيف المرارة لحياتنا وفي النهاية نكتشف أن لا أساس لها ولا سبب لوجودها "..

سأختلف معك هنا يا عشتار اختلافا ليس هينا.. فأنا لن أقول لأحد أن يجرب الشجاعة لكنني سأقول للجميع أن يجربوا الحب.. ما قيمة الشجاعة بدون الحب يا جميلتي؟.. أغلب الظن أننا لن نجد بدونه ما يمكن أن نستخدم فيه شجاعتنا..في الوقت ذاته فإن الحب - كمعنى علوي سامي وشامل - ينطوي على شجاعته الخاصة التي يمكنه أن يزود بها كل محب حقيقي ومخلص.. أليس كذلك..

سأنتظر دائما يا عشتار.. كل كلمة..

ولا مرة تكتب يا أثر الطائر إلا وتحلق روحى فى رحاب براءة أفكارك وطهرها ..ونقاء سريرتك وعلوها ..هكذا تعلمنى وتعلمنا كيف يكون الإنسان انسانا راقيا وحقيقيا ..أيها الإنسان الجميل ..

الحقيقة أننى عدت مرة أخرى لهذا النقاش الشيق لأؤكد فعلا على أن الحب هو صانع الشجاعة ..والواقع - وهذا ليس على سبيل المبالغة - أن الحب هو صانع الحياة كلها ..الحب وحده هو ما يعطى لحياتنا قيمة ..الحب يساوى الحياة ..وأعتقد أن هذه قضيتنا الكبرى فوق هذه الأرض ..فنحن دائما فى رحلة بحث وشقاء عن الحب ..عن الشريك ..الشريك الصحيح ..النصف الآخر الذى بوجوده نشعر فعلا بالإكتمال ..الإكتمال البشرى الذى يصنع المعجزات ..ويعمر فى الأرض ..

غير أننى عندما عنيت أن نكون شجعان ..كنت أهدف إلى أن الخوف فعلا عدو للحب حتى ولو كان ضعيف فى مواجهته..وأن الشجاعة تقوى من عود المحبة ..ولست أدرى على وجه الدقة هل الحب يعلم الشجاعة أم أن الشجاعة ضرورة للحب ..على كل حال لا يهم هذا التدقيق ..فالحقيقة أننا فى الحب وبالحب نكون أقوياء وشجعان ..ولكنك أحسنت كالعادة فى إيصال الفكرة الأجمل ..لا قيمة للشجاعة بدون حب والأصح هو أن الناس تحب حتى يكونوا شجعان ..عندما عبرت ..عبرت على هذه الطريقة لأن الحب فى روحى ونفسى أصبح مهضوم تماما يا عزيزى ..بحيث لم أعد انتبه إلى وجوده بعدما أصبح غير ملفت لأنه بالفعل موجود ويسرى فى دمى ..الحب لم يكن ولن يكون أبدا شيئا ثانويا فى حياتنا ..

معك هنا يا أثر الطائر ..أشعر بالحياة

:clappingrose:

الشجاعة تقوي عود الحب والخوف يعادي إنسانيتنا ويعادي بالأكثر أجمل ما في إنسانيتنا..الحب

لا لزوم للشجاعة بدون الحب والإنسان عندما يحب يكون شجاعا..وكما قلت يا عشتار فإن التدقيق قد لا يؤدي لشيء لإن القدرة على الحب ذاتها تتطلب قدرا من الشجاعة..

وإذا كنت جئت بالتعبير الأجمل فأنت جئت بالصمت الأجمل والأجل والأدهش.. ماذا يحدث عندما يسري الحب في دماءنا..عندما نصبح الحب ويصبح الحب نحن.. يحدث أننا بوجودنا نصبح حديثا متصلا عن الحب..حتى صمتنا يصبح حديثا متصلا عن الحب..

ومعك يا عشتار..أيتها المحبة المحبوبة..أشعر بضرورة الحياة

:clappingrose:

رابط هذا التعليق
شارك

كتاب "توفيق الحكيم يتذكر" من إعداد: جمال الغيطاني..

مكتبة الأسرة 2010

www-St-Takla-org___Tawfik-El-Hakim-01.gif

من أمتع ما يمكن فعلا قراءته من كتب الحوارات الذاتية، تختفي فيه أسئلة الغيطاني ويبدو كلام العملاق "توفيق الحكيم" كأنه مونولوج داخلي مسترسل ينقطع فقط بالعناوين الداخلية وتبويب الفصول حسب الموضوعات التي تتناولها الحوارات، لكن..لا أسئلة..أجوبة الحكيم فقط التي تدور كلها حول حياته وأهم القضايا التي شغلت فكره وفنه وذاته خلال أيام حياته.

الكتابة عن كتاب كهذا نوع من المغامرة الصعبة لأن كل صفحة وسطر وكلمة فيه تقريبا تحتمل أن يتوقف المرء أمامها..يتأمل فيها.. يصعب عليه ألا يذكرها أو يتذكرها..لكني واختصارا سأنتقي من بين ذكريات الحكيم في كتاب الغيطاني ما يهم انشغالنا أكثر..

المنبع/ البذرة/ الرسالة الخفية..

لماذا أحترف الحكيم الكتابة؟ لماذا أصبح فنانا وأختار طريق الكتابة بالذات من بين الفنون التي أنشغل بها كلها وهي تتنوع ما بين التمثيل والرسم وتلاوة القرآن والموسيقى وتأليف الأشعار وأخيرا المسرح (الفن المقرب لقلبه) والقصة والرواية؟ لماذا لم يظل – مثلا – وكيلا للنيابة أو عمل قاضيا كأبيه؟.

أسئلة مهمة ومثيرة عندما يسألها عملاق في قامة الحكيم الفنية والفكرية ومقامه في عالم الخلق الإبداعي، وإجاباتها لديه أكثر إثارة أيضا من زوايا نظرها ونفاذها للحقائق وإبداعيتها ومن جهة قدرتها على توليد المزيد من الأسئلة.

يحكي الحكيم عن احترافه للرسم وإقلاعه عنه سريعا، يقول:

"كان هذا الشيء الجديد الذي انجذبت إليه هو الرسم، كنت أحبه وأجتهد أن أبرز فيه، فقد كان ذلك يملؤني سرورا داخليا غريبا..ولكني لم أستمر في هواية الرسم إلى حد جدي إنما هي تلبية لذلك الصوت الخفي، أو اتجاه غريزي إلى أقرب موارد تلك النزعة الكامنة في أعماق كياني، كانت هذه النزعة تتخذ صورا مختلفة بحسب الأرضية التي تتيحها لها الظروف. كانت تقترب بسرعة كالمنجذبة بمغناطيس..كأنها روح شبح يتحسس الأجساد التي كتب عليه أن يحل في أحدها"

وقد حلت نزعة الحكيم الفنية في الشكل المسرحي بالذات، وهو يعزو ذلك إلى احتمال أن يكون المسرح هو أول فن مارسه بقدر من التنظيم وعلى سبيل الهواية ولفترات جعلت شيطان فنه يرتكن إلى تقمص هذا الجسد المسرحي ويرتاح فيه أكثر من كل أشكال الفنون الأخرى.

لكن ما سر هذه النزعة الفنية الدفينة؟ لماذا يتميز بها البعض دون الآخرين؟ لماذا تسيطر على وجود البعض دون بقية الناس؟ وهل الفنان هو المسئول الوحيد عن إيجاد هذه النزعة؟

وتأتي إجابة الحكيم عن هذه الأسئلة لتحمل حلما كبيرا وقيما بإمكانية تجسيد الأحلام الذاتية في المستقبل، وبوسائل هي أقرب ما تكون إلى أن نسميها "وسائل جينية"، إذ يعزو الحكيم نزعته الفنية إلى.. "بذرة تلقيتها عن أب وأم، ولم تنبت عندهما بفعل الظروف، فألقيا بعبء إنباتها على كاهلي، دون وعي منهما، عن طريق رسالة خفية، ضمناها تلك المنطقة التي منها خلقت"

وفي استعراضه لطباع أبويه يضع الحكيم يد قارئه على شفرات هذه الرسالة الخفية التي تلقاها الحكيم الطفل منهما. فأمه هي السيدة النهمة لقراءة السير في الكتب الصفراء ثم قراءة الروايات التاريخية والعاطفية التي كان يكتبها الأدباء الشوام الذين هاجروا إلى مصر مثل جورجي زيدان. وهي امرأة نشطة، قوية الطبع، ملتهبة العاطفة، وهي شخصية قوية مسيطرة تمكنت في النهاية من السيطرة على أبيه وشغله بمخاطر الفقر والتدهور الاقتصادي لتحرفه عن اهتماماته الثقافية والفلسفية. هذه الاهتمامات الفلسفية الخفية لأبيه لم يعرفها الحكيم الطفل في شخصية أبيه التي عرفها بعد تحولها إلى النزعة المادية العملية، حيث لم يكن يراه إلا منشغلا بشراء الأملاك والبيوت واستثمار راتبه وميراث زوجته، لكنه فوجيء بالتعرف عليها بعد سنوات طويلة، وبالمصادفة، وهو عضو في مجمع اللغة العربية عبر أحد أصدقاء والده القدامى المرحوم "عبدالعزيز فهمي".

تواضع الحكماء

في أكثر من موضع من ذكريات الحكيم يلح الأديب العظيم على فضيلة التواضع، إنه لا يطالب بها الكتاب والأدباء الجدد خصوصا، والناس عموما، فقط. كذلك هو لا يقتصر على ضرب أمثلة تلو الأمثلة من حياة عظماء المسرح والموسيقى والأدب، لكنه يقدم تفسيرا مفصلا لمعنى التواضع في حياته وشخصيته، يقول:

"إنني أشعر دائما بالتردد، وعدم الثقة بالنفس، حتى فيما أكتبه، وهذا الإحساس عطلني كثيرا..إنني أقرأ ما يكتبه الواثقون من أنفسهم وأحسدهم..إصرار الفنان يأتي نتيجة للثقة بالنفس، أنا على النقيض من ذلك، لست ملحا، عندما نجحت أهل الكهف كان بعض الأصدقاء يجيئون إليّ ويهنئوني، وكنت أقول لهم : اسكتوا لا تفضحوني.. أنا وكيل نيابة محترم"!!

هذا التواضع الإنساني الجميل لدى الحكيم والذي كان منبعه الأعمق هو "اهتزاز الثقة بالنفس" أمر يختلف تماما عن فقدان الاتجاه أو اهتزاز الثقة بما للنفس – مع اهتزاز الثقة فيها – من حق في التطلع إلى الأعالي ومحاولة تسنم القمم والذروات وتحقيق الفشل والنجاح في كل ذلك.

وأعتقد أن الشعور بالتواضع هو شعور طبيعي لدى أصحاب النفوس العظيمة كتوفيق الحكيم، بل إنه يكاد يكون لازمة من لوازم الريادة في كافة مجالات النشاط والروح الإنساني، حيث يلزم للرائد – أيا كان مجال طموحه ونشاطه - ولأنه يقدم على الدخول في تجربة كبيرة أو مغامرة قوية - أن يتوفر لديه احساس ملح بالنقص الذاتي فيحاول ملأه بمحاولاته وأفعاله ومغامراته الكبرى أو الرائدة.

وإذن..يقدم "توفيق الحكيم" بما له من ثقة مهزوزة في نفسه على مضاهاة روائع الكلاسيكيات الإنسانية الخالدة في المسرح بمسرحيات فريدة ومجددة مثل "بيجماليون" و"براكسا أو شجرة الحكم" و"أهل الكهف" و"شهرزاد".

"براءة التواضع" هذه يمكنها أن تأتي في كل وقت بالمعجزات.

حدث مثلا أن كتب "الحكيم" في مقدمة إحدى مسرحياته يطلب من قارئها أن يطالع نص أريستوفان بصحبة نص مسرحيته حتى يتمكن من الحكم عليها، وهو ما جعل "طه حسين" مندهشا يسأله : هل تضع قامتك إلى جانب قامة أريستوفان؟!. فأجاب "الحكيم" بتواضع حقيقي لا تنقصه البراءة ولا يشوبه الاصطناع : لا..ولكني أعالج موضوعا عالجه هو من قبل..

البساطة

ليست بساطة الأسلوب وتعقيده عند الأدباء الإنسانيين الكبار قضية بلاغية أو فنية أو حرفية لغوية. لكنها قضية ترتبط بصميم روح الكاتب وحسه الإنساني الصادق بما يعالج في كتابته. قضية الأسلوب ترتبط ارتباطا وثيقا بشخصية الكاتب ومنابعه النفسية والفكرية. وهو ما يجعل الحكيم يعزو تعقيد العقاد الذي لم يكن له حظ الحصول على شهادات التعليم إلى "رغبته في إثبات ثقافته وأنه يفهم أكثر من المتعلمين".

أما بالنسبة للحكيم نفسه فإنه لا يتعمد البساطة لأنه عندما يعالج موضوعات صعبة، فهو لا يفكر في أنها صعبة، كما أنه لا يتعمد "تصعيبها". كان هدف الحكيم دائما أن يكون بسيطا، وهو ما نجح في الوصول إليه، بمعاونة من روحه وشخصيته، وبشكل تلقائي لم يتعمده. يقول:

"لا يخلق الأسلوب الحق إلا الكاتب الصادق في شعوره وتفكيره إلى حد ينسيه أنه ينشئ أسلوبا، البلاغة الحقيقية هي الفكرة النبيلة في الثوب البسيط، هي التواضع في الزي الرسمي والتسامي في الفكرة، وهكذا كان أسلوب الأنبياء في حياتهم، أنظر إلى سيدنا محمد وإلى عيسى على الخصوص، بساطة في الملبس، وتواضع في المظهر، وسمو في الشعور والتفكير."

ولدى الحكيم قضية هامة ترتبط ارتباطا وثيقا بالبساطة وهي قضية التكوين الثقافي الجيد، إذ يلح الحكيم على ضرورة القراءة، للإنسان والمواطن المتحضر في المقام الأول، وللكاتب على الأخص. وهو يدعو كل واحد منا إلى الوصول إلى "أوسع قاعدة للقراة" لكنه ينبه في الوقت ذاته على أن هذه القاعدة الواسعة للقراءة والتي تؤدي إلى "تكوين ثقافي جيد" لا يجب أن تؤدي من جهة أخرى إلى "تعقيد الأسلوب" وإنما يجب أن تؤدي إلى بساطته، يقول:

"إن كل المحصلة الثقافية يتضمنها الأسلوب، مثل شراب الليمون أو البرتقال، الذي يحتوي على أكبر قدر من الفيتامينات دون أن يبدو ذلك في طعمه، أو شكله"

ولذلك هو يدعو إلى أسلوب محدد و(صحي) في قراءة واستيعاب وهضم المحصول الثقافي أو أوسع محصول ثقافي يمكن أن يصل إليه الإنسان، يقول :

"فإن قراءتي..تشبه عملية الطعام الذي يهضمه الجسد، ويتسرب إلى الدماء والعروق فينمو الإنسان ويعيش، هناك البعض الذي يتعمد أن يأكل بشراهة، وأن يفرط، ثم يصاب بعسر هضم، كنت أتشرب ما أقرؤه، أتلقى، وأهضم"

بلاغ الحكيم إلى النائب العام ضد الشيخ الشعراوي

ربما لا يعرف الكثيرون منا بأمر هذه القضية التي عرفها الأديب الكبير توفيق الحكيم أمام النائب العام ضد فضيلة الشيخ الشعراوي.

وهناك الكثيرون أيضا لا يحبون أن يعرفوا عن ذلك شيئا..وهنا مكمن خطورة..

في هذا الوقت كانت لا تزال في بدايتها هذه الحالة من الهوس الديني والتدين الشكلي والمراسيمي الزائف والتي اكتسحت بعد ذلك أوساط وفئات عريضة من الشعب المصري.

كتب الحكيم في جريدة اللواء الإسلامي سلسلة مقالات بعنوان: "حديث مع الله"، واعتبرها الشعراوي (كفرا) من الحكيم، وفضلا عن أن ذلك أثبت وجود قصور حقيقي – وقتئذ - لدى الشيخ الشعراوي في إطلاعه على تراث الفكر الإسلامي الخالد والمستنير، فإن كلمات التكفير الحادة التي تناول بها الشيخ أديبنا الكبير أثبتت ما كان لديه من اندفاع لا يتعاطف معه ولا يؤيده الإسلام دين العقل، وهو ما أعتذر عنه الشيخ الشعراوي بسماحة لاحقا.

جاء في مقال الشيخ الشعراوي عن الحكيم هذه الكلمات الحادة تحمل هذا التهمة الخطرة (التكفير) :

"لقد شاء الله – سبحانه وتعالى – ألا يفارق هذا الكاتب الدنيا إلا بعد أن يكشف للناس ما يخفيه من أفكار وعقائد كان يتحدث بها همسا ولا يجرؤ على نشرها، ولقد شاء الله ألا تنتهي حياته إلا بعد أن يضع كل خير عمله في الدنيا حتى يلقى الله سبحانه وتعالى بلا رصيد إيماني"!!

وتوجه على أثر ذلك توفيق الحكيم إلى النائب العام بهذه العبارات الحكيمة:

"كل ما أطلبه من بلاغي هذا هو حماية مواطن من هذا التهديد، وذلك بالتحقيق في هذا الموضوع لإظهار الموقف الحقيقي لمقدم البلاغ، وهل قد صدر منه حقا ما يستحق عليه التشهير بدينه، وهل هو حقيقة قد ضل هذا الضلال، وتعمد هذا الإضلال الذي أتهمه به علنا الشيخ متولي الشعراوي وأهاج عليه الرأي العام باعتباره من رجال الدين الموثوق بهم لدى الجماهير؟. على النيابة العمومية أن تتحرى الموقف من عقلاء رجال الدين ليظهر الحق وتوضع الحقيقة في نصابها، حتى لا تترك المواطن المتهم بالضلال عرضة لغضب غوغائي خطر"

رحم الله توفيق الحكيم الذي بادر إلى مواجهة تهمة خطرة بمثل هذه الشجاعة..

ورحم الله الشيخ الشعراوي الذي أعتذر متراجعا عنها لما ثبت خطؤها بصورة أشجع..

ليضربا مثلا ساطعا على ضرورة التمسك بالحق في التعبير وبحرية الفكر وفضائل التسامح والتروي وتواضع وعظمة التراجع عن الخطأ أو الإندفاع..

ربما لو حفظنا هذه الأمثال الناصعة وحرصنا على تلقينها لأجيالنا الجديدة لتجنبنا الكثير من المآسي التي رأيناها ولا نزال نراها حولنا من إساءة استخدام للدين والزج به في معارك هو منها براء، معارك "الفكر الغوغائي" – كما أسماها الحكيم.

تماما

تماما يا أثر الطائر ..وكأنك تتحدث بلسانى ..كم تمنيت كثيرا أن أعبر عن تلك الأفكار التى جاءت فى معرض حديثك عن الحكيم ..وللحكيم نفسه ..

استمتعت بتحليلك الرائع لبعض المقتطفات الذاتية من الكتاب ..والحقيقة أننى من هواة قراءة السير الذاتية ..تمتعتنى وتعلمنى وتجعلنى أكتشف أبعاد أخرى للنفس الإنسانية يسبر أغوارها صاحب السيرة ومحاوره ..راقنى جدل كلامك وكلامه عن البساطة والتواضع ..وبخصوص أن الإسلام دين العقل والسماحة ..وكذلك كلام الحكيم عن القراءة والكتابة والنص والأفكار الإبداعية نفسها ..كما تأثرت جدا بموقف الشيخ الشعراوى رحمه الله ..وضربهما - الحكيم والشيخ الجليل - مثلا قلما يتكرر اليوم فى احترام الإختلاف وتقدير المعرفة التى هى الهدف الأساسى ولا شىء سواها ..

ذكرياتى الخاصة عن الحكيم هى ذكريات بعيدة نسبيا ..تعود بى للمرحلة الثانوية ومرحلة الجامعة حيث كنت أيامها شغوفة بالمكتبة الأدبية لكبار آدبائنا وفلاسفتنا ..وكان للحكيم نصيب وافر من الإهتمام حيث قرأت له أغلب أعماله وأتذكر على الخصوص روايته البكر " يوميات نائب فى الأرياف " ..كانت شيقة فى نظرى فى تلك المرحلة العمرية ربما لأن الأحداث نفسها حملت مغامرة ..وفى أرياف مصر التى اختصت وقتذاك بعادات أصيلة وتقاليد ظهر بعضها فى الرواية ..وبشكل عام حملت على أعتاقها نصرة الخير والحق فى صراعهما الأبدى مع قوى الشر ..

مازلت أجد كل متعتى هنا يا أثر الطائر ..مع روحك الراقية وحرفك الأصيل ..

الحكيم يا عشتار بوابة ذهبية فعلا للمرور إلى عوالم الأدب السحرية..لكتابات الحكيم فعلا هذه القدرة العابرة للأمزجة والذائقات المختلفة والمراحل العمرية..لذلك هو فعلا الأنسب للقراءة في مرحلة الشباب المبكر هذه..أنتي أيضا محظوظة لأنك مررت في طريق قراءاتك الأدبية بهذه البوابة السحرية..

وسأظل دائما أجد كل المتعة في كتابة ما تطالعه عيناك الجميلتان يا عشتار ..

:clappingrose:

رابط هذا التعليق
شارك

كتاب : الهوية الثقافية والنقد الأدبي

المؤلف : د.جابر عصفور

الناشر : مكتبة الأسرة – 2010

jaberasfourn.jpg

هذا كتاب ذو حجم وسعة وعمق يجعلني لا أتصدى لعرضه أو أستعرض قضاياه الكثيرة أو أطرح حتى جوانب متعددة أو تفصيلية منها.. لكني سأقتصر على أن أقتطع لك منه مباشرة بعض المقاطع من بابين من أبوابه بالذات. وهما البابان اللذان يتصلان بمبحث الهوية : تعريفا وقضايا وإشكالات.

وهما بابان ثريان بحق أعتقد أن قراءتهما كفيلة بإفادة كل من يتصدى للتفكير أو البحث أو الكتابة في هذا الشاغل الهام، بل والحساس، من شواغلنا الفكرية والثقافية والوطنية.

يتميز د.جابر عصفور بلغته النقدية، العلمية المنضبطة، التي تستخدم المصطلح بدقة وشمول كافيين لتعمق المعنى والإحاطة بفضاءاته، فضلا عن عقليته المستقصية المستفيضة واستخدامه الخصب لمناهج التفكير العلمية. والأهم من كل ذلك هو أن الدكتور جابر عصفور ناقد ومفكر إنساني بحق، يتميز بقدرته على الجمع ما بين انتمائه للوجه المشرق والمشرف من ثقافتنا المصرية وبين انتمائه الرفيع للتراث الإنساني العالمي.

لذلك، أجدني أميل إلى اقتباس فقرات متكاملة من كتابه دون تعليق أو شرح من جانبي، اللهم إلا ما قد تستحضره هذه الفقرات من نقاش بيننا.

المقطع الأول

من الباب الثالث بعنوان: "عن الهوية الثقافية"

الفصل الأول بعنوان: "تحديد الهوية الثقافية"

إن الهوية الثقافية لأي شعب هي هوية متغيرة بالضرورة، لا تعرف الثبات ما ظل تاريخها يمر بمراحل من التحول والتغير اللذين ينتجان عن عوامل محلية وعالمية في آن. ولا يزال رأيي أن الهوية ليست كيانا ثابتا، منغلقا على نفسه، وإنما هي كيان فعال، أي فاعل ومنفعل معا، وأعني بذلك ما انتهيت إليه، بعد تأمل وممارسة، أن هوية الشيء هي ما يميزه عن غيره، ويجعله مختلفا عما عداه. فالهوية هي الخصائص النوعية التي تحدد ثقافة عن غيرها، وتجعلها تختلف وتتمايز قياسا إلى بقية الثقافات. ويكمل ذلك ما أراه من أن الهوية الثقافية تتكون من عناصر ثابتة، عميقة الجذور، ضاربة في العمق التاريخي للأمة التي تنتسب إليها الثقافة، وعناصر متغيرة مشروطة بالتاريخ المتحول لهذه الأمة بكل لوازمه وعملياته متابينة الخواص، أقصد إلى تلك العمليات التي تأتي من الخارج، متفاعلة مع العناصر الثابتة التي تتأثر بها وتؤثر فيها على السواء. وعندما أحدد هوية الثقافة المصرية، من هذا المنظور، فإني أحدد ثوابتها بعناصر ثلاثة: هي العنصر الفرعوني الذي لايزال ممتدا بمعنى أو غيره، والعنصر المسيحي الذي لايزال ميراثه المادي والمعنوي متجسدا في الطرف الثاني من الأمة التي لايزال يجمعها شعار ثورة 1919 : "الدين لله والوطن للجميع". أما العنصر الثالث والأخير فهو العنصر العربي الإسلامي الذي يجمع ما بين دين وهوية قومية، على نحو ينبغي التمييز بينهما، رغم كل ما يربطهما، حتى لا يختلط الديني بالقومي أو بالعكس، ففي هذا الاختلاط أو الخلط ما يؤدي إلى مشاكل جمة.

هذا عن عناصر الثبات في الهوية الثقافية المصرية، أما عناصر التغير فإنها تجمع بين المؤثرات الثقافية الوافدة على هذه الثوابت، وهي، في عصرنا الحديث، العالم الغربي الذي اتصلنا به، وفرض وجوده علينا، منذ بدء الحملات الاستعمارية التي استهلتها حملة بونابرت 1798، والتي جاء – بعد رحليها سنة 1801 – الاحتلال البريطاني الذي امتد من 1882 إلى 1954، وهي الفترة التي يمكن أن نطلق عليها فترة الاستعمار الاستيطاني، أو الكولونيالي، قبل أن تتغير المرحلة التاريخية ويأتي استعمار جديد بمرحلة جديدة، هي المرحلة الإمبريالية. وقد اتصلنا بكلا النوعين من الاستعمار الذي ظلت علاقته بنا تنطوي على مفارقة دالة، فهو استعمار عسكري واستيطاني واقتصادي من ناحية، وهو حضور ثقافي اقترن بجوانب إيجابية أفادت ثقافتنا (سواء في مجالات التعليم والإبداع والإعلام) من ناحية مقابلة. ورغم أنه فرض علينا الاتباع والتقليد في هذه المجالات في جانب، فإننا أخذنا منه، في بعض دوائره الثقافية، ما علمنا نقض الاتباع ورفض الهيمنة الثقافية، خصوصا عندما تعرفت طليعتنا الثقافية على ما يطلق عليه خطاب ما بعد الكولونيالية، أو خطاب نقض الاستعمار، وهو الخطاب الذي عرفنا منه أن الغرب الثقافي ليس دائرة واحدة، أو كيانا مصمتا، إنما هو دوائر عديدة مختلفة، وكيانات كثيرة متصارعة. فيها ما تعلمنا منه نقض المركزية الأوربية ونقض خطاب الاستعمار بكل تجلياته ومراحله وأقنعته متعددة الأسماء والصفات والملامح.

وما يحدد الوضع الحالي لهويتنا الثقافية المصرية هو تفاعل عناصرها الثابتة الأصيلة مع العناصر المتغيرة الوافدة، فهذا الوضع. بما هو عليه من خصائص. هو ما يمايز بين الهوية الثقافية المصرية والهوية الثقافية السورية أو العراقية أو المغربية أو السعودية..إلخ. وفي الوقت نفسه، هو ما يمايز بين الهوية الثقافية المصرية وغيرها من الهويات الثقافية في أقطار العالم المنبسطة على امتداد الكرة الأرضية. وصحيح أن الروابط بين الأقطار العربية أكثر قوة من حيث ما يجمع بيننا من تاريخ مشترك ولغة مشتركة ومصالح مشتركة وهموم مشتركة.

أثر الطائر المحبوب ..

مفارقة غريبة أن أقرأ كلام فى الهوية ..وفى الأصالة وفى التمازج الواعى للهوية الأصلية والعوامل التى تحتك بها من الخارج و ما يحمله ذلك من مزايا وعيوب وأنا واقفة على حافة حزن واكتئاب ..ولا أتمنى أن يكون يأس ..فعما قليلا صدمنى خبر البراءة لكل من الفقى وغالى وواحدا ثالثا لا أتذكره فى هذه اللحظة ..عن تبريىء ساحتهم من تهم غسيل الأموال والإختلاس والمتاجرة بموارد الشعب المصرى !!!

حقاً طعننى الخبر فى هذه الهوية التى أجاد تفسيرها وتصنيفها المفكر العظيم دكتور جابر عصفور ..كنت قد عقدت آمالا كبيرة على أن هذه الثورة المختلفة والبارزة ..ثورة 25 يناير .. سوف تعيد البريق للهوية التى أصابها البهتان وكأنما انطفأت بعوامل الزمن الصعب الذى لم يرحم المصريين على مدار عقود طويلة من الكبت والقهر والقمع ..ولما حانت اللحظة فى مخاض عسير وتمت الولادة بعد فترة حبل تعدت التسعة أشهر المقررة وفاقت بكثير التسع سنوات لتمتد إلى أكثر من ثلاثة عقود متوالية ..بعدما فرحنا وراهنا على هذا الوطن وهذه الهوية ..على أصالتهما وبقائهما العزيزين ..تتوالى الضربات البطيئة علينا من حيث لا نحتسب حتى أرانى اليوم أرى جزء من الحقيقة ..حقيقة الزيف..حقيقة النصب ..وحقيقة التغرير بنا ..!!

الثورة ضاعت ..تضييع أو كادت يا أثر الطائر ..

هذا الوطن الذى أخذ من أعمارنا الكثير وارتضينا فداء له بمثل هذا الثمن الباهظ من السنوات الضائعة المهدرة ..هذه الثورة التى طالما عملنا عليها ..واشتغلنا فيها لكى نحمى هويتنا وأرضنا وأبناءنا ..أترانى اليوم مجحفة فى حكمى ..متطرفة فى شعورى ..أى نكسة تلك التى أشعر بها فى قرارة أعماقى وذاتى !

أخبرنى أنت ..أخبرنى بما عهدته فيك من رؤية موضوعية وموزونة لا تغالى فى الحكم ولا تنقص من مقداره ..أخبرنى يا أثر الطائر ..هل مازال هناك أمل ؟

أعتذر منك على هذا الرد الحزين ..الذى مال عن الهوية قليلا ..ولكننى كما تعرف لا أستطيع أن أمنع نفسى من البوح لك بكل ما تعتمل به نفسى ..ومع ذلك لا أجدنى خرجت كثيرا عن هوية مصر ..

هوية مصر ..

آآه

هذه الهوية التى سأعود قريبا لأتحدث عنها ..فأنا من المهتمين بالبحث عن الهوية وجذورها ولطالما خضنا مناقشات فى هذا الصدد يا انسان ..أتذكر ؟

لا يزال الحديث بيننا ممتد وخالد ..

لن تنقطع حبائله أبدا يا أثر الطائر طالما فى صدرى نفس يتردد

وتسمعه ..

تحية محبة صافية

عشتار

:clappingrose:

تم تعديل بواسطة عشتار
رابط هذا التعليق
شارك

مفارقة غريبة أن أقرأ كلام فى الهوية ..وفى الأصالة وفى التمازج الواعى للهوية الأصلية والعوامل التى تحتك بها من الخارج و ما يحمله ذلك من مزايا وعيوب وأنا واقفة على حافة حزن واكتئاب ..ولا أتمنى أن يكون يأس ..فعما قليلا صدمنى خبر البراءة لكل من الفقى وغالى وواحدا ثالثا لا أتذكره فى هذه اللحظة ..عن تبريىء ساحتهم من تهم غسيل الأموال والإختلاس والمتاجرة بموارد الشعب المصرى !!!

حقاً طعننى الخبر فى هذه الهوية التى أجاد تفسيرها وتصنيفها المفكر العظيم دكتور جابر عصفور ..كنت قد عقدت آمالا كبيرة على أن هذه الثورة المختلفة والبارزة ..ثورة 25 يناير .. سوف تعيد البريق للهوية التى أصابها البهتان وكأنما انطفأت بعوامل الزمن الصعب الذى لم يرحم المصريين على مدار عقود طويلة من الكبت والقهر والقمع ..ولما حانت اللحظة فى مخاض عسير وتمت الولادة بعد فترة حبل تعدت التسعة أشهر المقررة وفاقت بكثير التسع سنوات لتمتد إلى أكثر من ثلاثة عقود متوالية ..بعدما فرحنا وراهنا على هذا الوطن وهذه الهوية ..على أصالتهما وبقائهما العزيزين ..تتوالى الضربات البطيئة علينا من حيث لا نحتسب حتى أرانى اليوم أرى جزء من الحقيقة ..حقيقة الزيف..حقيقة النصب ..وحقيقة التغرير بنا ..!!

الثورة ضاعت ..تضييع أو كادت يا أثر الطائر ..

هذا الوطن الذى أخذ من أعمارنا الكثير وارتضينا فداء له بمثل هذا الثمن الباهظ من السنوات الضائعة المهدرة ..هذه الثورة التى طالما عملنا عليها ..واشتغلنا فيها لكى نحمى هويتنا وأرضنا وأبناءنا ..أترانى اليوم مجحفة فى حكمى ..متطرفة فى شعورى ..أى نكسة تلك التى أشعر بها فى قرارة أعماقى وذاتى !

أخبرنى أنت ..أخبرنى بما عهدته فيك من رؤية موضوعية وموزونة لا تغالى فى الحكم ولا تنقص من مقداره ..أخبرنى يا أثر الطائر ..هل مازال هناك أمل ؟

أعتذر منك على هذا الرد الحزين ..الذى مال عن الهوية قليلا ..ولكننى كما تعرف لا أستطيع أن أمنع نفسى من البوح لك بكل ما تعتمل به نفسى ..ومع ذلك لا أجدنى خرجت كثيرا عن هوية مصر ..

هوية مصر ..

آآه

هذه الهوية التى سأعود قريبا لأتحدث عنها ..فأنا من المهتمين بالبحث عن الهوية وجذورها ولطالما خضنا مناقشات فى هذا الصدد يا انسان ..أتذكر ؟

لا يزال الحديث بيننا ممتد وخالد ..

لن تنقطع حبائله أبدا يا أثر الطائر طالما فى صدرى نفس يتردد

وتسمعه ..

تحية محبة صافية

عشتار

:clappingrose:

عشتار..

لا بأس ياغاليتي..هوني عليك..صدمتني طبعا أخبار براءة الفقي وغالي والمغربي وفضلي..لم يبق إذن إلا أن ننتظر الحكم ببراءة حسني مبارك الديكتاتور الأب والراعي لشلل الفسادالصغيرة والكبيرة كما قال أحدهم!!.. لكن يجب أن تلاحظي بقية الخبر وهو أن النيابة العامة طعنت على الحكم ببراءة الأربعة وهو ما يعني ان القضية لا تزال متداولة في ساحات المحاكم..وليس من الصعب طبعا ألا تؤيد محاكم الطعن والاستئناف أحكاما ابتدائية..لكن هنا أيضا ليس مربط الفرس..

السؤال الكبير الذي يلح على أذهان الكثيرين من الثوار : هل أخطأنا بترك الميدان؟ هل تركناه مبكرا فرحين بخبر رحيل الديكتاتور وغير مبالين أو غير ملتفتين لبقاء نظامه؟ هل عولنا كثيرا على منصب وشخصية الرئيس فيما أن الحقيقة أنه لم يكن مع منصبه أكثر من ألعوبة تحركها أيدى نخب فاسدة ناهبة مستبدة حاكمة من وراء الستار؟

هذه الأسئلة العسيرة تستلزم نشاطا فكريا وجهدا عمليا وتحركا جماعيا للإجابة عليها..ولن تكون الإجابات التي سيصل إليها المجتمع المصري مجرد إجابات نظرية بل - وبالتأكيد - ستقترن بخطوات عملية وثورية على الأرض ولتطهير الأرض التي لوثها الفساد وأعقمتها الديكتاتورية..

هل ترين هذا الكلام متفائلا؟!

هو كذلك..ولعدة أسباب :

السبب الأهم أن هذه هي الروح الثورية الحقيقية..الروح الثورية روح لا تعرف التشاؤم ولا الإحباط ولا الارتكان لليأس..إنها روح متفائلة بالفطرة وواثقة بالمخيلة وبالتاريخ معا في قدر الانتصار للشعب المصري بل ولشعوب الأرض على اتساع الإنسانية.

أما الأسباب الأخرى فهي أسباب عملية..منها مثلا الدعوة إلى العودة إلى ميدان التحرير وهي دعوة أنطلقت منذ أسابيع وقبل هذا القرار الأخير، وهي دعوة مستمرة..تتصاعد..وتكسب كل يوم أرضا جديدة..حتى أن الثوار في لقائهم مع عصام شرف دعوه إلى أن يصرح بحقيقة الخلافات بينه وبين المجلس العسكري وأيضا دعوه للنزول إلى الميدان الجمعة القادمة..ولم يكن المثير أن يدعو الثوار رئيس الوزراء إلى ذلك في هذا التوقيت فقط بل كانت إجابة رئيس الوزراء هي المثيرة فعلا حيث وعد بالتفكير في ذلك وقال إن ما يجعله يتردد في النزول هو حساسية المنصب الذي يشغله وكون نزوله إلى الميدان الآن سيعني انتصارا لرأي فئات سياسية على جماعة سياسية أخرى..

في الواقع يا عشتار..فإن ما يحدث اليوم - وربما ما يحدث غدا لو استمر - كان أمرا متوقعا من بعض الزوايا أو وجهات النظر وعلى رأسها وجهة نظر معتبرة للمفكر اليساري العالمي "سمير أمين" طرحها قبل شهور في كتابه عن ثورة مصر، وقد وسم "سمير أمين" ثورة يناير المصرية بأنهالا تزال حتى اليوم بحكم ما حققت "أكثر من انتفاضة وأقل من ثورة"..كما عمد إلى تحليل فشل لحق بعدد من الانتفاضات الشعبية في دول اسيوية، وعزا هذا الفشل لأسبابه الحقيقية والتي كان أبرزها تحالف العسكر مع التيارات الدينية الأصولية ذات الشعبية في الشارع..وهو ما لاحت بوادره في مصر اليوم..

لكن هل ستلاقي الثورة المصرية مصير هذه الانتفاضات الشعبية الفاشلة هنا وهناك في أنحاء العالم؟

لا أظن يا عشتار..

وأيا كان رأيك..فالكرة - كما نقول - لا تزال في الملعب..والمباراة لم تشهد آخر أشواطها بعد..ولاتزال هناك فصول أخرى من الثورة لم نشهدها بعد..لكن أول خطوة ثورية نحو تحقيق أهداف الثورة هي التفاؤل والثقة بالانتصار..وهذا طبعا بعد التحليل الجيد المتبصر لخريطة وتوازنات القوى ودراسة ما يمكن اتخاذه من التحركات الشعبية الملائمة..

تفاءلي يا عشتار..وسنرى النصر معا..

محبة بلا حدود.. :clappingrose:

رابط هذا التعليق
شارك

كتاب : الهوية الثقافية والنقد الأدبي

المؤلف : د.جابر عصفور

الناشر : مكتبة الأسرة – 2010

jaberasfourn.jpg

المقطع الثاني

من الباب الثالث بعنوان: "عن الهوية الثقافية"

الفصل الأول بعنوان: "تحديد الهوية الثقافية"

ولكن ماذا يحدث عندما يطغى عنصر من العناصر المكونة للهوية الثقافية للأمة، سواء من منظور الثبات أو التغير، أو الاثنين معا؟ الإجابة الجاهزة هي أن الهوية الثقافية لابد تختل وتعتل معا، ويصيبها الضعف الذي يفقد الثقافة نفسها القدرة على الاتزان، وصنع إنجازات إبداعية تتباهى بها على غيرها من الثقافات، على امتداد الكوكب الأرضي الذي يتسارع إيقاع التقدم فيه بمعدلات غير مسبوقة، خصوصا بعد الثورة المذهلة في تكنولوجيا الاتصالات التي أحالت الكوكب الأرضي إلى قرية كونية لا مجال فيها للنكوص أو التقهقر أو حتى التوقف. ولنضرب مثلا بإمكان تغليب العنصر الديني على الثقافة، خصوصا في ظل شروط تاريخية، تفرض الجمود على الفكر الديني، وتسمه بالتعصب لا بالتسامح، خصوصا في المدى الذي يحيل الفكر الديني إلى نسق مغلق، متعصب، يقترن بنزعة تديين، لا يرى المنطوون عليها سوى أنهم، وحدهم، على الحق، وغيرهم على الباطل، فهم الفرقة الناجية، وسواهم الفرق الضالة المضلة. والنتيجة قمع ثقافة الحوار، واستئصال حق الحوار، والإبعاد القمعي للمخالفين، وذلك في موازاة إنغلاق الذات الثقافية الجمعية على نفسها، ورفضها لما يجري حولها، غير واثقة إلا في ماضيها وتراثها وكل ما يجعلها لا تقبل أي تغير ممكن إلا بعد قياسه على نظير قديم له، فالماضي هو الأصل الآمن، والمستقبل هو المجهول المريب الذي قد يوقع في بدع الضلالة المفضية إلى النار.

لو حدث هذا، تتحول الهوية الثقافية إلى هوية مغلقة، نافية للاختلاف، طاردة للحوار، معادية للمساءلة، رافضة للمجادلة بالتي هي أحسن، أميل إلى العنف القمعي في التعامل مع المختلفين أو المخالفين أو حتى المغايرين فتستحق تسمية "الهوية القاتلة". وهي التسمية التي أطلقها "أمين المعلوف"، بعد أن رأى ما فعلته الأصوليات الدينية/الثقافية في وطنه لبنان، حيث أضظر إلى الفرار منه. والنجاة بحياته وحياة أسرته، مدركا الجحيم الذي تنفتح أبوابه على البشر، إذا تسلطت عليهم هويات قاتلة. يعني هويات ذات طبيعة أصولية قمعية لا تعرف سوى استئصال الآخر، دينيا، واستبعاده أو التهوين من شأنه، ثقافيا، وحرمانه من حقوقه الإنسانية، اجتماعيا، ونفي صفة المواطنة عنه، عمليا.

والنتيجة تحول الدولة المدنية إلى غابة تسيطر عليها وحوش الهويات القاتلة (دينيا وثقافيا واجتماعيا..إلخ) التي لا يمكن سوى أن تؤدي إلى الدمار والخراب للجميع، وأولهم الإخوة الذين يتحولون إلى إخوة أعداء، لا هم لأي فرد فيهم سوى القضاء على غيره، في الأوار المستعر لجحيم المقتولين القتلة.

ولا سلام ولا تقدم في أي أمة من الأمم، إلا حين تتوازن عناصر الهوية الثقافية، وتتفاعل سلميا، في سياق شروط تاريخية مواتية. عندئذ تتحول الهوية الثقافية إلى مصدر قوة متجددة، وتقدم متواصل، خصوصا حين يسفر التجاوب بين عناصر الهوية، وبينها والشروط التاريخية (التي تتبادل وإياها الفاعلية)، عن صفات الانفتاح وتقبل الاختلاف والمجادلة بالتي هي أحسن، وقياس الحاضر على إمكانات المستقبل ووعوده.

وقس على ذلك غيره من الصفات التي تتشكل في إطار دولة مدنية، لا تتجاهل بعض تاريخها لحساب غيره، ولا تقمع فاعلية التنوع التي هي مصدر قوة الهوية الثقافية وسر تطورها الدائم، في عالم يتبادل وإياها صفات الإيجاب وإمكاناته الواعدة.

رابط هذا التعليق
شارك

ينتهي الابتلاء

عندما نعي و ندرك الحكمة

فالمولى لا يرضيه عذابنا

و لكن وحده المعدن النفيس

هو من يتم صهره بأعلى درجات الحرارة

ليتخلص من الشوائب

أعد شحن طاقتك

حدد وجهتك

و اطلق قواك

رابط هذا التعليق
شارك

ينتهي الابتلاء

عندما نعي و ندرك الحكمة

فالمولى لا يرضيه عذابنا

و لكن وحده المعدن النفيس

هو من يتم صهره بأعلى درجات الحرارة

ليتخلص من الشوائب

المعول الحقيقي والأكبر في اللحظات الخطيرة والمفصلية

لا يجب أن يكون بالفعل إلا على هذا الوعي الشامل

على الصمود في مواجهة تجربة الحياة ومحنتها

على اليوم الذي تنفرز فيه الجواهر والذوات

ويكون المجد لمن تصمد ذاته في المحنة

مصرية متغربة

هذه الكلمات الروحية السامية

ليتها لا تكف أبدا عن أن تلهم ثورتنا المباركة

سنضمن - بذلك - انتصارها

شكري وتقديري

رابط هذا التعليق
شارك

كتاب : الهوية الثقافية والنقد الأدبي

المؤلف : د.جابر عصفور

الناشر : مكتبة الأسرة – 2010

jaberasfourn.jpg

المقطع الثالث

من الباب الثالث بعنوان: "عن الهوية الثقافية"

الفصل الرابع بعنوان: "الهوية المنفتحة"

الهوية المنفتحة هي نقيض الهوية المنغلقة على نفسها، أو الهوية الممزقة بين نقضائها المتقاتلة، فهي الهوية التي تحقق أكبر قدر من التوازن والتفاعل والتناغم بين مكوناتها، الأساسية، وذلك دون أن ينفي عنصر من عناصر هذه المكونات غيره، أو يختزل وجوده، أو يقوم بتهميشه. وإذا نقلنا هذا الكلام من التجريد إلى التمثيل، قلنا إن الهوية الثقافية المصرية، على سبيل المثال، لا تكون في أقوى حالاتها إلا في حال تجاور العنصر الفرعوني في تواصله مع العنصر المسيحي، في حضوره مع العنصر الإسلامي العربي في امتداده، وذلك شريطة أن يتصف هذا التجاور بالتسامح والتفاعل واحترام حضور كل عنصر لحضور ما يوازيه، ولم يتوقف عن التفاعل الذي يقوم على تقبل الاختلاف بوصفه الأمر الطبيعي. وتبدأ الهوية في الانغلاق عندما يسعى عنصر إلى الهيمنة وإلغاء ما يقابله أو تهميشه لصالحه. وإذا حدث ذلك فإن الغنى المقرون بالانفتاح الداخلي، يبدأ في التحول إلى نقيضه، وتنشأ إمكانات التنافر بين العناصر الداخلية، ونتحول من إمكان التنوع الخلاق داخل الكل الحيوي إلى إمكانات التوتر السلبي الذي يؤدي إلى تصارع المكونات الداخلية للكيان الواحد، وذلك بما يؤدي بهذا الكيان إلى التمزق المصحوب بضعف الحضور بين الهويات الثقافية المغايرة.

وينطبق الأمر نفسه على العلاقة بين العناصر الأساسية والمتأصلة، والعناصر الوافدة التي تقترن بالاحتكاك الحضاري أو بالأشكال العديدة من العلاقات بالهويات الثقافية المغايرة، ما ظلت هذه العلاقات بعيدة عن معاني الهيمنة والسيطرة لتحقيق مصالح اقتصادية، تفرض نفسها بغوايات ثقافية، ومخايلات تكنولوجية، يمكن أن تكون مصدر تهديد لاستقلال الهوية الثقافية والقضاء على خصوصيتها. وبالقطع فإن الهوية الثقافية القوية، نتيجة حيوية التفاعل بين مكوناتها الذاتية، في مدى التجانس الذاتي والتنوع الداخلي، تكون على درجة من الثقة بحضورها الخلاق الذي يجعلها : أولا، قادرة على التمييز بين ما يهدد حضورها، وما يدعم هذا الحضور، فترفض الأول وتستبعده في فعل احتكاك سلمي، ينفي عن أية هوية مخالفة ما يمكن أن تنطوي عليه من تهديد حقيقي غير وهمي. ويتيح الحضور الذاتي الإيجابي لهذه الهوية. ويؤكد – ثانيا – القدرة على تمثل ما لدى الآخر والإفادة منه، أو الأخذ عنه، أو إعادة إنتاج ما هو متقدم لديه، خصوصا في حالات التفاعل الذي تضيف به هوية إلى أخرى، دون قصد للهيمنة أو السيطرة، ودون أي تهديد للخصوصية. وبالتأكيد يكون الأمر أكثر تعقيدا، عندما تختلط الجوانب الإيجابية بالجوانب السلبية في الهويات الثقافية المغايرة، كما حدث، ولايزال يحدث، في حالات الاستعمار القديم (الاستيطان) والجديد (الامبريالي)، حيث تتجاور القوة العسكرية مع القوة الثقافية، أو يغدو التقدم الاقتصادي الصناعي مقرونا بالتقدم الثقافي والإبداع. وهي حالة تستطيع الهوية الثقافية القوية ذاتيا أن تواجه فيها هذا الوضع الحرج، وتقيم صلاتها بالهويات المغايرة على أساس نوع من النقد الذي يضع الآخر موضع المساءلة، خصوصا في الجوانب الثقافية، فيأخذ منه ما يفيده، ويترك ما يضره، أو ما يبقيه في شراك الهيمنة والاستغلال، فإن هذه القوة تقترن بالوعي المعرفي الذي يمايز بين الصالح والطالح من ناحية، والذي يأخذ من ثقافة الآخر الاستعماري ما ينقض نزعته الاستعمارية. ويحدث ذلك عندما تكون ثقافة هذا الآخر الاستعماري تنبني على تنوع لا يخلو من تناقضات، قد تكون هامشية، ولكنها يمكن أن تكون مؤثرة. ودليل ذلك أ، اتجاه نقض المركزية الأول، نشأ في داخل الثقافة التي كان نقيضا لها، وانتقل منها إلى الدول المستعمرة، فأنتج فيها، حتى بعد تحريرها، خطابا يهدم المركزية الأوربية، وبالقدر نفسه فإن خطاب ما بعد الاستعمار (أو نقضه) نشأ في الدول الاستعمارية، بعد زوال عهد الاستعمار الاستيطاني، وفي زمن الاستعمار الجديد، نتيجة جهود الطليعة المثقفة من أبناء الدول التي تحررت من الاستعمار القديم، مع أغلبية موازية من أ[ناء الدول التي تسعى إلى التحرر من الاستعمار الجديد والأجد..

وأعتقد أن اتجاه نقض المركزية الأوربية وخطاب ما بعد الاستعمار أسهما معا في التأصيل النظري لتيار التنوع الخلاق الذي انبثق من داخل اليونسكو، ومن إنجاز المعادين لكل أشكال الهيمنة التي يمكن أن تتخذ شكلا ثقافيا، وقد تجسدت أفكار هذا التيار في كتاب "التنوع البشري الخلاق" الذي كان، ولا يزال، أهم تقرير أصدرته "اللجنة العالمية للثقافة والتنمية" (سنة 1995). وهو تقرير يهدف إلى تأكيد هدف اليونسكو من الوقوف ضد أن تتسلط أمة على أمة، أو تتسيد ثقافة على أخرى، فقد مضت أزمنة التسلط والتسيد منذ أن تعلمت الشعوب الدفاع عن حقوقها في الوجود المتكافيء الذي تؤكده قيم الحرية والعدالة والمساواة، تأكيدا لاحترام الاختلاف بوصفه سبيلا للاتفاق، والاعتراف بالتباين بوصفه دليلا على العافية، وإقرار أنه ما من أمل في سلام البشرية ما ظلت حضارة من الحضارات، أو ثقافة من الثقافات، أو أمة من الأمم، تمارس قهرا سياسيا أو فكريا أو أخلاقيا أو ثقافيا على غيرها من الحضارات أو الثقافات أو الأمم، فمستقبل البشرية مرهون الاحترام المتبادل والتخلي عن رواسب التمييز بكل أشكالها، والتسليم النهائي بأن إنكار الخصائص الثقافية أو الحضارية لشعب من الشعوب إنما هو نفي لكرامة هذا الشعب وكرامة الإنسانية جمعاء.

رابط هذا التعليق
شارك

كتاب : الهوية الثقافية والنقد الأدبي

المؤلف : د.جابر عصفور

الناشر : مكتبة الأسرة – 2010

jaberasfourn.jpg

المقطع الأخير

من الباب الخامس بعنوان: "الهوية الثقافية والدين"

الفصل الرابع بعنوان: "الهوية المنفتحة"

تكونت الهوية الثقافية المصرية على نحو متعاقب، زمنيا، يبدأ من أقدم العصور، حيث الحضارة الفرعونية التي هي الأصل الذي لم تنتقص من قدرته على البقاء، الحقبة اليونانية ثم الرومانية، إلى أن دخلت مصر المسيحية التي كانت بمثابة المكون الرئيسي الثاني الذي ظل فاعلا إلى أن دخل الإسلام مصر، وبدأت الحقبة العربية الإسلامية التي أكملت زوايا مثلث الأصول الثابتة للهوية الثقافية المصرية بخصوصيتها التي لاتزال قائمة إلى اليوم. وهي أصول لم تتوقف، يوما، عن التفاعل مع غيرها من الثقافات القديمة والوسيطة والحديثة. أعني ذلك التفاعل الذي لم يتوقف في أي حقبة زمنية، وظل قائما تفرضه "عبقرية المكان" المصري بموقعه الفريد الذي يتوسط أهم قارات العالم، في مراحله التاريخية المختلفة التي تباينت فيها العلاقة بين ثوابت الهوية ومتغيراتها، وذلك على نحو يبرر الحديث عن مراحل متعاقبة متغايرة الخواص، تتباين سلبا أو إيجابا، حسب عمليات التعاقب التي تتحرك بالتاريخ وفي التاريخ، ولذلك لا يمكن الحديث عن هوية ثقافية ثابتة، لا تقبل التغير أو ترفضه، فالهوية الثقافية المصرية، شأن غيرها من الهويات، ليست كيانا مصمتا، ثابتا، متعاليا على شروط الزمان والمكان، بعيدا عن حركة البشر المتغيرة التي تتبادل والهوية صفات التغير والتحول والتبدل.

ويسمح لنا هذا الفهم بقدر من التعميم، يدفعنا إلى القول بأن العناصر الثابتة للهوية الثقافية، بل كل هوية أيا كانت، تظل العلاقة بين عناصرها الرئيسية الثابتة كالعلاقة بين هذه العناصر الثابتة، مجتمعة، وغيرها من العناصر المتغيرة، محكومة بالشروط التاريخية التي تتولد فيها وبها مظاهر التبدل والتحول والتغير. وإذا كانت العلاقة بين ثوابت الهوية يمكن أن تقوم على التراكم الناتج عن التعاقب، كما في الهوية الثقافية المصرية، فإن هذا التراكم لا يعني الإزاحة، ولا يقترن بها إلا في اللحظات التاريخية التي تتسرب فيها صفات القمع الخارجي إلى داخل العلاقة بين الثوابت، وذلك بما يؤدي بأحد الثوابت إلى أن يفرض نفسه على غيره، أو يقوم بتهميشه، أو حتى محاولة إزاحته. وقد حدث ذلك مع العنصر المسيحي الذي طارد العنصر الفرعوني بدعوى وثنيته، وسعى إلى نفيه من دائرة الوجود، لكن الأصل الفرعوني ظل قائما، متواصلا، باقيا في تجلياته ومظاهره المادية (المعابد، المسلات، المقابر، التماثيل..) جنبا إلى جنب تجلياته ومظاهره المعنوية التي لم يخل منها الموروث الشعبي المصري عبر تاريخه الطويل.

ويمكن أن نقول الأمر نفسه على انقسام الأصل العربي الإسلامي، حيث يمكن أن ينقسم هذا الأصل على نفسه، فتطارد الصفة الدينية فيه الصفة القومية، نتيجة عوامل قابلة للتحديد والتحليل، بل يمكن أن يؤدي تضخم الصفة الدينية إلى نوع من تهديد ما يخالفها، وما ينذر بنوع من الخطر الذي تداركته ثورة 1919، مثلا، برفع شعار "الدين لله والوطن للجميع". وهو شعار كان يحد من غلواء "الديني" وإذابته في مدى الحضور الجديد لدلالة الدولة المدنية والمجتمع المدني، فضلا عن الدلالة الملازمة لحقوق "المواطنة" القائمة على حق الاختلاف واحترامه.

ولم يكن من قبيل المصادفة أن تشهد حقبة ثورة 1919 التأسيس الحقيقي لدلالات "الهوية المصرية" الوطنية والثقافية بوجه عام، ففيها أتحد الهلال والصليب، واجتمع عنصرا الأمة على مبدأ تحريرها من الاستعمار، والتطلع إلى أفق تقدمها الواعد، وفي سياق هذه الحقبة، حدثت الكشوف المؤثرة التي أزاحت تراب القرون عن أثار توت عنخ أمون الذي اكتشفت مقبرته في 1922 في تتابع الاكتشافات التي أحيت الصلة بين مصر الجديدة الناهضة مع ثورة 1919 ومصر الفرعونية التي أخذ الأدباء يستلهمون منها ما أطلق عليه "محمد حسين هيكل" مصطلح "الأدب القومي". وفي وهج ثورة 1919 وضع "محمود مختار" النموذج الأول لتمثاله "نهضة مصر"، واكتمل التمثال وأزيح عنه الستار سنة 1928. وقبل ذلك بسنوات قليلة، صدر دستور 1923، الذي أكد حقوق المواطنة وأسس الدولة المدنية، وكان ذلك في سياق أزدهر فيه تجديد الفكر الديني على يدي رجال من أمثال "جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده" الذي فتح أبواب إباحة الفنون على أقصى مدى باسم الإسلام "دين العلم والمدنية" الذي أصبح مؤازرا لتحديث المجتمع وتقبل قيم الحداثة الفكرية والإبداعية. وهتف "سيد درويش" باسم المصريين جميعا "قوم يا مصري..مصر دايما بتناديك" بعد أن أعلن بفخره حضورا وطنيا صاعدا وهوية ممتلئة بحضورها في عبارة "أنا المصري".

وكانت النتيجة لحظة مضيئة في تاريخ أمة وفي اكتمال معنى الهوية الثقافية الحية التي تآلفت فيها أصول ثلاثة : الأصل الفرعوني والأصل المسيحي والأصل العربي الإسلامي، وذلك دون تنافر، بل في تناغم أثرى حضورها المشترك في التاريخ وبالتاريخ.

وفي الوقت نفسه، انفتحت هذه التركيبة التي تتكون من هذه الأصول الثابتة مع متغيرات العصر التي جاءت بمبادئ الثورة الفرنسية (الحرية، والإخاء، والمساواة) وقيم الدولة المدنية وميراثها الأوربي الذي أكد حتمية الدستور والقانون والديموقراطية والمواطنة وحق الاختلاف. وكان التفاعل الخلاق بين الأصول الثابتة الأصلية والعناصر الثابتة المتغيرة، في مدى ممارسة رغبة التحرر بكل أوجهه في أمة صاعدة، لحظة نادرة من الصعود الذي كان علامة على هوية مفتوحة، متمسكة بجذورها التي تضرب عميقا في التاريخ، لكن دون أن يتناقض ذلك مع الانفتاح على كل رياح التحديث والحداثة الآتية من كل اتجاه في العالم المتقدم.

ويبدو أن علينا أن نستعيد هذه اللحظة وتعرف سرها الذي ينطوي على ما يجعل الهوية الثقافية المصرية صاعدة، منفتحة على غيرها وعلى مكوناتها الداخلية، في لحظات القوة، أو العكس، حين تفقد الهوية الثقافية المصرية لهب الحياة المتجددة، وتنكفيء على حضور سلبي، متشظ، متعادي الأطراف والعناصر والأصول، فتدخل هذه الهوية فترات الانحدار التي تجعلها تتحسر على ماضيها، كما يحدث في هذه الأيام الصعبة.

رابط هذا التعليق
شارك

مفارقة غريبة أن أقرأ كلام فى الهوية ..وفى الأصالة وفى التمازج الواعى للهوية الأصلية والعوامل التى تحتك بها من الخارج و ما يحمله ذلك من مزايا وعيوب وأنا واقفة على حافة حزن واكتئاب ..ولا أتمنى أن يكون يأس ..فعما قليلا صدمنى خبر البراءة لكل من الفقى وغالى وواحدا ثالثا لا أتذكره فى هذه اللحظة ..عن تبريىء ساحتهم من تهم غسيل الأموال والإختلاس والمتاجرة بموارد الشعب المصرى !!!

حقاً طعننى الخبر فى هذه الهوية التى أجاد تفسيرها وتصنيفها المفكر العظيم دكتور جابر عصفور ..كنت قد عقدت آمالا كبيرة على أن هذه الثورة المختلفة والبارزة ..ثورة 25 يناير .. سوف تعيد البريق للهوية التى أصابها البهتان وكأنما انطفأت بعوامل الزمن الصعب الذى لم يرحم المصريين على مدار عقود طويلة من الكبت والقهر والقمع ..ولما حانت اللحظة فى مخاض عسير وتمت الولادة بعد فترة حبل تعدت التسعة أشهر المقررة وفاقت بكثير التسع سنوات لتمتد إلى أكثر من ثلاثة عقود متوالية ..بعدما فرحنا وراهنا على هذا الوطن وهذه الهوية ..على أصالتهما وبقائهما العزيزين ..تتوالى الضربات البطيئة علينا من حيث لا نحتسب حتى أرانى اليوم أرى جزء من الحقيقة ..حقيقة الزيف..حقيقة النصب ..وحقيقة التغرير بنا ..!!

الثورة ضاعت ..تضييع أو كادت يا أثر الطائر ..

هذا الوطن الذى أخذ من أعمارنا الكثير وارتضينا فداء له بمثل هذا الثمن الباهظ من السنوات الضائعة المهدرة ..هذه الثورة التى طالما عملنا عليها ..واشتغلنا فيها لكى نحمى هويتنا وأرضنا وأبناءنا ..أترانى اليوم مجحفة فى حكمى ..متطرفة فى شعورى ..أى نكسة تلك التى أشعر بها فى قرارة أعماقى وذاتى !

أخبرنى أنت ..أخبرنى بما عهدته فيك من رؤية موضوعية وموزونة لا تغالى فى الحكم ولا تنقص من مقداره ..أخبرنى يا أثر الطائر ..هل مازال هناك أمل ؟

أعتذر منك على هذا الرد الحزين ..الذى مال عن الهوية قليلا ..ولكننى كما تعرف لا أستطيع أن أمنع نفسى من البوح لك بكل ما تعتمل به نفسى ..ومع ذلك لا أجدنى خرجت كثيرا عن هوية مصر ..

هوية مصر ..

آآه

هذه الهوية التى سأعود قريبا لأتحدث عنها ..فأنا من المهتمين بالبحث عن الهوية وجذورها ولطالما خضنا مناقشات فى هذا الصدد يا انسان ..أتذكر ؟

لا يزال الحديث بيننا ممتد وخالد ..

لن تنقطع حبائله أبدا يا أثر الطائر طالما فى صدرى نفس يتردد

وتسمعه ..

تحية محبة صافية

عشتار

:clappingrose:

عشتار..

لا بأس ياغاليتي..هوني عليك..صدمتني طبعا أخبار براءة الفقي وغالي والمغربي وفضلي..لم يبق إذن إلا أن ننتظر الحكم ببراءة حسني مبارك الديكتاتور الأب والراعي لشلل الفسادالصغيرة والكبيرة كما قال أحدهم!!.. لكن يجب أن تلاحظي بقية الخبر وهو أن النيابة العامة طعنت على الحكم ببراءة الأربعة وهو ما يعني ان القضية لا تزال متداولة في ساحات المحاكم..وليس من الصعب طبعا ألا تؤيد محاكم الطعن والاستئناف أحكاما ابتدائية..لكن هنا أيضا ليس مربط الفرس..

السؤال الكبير الذي يلح على أذهان الكثيرين من الثوار : هل أخطأنا بترك الميدان؟ هل تركناه مبكرا فرحين بخبر رحيل الديكتاتور وغير مبالين أو غير ملتفتين لبقاء نظامه؟ هل عولنا كثيرا على منصب وشخصية الرئيس فيما أن الحقيقة أنه لم يكن مع منصبه أكثر من ألعوبة تحركها أيدى نخب فاسدة ناهبة مستبدة حاكمة من وراء الستار؟

هذه الأسئلة العسيرة تستلزم نشاطا فكريا وجهدا عمليا وتحركا جماعيا للإجابة عليها..ولن تكون الإجابات التي سيصل إليها المجتمع المصري مجرد إجابات نظرية بل - وبالتأكيد - ستقترن بخطوات عملية وثورية على الأرض ولتطهير الأرض التي لوثها الفساد وأعقمتها الديكتاتورية..

هل ترين هذا الكلام متفائلا؟!

هو كذلك..ولعدة أسباب :

السبب الأهم أن هذه هي الروح الثورية الحقيقية..الروح الثورية روح لا تعرف التشاؤم ولا الإحباط ولا الارتكان لليأس..إنها روح متفائلة بالفطرة وواثقة بالمخيلة وبالتاريخ معا في قدر الانتصار للشعب المصري بل ولشعوب الأرض على اتساع الإنسانية.

أما الأسباب الأخرى فهي أسباب عملية..منها مثلا الدعوة إلى العودة إلى ميدان التحرير وهي دعوة أنطلقت منذ أسابيع وقبل هذا القرار الأخير، وهي دعوة مستمرة..تتصاعد..وتكسب كل يوم أرضا جديدة..حتى أن الثوار في لقائهم مع عصام شرف دعوه إلى أن يصرح بحقيقة الخلافات بينه وبين المجلس العسكري وأيضا دعوه للنزول إلى الميدان الجمعة القادمة..ولم يكن المثير أن يدعو الثوار رئيس الوزراء إلى ذلك في هذا التوقيت فقط بل كانت إجابة رئيس الوزراء هي المثيرة فعلا حيث وعد بالتفكير في ذلك وقال إن ما يجعله يتردد في النزول هو حساسية المنصب الذي يشغله وكون نزوله إلى الميدان الآن سيعني انتصارا لرأي فئات سياسية على جماعة سياسية أخرى..

في الواقع يا عشتار..فإن ما يحدث اليوم - وربما ما يحدث غدا لو استمر - كان أمرا متوقعا من بعض الزوايا أو وجهات النظر وعلى رأسها وجهة نظر معتبرة للمفكر اليساري العالمي "سمير أمين" طرحها قبل شهور في كتابه عن ثورة مصر، وقد وسم "سمير أمين" ثورة يناير المصرية بأنهالا تزال حتى اليوم بحكم ما حققت "أكثر من انتفاضة وأقل من ثورة"..كما عمد إلى تحليل فشل لحق بعدد من الانتفاضات الشعبية في دول اسيوية، وعزا هذا الفشل لأسبابه الحقيقية والتي كان أبرزها تحالف العسكر مع التيارات الدينية الأصولية ذات الشعبية في الشارع..وهو ما لاحت بوادره في مصر اليوم..

لكن هل ستلاقي الثورة المصرية مصير هذه الانتفاضات الشعبية الفاشلة هنا وهناك في أنحاء العالم؟

لا أظن يا عشتار..

وأيا كان رأيك..فالكرة - كما نقول - لا تزال في الملعب..والمباراة لم تشهد آخر أشواطها بعد..ولاتزال هناك فصول أخرى من الثورة لم نشهدها بعد..لكن أول خطوة ثورية نحو تحقيق أهداف الثورة هي التفاؤل والثقة بالانتصار..وهذا طبعا بعد التحليل الجيد المتبصر لخريطة وتوازنات القوى ودراسة ما يمكن اتخاذه من التحركات الشعبية الملائمة..

تفاءلي يا عشتار..وسنرى النصر معا..

محبة بلا حدود.. :clappingrose:

كان عندك حق فى كل كلمة ..ودائما ترى الحق والحقيقة ..

ما حدث منذ أيام لهو خير دليل بالفعل على الروح الثورية التى التبست المجتمع المصرى ..وهى فعلا روح فى أصلها لا تعرف اليأس ولا المستحيل ..فهى روح عاملة ..روح متحركة دائما فى كل الإتجاهات ..والحركة كما تعرف عكس الثبات ..وفى الحركة أيضا البركة ..وما أشدنا للحركة والبركة بعد عقود طويلة كنا فيها على الثبات والفساد ..

الثوار اليوم فى الميدان .. فى اعتصام لا محدود يهتفون ويعلون الصوت حتى تصل ( الأكثر من انتفاضة ) لذروتها ..وحتى نستطيع وبكل شجاعة أن نقول أننا حققنا ثورة ..والحقيقة أن الإنسان وراد جدا أن يغفو ..أن يرتكب أخطاء ..أن يخوض التجربة ناقصة ولكن الأجمل أن ينتبه ويتعلم ويفعل ..وربما هذا ما يحدث اليوم فى مصر ..انتبهنا إلى الخطأ الجسيم الذى كلفنا وقت مدهور كان من الممكن جدا أن نفعل فيه الكثير ..هذا الخطأ الذى ارتكبناه فى نشوة النصر حينما سلمنا البلاد دون اشتراطات ولا حساب للرعاة القدامى دون أن نتساءل " ما الفارق بينهم وبين المحبوسين ؟ ) ..

بيد أننى يا أثر الطائر وبدون الدخول فى تفاصيل عملية واجرايئة لدى يقين ثابت ..فأناأؤمن تماما أن الشعب لن يعود للوراء مثلما لا تعود عقارب الساعة للوراء .. الشعب عرف الطريق ولن يستسلم ولن ينسحب من المعركة السلمية قبل أن تتحقق الحرية كاملة لمصر وتضع الثورة أوزارها ..لن ينسحبوا حتى يكتمل معنى الثورة فى أذهاننا وحتى يفهم القائمون على الأمر أن الثورة ثورة ..الثورة اقتلاع ..الثورة تغيير جذرى وليس تبديل ولا ترقيع أو قص ولزق وكولاج ..لابد أن يفهم الجميع أن هذا الشعب يمتلك وعيا فطريا وحدسا سياسيا يستطيع أن يميز على فطرته وفهلوته الزيف من التحقق ..لن يعود الشعب بعدما اشعل الفتيل وأصبح الإختيار اما أن يموت أو أن يعيش بكرامة ..مات من مات حتى لم يعد يفرق كثيرا زيادة عدد الموتى ..فألم الموت والفراق فرض نفسه علينا ..ونحن عايشناه حتى لم يعد يفاجئنا ..وهكذا الشعب المصرى عندما يثور ..لا يرجع أبدا مهما كانت التضحيات مثلما ينام نوما عميقا فى حالة الثبات ..شىء من التطرف ربما لدى هذا الشعب ..شىء من الجلد والصبر والإحتمال فى طبائعه الأصلية ..ولكن المهم أنه لن يعود مرة أخرى حتى تتغير مصر ..وهذا ما يطمئننى يا أثر الطائر..يطمئننى جدا ..فالناس هم الورقة الرابحة ..لا المجلس العسكرى ولا غيره..وطالما ظل وعلى الناس متقد وطالما ظلت الحركة موجودة فهذا يعنى التغير .. التغير القادم ولاشك .ومهما كانت التضحيات ..

مازلت أتحدث فى الهوية يا عزيزى ..لم أبتعد كما أظن ..وهذا بالطبع لا يكفى بل هو لا شىء على الإطلاق إذا ما تحدثنا فى عمق الهوية ..ولذا اسمح لى بالعودة مرة أخرى بعد قراءة أفكار الدكتور جابر عصفور وتعليقاتك الثرية عليها ..

محبة خالصة

:clappingrose: :clappingrose:

رابط هذا التعليق
شارك

مفارقة غريبة أن أقرأ كلام فى الهوية ..وفى الأصالة وفى التمازج الواعى للهوية الأصلية والعوامل التى تحتك بها من الخارج و ما يحمله ذلك من مزايا وعيوب وأنا واقفة على حافة حزن واكتئاب ..ولا أتمنى أن يكون يأس ..فعما قليلا صدمنى خبر البراءة لكل من الفقى وغالى وواحدا ثالثا لا أتذكره فى هذه اللحظة ..عن تبريىء ساحتهم من تهم غسيل الأموال والإختلاس والمتاجرة بموارد الشعب المصرى !!!

حقاً طعننى الخبر فى هذه الهوية التى أجاد تفسيرها وتصنيفها المفكر العظيم دكتور جابر عصفور ..كنت قد عقدت آمالا كبيرة على أن هذه الثورة المختلفة والبارزة ..ثورة 25 يناير .. سوف تعيد البريق للهوية التى أصابها البهتان وكأنما انطفأت بعوامل الزمن الصعب الذى لم يرحم المصريين على مدار عقود طويلة من الكبت والقهر والقمع ..ولما حانت اللحظة فى مخاض عسير وتمت الولادة بعد فترة حبل تعدت التسعة أشهر المقررة وفاقت بكثير التسع سنوات لتمتد إلى أكثر من ثلاثة عقود متوالية ..بعدما فرحنا وراهنا على هذا الوطن وهذه الهوية ..على أصالتهما وبقائهما العزيزين ..تتوالى الضربات البطيئة علينا من حيث لا نحتسب حتى أرانى اليوم أرى جزء من الحقيقة ..حقيقة الزيف..حقيقة النصب ..وحقيقة التغرير بنا ..!!

الثورة ضاعت ..تضييع أو كادت يا أثر الطائر ..

هذا الوطن الذى أخذ من أعمارنا الكثير وارتضينا فداء له بمثل هذا الثمن الباهظ من السنوات الضائعة المهدرة ..هذه الثورة التى طالما عملنا عليها ..واشتغلنا فيها لكى نحمى هويتنا وأرضنا وأبناءنا ..أترانى اليوم مجحفة فى حكمى ..متطرفة فى شعورى ..أى نكسة تلك التى أشعر بها فى قرارة أعماقى وذاتى !

أخبرنى أنت ..أخبرنى بما عهدته فيك من رؤية موضوعية وموزونة لا تغالى فى الحكم ولا تنقص من مقداره ..أخبرنى يا أثر الطائر ..هل مازال هناك أمل ؟

أعتذر منك على هذا الرد الحزين ..الذى مال عن الهوية قليلا ..ولكننى كما تعرف لا أستطيع أن أمنع نفسى من البوح لك بكل ما تعتمل به نفسى ..ومع ذلك لا أجدنى خرجت كثيرا عن هوية مصر ..

هوية مصر ..

آآه

هذه الهوية التى سأعود قريبا لأتحدث عنها ..فأنا من المهتمين بالبحث عن الهوية وجذورها ولطالما خضنا مناقشات فى هذا الصدد يا انسان ..أتذكر ؟

لا يزال الحديث بيننا ممتد وخالد ..

لن تنقطع حبائله أبدا يا أثر الطائر طالما فى صدرى نفس يتردد

وتسمعه ..

تحية محبة صافية

عشتار

:clappingrose:

عشتار..

لا بأس ياغاليتي..هوني عليك..صدمتني طبعا أخبار براءة الفقي وغالي والمغربي وفضلي..لم يبق إذن إلا أن ننتظر الحكم ببراءة حسني مبارك الديكتاتور الأب والراعي لشلل الفسادالصغيرة والكبيرة كما قال أحدهم!!.. لكن يجب أن تلاحظي بقية الخبر وهو أن النيابة العامة طعنت على الحكم ببراءة الأربعة وهو ما يعني ان القضية لا تزال متداولة في ساحات المحاكم..وليس من الصعب طبعا ألا تؤيد محاكم الطعن والاستئناف أحكاما ابتدائية..لكن هنا أيضا ليس مربط الفرس..

السؤال الكبير الذي يلح على أذهان الكثيرين من الثوار : هل أخطأنا بترك الميدان؟ هل تركناه مبكرا فرحين بخبر رحيل الديكتاتور وغير مبالين أو غير ملتفتين لبقاء نظامه؟ هل عولنا كثيرا على منصب وشخصية الرئيس فيما أن الحقيقة أنه لم يكن مع منصبه أكثر من ألعوبة تحركها أيدى نخب فاسدة ناهبة مستبدة حاكمة من وراء الستار؟

هذه الأسئلة العسيرة تستلزم نشاطا فكريا وجهدا عمليا وتحركا جماعيا للإجابة عليها..ولن تكون الإجابات التي سيصل إليها المجتمع المصري مجرد إجابات نظرية بل - وبالتأكيد - ستقترن بخطوات عملية وثورية على الأرض ولتطهير الأرض التي لوثها الفساد وأعقمتها الديكتاتورية..

هل ترين هذا الكلام متفائلا؟!

هو كذلك..ولعدة أسباب :

السبب الأهم أن هذه هي الروح الثورية الحقيقية..الروح الثورية روح لا تعرف التشاؤم ولا الإحباط ولا الارتكان لليأس..إنها روح متفائلة بالفطرة وواثقة بالمخيلة وبالتاريخ معا في قدر الانتصار للشعب المصري بل ولشعوب الأرض على اتساع الإنسانية.

أما الأسباب الأخرى فهي أسباب عملية..منها مثلا الدعوة إلى العودة إلى ميدان التحرير وهي دعوة أنطلقت منذ أسابيع وقبل هذا القرار الأخير، وهي دعوة مستمرة..تتصاعد..وتكسب كل يوم أرضا جديدة..حتى أن الثوار في لقائهم مع عصام شرف دعوه إلى أن يصرح بحقيقة الخلافات بينه وبين المجلس العسكري وأيضا دعوه للنزول إلى الميدان الجمعة القادمة..ولم يكن المثير أن يدعو الثوار رئيس الوزراء إلى ذلك في هذا التوقيت فقط بل كانت إجابة رئيس الوزراء هي المثيرة فعلا حيث وعد بالتفكير في ذلك وقال إن ما يجعله يتردد في النزول هو حساسية المنصب الذي يشغله وكون نزوله إلى الميدان الآن سيعني انتصارا لرأي فئات سياسية على جماعة سياسية أخرى..

في الواقع يا عشتار..فإن ما يحدث اليوم - وربما ما يحدث غدا لو استمر - كان أمرا متوقعا من بعض الزوايا أو وجهات النظر وعلى رأسها وجهة نظر معتبرة للمفكر اليساري العالمي "سمير أمين" طرحها قبل شهور في كتابه عن ثورة مصر، وقد وسم "سمير أمين" ثورة يناير المصرية بأنهالا تزال حتى اليوم بحكم ما حققت "أكثر من انتفاضة وأقل من ثورة"..كما عمد إلى تحليل فشل لحق بعدد من الانتفاضات الشعبية في دول اسيوية، وعزا هذا الفشل لأسبابه الحقيقية والتي كان أبرزها تحالف العسكر مع التيارات الدينية الأصولية ذات الشعبية في الشارع..وهو ما لاحت بوادره في مصر اليوم..

لكن هل ستلاقي الثورة المصرية مصير هذه الانتفاضات الشعبية الفاشلة هنا وهناك في أنحاء العالم؟

لا أظن يا عشتار..

وأيا كان رأيك..فالكرة - كما نقول - لا تزال في الملعب..والمباراة لم تشهد آخر أشواطها بعد..ولاتزال هناك فصول أخرى من الثورة لم نشهدها بعد..لكن أول خطوة ثورية نحو تحقيق أهداف الثورة هي التفاؤل والثقة بالانتصار..وهذا طبعا بعد التحليل الجيد المتبصر لخريطة وتوازنات القوى ودراسة ما يمكن اتخاذه من التحركات الشعبية الملائمة..

تفاءلي يا عشتار..وسنرى النصر معا..

محبة بلا حدود.. :clappingrose:

كان عندك حق فى كل كلمة ..ودائما ترى الحق والحقيقة ..

ما حدث منذ أيام لهو خير دليل بالفعل على الروح الثورية التى التبست المجتمع المصرى ..وهى فعلا روح فى أصلها لا تعرف اليأس ولا المستحيل ..فهى روح عاملة ..روح متحركة دائما فى كل الإتجاهات ..والحركة كما تعرف عكس الثبات ..وفى الحركة أيضا البركة ..وما أشدنا للحركة والبركة بعد عقود طويلة كنا فيها على الثبات والفساد ..

الثوار اليوم فى الميدان .. فى اعتصام لا محدود يهتفون ويعلون الصوت حتى تصل ( الأكثر من انتفاضة ) لذروتها ..وحتى نستطيع وبكل شجاعة أن نقول أننا حققنا ثورة ..والحقيقة أن الإنسان وراد جدا أن يغفو ..أن يرتكب أخطاء ..أن يخوض التجربة ناقصة ولكن الأجمل أن ينتبه ويتعلم ويفعل ..وربما هذا ما يحدث اليوم فى مصر ..انتبهنا إلى الخطأ الجسيم الذى كلفنا وقت مدهور كان من الممكن جدا أن نفعل فيه الكثير ..هذا الخطأ الذى ارتكبناه فى نشوة النصر حينما سلمنا البلاد دون اشتراطات ولا حساب للرعاة القدامى دون أن نتساءل " ما الفارق بينهم وبين المحبوسين ؟ ) ..

بيد أننى يا أثر الطائر وبدون الدخول فى تفاصيل عملية واجرايئة لدى يقين ثابت ..فأناأؤمن تماما أن الشعب لن يعود للوراء مثلما لا تعود عقارب الساعة للوراء .. الشعب عرف الطريق ولن يستسلم ولن ينسحب من المعركة السلمية قبل أن تتحقق الحرية كاملة لمصر وتضع الثورة أوزارها ..لن ينسحبوا حتى يكتمل معنى الثورة فى أذهاننا وحتى يفهم القائمون على الأمر أن الثورة ثورة ..الثورة اقتلاع ..الثورة تغيير جذرى وليس تبديل ولا ترقيع أو قص ولزق وكولاج ..لابد أن يفهم الجميع أن هذا الشعب يمتلك وعيا فطريا وحدسا سياسيا يستطيع أن يميز على فطرته وفهلوته الزيف من التحقق ..لن يعود الشعب بعدما اشعل الفتيل وأصبح الإختيار اما أن يموت أو أن يعيش بكرامة ..مات من مات حتى لم يعد يفرق كثيرا زيادة عدد الموتى ..فألم الموت والفراق فرض نفسه علينا ..ونحن عايشناه حتى لم يعد يفاجئنا ..وهكذا الشعب المصرى عندما يثور ..لا يرجع أبدا مهما كانت التضحيات مثلما ينام نوما عميقا فى حالة الثبات ..شىء من التطرف ربما لدى هذا الشعب ..شىء من الجلد والصبر والإحتمال فى طبائعه الأصلية ..ولكن المهم أنه لن يعود مرة أخرى حتى تتغير مصر ..وهذا ما يطمئننى يا أثر الطائر..يطمئننى جدا ..فالناس هم الورقة الرابحة ..لا المجلس العسكرى ولا غيره..وطالما ظل وعلى الناس متقد وطالما ظلت الحركة موجودة فهذا يعنى التغير .. التغير القادم ولاشك .ومهما كانت التضحيات ..

مازلت أتحدث فى الهوية يا عزيزى ..لم أبتعد كما أظن ..وهذا بالطبع لا يكفى بل هو لا شىء على الإطلاق إذا ما تحدثنا فى عمق الهوية ..ولذا اسمح لى بالعودة مرة أخرى بعد قراءة أفكار الدكتور جابر عصفور وتعليقاتك الثرية عليها ..

محبة خالصة

:clappingrose: :clappingrose:

عشتار..يا عش طائر المحبة..

أنت تتحدثين في الهوية دائما يا عشتار..حتى في موضوعات يخيل للناظر أنها أبعد ما تكون عن موضوع محوري ومصيري وهام مثلها..

بعضنا - أنت منهم - كما يقول محفوظ "عائش في الحقيقة"..يراوح ويعود إليها مهما ابتعد..ويقترب منها حد الملامسة والاحتضان متى خيل للآخرين أنه يبتعد..

إنك يا عشتار قريبة جدا من روح العالم..روح الطبيعة..روح الأنوثة..فكل حديث منك هو تجل لكل هذه الحقائق..حتى لو أتخذ هذا التجلي ثوبا مختلفا فألتبس الأمر على الآخرين..

عشتار..إنني أنتظرك..دائما..:clappingrose:

رابط هذا التعليق
شارك

أسعدني التواجد هنا

وسأتواجد باستمرار لقراءة المزيد

شكرا لك على هذه المقتطفات والرؤي التى ترصدها هنا

كل التقدير

وأنا - يعلم الله - أسعدني أيضا تواجدك يا نور العين..

هذا الموضوع صعب حبتين..أكاد أقول إنه "ثقيل" بما ينطوي عليه من تلخصيات عسيرة لأفكار عسيرة على التلخيص عادة..

التواجد والتعليق فيه في الواقع يسعدني ويحمسني..

أضيفي طبعا إلى ذلك إعجابي بلا حدود بمعرفك الجميل "نور العين"..

كلنا نحتاج هذا النور..طول الوقت

مرحبا يا صديقتي بنورك..كل الوقت..

رابط هذا التعليق
شارك

الكتاب: أحلام أينشتين

المؤلف : ألان لايتمان

المترجم : على القاسمي

الناشر : كتاب إبداع - العدد 18 - ربيع 2011

image002.jpg

ألان لايتمان

في الواقع لا يمكننا تأكيد إنتماء هذا الكتاب إلى جنس الرواية أو حتى رواية الخيال العلمي كما استقرت مفاهيم هذه الجنس الأدبي الخيالي، ومن جهة أخرى لا يمكن رد ذلك الانتماء..فالرواية تكاد تكون الجنس الأدبي الوحيد اليوم ذي القابلية المرنة المنفتحة لتقبل الشطح الخيالي، الموجود بالكتاب على سعته، مهما بلغ تمرده على كل المتعارف عليه ليس في الواقع أو في الذاكرة وخبرات الحياة وحسب ولكن حتى تمرده على القوانين التقليدية للطبيعة وقوانين المنطق والعلم العام أو الشائع أو المستقر.

ومن جهة أخرى يبلغ كتاب "لايتمان" - على شطحه الخيالي - قمة من التقيد بالعلم ونظرياته ومعارفه الدقيقة ومعادلاته الرياضية إلى حد يمكننا معه اعتبار الكتاب مجرد شروح خيالية على هوامش نظرية علمية شهيرة هي النظرية النسبية.

ويعود هذا التناقض الظاهري إلى كسر النظرية النسبية نفسها حواجز كثيرة توهم العلم والعقل البشري لقرون طويلة وجودها بين الحقيقة والخيال. كما يعود بنفس الدرجة إلى الجموح الخيالي لدى كاتبها المؤلف الأدبي والعالم الأمريكي "ألان لايتمان"، الذي يقوم بتدريس الفيزياء في أشهر جامعات ومعاهد أمريكا، كما يقوم بكتابة الشعر والقصة والمقال الأدبي. وهو جمع للأضداد جعل من كتاب "أحلام أينشتين" مزجا فريدا ما بين الخلق الأدبي والتحليق في سماء النظرية العلمية. وأكسب أسلوبها نكهة فنية خاصة مميزة غير مسبوقة أو معهودة في جملة الإنتاج الأدبي السابق عليها، حتى في أدب الخيال العلمي ذي القواعد الأدبية المتعارف عليها، ليصبح كتاب "أحلام أينشتين" تكوينا جماليا فريدا وكائنا أدبيا وفنيا جميلا، حتى يعد مكسبا لأي جنس أدبي يصنف في إطاره.

بنى "لايتمان" كتابه على أساس مجموعة كبيرة من الفصول القصيرة والمكثفة والمتجاورة بهيئة رياضية واضحه: مدخل + 8 أحلام + فاصلة + 8 أحلام + فاصلة + 6 أحلام + خاتمة = 35 قصة قصيرة متصلة = رواية. تشبه فصول الكتاب قصصا قصيرة، لكنها في مجموعها تشكل لوحة إطارية واسعة تدور حول نفس الموضوع. فيجد القارئ نفسه مع كتاب "أحلام أينشتين" بصدد درس عن الزمان في هيئة شعرية أو موسيقية، أو تدريب شعري على نظرية علمية، أو بالأصح تدريب مكثف على التعامل الإنساني مع الزمن طبقا لرؤى وافتراضات نظرية علمية.

الزمن النسبي :فكرة الكتاب

نعتقد جميعا في نسبية الزمن، بمعنى أننا نعرف مثلا أن اللحظات السعيدة أو الممتعة تمضي بسرعة واللحظات الحزينة تطول، نعرف أن زمنا نقضيه بصحبة صديق حميم أو سيدة جميلة أو برنامج تلفزيوني مرح يمر بأسرع من زمن نقضيه بطرق مملة أو في سجن أو دار للعجزة مثلا. لكننا نقول ذلك عادة على سبيل المجاز أو التخيل، إذ أننا نعتقد أيضا أن هناك مفهوم خارجي وجامد للزمن يعلو فوق كل هذه اللحظات السعيدة والحزينة على السواء، نعتقد في وجود زمن ميكانيكي يمكن أن يعد على ميناء ساعة بالثانية والدقيقة والساعة، وهذا هو بالضبط ما تحطمه النظرية النسبية، ليس بأساليب الشعر ولا الخيال ولكن بالمعادلة والبرهان العلمي، النظري والتجريبي.

فالزمن مفهوم نسبي ومتغير بكل معاني الكلمة سواء في الخيال أو الواقع أو النظرية العلمية. وهذا هو المفهوم المحوري في كل صفحات وفصول الكتاب، إذ ينتقل بنا "لايتمان" ليس بين "أزمان نسبية" أي أشكال مختلفة يمكن أن يتخذها الزمن في حالة اختلاف عنصر واحد من عناصره أو مكون صغير من مكوناته كل مرة، لكنه ينتقل أيضا بين "عوالم نسبية"، إذ يؤدي كل تغير صغير في مفهوم الزمن، تبعا لنسبيته، إلى تغير كلي شامل في العالم المحكوم بقوانين هذا الزمن.

من ثم ينتقل القاريء بين ثلاثين عالما من العوالم الزمانية والمكانية المختلفة، بعضها غرائبي جدا، وبعضها رومانسي جدا، بعضها جميل جدا، وبعضها قبيح جدا، بحسب ما يتراءى للقاريء وبحسب تفضيلاته الواقعية والخيالية.

فهناك مثلا عالم يكون الزمن فيه دائريا.. "كل مصافحة وكل قبلة، وكل كلمة، ستعاد بالضبط" و"كما أن جميع الأشياء ستعاد في المستقبل، فإن جميع الأشياء التي تحدث حاليا، كانت قد حدثت من قبل ملايين المرات"

وهناك عالم يكون الزمن فيه مثل جريان الماء، يمكنه أن يلتف أو ينزاح أو يغير مجراه إلى مجرى فرعي، وعندئذ يحدث أن يجد الأشخاص الذين يضعهم حظهم في هذا المجرى الفرعي أنفسهم عائدين إلى الماضي.

وهناك عالم يجري فيه الزمن أبطأ كلما ابتعدنا عن مركز الأرض ولذلك "ترتفع بعض المنازل نصف ميل بفضل قوائمها الخشبية المستدقة الطول، ويضحي الارتفاع دليلا على المكانة الاجتماعية المرموقة"

وهناك عالم يتحرك فيه الزمن ببطء شديد، ولذلك يجري فيه كل شيء ببطء شديد أيضا، فالقليل جدا يمكن أن يحدث في عام أو في عقد من عقود هذا العالم ذي الزمن البطيء.

وهناك عالم يصبح نسيج الزمن فيه لزجا.."فأقسام من البلدات تصبح لصيقة بلحظة معينة من التاريخ ولا تنفك منها. وبالمثل كذلك، ثمة أفراد من الناس، يلتصقون بنقطة معينة من حياتهم ولا يتحررون منها"

بل إن هناك عالم يبقى فيه الزمن ساكنا تماما، وهو عالم "تبقى فيه قطرات الماء عالقة في الهواء بلا حراك. وتطفو رقاصات الساعات في منتصف تأرجحها. وترفع الكلاب أخطامها في عواء صامت. ويتجمد المارة على الشوارع المتربة"

وهناك عالم الزمن فيه بلا ماض والناس بلا ذاكرة..هل يصعب تصور ذلك، لا يصعب أبدا لأن "ألان لايتمان" يرسم ملامح هذا العالم بريشته الخيالية البارعة رسما دقيقا يجعل من إمكانية وجوده حقيقة متحققة في الخيال كما أنها إمكانية علمية حقيقية تكمن فيما يكمن من الحقائق وراء النظرية النسبية.

بل إن هناك في الكتاب عالم لا ينساب الزمان فيه بصورة مطردة ولكن بصورة متقطعة. ونتيجة لذلك، يتلقى الناس في هذا العالم صورا ورؤى متشنجة من المستقبل، يعرف بها كل واحد مصيره ونهايته، ويعتمد أهل هذا العالم كلهم على هذه الرؤى حتى يقرروا أي قرار بشأن مستقبلهم، لأنه لا فائدة في هذه الحالة من حرية الإرادة وحيرة الاختيار.

بل إن هناك عالما يرتد فيه الزمان للوراء في سيره الطبيعي، يبدأ فيه الناس من لحظة موتهم وينتهون إلى طفولتهم ومن ثم ميلادهم.

وعالم يضحى فيه الزمن كحاسة من الحواس البشرية مثل البصر والذوق، وفيه لا يمكن حساب مدة أو معرفة قياس زمني لأي حادثة أو فعل أو حركة.

وهناك من العوالم التي يصبح الزمن فيها بلا مستقبل، أو يغدو فيها بعدا مرئيا، أو يضحى فيها الزمن متقطعا، أو ينساب بسرعات مختلفة في المواضع المختلفة، أو يتصلب فيصبح كالهيكل العظمي..إلخ.

ويجد القارئ نفسه في ختام 35 فصلا من فصول كتاب "أحلام أينشتين" لايزال لاهثا ومتنقلا بين كل هذه العوالم، الخيالية العلمية أو العلمية الخيالية، ليست هامة جدا هذه التفرقة، لكنها ستظل في كل الأحوال، وتبعا لهذه التلاعبات في مفهوم الزمن ونسبيته، عوالما شديدة الغرائبية والإدهاش.

لماذا أستعرض كتاب "لايتمان" لك؟

أعتقد أنه ربما تكون قد وصلتك الفكرة..

فالزمن ليس قيدا علينا..إنه ليس هذا الوحش الضاري الجبار الذي يلتهم أعمارنا ويمضغها ويلقينا عظاما نخرة في صفائح الذاكرة المهملة. فالحكمة الكبرى التي يمكن استنباطها من نسبية الزمن هو أن الزمن ملكنا نحن البشر. الإنسان هو الذي يملك الزمن ولا يملكه الزمن. الإنسان باستطاعته أن يشكل الزمن كما يشاء ويهوى ويحب أن يعيش. في إمكاننا أن نسرع الزمن – عندما نحب – فيمضي بسرعة متجاوزا كل محطات الحزن أو القهر أو العذاب أو التعاسة لنصل به سريعا إلى محطة سعادة نرغب في أن ننزل فيها. وفي إمكاننا أن نجعله يتباطأ ليصل إلى درجة السكون ونعيش ما نرغب أن نعيشه من لحظات سعادة أو تواصل أو حب.

في كل فصول وعوالم الكتاب أهتم لايتمان برصد التغير في العلاقة بين الرجل والمرأة تبعا لتغير مفهوم الزمن في العالم. وفي بعضها كان التغير فاتنا وسعيدا جدا بل ومرغوبا، وفي بعضها الآخر كان حزينا للغاية. وكأن "لايتمان" يشير إلينا إشارة حاسمة بأن الاختيار لايزال بين أيدينا في الوقوع على ما نشاء من مفاهيم الزمن الكثيرة النسبية التي يمكن الوصول إليها، يمكننا اختيار أزمنة سعادتنا، كما بإمكاننا اختيار أزمنة التعاسة.

ففي العالم الذي كان مجرى الزمن فيه يتفرع إلى ثلاث شعب كانت الحكاية المركزية التي وضعها "لايتمان" لقصته هي قرار يتخذه الرجل : هل يذهب إلى زيارة امرأة أعجب بها أم لا؟. فتتفرع حكاية نفس الرجل ونفس المرأة إلى ثلاث حكايات أو ثلاثة مصائر تتحقق كلها، ثلاثة اختيارات بشرية، ثلاثة عوالم : يقرر مرة أن يذهب فيصل إلى لحظة لذة وسعادة قصوى.."خلال دقائق، كان يشعر بخفقان قلبه، يضعف لدى رؤية بياض ذراعيها، يتطارحان الغرام بصوت مرتفع وبلهفة". وفي العالم الثاني يقرر الرجل الذهاب أيضا لكنه يصل إلى لحظة إحباط "يتناول الشاي معها على منضدة المطبخ. يتحدثان عن عملها في المكتبة، وعن عمله في معمل الأدوية. وبعد ساعة، تقول إن عليها أن تغادر لمساعدة صديقة". وفي العالم الثالث يقرر ألا يذهب فتنتهي العلاقة بينهما إلى اللاشيء.

وفي عالم آخر، يصطدم مفهومان غالبان للزمان : مفهوم الزمن الميكانيكي الآلي ومفهوم الزمن الذاتي الجسمي. والمقتنعون بالزمن الذاتي (الجسمي) هم جميعا من أبناء الحب : "فهم لا يحتفظون بساعات حائطية في منازلهم. وبدلا من ذلك، فهم ينصتون لدقات قلوبهم. فهم يستشعرون إيقاعات أمزجتهم ورغباتهم. وهؤلاء الناس يأكلون عندما يجوعون، ويذهبون إلى أعمالهم عندما يستيقظون من النوم، ويمارسون الجنس في أية ساعة من ساعات اليوم".

وفي العالم الذي يكون مجرى الزمان فيه ساكنا.. "يرى المرء العشاق يتبادلون القبل في ظلال البنايات في عناق متجمد لا ينفك أبدا. فالمحبوب لا يزيل ذراعيه من حيث هما الآن أبدا. ولن يعيد السوار التذكاري أبدا. ولن يرحل بعيدا عن حبيبته أبدا. ولن يضع نفسه في خطر بتضحية ذاتية أبدا. ولن يتوانى عن إظهار حبه أبدا. ولن يغار أبدا. ولن يقع في غرام امرأة أخرى أبدا. ولن يفقد هوى هذه اللحظة من الزمان أبدا".

من الرائع أن نعيش حياتنا..

وبدون الزمان لا وجود للحياة..

والأروع أن نكتشف خلال حياتنا نسبية هذا الزمن..

وأن ندرب أنفسنا لنكون قادرين على الإسراع به ولو قليلا..

وأيضا على تسكينه وتثبيته عند "أبدية من الرضا"..نعرفها.

رابط هذا التعليق
شارك

أثر الطائر الغالى ..

عدت من جديد لأتكلم عن الهوية بعد أن استمتعت أيما استمتاع بعرضك الشيق لكتاب الدكتور جابر عصفور الإنسانى " الهوية الثقافية والنقد الأدبي " والحقيقة أنه أجاد الإلمام من جميع النواحى بطبيعة الهوية والعوامل التى تؤثر فيها .. والكيان الذى يجب أن تكون عليه الهوية بحيث لا تكون كيان هامد ..متجمد ..خالى من روح الأخذ والعطاء من وإلى ثقافات الأمم الأخرى ..فالهوية لا تتأصل على الثبات والقِدم والرجوع للماضى كمصدر ملهم وأساسى وإنما هى أشبه بالكائن الحى الذى كلما نما ..كبر وعاش فى الوجود بمسئولية وثقة..ازدهر أكثر وانتعش ..وعلى هذا فالهوية لابد أن تنفتح على الأمم الأخرى لا أن تكون حبيسة ماضيها الذى انقضى ..

كانت هذه الجزئية - بالنسبة لى - هى أهم ما عرفته يا أثر الطائر ..ربما لأننى ظللت لوقت طويل أتصور أن الجزء الأعظم من الهوية أو حتى كلها .. يقع فى الماضى دون أى محاولة للإمتداد فى الحاضر والأخذ منه والتعامل معه ..وفى الواقع أنك استطعت بوعى وفهم عميق أن تتخير لنا أهم ما يمكن عرضه فى هذا الكتاب الرائع بدءا من محاولة تعريف الهوية والعوامل التى تؤثر فيها داخليا وخارجيا حتى الهوية المنفتحة والمنغلقة ..

ومفهوم الهوية ذاته لاشك أنه من نوعية تلك المفاهيم التى نشعر أنها هلامية ..صعبة الإحاطة ومعقدة من حيث تناولها وفهمها على النحو الصحيح ..ولكن إذا حاولنا بواقعية أن نستشعرها أو ندركها فلننظر لذواتنا أولا..كل شخص ينظر فى ذاته جيدا أو فى ذات جاره أو صديقه ..فى صورة مواطن مصرى عادى جدا ..سيشعر بالتأكيد بالإختلاف ..باختلاف هذا الشخص عن سائر مخلوقات الله الآدمية ..وهذا ليس على سبيل التباهى أو الإنحياز ..ولكن للإختلاف وحده الذى يميز هوية عن أخرى فى أبسط ملامحها..الكائن الحى نفسه..الإختلاف البشرى ..هذا الإختلاف عن الآخر الخارجى الذى يتحول بينك وبين واحدا من بنى وطنك إلى قواسم مشتركة تشعركما بالإنتماء ..انه الخط التاريخى ..الخط التاريخى الواحد الذى يلعب دورا مهما فى تفرد الهويات واختلافها وامتيازها عن بعضها البعض بدءا من البشر..فبالإضافة لهذا العنصر البشرى المختلف على الخارجى ..والمتوازى مع الداخلى توجد الكنوز والثمائن والآثار والمقتنيات التى تعزز من هذا العامل التاريخى وتوضح بجلاء كيف أن لهذه الهوية ملامح تاريخية خاصة بها ..وهذا يعنى أن الهوية تتحدد من وجهة نظرى على الإختلاف والتفرد لا على المماثلة والتشابه شريطة أن يظل هذا التنوع والإختلاف داخل اطار له مزايا واضحة ..له ملامح ثابتة وخطوط شاملة ..يعنى مهما أخذت الهوية على عاتقها تجديد وتطوير ذاتها من الأمم الأخرى سنظل نسنشعر فيها تلك الخصوصية وهذا الإمتياز ..إن فى تنوع وإختلاف عناصر الهوية تكمن القوة القادرة على إثارة جدل وتفاوت محمود ومحبذ على الإيجاب حين يدعم هذا التنوع ركائز الهوية ويدفعها نحو تطوير نفسها مع الحفاظ على أصالتها الموضوعية ..تطوير لا على السلب بالثبات داخل برواز قديم لا يبالى بحركة الزمن ولا بعجلة الحياة الدوارة وبالتالى لا تتضح آصالتها التى لا يمكن أن تُستبين فعليا إلا من خلال هذا التباين وهذا التنوع عندما تترسخ ملامحها الروحية وتتعمق فى ظل وجود هذا الإختلاف وهذا الجدل..

والحق أنه ربما ما يجعل من هوية مصر هوية متفردة وراسخة هى تلك الحضارات المختلفة والمتنوعةالتى مرت على مصر وتركت أثر فيها ..فمصر زخرت بحضارات متعددة أثرت هويتها بكل تأكيد وعملت على التنوع برغم أنها ذابت جميعها فى هوية مصر الأصلية ..فالحضارة الفرعونية والرومانية واليونانية والفارسية والبيزنطة والأوروبية ..كلها كلها مرت على مصر بقوة ولكن استطاعت هوية مصر أن تصهرها فيها ..أن تحتويها ..حتى أنهم كانوا يعودون إلى بلادهم بعد أن تحولوا تقريبا لمصريين ..فهذا نابليون بونابرت نفسه ..عاد إلى فرنسا بعد قيامه بحملته الفرنسية مبهورا ومشدوها بحضارة المصريين وكتب عن ذلك لدرجة أن الديكورات الملكية الفرنسية وقتذاك تغيرت حتى أصبحت على الطرز المصرية الفرعونية ..الإسكندر المقدونى أيضا من فرط تأثره بحضارة المصريين القدماء كان يرتدى ملابسهم واسمى نفسه ابن آمون ..يعنى كان لهوية مصر تلك القدرة الفائقة على الإحتواء والصهر والإندماج ..لا الثبات والرفض والجمود ..وهذا مما أثرى ثقافاتها بكل تأكيد وجعل من هويتها كائن حى مختلف جدا ويعيش ..

أما عن العراك الذى يحدث أحيانا بين هؤلاء المتنازعين ممن يشغلهم السؤال : هل هوية مصر اسلامية أم قبطية ..أو حتى لا ملامح لها ..فالحقيقة أنهم يضيعون وقتهم بمثل هذه الأسئلة التى لا محل لها من التاريخ وان كانت النبرة بدأت تعلو وتتصاعد مؤخرا مع ثورة يناير فيما يعرف بشبح الفتنةالطائفية التى أصبحت كالوحش ينتظر الفرصة ليقتنص مصر بأنيابه ويهدد من وحدة هويتها..صعب جدا فى الواقع أن نميز هل هوية مصر إسلامية أم قبطية بعد أن أصبحت هناك عادات لها خلفيات دينية مشتركة تربط بين المسلمين والأقباط ..عادات مثل السبوع مثلا للمولود ..وكعك العيد وشم النسيم ..وغيرها ..وأنا أرى أنه ثمة علاقة أصيلة بين الهوية وبين الدين ..علاقة ..يعنى ..أجد صعوبة فى تصنيفها حاليا..وإنما فى ظنى أن هناك علاقة مؤكدة بين الهوية وبين العقيدة..هذه الأخيرة تدعم من الهوية كما أعتقد وتقويها وتعطى لها سمة أخلاقية أو قيمية..شىء من هذا القبيل ..

فالهوية لا تنحصر فى مجرد أمور شكلية سلعية أو إستهلاكية من الطبيعى جدا أنها ستدور بالتزامن والتكيف مع تطور السوق العالمى وأن الهوية ترتكن أكثر إلى أبعاد روحية تتعلق بقيم الإنسان وثقافته وانتماءاته وعاداته وتقاليده..بيد أننى لا أنكر يا أثر الطائر أن المظاهر الشكلية هى نتاج متأخر أو لاحق لثقافة معينة وخاصة للهوية..ولست أعنى التنوع نفسه فى الملبس أو المأكل بقدر ما أعنى أن هناك خط ثابت حتى لهذا التنوع والإختلاف الشكلى المظهرى يحتويه ويميز كل هوية عن أخرى..الهوية فى مفهومها الروحى والمظهرى لا يمكننا مناقشتها دون ذكر الدور الذى يلعبه الإقتصاد اليوم فى تحديد الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية والمعيشية للناس ..انظر إلى اقتصاد العالم اليوم ..الأسواق المالية تقريبا أصبحت موحدة..التجارة الدولية تنمو بشكل أسرع كثيرا لا يقارن بالإنتاج..هى العولمة فى كل المجالات والتى أصبحت تتحس طريقها بقوة من خلال هذه المظاهر الشكلية الإستهلاكية لتتداخل فى أرواح الناس من خلال تفاعلات متزامنة ومتبادلة التأثير ..وربما تعمل على تعزيز وتفعيل هذه العلاقات ثلاث محاور رئيسة كما أتصور تسهل من مهمة إقتلاع الهوية بدءا من المظاهر الشكلية التى تبدو ليست ذات قيمة ولكنها تحمل نقطة البداية وتحمل أهمية لاشك فى التحول.. مثلا ثورة المعلومات والإتصالات بكل ماتحمله من دعايا وإعلان وقيم تنشرها وتروجها وهذى هى أولى المحاور..المحور الثانى هى الشركات الكبيرة التى تغزو البلدان بأنشطتها وفروعها ومناديبها فى كل مكان..وأخيرا البلاد التى تحاول الهيمنة على العالم لتكون القوى العظمى الوحيدة من خلال السيطرة على رأس المال العالمى والإقتصاديات والإتصالات والمعلومات وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية..وهذا المحور الأخير هو العقل المدبر للمحورين السابقين..وبالفعل تنجح بنسبة كبيرة الولايات المتحدة لأن تسيطر على العالم من خلال نشر ثقافاتها بكل الطرق المتاحة السابق ذكرها وعلى رأسها سياسة العولمة الواسعة الإنتشار بكل ما تحمله من مغريات ومنافع لتهيمن على مناطق صعبة روحية وخلقية لم يكن لها سابق التأثير عليها..أتمنى لو أننى استطعت إيصال ما أود قوله بخصوص الناحية الإقتصادية التى تتضمن شكليات ومظاهر التطور والتحضر ولكنها أبعد من أن تكون مجرد شكليات لأنها تحمل فى طياتها ثقافات قابلة بشكل حريرى أن تغير فينا ومن أسلوبنا ..أتمنى أن تكون فهمت وجهة نظرى هنا يا أثر الطائر ..فهو أمر خطير و لا يمكن فصله ولا عزله عن روحية الهوية ..وإنما يجب أن يؤخذ بعناية وبحساسية فائقة تليق بخطورته..

وبالمصادفة أو بالإحتيال نفس الطرق التى يروج العالم من خلالها لإقتصادياته وتجارته ..هى نفسها الطرق التى يوحد بها ثقافة العالم أجمع ويمحو هواياته..هى نفسها أنظمة المعلومات ووسائل الإعلام..هى نفسها السلع التى تسهم فى إحداث أنماط إستهلاكية فى جزء من الثقافة السائدة والمتجانسة للبلدان ذات الهويات الخاصة جدا..

هناك عملية توحيد قسرية تتم ..قد تبدو فى بعض الأحيان مفروضة على الناس لأسباب كثيرة من ضمنها مثلا عدم توافر البديل ..أو لأن القيم الخارجية هذه تتلائم والأهداف والرغبات الجديدة التى صارت غالبة وتحتم ضرورة التنفيذ للرغبة فى التملك..للسيطرة..للثراء والطمع عند البعض داخل هذه المجتمعات التى يتم اختراق هويتها..وأحيانا يبدو التنميط عملية تتم بهدوء دون أن يعى الناس أنهم صاروا متجانسين مع الثقافة الغريبة بعيدا عن ما ينتمون إليه فى الأصل..

لا تعتقد أننى أرفض عملية التطور التى تفرز طبيعيا كلما عشنا وتقدمنا فى الحياة..ولكننى أفضل أن أقول التعلم وليس التطور..الإنسان يتعلم ويكتسب معارف ومهارات جديدة وأذواق جديدة تثرى من انسانيته وقدراته ..تطورها ربما ولكن فى السياق التاريخى..فأنا أرجح أن عملية التعلم هى عملية تاريخية لا رجوع عنها..وأن المجتمعات المتقدمة تستعجل المجتمعات المتأخرة لكى تلاحقها فى تطورها ليس من خلال الفرض والضغط ونشر ثقافة موحدة إجبارية..وإنما تبدو العملية كما ذكرت تاريخية..تلقائية..تسير بانتظام وبخبرة مرجعية تاريخية تراكمية ..وأن المسألة مسألة وقت ..مسألة التقدم والتأخر تلك هى مسألة وقت..وأنه لا مفر من أن تتعلم كل المجتمعات بفعل التحديث والتصنيع بالتعلم ذى الخبرة التاريخية المكتسبة لا من خلال التطور المفاجىء الذى يبدو كقفزة دون أرض ثابتة يسقط عليها ..الطبيعة نفسها تتجدد وتحدث من نفسها وتستمر بإرادتها المختبئة فيها لا بفروض منا عليها ..

لا بأس أبدا أن نحاول أن نفهم ما يحدث فى العالم المعاصر وأن نتدارس إلى أى حد يمكن أن نقبل بفروض العولمة أو نتراجع عنها حتى مستويات معينة تتعلق بثقافتنا القيمية..هذا يتطلب منا منهج تحليلى لابد من اتخاذه كنهج لكى نفهم ونحكم ونأخذ ..وهكذا أرى يا أثر الطائر أن فى آلية القبول والرفض والإختيار بين قيمنا وقيم العوالم الأخرى جدل..هو الجدل المطلوب الذى نميز فيه بين الرجوع عن المشاع أوالإحتفاظ بخصوصية لا تسمح بالهيمنة التى تستغل فقر الناس وجهلهم للنفاذ من خلال سياسة التمرير الحريرية التى تبدو شكلية ظاهرية..

فى حين أن هناك جانب إيجابى يبدو فطريا فى بنى البشر ويدعو للإطمئنان بشكل عام..وهو الناس أنفسهم..الناس مفطورون على أن يكونوا متنوعين..مختلفين..وكلما ازداد ضغط التوحد والتجانس والتنميط كلما قويت النزعة إلى التمايز بينهم..يظل الفرد منهم متمسكا بفروق صغيرة تميزه عن سواه..وهذه احدى مفارقات العولمة العجيبة والتى قد لا ينتبهون إليها هؤلاء المهيمنين الذين يريدون تنميط العالم قسريا وحريريا..أنهم لا يفهمون أنه كلما زادت ضغوطهم على الناس كلما نفر الناس منهم ومالوا إلى التنوع والإختلاف..وهذا يقينى فى الشعب المصرى الحامل لمفردات هوية راسخة فى أصالتها ..هوية لن تستطيعها أعتى المحكات ولا كل وسائل الإتصالات والتكنولوجيا والمعلومات والتجارة..ولا أى سطوة لرأس مال..فالبسطاء هم أول المتمسكين بهوياتهم وملامحهم..لا بيبعون أبدا بسهولة ولا يتخلون..دائما ساعيين إلى التمايز والإختلاف تحت دعاوى إنسانية مثل الشرف والكرامة والعرض والأرض والدين والأخوة والروابط الإجتماعية القوية..

أتمنى من جديد ألا أكون خرجت عن الهوية ودلالتها ..وأعتذر منك عن الإطالة ..

دمت محلقا ..ومشرقا ..ومحباً

:give_rose:

رابط هذا التعليق
شارك

عشتار..يا :clappingrose: :clappingrose: :clappingrose: :clappingrose: كل حديقة الورد..

ما هي الكلمة التي يمكن أن أصف بها تعليقا كهذا..

هل أقول أنه تعليق قوي؟..جاد؟..مدقق؟..مهتم؟..متأمل؟..متعمق؟..ملم؟ مولع بالهوية؟..محيط بالموضوع؟..

سأختصر كل هذه الأوصاف لأقول كلمة واحدة هي أنه تعليق محب لا يصدر إلا عن كائن محب ومحبوب..

.

.

أثر الطائر الغالى ..

كانت هذه الجزئية - بالنسبة لى - هى أهم ما عرفته يا أثر الطائر ..ربما لأننى ظللت لوقت طويل أتصور أن الجزء الأعظم من الهوية أو حتى كلها .. يقع فى الماضى دون أى محاولة للإمتداد فى الحاضر والأخذ منه والتعامل معه ..وفى الواقع أنك استطعت بوعى وفهم عميق أن تتخير لنا أهم ما يمكن عرضه فى هذا الكتاب الرائع بدءا من محاولة تعريف الهوية والعوامل التى تؤثر فيها داخليا وخارجيا حتى الهوية المنفتحة والمنغلقة ..

هو كما قلت يا..عشتار..جزء مهم من أزمة الهوية هو تصور الناس لها، وعلى رأس هؤلاء الناس وأهمهم أصحاب هذه الهوية أنفسهم، نكون بإزاء مشكلة عميقة (هل أقول كارثية) عندما لا تستوعب الهوية من قبل أصحابها..أهلها..المسئولين عنها..والذين يتصورون أنهم المتحدثون الرسميون باسمها وحامو حمى حماها وهم لا يبذلون أو لا يريدون بذل مجهود فكري كي تتنور بصائرهم بمعناها ومفهومها على الوجه التاريخي الحقيقي لا على الوجه المتخيل أو الموهوم

والمأزق الآخر الذي تقع فيه مجمل الهويات البشرية على النطاق العالمي اليوم مع انتشار الأصوليات الدينية في مختلف بقاع ودول وديانات الأرض هو أن استيعاب الهوية أقترن دائما بهذا الفهم القاصر لها، بوصفها كائنا عاش في الماضي، والمطلوب هو أن يجلب من المتاحف وتنبش من أجله القبور ليعاد إلى حاضر الناس وحياتهم، وهو فهم فضلا عن أنه غير صحيح، فهو أيضا فهم يضر بالهوية ويجمدها ويضعها داخل قالب من الجمود المعادي لكل تطور أو تغير كمي أو كيفي طبيعي. الهوية بالطبع ليست شأنا من شئون الماضي، لا يجب أن تمتد إليه يد التفاعل والتغيير والتطور، كأنها عقار نتوارثه من أجدادنا، وحتى لو كانت عقارا أو كالعقار فنحن يمكننا بسهولة أن نسلم بحتمية أن تمتد إلى العقار والجماد يد التطور التي تكفل له التحرك مع الزمن وتنفس هواء العالم الجديد.

.

.

أثر الطائر الغالى ..

ومفهوم الهوية ذاته لاشك أنه من نوعية تلك المفاهيم التى نشعر أنها هلامية ..صعبة الإحاطة ومعقدة من حيث تناولها وفهمها على النحو الصحيح ..ولكن إذا حاولنا بواقعية أن نستشعرها أو ندركها فلننظر لذواتنا أولا..كل شخص ينظر فى ذاته جيدا أو فى ذات جاره أو صديقه ..فى صورة مواطن مصرى عادى جدا ..سيشعر بالتأكيد بالإختلاف ..باختلاف هذا الشخص عن سائر مخلوقات الله الآدمية ..وهذا ليس على سبيل التباهى أو الإنحياز ..ولكن للإختلاف وحده الذى يميز هوية عن أخرى فى أبسط ملامحها..الكائن الحى نفسه..الإختلاف البشرى ..هذا الإختلاف عن الآخر الخارجى الذى يتحول بينك وبين واحدا من بنى وطنك إلى قواسم مشتركة تشعركما بالإنتماء ..انه الخط التاريخى ..الخط التاريخى الواحد الذى يلعب دورا مهما فى تفرد الهويات واختلافها وامتيازها عن بعضها البعض بدءا من البشر..فبالإضافة لهذا العنصر البشرى المختلف على الخارجى ..والمتوازى مع الداخلى توجد الكنوز والثمائن والآثار والمقتنيات التى تعزز من هذا العامل التاريخى وتوضح بجلاء كيف أن لهذه الهوية ملامح تاريخية خاصة بها ..وهذا يعنى أن الهوية تتحدد من وجهة نظرى على الإختلاف والتفرد لا على المماثلة والتشابه شريطة أن يظل هذا التنوع والإختلاف داخل اطار له مزايا واضحة ..له ملامح ثابتة وخطوط شاملة ..يعنى مهما أخذت الهوية على عاتقها تجديد وتطوير ذاتها من الأمم الأخرى سنظل نسنشعر فيها تلك الخصوصية وهذا الإمتياز ..إن فى تنوع وإختلاف عناصر الهوية تكمن القوة القادرة على إثارة جدل وتفاوت محمود ومحبذ على الإيجاب حين يدعم هذا التنوع ركائز الهوية ويدفعها نحو تطوير نفسها مع الحفاظ على أصالتها الموضوعية ..تطوير لا على السلب بالثبات داخل برواز قديم لا يبالى بحركة الزمن ولا بعجلة الحياة الدوارة وبالتالى لا تتضح آصالتها التى لا يمكن أن تُستبين فعليا إلا من خلال هذا التباين وهذا التنوع عندما تترسخ ملامحها الروحية وتتعمق فى ظل وجود هذا الإختلاف وهذا الجدل..

هناك أقتباس معين في كتاب "الهوية الثقافية والنقد الأدبي" ردده د.جابر عصفور عدة مرات وبامتداد أبواب وفصول الكتاب الضخم، وهو اقتباس من الزعيم الهندي الشهير المهاتما غاندي، يقول فيه :

"إنني مستعد أن أفتح نوافذ بيتي لتدخل الرياح الآتية من كل اتجاه وصوب في العالم، شريطة ألا تنتزع ريح منها بيتي من جذوره"

ويمكنك أن تلحظي عبقرية هذا التعبير البسيط في إلمامه بفكرة الانفتاح على العالم، فالانفتاح الحقيقي على العالم والذي يمكن أن تحققه أي هوية هو أن تفتح نوافذها لـ(كل) الأفكار والتيارات والمذاهب والفلسفات والأشكال الثقافية الوافدة، على أن يكون لهذه الهوية من القوة والحصانة والقدرة على التطور أيضا ما يحميها من المحو أو التلاشي أو التشوه أو الانهدام..ولن تصل هويتنا المصرية إلى تحقيق هذه القوة والقدرة والحصانة إلا لو تحصنت بالوعي التاريخي بذاتها وبسيرورتها واستمراريتها في التاريخ وبآليات الاكتساب وآليات الحذف التي لا تضر بخصوصيتها وأصالتها ولا تحولها إلى كائن منقطع عن ذاته وعن سيرورته.

في هذا الأمر تتفقين يا عشتار مع المهاتما غاندي ويتفق معك المهاتما غاندي مئة بالمئة..ولذلك أنا أحسده..

.

.

أثر الطائر الغالى ..

والحق أنه ربما ما يجعل من هوية مصر هوية متفردة وراسخة هى تلك الحضارات المختلفة والمتنوعةالتى مرت على مصر وتركت أثر فيها ..فمصر زخرت بحضارات متعددة أثرت هويتها بكل تأكيد وعملت على التنوع برغم أنها ذابت جميعها فى هوية مصر الأصلية ..فالحضارة الفرعونية والرومانية واليونانية والفارسية والبيزنطة والأوروبية ..كلها كلها مرت على مصر بقوة ولكن استطاعت هوية مصر أن تصهرها فيها ..أن تحتويها ..حتى أنهم كانوا يعودون إلى بلادهم بعد أن تحولوا تقريبا لمصريين ..فهذا نابليون بونابرت نفسه ..عاد إلى فرنسا بعد قيامه بحملته الفرنسية مبهورا ومشدوها بحضارة المصريين وكتب عن ذلك لدرجة أن الديكورات الملكية الفرنسية وقتذاك تغيرت حتى أصبحت على الطرز المصرية الفرعونية ..الإسكندر المقدونى أيضا من فرط تأثره بحضارة المصريين القدماء كان يرتدى ملابسهم واسمى نفسه ابن آمون ..يعنى كان لهوية مصر تلك القدرة الفائقة على الإحتواء والصهر والإندماج ..لا الثبات والرفض والجمود ..وهذا مما أثرى ثقافاتها بكل تأكيد وجعل من هويتها كائن حى مختلف جدا ويعيش ..

:give_rose:

يتفق معك يا عشتار بكل تأكيد د.جابر عصفور أيضا، وهو يسوق عبر فصول كتابه العديد من الأمثلة الأدبية والشواهد التاريخية على هذه القوة التي تتمتع بها هويتنا المصرية وعلى قدرتها الأصيلة على التأثير في الآخر حتى لو كان هذا الآخر محتلا أجنبيا ضم مصر إلى أملاكه بالسيف..كما أن للهوية المصرية القدرة المعاكسة أيضا على التأثر بالآخر وحتى لو كان هذا الآخر هو المحتل.

يتحدث د.جابر عصفور مثلا في الفصل الأول من الباب الثالث من القسم الثاني من كتابه عن "تأسيس الإقليمية ونقضها"، ويشع هذا التعبير كالضوء بقدرة مصر على أن تكون كيانا مستقلا ثقافيا داخل حدودها (وهذا هو المعنى الإقليمي) وفي نفس الوقت كيانا متفاعلا كجزء من كيان ثقافتها العربية الأشمل وكجزء أيضا من كيان ثقافتها الإنسانية الأكثر شمولا (وهنا معنى نقض الإقليمية)..يتحدث د.عصفور في هذا الفصل عن تأثير مصر في الشعراء العرب الذين أقاموا فيها، وأبعدهم صيتا، "المتنبي" شاعر العربية الأكبر، الذي اختلف شعره المصري عن شعره في الشام والكوفة وغيرهما من البلاد التي زارها أو أقام فيها.

.

.

أثر الطائر الغالى ..

أما عن العراك الذى يحدث أحيانا بين هؤلاء المتنازعين ممن يشغلهم السؤال : هل هوية مصر اسلامية أم قبطية ..أو حتى لا ملامح لها ..فالحقيقة أنهم يضيعون وقتهم بمثل هذه الأسئلة التى لا محل لها من التاريخ وان كانت النبرة بدأت تعلو وتتصاعد مؤخرا مع ثورة يناير فيما يعرف بشبح الفتنةالطائفية التى أصبحت كالوحش ينتظر الفرصة ليقتنص مصر بأنيابه ويهدد من وحدة هويتها..صعب جدا فى الواقع أن نميز هل هوية مصر إسلامية أم قبطية بعد أن أصبحت هناك عادات لها خلفيات دينية مشتركة تربط بين المسلمين والأقباط ..عادات مثل السبوع مثلا للمولود ..وكعك العيد وشم النسيم ..وغيرها ..وأنا أرى أنه ثمة علاقة أصيلة بين الهوية وبين الدين ..علاقة ..يعنى ..أجد صعوبة فى تصنيفها حاليا..وإنما فى ظنى أن هناك علاقة مؤكدة بين الهوية وبين العقيدة..هذه الأخيرة تدعم من الهوية كما أعتقد وتقويها وتعطى لها سمة أخلاقية أو قيمية..شىء من هذا القبيل ..

فالهوية لا تنحصر فى مجرد أمور شكلية سلعية أو إستهلاكية من الطبيعى جدا أنها ستدور بالتزامن والتكيف مع تطور السوق العالمى وأن الهوية ترتكن أكثر إلى أبعاد روحية تتعلق بقيم الإنسان وثقافته وانتماءاته وعاداته وتقاليده..بيد أننى لا أنكر يا أثر الطائر أن المظاهر الشكلية هى نتاج متأخر أو لاحق لثقافة معينة وخاصة للهوية..ولست أعنى التنوع نفسه فى الملبس أو المأكل بقدر ما أعنى أن هناك خط ثابت حتى لهذا التنوع والإختلاف الشكلى المظهرى يحتويه ويميز كل هوية عن أخرى..الهوية فى مفهومها الروحى والمظهرى لا يمكننا مناقشتها دون ذكر الدور الذى يلعبه الإقتصاد اليوم فى تحديد الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية والمعيشية للناس ..انظر إلى اقتصاد العالم اليوم ..الأسواق المالية تقريبا أصبحت موحدة..التجارة الدولية تنمو بشكل أسرع كثيرا لا يقارن بالإنتاج..هى العولمة فى كل المجالات والتى أصبحت تتحس طريقها بقوة من خلال هذه المظاهر الشكلية الإستهلاكية لتتداخل فى أرواح الناس من خلال تفاعلات متزامنة ومتبادلة التأثير ..وربما تعمل على تعزيز وتفعيل هذه العلاقات ثلاث محاور رئيسة كما أتصور تسهل من مهمة إقتلاع الهوية بدءا من المظاهر الشكلية التى تبدو ليست ذات قيمة ولكنها تحمل نقطة البداية وتحمل أهمية لاشك فى التحول.. مثلا ثورة المعلومات والإتصالات بكل ماتحمله من دعايا وإعلان وقيم تنشرها وتروجها وهذى هى أولى المحاور..المحور الثانى هى الشركات الكبيرة التى تغزو البلدان بأنشطتها وفروعها ومناديبها فى كل مكان..وأخيرا البلاد التى تحاول الهيمنة على العالم لتكون القوى العظمى الوحيدة من خلال السيطرة على رأس المال العالمى والإقتصاديات والإتصالات والمعلومات وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية..وهذا المحور الأخير هو العقل المدبر للمحورين السابقين..وبالفعل تنجح بنسبة كبيرة الولايات المتحدة لأن تسيطر على العالم من خلال نشر ثقافاتها بكل الطرق المتاحة السابق ذكرها وعلى رأسها سياسة العولمة الواسعة الإنتشار بكل ما تحمله من مغريات ومنافع لتهيمن على مناطق صعبة روحية وخلقية لم يكن لها سابق التأثير عليها..أتمنى لو أننى استطعت إيصال ما أود قوله بخصوص الناحية الإقتصادية التى تتضمن شكليات ومظاهر التطور والتحضر ولكنها أبعد من أن تكون مجرد شكليات لأنها تحمل فى طياتها ثقافات قابلة بشكل حريرى أن تغير فينا ومن أسلوبنا ..أتمنى أن تكون فهمت وجهة نظرى هنا يا أثر الطائر ..فهو أمر خطير و لا يمكن فصله ولا عزله عن روحية الهوية ..وإنما يجب أن يؤخذ بعناية وبحساسية فائقة تليق بخطورته..

وبالمصادفة أو بالإحتيال نفس الطرق التى يروج العالم من خلالها لإقتصادياته وتجارته ..هى نفسها الطرق التى يوحد بها ثقافة العالم أجمع ويمحو هواياته..هى نفسها أنظمة المعلومات ووسائل الإعلام..هى نفسها السلع التى تسهم فى إحداث أنماط إستهلاكية فى جزء من الثقافة السائدة والمتجانسة للبلدان ذات الهويات الخاصة جدا..

هناك عملية توحيد قسرية تتم ..قد تبدو فى بعض الأحيان مفروضة على الناس لأسباب كثيرة من ضمنها مثلا عدم توافر البديل ..أو لأن القيم الخارجية هذه تتلائم والأهداف والرغبات الجديدة التى صارت غالبة وتحتم ضرورة التنفيذ للرغبة فى التملك..للسيطرة..للثراء والطمع عند البعض داخل هذه المجتمعات التى يتم اختراق هويتها..وأحيانا يبدو التنميط عملية تتم بهدوء دون أن يعى الناس أنهم صاروا متجانسين مع الثقافة الغريبة بعيدا عن ما ينتمون إليه فى الأصل..

لا تعتقد أننى أرفض عملية التطور التى تفرز طبيعيا كلما عشنا وتقدمنا فى الحياة..ولكننى أفضل أن أقول التعلم وليس التطور..الإنسان يتعلم ويكتسب معارف ومهارات جديدة وأذواق جديدة تثرى من انسانيته وقدراته ..تطورها ربما ولكن فى السياق التاريخى..فأنا أرجح أن عملية التعلم هى عملية تاريخية لا رجوع عنها..وأن المجتمعات المتقدمة تستعجل المجتمعات المتأخرة لكى تلاحقها فى تطورها ليس من خلال الفرض والضغط ونشر ثقافة موحدة إجبارية..وإنما تبدو العملية كما ذكرت تاريخية..تلقائية..تسير بانتظام وبخبرة مرجعية تاريخية تراكمية ..وأن المسألة مسألة وقت ..مسألة التقدم والتأخر تلك هى مسألة وقت..وأنه لا مفر من أن تتعلم كل المجتمعات بفعل التحديث والتصنيع بالتعلم ذى الخبرة التاريخية المكتسبة لا من خلال التطور المفاجىء الذى يبدو كقفزة دون أرض ثابتة يسقط عليها ..الطبيعة نفسها تتجدد وتحدث من نفسها وتستمر بإرادتها المختبئة فيها لا بفروض منا عليها ..

لا بأس أبدا أن نحاول أن نفهم ما يحدث فى العالم المعاصر وأن نتدارس إلى أى حد يمكن أن نقبل بفروض العولمة أو نتراجع عنها حتى مستويات معينة تتعلق بثقافتنا القيمية..هذا يتطلب منا منهج تحليلى لابد من اتخاذه كنهج لكى نفهم ونحكم ونأخذ ..وهكذا أرى يا أثر الطائر أن فى آلية القبول والرفض والإختيار بين قيمنا وقيم العوالم الأخرى جدل..هو الجدل المطلوب الذى نميز فيه بين الرجوع عن المشاع أوالإحتفاظ بخصوصية لا تسمح بالهيمنة التى تستغل فقر الناس وجهلهم للنفاذ من خلال سياسة التمرير الحريرية التى تبدو شكلية ظاهرية..

فى حين أن هناك جانب إيجابى يبدو فطريا فى بنى البشر ويدعو للإطمئنان بشكل عام..وهو الناس أنفسهم..الناس مفطورون على أن يكونوا متنوعين..مختلفين..وكلما ازداد ضغط التوحد والتجانس والتنميط كلما قويت النزعة إلى التمايز بينهم..يظل الفرد منهم متمسكا بفروق صغيرة تميزه عن سواه..وهذه احدى مفارقات العولمة العجيبة والتى قد لا ينتبهون إليها هؤلاء المهيمنين الذين يريدون تنميط العالم قسريا وحريريا..أنهم لا يفهمون أنه كلما زادت ضغوطهم على الناس كلما نفر الناس منهم ومالوا إلى التنوع والإختلاف..وهذا يقينى فى الشعب المصرى الحامل لمفردات هوية راسخة فى أصالتها ..هوية لن تستطيعها أعتى المحكات ولا كل وسائل الإتصالات والتكنولوجيا والمعلومات والتجارة..ولا أى سطوة لرأس مال..فالبسطاء هم أول المتمسكين بهوياتهم وملامحهم..لا بيبعون أبدا بسهولة ولا يتخلون..دائما ساعيين إلى التمايز والإختلاف تحت دعاوى إنسانية مثل الشرف والكرامة والعرض والأرض والدين والأخوة والروابط الإجتماعية القوية..

-:give_rose:

يمكنني أن أضع عنوانا كبيرا لأفكار هذه الفقرة الواردة في مقالك هو "الهوية والعولمة" وأنا أفعل ذلك تسهيلا على نفسي مهمة إقامة حوار بين أفكارك وأفكار الكتاب من جهة وأفكاري الشخصية من جهة ثالثة، والتي أراها جميعا متفقة إلى حد كبير ولحسن الحظ..حظي أنا..

في الواقع يا عشتار أقترنت ظاهرة انتشار العولمة المتوحشة بظاهرة انتشار الأصولية المتوحشة أيضا، كلاهما ظاهرتان مرتبطتان في السياق الاجتماعي والتاريخي، وفي ذلك يقول الكتاب:

"ما يقال عن الفهم الديني الإسلامي المنفتح لا يمكن أن يقال عن الأصولية الإسلامية المعاصرة، أو الأصولية المسيحية المعاصرة، فالأولى لا تعدو أن تكون صورة مقابلة من الثانية، والعكس صحيح بالقدر نفسه. لذلك تتحد كلتاهما في التصلب الفكري، وكراهة المغايرة أو المخالفة، فضلا عن توهم احتكار الحقيقة في كل أصولية منهما، بوصفها الفرقة الناجية، وما عداها غارق في ضلالة الجهالة والإثم والكفر. ولذلك دعت الأصولية الإسلامية المعاصرة، في مدارها المغلق، إلى طب إسلامي، وعلاج بالقرآن، واقتصاد إسلامي، وعلم نفس إسلامي، محرمة الفنون، مضيقة على الأدب والإبداع. والثانية أصبحت أشبه برد الفعل، الموازي في القوة والمضاد في الاتجاه. ولذلك سمعنا عمن دعوا للعلاج بالكتاب المقدس، أو الذين هاجوا وماجوا عندما عرض فيلم ألام المسيح..أوالذين هاجموا فيلم "بحب السينما". أضف إلى ذلك الضجة الهائلة التي تم افتعالها رواية يوسف زيدان" عزازيل"

والفكرة هي أن العولمة في سعيها إلى محو الهويات الثقافية المختلفة على اتساع الكرة الأرضية وتسييد وإحلال ثقافة الاستهلاك المعولمة بدلا منها استعدت، أو أنها أيقظت، الوحش الأصولي الذي هو الصورة السالبة أو الموجبة لصورة العولمة الوحشية، لكنهما صورتان مختلفتان لنفس الكائن بنفس الواحدية والتطرف والغلو والشطط والضيق بالآخر والعداء له والرغبة في محوه ورفض الحوار معه وضيق الأفق إزائه.

لكن - وبالموازاة - كان هناك تحرك واسع وشامل قام به مجموعة كبيرة جدا من أبرز المفكرين والمثقفين والفلاسفة والكتاب باتساع الثقافات الإنسانية ودول الأرض، تحرك استهدفوا به محو هذه الأكذوبة المضللة : صراع الهويات أو الحضارات. وطرحوا بديلا أفكار التعايش السلمي والحوار الخلاق وتبادل التأثير والتأثر. وفي أكثر من موضع من كتابه يستعرض د.عصفور نتاجات هذا المجهود الضخم والذي تم تحت رعاية اليونسكو وصدر في تقرير شامل كان عنوانه: "التنوع البشري الخلاق". وهو تقرير شهير يا عشتار يمكنك أن تستدلي عليه أو تجديه كاملا أو تجدي عنه الكثير على الشبكة العنكبوتية عبر البحث عنه.

.

.

يتبقى شيء لابد من أن أنوه بإعجابي واعتزازي الشديد به بشكل مستقل، وهو إيمانك القوي الذي لا يهتز يا عشتار بالبسطاء، فقراء الناس في هذا الوطن، ملح الأرض وماء الحياة، إنهم تيار النهر العريض الذي يستمر في الاندفاع للأمام، وهو في إندفاعه هذا جهة المستقبل قادر على أن يحفظ على هويته خصائصها التاريخية الفريدة، وقادر أيضا أن يصحب معه كل جديد مفيد نافع، وأن يترك كل ضار أو جامد أو معوق كي يغرق ويجرفه التيار إلى قاع النهر ومقبرة التاريخ.

هذا الإيمان يستحق التحية يا عشتار..حقا..يستحق رفع القبعة..

ففي هذا الإيمان يكمن المعنى الحقيقي للانتماء كما يكمن المعنى الحقيقي للهوية..كما يكمن المعنى الحقيقي للحب..

فالانتماء والهوية والحب كلها تبدأ وتنتهي من الإنسان وإلى الإنسان..من المواطن وإلى المواطن..من المصري وإلى المصري..

.

.

أتمنى من جديد ألا أكون خرجت عن الهوية ودلالتها ..وأعتذر منك عن الإطالة ..

دمت محلقا ..ومشرقا ..ومحباً

:give_rose:

عشتار..

كنت كما كنت دائما..في قلب الموضوع وروحه وهويته..

لم تخرجي عنه..ولم أختلف أنا معك في مجمل أفكارك التي طرحتها ولم تكن إطالتك في الطرح مما يؤاخذ عليه ولكن مما يسعد المرء به ويستفيد منه الموضوع..

ودمت أنت أيضا يا عشتار..

دام تحليقك..

دام حضورك..

دام حبك..

:clappingrose: :clappingrose: :clappingrose:

 

رابط هذا التعليق
شارك

  • بعد 2 أسابيع...

الكتاب : المرأة والمرآة – رؤية لواقع المرأة المعاصر

تحرير : هنرييته هينش

الناشر : مكتبة الأسرة – 2010

"الإنسانية تجمع الذكر والأنثى، الذكورية والأنثوية عرضان ليسا من حقائق الإنسانية"

الإمام الأكبر محيى الدين بن عربي

looking-in-mirror.jpg

قبل حبك كنت ذكوريا..

تمهيد شخصي للقارئ غير المهتم أن يتجاوزه

ما إن تقال أو تكتب كلمة "مرأة" حتى يتجدد حضور صورتك – الحاضرة أبدا – في مخيلتي.. فأصبحت لا أرى كتابا بعنوان أو محتوى يشير إلى "المرأة" إلا وثارت عواصف الشغف - ومن بينها شغفي الذهني - بك وبها وبه، وأحببت أن أقرأه حتى أعرف المزيد عن هذه "المرأة"..أنت بذاتك..فأعرف المزيد عن ذاتك.

وقد كشف لي هذا الطارئ في حبك وحياتي، في ذهنيتي وتعاملي مع الكتب، وبعاداتي في القراءة، أمرا أخطر منه. وهو أنني كنت، بمعنى أكيدا، قارئا ذكوريا. لم أكن أحبذ كثيرا قراءة كتب تتصل بالمرأة أو في مجالات قضاياها أو همومها أو مشاكلها. وهو ما يعطي انطباعا بوجود حالة من الاستخفاف أو الإهمال كانت لدي بشئون المرأة، وكان منبعها الشعور بعدم الاهتمام أو الاعتقاد بعدم الجدوى في معرفة أو ثقافة ذات طابع أنثوي أو نسوي. ولم يكن ذلك كله محسوسا ومتضحا في تصوراتي، لكنه كان أمرا خفيا لا يحس و"تقليديا اعتياديا" أمارسه بلا تفكير فيه أو ملاحظة له من جانبي. هذه "التقليدية الاعتيادية" في ممارستي إهمال قضايا المرأة والقراءة عن شئونها الإنسانية هي ما تلفت النظر إلى خطورة "أمراض الذكورية" ذات القواعد المستقرة منذ قرون طويلة مضت، أمراض وظواهر مرضية منتشرة في مجتمعنا بل مجتمعاتنا البشرية، وهي إذ تضرب بجذورها في كل أنحاء الجسم الاجتماعي فإنها تفعل ذلك بخفاء سرطاني في أحيان كثيرة، وهو ما يجعل من اكتشافها أمرا صعبا، قبل ظهور أعراض قوية جدا لها أو تفجر كوارث شخصية أو إنسانية واجتماعية ناتجة من جراء وجودها وانتشارها.

لكن، نحمد الله، "داء الذكورية" من الأمراض التي أصبحت معروفة في المجتمع المصري، والتي يشار لها بالبنان أينما ظهرت أعراضه أو بدت ظواهره، ورغم هذا، لا يسلم من الإصابة به الكثيرون ممن لا يدرون بمرضهم عادة، ولا يسلم من الإصابة به الكثيرون ممن يعتبرون أنفسهم أعداء تقليديين له، أو يعتبرون أنفسهم من الأنصار التقليديين للمرأة وقضاياها.. أنا كنت واحدا من هؤلاء..ولم أعد..بفضلك..بفضل حبك

المرأة والمرآة

يضم الكتاب مجموعة محدودة من المقالات لا تزيد عن السبعة، لسبع نساء مهتمات بقضايا المرأة من منظورات فكرية وثقافية وواقعية مختلفة، وفي بلدان مختلفة حول العالم، ومن ثقافات بشرية مختلفة أيضا، وجلهن من الأسماء غير المشهورة للقارئ العام، وهو ما يعطي الكتاب تثمنيا أعلى لدى قارئه، هذه الأسماء هي : زينة أنوار – ماليزيا، كاترين كلاوسينج – ألمانية مقيمة في مصر، أميمة أبوبكر – مصر، دعد موسى – سوريا، جميلة سيوري – المغرب، وندي ماكلروي – أمريكا، فرانسيس كاندال – جنوب أفريقيا

وللحق فإن الكتاب يتناول قضية المرأة من منظورات شديدة التنوع رغم محدودية مقالاته، كما أن به كما معلوماتيا قد يكون مرضيا لقارئ حديث التعرف أو القراءة في مجال قضايا المرأة، خصوصا الباب القانوني الذي سأبدأ به - رغم تأخره في فصول الكتاب - لما يتضمنه من معلومات خطيرة تتصل بالتمييز القانوني الصارخ ضد المرأة في بلدان عربية شقيقة.

مقيدة وتابعة ومنتهكة

في مقالة الكاتبة والناشطة الحقوقية "دعد موسى" يأتي استعراض سريع وواف للوضع القانوني الذي تناضل ضده النساء في سوريا. في هذا السياق تورد "دعد" كما مفزعا من المواد القوانينة الجائرة – ولنقل الرجعية المتخلفة أيضا – التي تستهدف تحجيم الوجود الأنثوي في المجتمع أو تهميشه لصالح سيطرة الذكورة وتسييدها وتغليبها في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها.

فبالنسبة مثلا لقانون الجنسية ينص القانون على أنه (يعتبر عربيا سوريا حكما : من ولد في القطر أو خارجه من والد عربي سوري)!. مما يعطي الحق للوالد السوري في منح جنسيته لأولاده لو كانوا من امرأة أجنبية بينما تحرم المرأة من هذا الحق ويعامل أولادها معاملة الأجانب!

وفي قانون العقوبات تؤكد "دعد موسى" أنه "لا تتوفر حماية قانونية للنساء العاملات في قوانين العمل في حال تعرضهن للتمييز أو العنف أو التحرش في أماكن العمل ولا توجد إجراءات قانونية لمعاقبة مرتكبي هذه الأفعال"!

كما تورد طائفة من المواد تدور حول "الاغتصاب الزوجي المباح قانونا"! و"زواج ضحايا العنف من مرتكب الجريمة والتي توقف الملاحقة وتنفيذ العقوبة وتبرير ارتكاب هذه الجرائم باسم الشرف"!

أما في قانون الأحوال الشخصية فيثبت المقال ما يتسم به هذا القانون من تمييز واضح ولا علاقة فعلية له بالشريعة الإسلامية التي أعطت المرأة لأول مرة في التاريخ ربما حقوقها. حول المادة القانونية التي تنظم الشهادة على عقد الزواج.."لا تقبل شهادة النساء أبدا وتعتبر المرأة نصف رجل وبالمقابل لا تعتبر أربعة نساء مساوية لرجلين، حيث لا تقبل شهادة النساء وحدهم على عقد الزواج. وليس هذا فحسب، بل إنه لا يتحقق نصاب الشهادة ولو تقدمت عشر نساء فلابد أن يكون هناك رجل بين الشهود"!!

وتورد "دعد موسى" ما يتصل من المواد القانونية بإباحة زواج الأطفال من الفتيات في سن الثالثة عشرة!. كما تورد موادا تعطي للولي على المرأة حق أن يشارك المرأة حقها في اختيار الزوج إذ تعطيه "حق فسخ الزواج الحاصل دون إذنه لعدم الكفاءة"!. وتضيف إلى ذلك "حق الطلاق الإداري" الممنوح للرجل بدون قيد ولا شرط، وهو طلاق لا يحتاج إلى رأي الزوجة، ولا تملك هي منعه، و هو حق للزوج "بإرادة منفردة وبدون سبب مشروع"!

وإذا كانت السورية "دعد موسى" قد عرضت الوجه القبيح والسلبي من قضية التمييز ضد المرأة فإن الكاتبة والناشطة الحقوقية المغربية "جميله سيوري" تعرض الوجه الإيجابي المشرق للقضية وهو المطالب التي تجسد يقظة المجتمع المغربي وحركاته النسوية المطالبة بمساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات، وتلخص "سيوري" هذه المطالب في مقالها بصورة عامة في :

1- إقرار مبدأ المساواة بين الزوجين في لاقانون

2- تحديد سن الزواج في 18 سنة بالنسبة للجنسين

3- التأسيس لمبدأ الطلاق بالتراضي وإخضاعه لمراقبة القضاء والاعتراف بمبرر الضرر المعنوي

4- المساواة بين الأحفاد ذكورا كانوا أو إناثا من جهة الأم في الاستفادة من حضة الإرث

5- توحيد سن الحضانة في 15 سنة

6- التقييد الصارم لتعدد الزوجات

7- إقرار حقوق الطفل طبقا للاتفاقية الدولية لحقوق الطفل

8- تبسيط الإجراءات

9- تنظيم تدبير الممتلكات المكتسبة من قبل الزوجين خلال الحياة الزوجية

10- اعتماد الاتفاقيات الدولية بالنسبة للمرأة والطفل

11- التشريع لأسرة التعاون ومسئولية الزوجين المشتركة في رعاية الأسرة والقيام بشئونها

في الواقع، هي مطالب لا يمكن التشكيك في عدالتها، كما لا يمكن المجادلة في أنها تصلح في مجملها مكونا ثابتا من المكونات المطلبية للمرأة العربية بعامة..

عاشقات إلهيات

هذا المقال العلمي هو أكثر ما استقطب اهتمامي ولفت نظري في الكتاب، هو عبارة عن دراسة تاريخية نادرة، عنوانها "قراءة في تاريخ عابدات الإسلام" للباحثة المصرية "أميمة أبوبكر" أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة.

وكما يبدو من عنوان الكتاب فإنه يتناول موضوعا طال تجاهله وإهالة تراب التواريخ الذكورية عليه، ويفتح للقارئ طريقه باتجاه نماذج أنثوية طالما تعرضت للنكران الصريح والتجاهل الذي لا مبرر له غير انتقائية تحكمية قاعدتها حس مشوه بالتفوق الذكوري، ورغبة في نزع كل ميزة أو قدرة "مساواتيه" من المرأة : هذا الكائن الجميل الذي قدر له أن يخضع لقرون طويلة لسيطرة ذكورية قبيحة.

وتقر د.أميمة أبوبكر وهي واحدة من رموز "الحركة النسائية الإسلامية" بأن "هؤلاء العابدات المسلمات، يشكلن قطاعا منسيا أو مهمشا – إلى حد ما – في كتب التاريخ القديمة، وإلى حد كبير، في الأبحاث الحديثة عن علاقة المرأة بالإسلام."

ولو سأل القارئ نفسه أو سأل الباحثة لماذا؟، فسيجد إجابة مباشرة في كل سطور الدراسة تقريبا. هؤلاء العابدات اللواتي تواتر ظهورهن في كل العصور والمجتمعات الإسلامية بدء من العصور الأولى، توصلن إلى حالة من التحرر النفسي من التبعية أو العبودية للرجل بعبوديتهن وتبعيتهن لله وحده. كما بشرن بالمساواة الحقيقية، في المستوى العملي والواقعي، من خلال إصرارهن على "عبور كل المسافات الفاصلة بين إنسانيتهن (أنثويتهن) والله عز وجل.. فنجحن في خلق نموذج وحدوي للعبادة يدني البشر إلى الخالق، ويخلق التقدير المتبادل والتوازن بين الجنسين". كما أنهن "استطعن أن يوجدن مساحة كبيرة من حرية الحركة والسفر والزيارة والتعلم والمشاركة في الحياة الدينية، وأن ينتهجن أنماطا من السلوك والمعيشة، فيها قدر كبير من التحرر من القيود التقليدية على تحركات النساء والاختلاط بالحياة العامة."

لقد أسفرت اعتقادات وممارسات هؤلاء العاشقات المتصوفات عن إرادة أنثوية في غير حاجة إلى سياق إنساني أو اجتماعي ذكوري يبرر لها وجودها المستحق أصلا أو يعطي لها مشروعية منتزعة منها أصلا. وقد أطنبت دراسة "د.أميمة أبوبكر" في سرد الأمثلة الخاصة بالوضعية الدينية والاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية التي تمتع بها متصوفة الإسلام من النساء. أمثلة ونماذج كثيرة وشهيرة وبلا حصر، سأقتصر هنا على ذكر الأبرز أو ما أراه الأبرز منها:

"فاطمة النيسابورية"

وهي متصوفة شهيرة من خراسان هجرت حياة الترف كابنة لأمير بلخ وسلكت طريقة الصوفية، وعرضت نفسها زوجة لصوفي معروف أيضا هو "أحمد بن الخضرويه". وقد عرفت "فاطمة النيسابورية" باجتماعاتها مع كثير من متصوفة عصرها والمشاهير منهم مثل ذي النون المصري الذي قالت له بعد أن رفض هدية منها (لكونها امرأة!) :

"إن الصوفي الحقيقي لا ينظر بعين الاعتبار، إلى الأسباب الثانوية في هذه الحياة (أي إلى المصدر الدنيوي للهدية) ولكن إلى العاطي الأوحد للكل سواء، والمتعال عن الجميع – الله عز وجل"

العاطي الأوحد للكل سواء..يا الله!!

ويؤثر عن "ذو النون" قوله في "فاطمة النيسابورية" : "ولية من أولياء الله – عز وجل – وهي أستاذي"..

كما يؤثر عنها معالجتها لنظرة أبويزيد البسطامي (المتصوف الشهير) إليها كامرأة، لما أشار أبويزيد أنها تضع الحناء في يديها وسألها عن سبب ذلك، فقالت له إنها كانت تجالسه لأنه كان لا يلحظ منها غير الروح أما الآن وقد بدأ ينظر إليها كامرأة ذات زينة فقد حرمت نفسها على الاجتماع به. ويؤثر عنها – من جهة أخرى - معالجتها لغيرة زوجها من محاوراتها واجتماعها بأبي يزيد البسطامي، إذ شرحت لزوجها اختلاف قربها منه الذي يثير عشقها وهواها عن اقتراب أبويزيد معها على نهج الطريقة.

كان ذلك بالطبع – كما تقول الباحثة – إصرارا من "فاطمة" على الارتقاء بالبسطامي وزوجها معا إلى مستوى آخر من التفاعل والتعامل بين الرجال والنساء.

أما النموذج الثاني، الذي أقتصر عليه هنا، فهو نموذج "السيدة نفيسة ابنة الحسن حفيدة الإمام علي ابن طالب". وكان متداولا تردد الصوفية من الرجال والنساء عليها، وكان منهم مشاهير مثل "بشر بن الحارث" و"الإمام الشافعي" الذي تذكر عنه المصادر أنه كان "يعتقدها ويزورها وكان يصلي بها ويتأدب في مجالستها هو وتلاميذه غاية التأدب".

وللسيدة نفيسة مواجهة مشهورة مع "أحمد بن طولون" حاكم مصر، عندما استغاث بها الناس وشكوا لها من ظلمه، فوقفت ذات يوم في طريق ركبه ومعها رقاع بها مظالم الناس، فأوقفته وخاطبته متهمة إياه بالقهر والعسف وقطع الأرزاق، وقيل أنه عدل وصلح حاله بعد هذه المواجهة لوقت طويل.

وتسترسل دراسة "د.أميمة أبوبكر" طويلا في حشد الأمثلة والنماذج لهؤلاء العاشقات الإلهيات، وتلاحظ أنهن ملن بتصوفهن من الممارسة النظرية (الفكر والفلسفة الصوفية) إلى الممارسة العملية (الزهد والوعظ والعبادة). دون أن يقلل هذا الميل العام من دور هؤلاء العابدات في الانتقال بالتصوف من ممارسات الزهد والتقشف والوعظ إلى نظرية الحب الإلهي، وهو دور كبير ومشهود. قامت فيه العابدة الشهيرة "رابعة العدوية بالدور الرئيسي حيث كانت "أول من انتقل بالروحانية الإسلامية من مرحلة الزهد الوعظي والتقشف فقط إلى مفهوم العشق الإلهي الخالص". وهي النتيجة المستقرة التي توصل إليها الباحثون والباحثات بعامة في مجال التصوف الإسلامي.

نكران التاريخ

لعب التاريخ الذكوري دورا مشوها في التنكير والتجهيل على هؤلاء العاشقات الصوفيات المسلمات، تم ذلك في معظم الأحيان بصورة واعية نابعة من عقلية تدني من مرتبة المرأة ككائن وتقلل من شأنها وتزري بإنسانيتها. وتم أحيانا أخرى بصورة لاواعية نبعت من جهل معظم الدارسين والمهتمين والقارئين للتاريخ الصوفي الإسلامي بدور المرأة في هذا الميدان.

ومثالا لهذا التجهيل التاريخي المتعمد تنقل الدراسة عبارات من هذا النوع المزري بشأن المرأة من مصادر التاريخ القديمة الخاصة بالتصوف، مثل قول ابن الجوزي : "إن ذكر العابدات مع قصور الأنوثية يوثب المقصر من الذكور". وهو قول يحسر دور المرأة المتصوفة مع قلة شأنها في تحفيز الذكر المتصوف لبلوغ ما تقصر عنه المرأة قصورا طبيعيا بحكم طبيعتها (من وجهة نظر ابن الجوزي طبعا). وقول آخر لأبو حامد الغزالي حيث يؤنب نفسه ويأتي فيه : "يا نفس استنكفي أن تكوني أقل من امرأة، فأخسس برجل يقصر عن امرأة في أمر دينها ودنياها". وهو قول تبلغ فيه العنجهية الذكورية والتمييز ضد المرأة على السواء مبلغا منفرا.

أما عن المصادر التاريخية الحديثة فحدث ولا حرج، فمن تجاهل واضح وإهمال علمي وتقصير في البحث عن تواريخ هؤلاء العابدات المسلمات بتأثيرهن الكبير على مدارات وأفاق التصوف الإسلامي إلى محاولات صريحة لإخفاء هذا الدور وتحرج واضح من ذكره ومحاولة لتشويهه. وكنموذج لهذه النوعية من الدراسات تورد الباحثة "د.أميمة أبوبكر" ملاحظات على موسوعة "أعلام النساء" للباحث "عمر رضا" والتي حاولت التعمية على ظهور المرأة اللافت وعلى أهمية دورها كمتصوفة والتقليل منه بوسائل تقارب التزييف العلمي: مثلا عند عرض الباحث لترجمة السيدة نفيسة رضي الله عنها، وهو يكتب عن صلاة الإمام الشافعي بها، فإنه يدس على الخبر الأصلي كلمة "ربما"، على الرغم من أن الخبر صريح ومؤكد بعدم وجود أي نبرة شك في المصادر الأصلية للخبر. كما يضيف الباحث – مثلا – كلمة "من وراء حجاب" عندما يذكر أن الأمام الشافعي جالس المتصوفة وكلمها، وهو ما ليس تاريخيا ولا حقيقيا ولا ترد بشأنه أخبار في المصادر الأصلية.

وفيما تنبؤنا مصادر التاريخ الأصلية بأسماء متصوفات كثيرات في أنحاء مصر والشام واليمن والجزيرة العربية والعراق وفلسطين وبلاد فارس وخراسان ونيسابور، لا نجد ذكرا في هذه المصادر لسير حياة هؤلاء المتصوفات ولا أقوالهن ولا حتى اهتماما بإثبات تواريخ ميلادهن ووفاتهن شأن المعتاد في تراجم المتصوفة والمشاهير عموما من الرجال. وفيما تذكر هذه المصادر أخبارا عن كتب متداولة ألفتها هؤلاء المتصوفات فلا تحتفظ لنا مكتباتنا العامرة بالذكورية بواحد من هذه الكتب التي كان يمكنها أن تلقي ضوء غنيا على تجربة المرأة المسلمة في التصوف إبان هذه العصور الماضية.

تحرر الصوفيات

يؤثر عن العاشقات الإلهيات الكثر من الممارسات التحررية التي لم تكن تتناقض مع وضع المرأة في المجتمعات الإسلامية المتحضرة، ولا تتناقض بالطبع مع التقدير الكبير والتحرر الذي حمله الإسلام للمرأة. من أمثلة هذه الممارسات المتحررة إقامة بعضهن واعتكافهن أياما في المساجد، والجهر بالعبادة والمناجاة والدعاء بصوت مسموع، وإقامتهن حلقات الدرس والنقاش التي يتردد عليها الزهاد والمريدين، وتصديهن للوعظ والإرشاد والفتوى في الفقه تروج فيه أقوالهن ويحفظها الناس، وحواراتهن الشهيرة مع أقطاب التصوف في عصرهن، و"مواظبتهن على حلق الذكور" ومجالسهم..إلخ...كل ذلك، ورغم ذلك، تظل فكرتنا الحالية الجامدة عن الفصل بين الجنسين ومنع الاختلاط بينهما - كظاهرة في عصور الإسلام الأولى – فكرة ذائعة ومنتشرة وتحظى بالقبول لدى شريحة عريضة من عامة المسلمين وخاصتهم!!.

الحقيقة أنه كان لابد للظلامية والرجعية والانغلاق والذكورية المتخلفة التي وضعت نصب أعينها دوما هدف استضعاف المرأة وغمط حقوقها وإعادتها إلى حرملكها المندثر – كان لابد أن تمارس هذه الرجعية تعتيما كبيرا على تاريخ هؤلاء المعلمات الروحيات اللاوتي أثبتن بتجربتهن التاريخية العظيمة أن مكان المرأة اللائق بها - شأنها شأن الرجل - كان دائما هو الحياة..الحياة بمختلف مجالاتها.. وليس البيت فقط.

تم تعديل بواسطة أثر الطائر
رابط هذا التعليق
شارك

الكتاب : المرأة والمرآة – رؤية لواقع المرأة المعاصر

تحرير : هنرييته هينش

الناشر : مكتبة الأسرة – 2010

"الإنسانية تجمع الذكر والأنثى، الذكورية والأنثوية عرضان ليسا من حقائق الإنسانية"

الإمام الأكبر محيى الدين بن عربي

looking-in-mirror.jpg

قبل حبك كنت ذكوريا..

تمهيد شخصي للقارئ غير المهتم أن يتجاوزه

ما إن تقال أو تكتب كلمة "مرأة" حتى يتجدد حضور صورتك – الحاضرة أبدا – في مخيلتي.. فأصبحت لا أرى كتابا بعنوان أو محتوى يشير إلى "المرأة" إلا وثارت عواصف الشغف - ومن بينها شغفي الذهني - بك وبها وبه، وأحببت أن أقرأه حتى أعرف المزيد عن هذه "المرأة"..أنت بذاتك..فأعرف المزيد عن ذاتك.

وقد كشف لي هذا الطارئ في حبك وحياتي، في ذهنيتي وتعاملي مع الكتب، وبعاداتي في القراءة، أمرا أخطر منه. وهو أنني كنت، بمعنى أكيدا، قارئا ذكوريا. لم أكن أحبذ كثيرا قراءة كتب تتصل بالمرأة أو في مجالات قضاياها أو همومها أو مشاكلها. وهو ما يعطي انطباعا بوجود حالة من الاستخفاف أو الإهمال كانت لدي بشئون المرأة، وكان منبعها الشعور بعدم الاهتمام أو الاعتقاد بعدم الجدوى في معرفة أو ثقافة ذات طابع أنثوي أو نسوي. ولم يكن ذلك كله محسوسا ومتضحا في تصوراتي، لكنه كان أمرا خفيا لا يحس و"تقليديا اعتياديا" أمارسه بلا تفكير فيه أو ملاحظة له من جانبي. هذه "التقليدية الاعتيادية" في ممارستي إهمال قضايا المرأة والقراءة عن شئونها الإنسانية هي ما تلفت النظر إلى خطورة "أمراض الذكورية" ذات القواعد المستقرة منذ قرون طويلة مضت، أمراض وظواهر مرضية منتشرة في مجتمعنا بل مجتمعاتنا البشرية، وهي إذ تضرب بجذورها في كل أنحاء الجسم الاجتماعي فإنها تفعل ذلك بخفاء سرطاني في أحيان كثيرة، وهو ما يجعل من اكتشافها أمرا صعبا، قبل ظهور أعراض قوية جدا لها أو تفجر كوارث شخصية أو إنسانية واجتماعية ناتجة من جراء وجودها وانتشارها.

لكن، نحمد الله، "داء الذكورية" من الأمراض التي أصبحت معروفة في المجتمع المصري، والتي يشار لها بالبنان أينما ظهرت أعراضه أو بدت ظواهره، ورغم هذا، لا يسلم من الإصابة به الكثيرون ممن لا يدرون بمرضهم عادة، ولا يسلم من الإصابة به الكثيرون ممن يعتبرون أنفسهم أعداء تقليديين له، أو يعتبرون أنفسهم من الأنصار التقليديين للمرأة وقضاياها.. أنا كنت واحدا من هؤلاء..ولم أعد..بفضلك..بفضل حبك

المرأة والمرآة

يضم الكتاب مجموعة محدودة من المقالات لا تزيد عن السبعة، لسبع نساء مهتمات بقضايا المرأة من منظورات فكرية وثقافية وواقعية مختلفة، وفي بلدان مختلفة حول العالم، ومن ثقافات بشرية مختلفة أيضا، وجلهن من الأسماء غير المشهورة للقارئ العام، وهو ما يعطي الكتاب تثمنيا أعلى لدى قارئه، هذه الأسماء هي : زينة أنوار – ماليزيا، كاترين كلاوسينج – ألمانية مقيمة في مصر، أميمة أبوبكر – مصر، دعد موسى – سوريا، جميلة سيوري – المغرب، وندي ماكلروي – أمريكا، فرانسيس كاندال – جنوب أفريقيا

وللحق فإن الكتاب يتناول قضية المرأة من منظورات شديدة التنوع رغم محدودية مقالاته، كما أن به كما معلوماتيا قد يكون مرضيا لقارئ حديث التعرف أو القراءة في مجال قضايا المرأة، خصوصا الباب القانوني الذي سأبدأ به - رغم تأخره في فصول الكتاب - لما يتضمنه من معلومات خطيرة تتصل بالتمييز القانوني الصارخ ضد المرأة في بلدان عربية شقيقة.

مقيدة وتابعة ومنتهكة

في مقالة الكاتبة والناشطة الحقوقية "دعد موسى" يأتي استعراض سريع وواف للوضع القانوني الذي تناضل ضده النساء في سوريا. في هذا السياق تورد "دعد" كما مفزعا من المواد القوانينة الجائرة – ولنقل الرجعية المتخلفة أيضا – التي تستهدف تحجيم الوجود الأنثوي في المجتمع أو تهميشه لصالح سيطرة الذكورة وتسييدها وتغليبها في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها.

فبالنسبة مثلا لقانون الجنسية ينص القانون على أنه (يعتبر عربيا سوريا حكما : من ولد في القطر أو خارجه من والد عربي سوري)!. مما يعطي الحق للوالد السوري في منح جنسيته لأولاده لو كانوا من امرأة أجنبية بينما تحرم المرأة من هذا الحق ويعامل أولادها معاملة الأجانب!

وفي قانون العقوبات تؤكد "دعد موسى" أنه "لا تتوفر حماية قانونية للنساء العاملات في قوانين العمل في حال تعرضهن للتمييز أو العنف أو التحرش في أماكن العمل ولا توجد إجراءات قانونية لمعاقبة مرتكبي هذه الأفعال"!

كما تورد طائفة من المواد تدور حول "الاغتصاب الزوجي المباح قانونا"! و"زواج ضحايا العنف من مرتكب الجريمة والتي توقف الملاحقة وتنفيذ العقوبة وتبرير ارتكاب هذه الجرائم باسم الشرف"!

أما في قانون الأحوال الشخصية فيثبت المقال ما يتسم به هذا القانون من تمييز واضح ولا علاقة فعلية له بالشريعة الإسلامية التي أعطت المرأة لأول مرة في التاريخ ربما حقوقها. حول المادة القانونية التي تنظم الشهادة على عقد الزواج.."لا تقبل شهادة النساء أبدا وتعتبر المرأة نصف رجل وبالمقابل لا تعتبر أربعة نساء مساوية لرجلين، حيث لا تقبل شهادة النساء وحدهم على عقد الزواج. وليس هذا فحسب، بل إنه لا يتحقق نصاب الشهادة ولو تقدمت عشر نساء فلابد أن يكون هناك رجل بين الشهود"!!

وتورد "دعد موسى" ما يتصل من المواد القانونية بإباحة زواج الأطفال من الفتيات في سن الثالثة عشرة!. كما تورد موادا تعطي للولي على المرأة حق أن يشارك المرأة حقها في اختيار الزوج إذ تعطيه "حق فسخ الزواج الحاصل دون إذنه لعدم الكفاءة"!. وتضيف إلى ذلك "حق الطلاق الإداري" الممنوح للرجل بدون قيد ولا شرط، وهو طلاق لا يحتاج إلى رأي الزوجة، ولا تملك هي منعه، و هو حق للزوج "بإرادة منفردة وبدون سبب مشروع"!

وإذا كانت السورية "دعد موسى" قد عرضت الوجه القبيح والسلبي من قضية التمييز ضد المرأة فإن الكاتبة والناشطة الحقوقية المغربية "جميله سيوري" تعرض الوجه الإيجابي المشرق للقضية وهو المطالب التي تجسد يقظة المجتمع المغربي وحركاته النسوية المطالبة بمساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات، وتلخص "سيوري" هذه المطالب في مقالها بصورة عامة في :

1- إقرار مبدأ المساواة بين الزوجين في لاقانون

2- تحديد سن الزواج في 18 سنة بالنسبة للجنسين

3- التأسيس لمبدأ الطلاق بالتراضي وإخضاعه لمراقبة القضاء والاعتراف بمبرر الضرر المعنوي

4- المساواة بين الأحفاد ذكورا كانوا أو إناثا من جهة الأم في الاستفادة من حضة الإرث

5- توحيد سن الحضانة في 15 سنة

6- التقييد الصارم لتعدد الزوجات

7- إقرار حقوق الطفل طبقا للاتفاقية الدولية لحقوق الطفل

8- تبسيط الإجراءات

9- تنظيم تدبير الممتلكات المكتسبة من قبل الزوجين خلال الحياة الزوجية

10- اعتماد الاتفاقيات الدولية بالنسبة للمرأة والطفل

11- التشريع لأسرة التعاون ومسئولية الزوجين المشتركة في رعاية الأسرة والقيام بشئونها

في الواقع، هي مطالب لا يمكن التشكيك في عدالتها، كما لا يمكن المجادلة في أنها تصلح في مجملها مكونا ثابتا من المكونات المطلبية للمرأة العربية بعامة..

عاشقات إلهيات

هذا المقال العلمي هو أكثر ما استقطب اهتمامي ولفت نظري في الكتاب، هو عبارة عن دراسة تاريخية نادرة، عنوانها "قراءة في تاريخ عابدات الإسلام" للباحثة المصرية "أميمة أبوبكر" أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة.

وكما يبدو من عنوان الكتاب فإنه يتناول موضوعا طال تجاهله وإهالة تراب التواريخ الذكورية عليه، ويفتح للقارئ طريقه باتجاه نماذج أنثوية طالما تعرضت للنكران الصريح والتجاهل الذي لا مبرر له غير انتقائية تحكمية قاعدتها حس مشوه بالتفوق الذكوري، ورغبة في نزع كل ميزة أو قدرة "مساواتيه" من المرأة : هذا الكائن الجميل الذي قدر له أن يخضع لقرون طويلة لسيطرة ذكورية قبيحة.

وتقر د.أميمة أبوبكر وهي واحدة من رموز "الحركة النسائية الإسلامية" بأن "هؤلاء العابدات المسلمات، يشكلن قطاعا منسيا أو مهمشا – إلى حد ما – في كتب التاريخ القديمة، وإلى حد كبير، في الأبحاث الحديثة عن علاقة المرأة بالإسلام."

ولو سأل القارئ نفسه أو سأل الباحثة لماذا؟، فسيجد إجابة مباشرة في كل سطور الدراسة تقريبا. هؤلاء العابدات اللواتي تواتر ظهورهن في كل العصور والمجتمعات الإسلامية بدء من العصور الأولى، توصلن إلى حالة من التحرر النفسي من التبعية أو العبودية للرجل بعبوديتهن وتبعيتهن لله وحده. كما بشرن بالمساواة الحقيقية، في المستوى العملي والواقعي، من خلال إصرارهن على "عبور كل المسافات الفاصلة بين إنسانيتهن (أنثويتهن) والله عز وجل.. فنجحن في خلق نموذج وحدوي للعبادة يدني البشر إلى الخالق، ويخلق التقدير المتبادل والتوازن بين الجنسين". كما أنهن "استطعن أن يوجدن مساحة كبيرة من حرية الحركة والسفر والزيارة والتعلم والمشاركة في الحياة الدينية، وأن ينتهجن أنماطا من السلوك والمعيشة، فيها قدر كبير من التحرر من القيود التقليدية على تحركات النساء والاختلاط بالحياة العامة."

لقد أسفرت اعتقادات وممارسات هؤلاء العاشقات المتصوفات عن إرادة أنثوية في غير حاجة إلى سياق إنساني أو اجتماعي ذكوري يبرر لها وجودها المستحق أصلا أو يعطي لها مشروعية منتزعة منها أصلا. وقد أطنبت دراسة "د.أميمة أبوبكر" في سرد الأمثلة الخاصة بالوضعية الدينية والاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية التي تمتع بها متصوفة الإسلام من النساء. أمثلة ونماذج كثيرة وشهيرة وبلا حصر، سأقتصر هنا على ذكر الأبرز أو ما أراه الأبرز منها:

"فاطمة النيسابورية"

وهي متصوفة شهيرة من خراسان هجرت حياة الترف كابنة لأمير بلخ وسلكت طريقة الصوفية، وعرضت نفسها زوجة لصوفي معروف أيضا هو "أحمد بن الخضرويه". وقد عرفت "فاطمة النيسابورية" باجتماعاتها مع كثير من متصوفة عصرها والمشاهير منهم مثل ذي النون المصري الذي قالت له بعد أن رفض هدية منها (لكونها امرأة!) :

"إن الصوفي الحقيقي لا ينظر بعين الاعتبار، إلى الأسباب الثانوية في هذه الحياة (أي إلى المصدر الدنيوي للهدية) ولكن إلى العاطي الأوحد للكل سواء، والمتعال عن الجميع – الله عز وجل"

العاطي الأوحد للكل سواء..يا الله!!

ويؤثر عن "ذو النون" قوله في "فاطمة النيسابورية" : "ولية من أولياء الله – عز وجل – وهي أستاذي"..

كما يؤثر عنها معالجتها لنظرة أبويزيد البسطامي (المتصوف الشهير) إليها كامرأة، لما أشار أبويزيد أنها تضع الحناء في يديها وسألها عن سبب ذلك، فقالت له إنها كانت تجالسه لأنه كان لا يلحظ منها غير الروح أما الآن وقد بدأ ينظر إليها كامرأة ذات زينة فقد حرمت نفسها على الاجتماع به. ويؤثر عنها – من جهة أخرى - معالجتها لغيرة زوجها من محاوراتها واجتماعها بأبي يزيد البسطامي، إذ شرحت لزوجها اختلاف قربها منه الذي يثير عشقها وهواها عن اقتراب أبويزيد معها على نهج الطريقة.

كان ذلك بالطبع – كما تقول الباحثة – إصرارا من "فاطمة" على الارتقاء بالبسطامي وزوجها معا إلى مستوى آخر من التفاعل والتعامل بين الرجال والنساء.

أما النموذج الثاني، الذي أقتصر عليه هنا، فهو نموذج "السيدة نفيسة ابنة الحسن حفيدة الإمام علي ابن طالب". وكان متداولا تردد الصوفية من الرجال والنساء عليها، وكان منهم مشاهير مثل "بشر بن الحارث" و"الإمام الشافعي" الذي تذكر عنه المصادر أنه كان "يعتقدها ويزورها وكان يصلي بها ويتأدب في مجالستها هو وتلاميذه غاية التأدب".

وللسيدة نفيسة مواجهة مشهورة مع "أحمد بن طولون" حاكم مصر، عندما استغاث بها الناس وشكوا لها من ظلمه، فوقفت ذات يوم في طريق ركبه ومعها رقاع بها مظالم الناس، فأوقفته وخاطبته متهمة إياه بالقهر والعسف وقطع الأرزاق، وقيل أنه عدل وصلح حاله بعد هذه المواجهة لوقت طويل.

وتسترسل دراسة "د.أميمة أبوبكر" طويلا في حشد الأمثلة والنماذج لهؤلاء العاشقات الإلهيات، وتلاحظ أنهن ملن بتصوفهن من الممارسة النظرية (الفكر والفلسفة الصوفية) إلى الممارسة العملية (الزهد والوعظ والعبادة). دون أن يقلل هذا الميل العام من دور هؤلاء العابدات في الانتقال بالتصوف من ممارسات الزهد والتقشف والوعظ إلى نظرية الحب الإلهي، وهو دور كبير ومشهود. قامت فيه العابدة الشهيرة "رابعة العدوية بالدور الرئيسي حيث كانت "أول من انتقل بالروحانية الإسلامية من مرحلة الزهد الوعظي والتقشف فقط إلى مفهوم العشق الإلهي الخالص". وهي النتيجة المستقرة التي توصل إليها الباحثون والباحثات بعامة في مجال التصوف الإسلامي.

نكران التاريخ

لعب التاريخ الذكوري دورا مشوها في التنكير والتجهيل على هؤلاء العاشقات الصوفيات المسلمات، تم ذلك في معظم الأحيان بصورة واعية نابعة من عقلية تدني من مرتبة المرأة ككائن وتقلل من شأنها وتزري بإنسانيتها. وتم أحيانا أخرى بصورة لاواعية نبعت من جهل معظم الدارسين والمهتمين والقارئين للتاريخ الصوفي الإسلامي بدور المرأة في هذا الميدان.

ومثالا لهذا التجهيل التاريخي المتعمد تنقل الدراسة عبارات من هذا النوع المزري بشأن المرأة من مصادر التاريخ القديمة الخاصة بالتصوف، مثل قول ابن الجوزي : "إن ذكر العابدات مع قصور الأنوثية يوثب المقصر من الذكور". وهو قول يحسر دور المرأة المتصوفة مع قلة شأنها في تحفيز الذكر المتصوف لبلوغ ما تقصر عنه المرأة قصورا طبيعيا بحكم طبيعتها (من وجهة نظر ابن الجوزي طبعا). وقول آخر لأبو حامد الغزالي حيث يؤنب نفسه ويأتي فيه : "يا نفس استنكفي أن تكوني أقل من امرأة، فأخسس برجل يقصر عن امرأة في أمر دينها ودنياها". وهو قول تبلغ فيه العنجهية الذكورية والتمييز ضد المرأة على السواء مبلغا منفرا.

أما عن المصادر التاريخية الحديثة فحدث ولا حرج، فمن تجاهل واضح وإهمال علمي وتقصير في البحث عن تواريخ هؤلاء العابدات المسلمات بتأثيرهن الكبير على مدارات وأفاق التصوف الإسلامي إلى محاولات صريحة لإخفاء هذا الدور وتحرج واضح من ذكره ومحاولة لتشويهه. وكنموذج لهذه النوعية من الدراسات تورد الباحثة "د.أميمة أبوبكر" ملاحظات على موسوعة "أعلام النساء" للباحث "عمر رضا" والتي حاولت التعمية على ظهور المرأة اللافت وعلى أهمية دورها كمتصوفة والتقليل منه بوسائل تقارب التزييف العلمي: مثلا عند عرض الباحث لترجمة السيدة نفيسة رضي الله عنها، وهو يكتب عن صلاة الإمام الشافعي بها، فإنه يدس على الخبر الأصلي كلمة "ربما"، على الرغم من أن الخبر صريح ومؤكد بعدم وجود أي نبرة شك في المصادر الأصلية للخبر. كما يضيف الباحث – مثلا – كلمة "من وراء حجاب" عندما يذكر أن الأمام الشافعي جالس المتصوفة وكلمها، وهو ما ليس تاريخيا ولا حقيقيا ولا ترد بشأنه أخبار في المصادر الأصلية.

وفيما تنبؤنا مصادر التاريخ الأصلية بأسماء متصوفات كثيرات في أنحاء مصر والشام واليمن والجزيرة العربية والعراق وفلسطين وبلاد فارس وخراسان ونيسابور، لا نجد ذكرا في هذه المصادر لسير حياة هؤلاء المتصوفات ولا أقوالهن ولا حتى اهتماما بإثبات تواريخ ميلادهن ووفاتهن شأن المعتاد في تراجم المتصوفة والمشاهير عموما من الرجال. وفيما تذكر هذه المصادر أخبارا عن كتب متداولة ألفتها هؤلاء المتصوفات فلا تحتفظ لنا مكتباتنا العامرة بالذكورية بواحد من هذه الكتب التي كان يمكنها أن تلقي ضوء غنيا على تجربة المرأة المسلمة في التصوف إبان هذه العصور الماضية.

تحرر الصوفيات

يؤثر عن العاشقات الإلهيات الكثر من الممارسات التحررية التي لم تكن تتناقض مع وضع المرأة في المجتمعات الإسلامية المتحضرة، ولا تتناقض بالطبع مع التقدير الكبير والتحرر الذي حمله الإسلام للمرأة. من أمثلة هذه الممارسات المتحررة إقامة بعضهن واعتكافهن أياما في المساجد، والجهر بالعبادة والمناجاة والدعاء بصوت مسموع، وإقامتهن حلقات الدرس والنقاش التي يتردد عليها الزهاد والمريدين، وتصديهن للوعظ والإرشاد والفتوى في الفقه تروج فيه أقوالهن ويحفظها الناس، وحواراتهن الشهيرة مع أقطاب التصوف في عصرهن، و"مواظبتهن على حلق الذكور" ومجالسهم..إلخ...كل ذلك، ورغم ذلك، تظل فكرتنا الحالية الجامدة عن الفصل بين الجنسين ومنع الاختلاط بينهما - كظاهرة في عصور الإسلام الأولى – فكرة ذائعة ومنتشرة وتحظى بالقبول لدى شريحة عريضة من عامة المسلمين وخاصتهم!!.

الحقيقة أنه كان لابد للظلامية والرجعية والانغلاق والذكورية المتخلفة التي وضعت نصب أعينها دوما هدف استضعاف المرأة وغمط حقوقها وإعادتها إلى حرملكها المندثر – كان لابد أن تمارس هذه الرجعية تعتيما كبيرا على تاريخ هؤلاء المعلمات الروحيات اللاوتي أثبتن بتجربتهن التاريخية العظيمة أن مكان المرأة اللائق بها - شأنها شأن الرجل - كان دائما هو الحياة..الحياة بمختلف مجالاتها.. وليس البيت فقط.

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

استاذي أثر الطائر

المداخلة دي ثرية جدا و تعمدت اني اعيد اقتباسها بالكامل لاجبر نفسي علي قراءتها مرتين متتاليتين

راقني كثيرا عنوان الكتاب

المرأة و المرآة

راقتني فكرة المرآة التي تتيح لمن يقف أمامها أن يتلمس ملامحه و حين تكون مرآة للروح قد تكشف الكثير

استوقفني ان الكاتب "ذكوريا" و لكني أؤمن أن الرجل يعيد اكتشاف "ملامحه" حين يبذل جهدا لقراءة "أنثاه"

راقني في الاقتباس اعلاه ما ذكره الكاتب عن الناسكات الصوفيات...عالم يبدو شديد الثراء و الغموض و الشفافية

شكرا استاذي

و لو تسمح اقترح اقتراح بسيط

بعد عرض الكتاب ممكن حضرتك تستعرض رؤيتك الشخصية لما قرأت؟

لأنك أستاذي ذكرت في عنوان التوبيك"الكتب الأحباب...ما قرأت بعينيك"

فدع عيناك تخبرنا ما قرأت

و لكل منا اسقاطاته و رؤيته فيما يمر عليه من أحرف و كلمات

و لك مني كل التحية

رابط هذا التعليق
شارك

لا أعلم يا صديقي أثرالطائر ماذاعليّ أن أقول بعد قراءتي لمداخلتك؟؟؟

و تأمل قولي

" ماذا عليّ؟؟"

هكذا تربينا كإناث

نحسب حساب كل كلمة

و نعيش في قوائم من المفروض

المفروض أن نقوله

أن نفعله

أن نكونه

حتى لو خالف مشاعرنا و رغباتنا

سنوات طويلة كنت أخجل من كوني أنثى

و أتحاشى الخوض في ذلك حتى بيني و بين نفسي

آثرت دوما انكار الهوية

والالتصاق بالفكر الذكوري طويلا

لطالما ألغيت أنوثتي و أغلقت عليها ألف باب و باب

ظنا مني أنها عارٌ يجب إخفاؤه

التصقت بصورة مثالية عن الفتاة المهذبة التي لا تخالط الرجال فهي وجه الفتنة و هي اللعنة التي يجب أن تحرص ألا تكونها

و لشغفي الفطري بعالم الذكور تنكرت لأنوثتي كي أحصل على إقامة شرعية في عالمكم

اهتممت بعقلي كثيرا

و أهملت عاطفتي و مشاعري طويلا

رقة ... احساس ...مشاعر

هي مفردات حرصت أن أتجنبها تماما

حتى لا أكون فتنة

حتى لا أكون لعنة

حتى الأمومة

كنت أخفيها !!!

نعم

كانت الأمومة بالنسبة لي رد فعل قوي لتجاهلي لكوني أنثى

فكأني كنت أحاول أن أثبت لنفسي ذلك

بتعدد مرات الانجاب بتحدي لكل من ينادي بتنظيم النسل!!!

لا تتعجب

فهناك إناث ذكوريات أكثر من الذكوريين أنفسهم

يجيدون جلد الذات ببراعة

كما جلد غيرهن من الإناث

لا تقهر المرأة إلا امرأة مثلها

قهرتني أمي كثيرا

أكثر بكثير من أبي الذكوري جدا

كانت تحاسبني على النظرة و تعبير الوجه

و الضحكة و حتى الابتسامة

كان رأيها ان كلام المراة كله قابل للتفسير بشكل خاطيء

فالصمت دوما أحرى بها

و البوح جريمة مخلة بالشرف!!!

و أبي احتضنني كما أسطورة بيجميليون

أزعم أني كنت أعتقد أنه يمكنه رؤية الأطياف التي تمر بخيالي

و أنه يقرأني ككتاب مفتوح

وكي أتقرب منه

كنت نسخة منه

أفكر برأسه و أدرك بحواسه

و المزيد المزيد من الغائي لهويتي

مرات كثيرة كنت أتساءل

من أنا؟

و ماذا أكون ؟و ما هي حقيقتي في هذا العالم؟؟؟

لم أجد ملاذا سوى خالقي

ليعيد إليّ توازني

و دائما ما كنت أضع نصب عيني

أن رسولنا الكريم صلوات الله و سلامه عليه كان يأمر الرجال أن يأخذوا نصف دينهم عن الحميراء ( البيضاء المشربة بالحمرة) سيدتي و حبيبتي عائشة رضي الله عنها و أرضاها

و لم يخجل من هذا الوصف لوجهها

هل يجرؤ رجل أن يصف زوجته بذلك امام غيره من الذكور؟؟؟

عالم مختلف عما نعيشه

عالم كان الناس فيه بشر

بلا تصنيفات

لا ذكور و لا إناث

و لكن الواقع الحالي مشوه النظرة جدا

للجميع

لمن تتقرب إلى الله

و لمن تبتعد

أزعم أنني بدأت أفيق

و بدأت أعرف هويتي الحقيقية

و لا أخجل منها

بل أفتخر و أطرب لكوني أنثى

دون أن يصاحب ذلك احاسيس العار و الخطيئة

أشكرك يا صديقي العزيز

أشكرك من كل قلبي

أنار الله لك طريقا إلى الجنة

كما أنارته لي كتاباتك الرائعة والحميمية و الجميلة الرقيقة الغالية عشتار

بارك الله لكما و عليكما

فلكما عليّ من الفضل الكثير

:clappingrose:

أعد شحن طاقتك

حدد وجهتك

و اطلق قواك

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة

×
×
  • أضف...