اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

أصوات البحيرة قصة محمد العشرى


الكاتب

Recommended Posts

...........................................................أصوات البحيرة ............................................................

....جلست في الطريق ، تتلفت بعينيها الزائغتين ، ترصد القادمين ، تدور حول ظلها ، تحاول أن تطبق عليه بقدميها فينفلت هارباً .. تكرر المحاولة .. يقف خلفها كمصارع يتأهب للانفلات من بين قرني الثور ، تمل من المشاكسة ، تطوح يدها في الفراغ ، ترسم حلقة .. حلقتين .. تعيد الدورة للخلف وتدخل في الدوائر الوهمية بحذر ، تضطرب رأسها الأشعث بعنف في كفة يدها ، تغرس أصابعها بين كتل الشعر المتجمد من كثرة التراب المتراكم عليها فتبدو ككتلة حجرية باقية من زمن الإغريق .

تمد يدها لأول قادم في الطريق .. يتجنبها .. يفتح المسافة بين قدميه .. تمسك ملابسه .. يتأفف بصوت مزمجر .. يناولها ورقة مالية حتى يتخلص من لزوجتها .. صارت وطواطاً يخيف المارة .. تفرد الورقة بين أصابعها وتصوبها تجاه الشمس ، تبدو وكأنها تختبرها ، تمسكها بأسنانها ، ويداها نائمتان خلف ظهرها ، تسحبها بلسانها .. تمضغها .. تبصقها .. تجلس باكية ، ورأسها منكس بين ركبتيها ..

يرفرف حول أذنيها صوت قادم من نهاية البحيرة يسكتها عن البكاء .. تقف .. تفرد بصرها على طول الساحل الممتد ، وتفرح شيئاً فشيئاً كلما دخل الصوت في طور أكبر للنمو .. جرت تجاه الماء .

رأت سمكة بيضاء تخرج من نقطة التقاء السماء بوجه الماء ، وابتسامة تتكون رغماً عنها على إحدى وجنتيها ، تعجبت من تقبيل السماء للماء في وضح النهار بدون خجل ، أشارت إلي فمها .. غبت من الماء بيدها ورشته أمامها .. والماء فرح ، حملته النشوة في كرات ضربت خد السماء بلطف ونامت ملتذة بتفككها إلي رذاذ .. تكبر السمكة البيضاء ، يجذبها الماء رويداً رويداً ، يفتح الهوة بينها وبين سقف البحيرة ، ومع اقترابها تتحول إلي شراع لأول مركب قادم من تحت الماء ، وأصوات الصيادين تدفع بأشرعة المراكب نحو الشاطئ ، والمرأة تبتهل باكتمال ذلك الصوت في أذنيها .. تتحرك تجاه الماء .. تضربه بقدميها .. تُنيم غاب البوص وهى تشق الماء باندفاعها ، وعصافير الكناري تسد عليها الطريق ، تدخل إلي الماء مسرعة فيغطيها إلي نصفها السفلي ، عندئذ يناديها صوت من بعيد :

- ارجعي يا أم جابر !

لكنها لا تهتم بالمنادى ، تواصل شق مجراها ، فيندفع وراءها أحد الرجال ويعود بها إلي الشاطئ ، فتستلقي وبصرها يسحب السماء إلي وجهها .

تقترب المراكب في شكل بهيج ، شراع في الأمام وثلاثة في الخلف في صف يملأ وجه البحيرة بابتسامات الصيادين فيتلألأ تحت أشعة الشمس .

تتراقص الأشرعة بين تقلب النوات ، من شمالي إلي جنوبي ، ومن شرقي إلي غربي ، ثم ما يلبث أن ينقلب الحال سريعاً ، والشمس تضحك وهى ذاهبة إلي نومها فوق سرير البحيرة.

من بعيد تبدو الطيور وهى تصاحب الصيادين ، تلتف حول الأشرعة ، تطير في حلقات منتظمة وأصواتها تنساب بين العيون وترسم طيفاً غسقياً ، ينسج قوس قزح بين الصواري ، ويسقط الطائر تلو الآخر ، ثاقباً شبكة الماء فيغمره مد الموج ويخفيه ، وعند انحسار المد يعود صاعداً من نقطة أخرى ، والشبع يملأ وجهه ، سريعاً يدخل حلبة الرقص في سربه .

الصيادون منهمكون بتخليص باقي الأسماك المحبوسة في الشباك ، يجمعونها في بطون مراكبهم ، وهم يفرقون بين أنواع الأسماك ، كل حسب جنسه وسنه وقدرته على المراوغة والقفز من بين جانبي المركب ، حتى نامت الشمس وحارس السماء يصعد من الجهة الأخرى للبحيرة ويرسل عينه كمشكاة في كل متسع ، فتصطدم بوجه الماء وترتد لتنير ليل الصيادين بملاءة بيضاء تشتبك بالأشرعة فتحملها تجاه الشاطئ .

الرجال يلقون الحبال ، يطوون الأشرعة ، يتساقطون خلف المراكب ، ويدفعونها من الخلف تجاه البر فتصعد للراحة ووجهها الملامس للماء يهتز بين أيديهم ، فتنام منتشية بدفء الرمال .

المرأة تشارك الرجال في حمل طاولات الأسماك على رؤوسهم ، يجمعونها على البر ، تركتهم سريعاً ملقية بما فوق رأسها ، تحركت بينهم ، متفرسة في وجوههم ذهاباً وإياباً .. لا تثبت قدماها أن تهوى ساقطة ومتكومة على حزنها وعلى الوجه الذي لم تجده بينهم .

التف حولها رجلان ، حملاها وذهبا بها تجاه مسكنها بجانب البحيرة في غرفة متآكلة الجدران والملح يرسم نفسه بلون واضح في جذورها . أدخلاها وعادا إلي الصيادين المندمجين بحمل الطاولات إلي المتاجر لطرح الأسماك في الأسواق ، فجر اليوم التالي .

فتحت المرأة شباكها المطل عليهم ، تناولت الكبريت ، أسرجت لمبة الجاز ، ثبتتها في الحائط ، وهى هادئة ، عكس ما كانت عليه في نهارها ، بدأت تحدث نفسها وهى نائمة على جوال فارغ :

.. الليل طويل .. البحر غادر .. الموج عال ..

.. السمك بيهرب للشبك .. الحوت كبير يقلب سفينة ..

.. الليل طويل .. وجابر هناك في قلب المحيط ..

تاهت من وجهها الكلمات ، نامت .

حط الفجر على شباكها ورائحة البحيرة تغرس شبورة رمادية فوق البيوت وتمزق الليل .

خرج الأطفال مع الصبح وهو يفرد ذراعيه ، يلعبون حول الماء ، يقذفون بابها بأصداف المحار الفارغة ، قال أحدهم :

- يا أولاد ممكن يرجع جابر من بطن القرش ويضربنا !

كف الأولاد عنها ، اندمجوا في لعبهم وصيحاتهم تنطلق عالية ، ينادون بعضهم . غافلهم أحدهم ، ذهب تجاه شباكها ، تسلق الجدار ، ألقى رأسه داخل الغرفة فاصدمت عيناه بعينيها فجأة ، سبها وولى هارباً ، فاندفع الأطفال وراءه كالصواريخ .

خرجت تجرى خلفهم وتهذي ، تخيف المارة حيناً ، وحيناً تهدأ .. تنتظر القادم مع مد الموج .

روايات محمد العشرى

http://ashrynovels.siteatnet.com

روايات محمد العشرى

http://ashrynovels.siteatnet.com

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...