اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

استمرار انحطاط المسلمين: العقلانية الأخلاقية المفقودة؟ (3/3) د. معتز بالله عبد الفتاح


Ghada Fayek

Recommended Posts

الوفد 4 ديسمبر 2007

استمرار انحطاط المسلمين: العقلانية الأخلاقية المفقودة؟ (3/3)

د. معتز بالله عبد الفتاح

كلية الاقتصاد، جامعة القاهرة

WWW.ALADL.NET

هذه مقالة صعبة، ولكنها ضرورية إن كنا جادين في فهم لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا. فلو شئنا أن نبحث عن قاسم مشترك بين أسباب تراجع المسلمين في محطاتهم السبع الكبرى التي أشرت إليها في مقالي الأسبوعين الماضيين لقلت، ومع افتراض أن كل ذي رأي وكل صاحب سلطة كان يهدف إلى تحقيق مصلحة ما ارتآها في حينه، إن القاسم المشترك بين عوامل تراجع المسلمين هو غياب "العقلانية الأخلاقية" عن كثير من القرارات التي اتخذت في حينها.

وحتى لا نذهب بعيدا في التجريد الفلسفي، رغما عن ضرورته، فيمكن فهم العقلانية على أنها مفهوم فلسفي ومنطقي وعلمي يقوم على أساس حساب عوائد وتكلفة البدائل المتاحة أمام كل صانع قرار (حتى على المستوى الشخصي) ليس على أساس أن الحياة مباراة أحادية الجانب (one side game) ولكن على أساس أن هناك ردود أفعال للآخرين بعضها حال وبعضها محتمل، بعضها مقصود وبعضها غير مقصود. والحسابات العقلانية هي التي تقتضي أن يكون صانع القرار، كل في مجتمعه وبيئته، على وعي بحتمية أن يتأمل نتائج قراراته كمخرجات مباشرة (outputs)، ونتائج لاحقة (outcomes) وآثار غير مقصودة (unintended consequences) ليس من أجل أن يتحكم في كل هذه العواقب ولكن كي يكون مستعدا لمواجهتها بما يتناسب معها.

ووصف العقلانية بأنها أخلاقية يقتضي فهم هذه العقلانية في إطار من الصالح العام. فهي ليست عقلانية أنانية تؤدي إلى منطق مصلحتي المباشرة ومن ورائي الطوفان. فهذه العقلانية الأنانية والتي وصفت في الغرب باسم البرجماتية وأهم تخريجاتها الرأسمالية غير الليبرالية (أو المتوحشة) وفقا للدكتور رمزي زكي، كانت لحد بعيد حاضرة في تاريخنا، كانت حاضرة حينما نغلب صالح الفرد أو القبيلة أو الشلة على صالح المجتمع والدولة والأمة عربية كانت أو مسلمة.

فمثلا يشير د. جابر الأنصاري، المفكر البحريني المهم، إلى أن الإسلام دعا إلى تجاوز القبلية وغيرها من العصبيات حتى تكون قرارتنا عادلة أي أخلاقية "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كانا ذا قربى" وقالها الرسول العظيم عن العصبية القبلية أو الشللية: "دعوها فإنها منتنة"، لكن هذه العصبية الأسرية والقبلية والشللية بقيت وأعاقت تطور الحضارة الإسلامية ذاتها وفي ظهور مختلف الفرق والمذاهب نلاحظ شبح العشيرة خلفها! يقول الدكتور الأنصاري: في تفسير تاريخنا العربي الإسلامي: فتش عن العشيرة! هناك قبائل ظلت (عاتبة على ربها) لأنه اختار نبيه من قريش! .. وفكر (الخوارج) تقف وراءه عشائر شرق الجزيرة في رفضها للدولة، التي كانت تقودها قريش. وضمن بني هاشم بلغ الصراع المذهبي ذروته وفتك العباسيون بأبناء عمومتهم من الأمويين رغما عن أنهم جميعا يصلون. ومن هنا كان الصراع على من يحكم وليس كيف يكون الحكم وبأي سياسات وفي أي اتجاه.

إذن القرار اللاأخلاقي هو القرار الذي يتخذ من أجل مصلحة ضيقة، وليس تحقيقا للصالح العام.

وعلى هذا يتصور الإنسان نظريا أن القرارت يمكن أن تكون على حال من أربعة أحوال: إما قرار عقلاني أخلاقي، أو قرار عقلاني لا أخلاقي، أو قرار لا عقلاني أخلاقي، أو قرار لا عقلاني لا أخلاقي. وستكون هذه الأحوال موضوع مقالة قادمة إن شاء الله.

لكن المهم في هذا الصدد أننا أبناء الحضارة الإسلامية لسنا بدعا من البشر، فالاشتراكية في أصلها الفلسفي كانت منهجا أخلاقيا بامتياز، لكن تطبيقاتها كانت شديدة البعد عن العقلانية في افتراضاتها بشأن خيرية البشر وثقتها المبالغة فيها في قدرة جهاز الدولة على تحقيق الكفاءة الاقتصادية مع العدالة الاجتماعية.

والمعضلة الأكبر في تاريخنا أن معظم قراراتنا الكبرى غاب عنها أحد البعدين: إما الشق الأخلاقي أو الشق العقلاني.

ولنأخذ واحدة من هزائمنا المعاصرة على سبيل التقريب، فهل كان من العقلانية في حربنا مع إسرائيل في عام 1967، أن نتبنى منطق التصعيد دون المبادرة بالحرب؟ لن أشكك في أخلاقية أهداف عبد الناصر من أنه أراد مصلحة الأمة العربية، رغما عن أنه لاحقا لام الصحفيين والإعلاميين العرب الذين أحرجوه واضطروه للتصعيد على حد قوله بما يشكك في الهدف من وراء التصعيد هل هو صالح الأمة العربية أم الحفاظ على شعبيته كزعيم، لكن ما يستحق النقاش فعلا هو مدى عقلانية القرارين السياسي والعسكري بأن يصل بالأمور لدرجة الغليان السياسي ثم ينتظر من إسرائيل الضربة الأولى. وهو كرجل عسكري كان ينبغي أن يعرف مخاطر الضربة الأولى. وحتى لو كان قد خدع، فما هي صلاحية هذه القيادات التي يمكن أن تخدع بهذه السهولة؟ وتكون الإجابة أنه قد خدع من قبل أقوى دولة في العالم وحليفتها، ويكون السؤال، لماذا لم يتحسب لقوتهما قبل أن يقدم على فعل التصعيد؟ إذن عقلانية القرارات (أي تبصر عواقبها) لا تقل في أهميتها عن أخلاقيتها (أي حرصها على الصالح العام). ومن هنا وصلت الدول الأكثر تقدما إلى قواعد الحكم الرشيد التي تجمع بين الجانبين: الديمقراطية الليبرالية التي تضمن حدا أدنى من أخلاقية القرارات السياسية والاجتماعية من ناحية، والمناهج العلمية (العقلانية) في تحديد الأهداف، ورصد المشكلات، وتجميع المعلومات، وطرح البدائل، ومناقشة مكاسب وخسائر كل بديل، ثم اتخاذ القرار، ومتابعة تنفيذه والاستعداد بتحمل المسئولية عنه وتصحيحه على ضوء أي معلومات جديدة ترد.

وبالعودة إلى المحطات الكبرى في انحطاط المسلمين سنجد غيابا لمثل هذه العقلانية الأخلاقية.

لقد ضاع من المسلمين في تاريخهم الكثير مما كان يحمله المصطلحان: فعلى مستوى العقلانية لم توصف كثير من القرارات التي اتخذت بحسابات المكسب والخسارة، وعلى مستوى الآخلاق، لم تكن الكثير من هذه القرارات من أجل الصالح العام، ولنأخذ مثالا قرار معاوية بناء على نصيحة المغيرة بن شعبة بأن يجعل الخلافة في يزيد رغما عن عدم أهليته لقيادة المسلمين من بعده، رغما عن أن عمر ابن الخطاب رفض الولاية لعبد الله بن عمر قائلا ما معناه: لو كان هذا الأمر (أي الولاية) خيرا، فقد نلنا منه، وإن كان شرا فقد كفى ما كان.

ورغما عن أن الفقه الإسلامي غزير في باب المفاضلة بين درجات المفاسد والمصالح لكنها عند الممارسة ظلت مبادئ انتقائية تستخدم في المحاكم الشرعية وبين فقهاء المسلمين لكنها لم تصل إلى ثقافة عامة تحكم حسابات الساسة وعقول العوام إلا بانتقائية شديدة تدلل على أن العقلانية المقصودة ليست صفة أصيلة وإنما حيلة تستخدم لتحقيق مصالح ضيقة. ورغما عن أن عصر التنوير في أوروبا هو الذي أعاد للعقل وللحسابات الرشيدة مكانتها في العلم والفلسفة والسياسة والاقتصاد إلا أن أفضل تعريف قرأته عن العقلانية لا يعود إليهم وإنما يعود إلينا، حيث يقول فقهاء المسلمين:

"وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع."

وهذا نهج عمري، نسبة إلى عمر بن الخطاب عبقري هذه الأمة الذي لا يبارى، حينما قال: ليس العاقل من عرف الخير من الشر وإنما من عرف خير الشرين، لأن معرفة الخير من الشر قد لا يحتاج حتى عقل إنسان وإنما فطرة سليمة، فالقطة التي تسرق قطعة اللحم تجري بها لأنها تعلم أنها فعلت شرا، أما المفاضل بين صنوف الشر ودرجاته وأنواع الخير ومستوياته مسألة تتطلب عقلانية وحكمة وتبصر في عواقب الأمور بل ومنهج علمي في اتخاذ القرارات بناء على علوم استراتيجية ليس هنا المجال لنقاشها.

ومثل هذا ما ذهب إليه أبو الليبرالية الغربية جون ستيورت ميل حينما وضع المبادئ الأخلاقية نفسها في إطار من المنفعة القائمة على حسابات المكسب والخسارة أي العقلانية، وللتدليل على كلامه ضرب مثلا بأن الصدق فضيلة لا بد أن يتحراها الإنسان ما دام قادرا عليها. ولكن ماذا لو ترتب على الصدق خسائر لا عقلانية ولا أخلاقية تتوارى معها فضيلة الصدق. فلو جاء شخص شاهرا سيفه ليقتل شخصا آخر أنت تعلم مكانه، وسألك عن هذا المطلوب للقتل. فهل من الأخلاق أن تتمسك بالصدق حتى لو ترتب عليه فعل نتيجة لا أخلاقية وهي قتل إنسان؟

فهنا لا بد من المفاضلة بين درجات المبادئ الأخلاقية لأن الكذب الذي ينقذ إنسانا من الموت يمكن أن يكون أفضل من الصدق المفضي إلى إزهاق روح. إذن هي عقلانية أخلاقية تجمع بين سلامة القصد وحسن التدبر.

وسأعطي مثالين سريعين من واقع الناس المعاصر حول خطورة غياب العقلانية، حتى وإن توافرت صفة "الأخلاقية" في قراراتنا. المثال الأول يرتبط برواية آيات شيطانية لسلمان رشدي، تلك الرواية التي طبعت منها إحدى دور النشر البريطانية خمسين ألف نسخة ومن خبرة سلمان رشدي مع رواياته الثلاثة السابقة كان هذا العدد من النسخ يتطلب أربعة أعوام حتى ينفد. إلى أن قرر الإمام الخوميني أن "يدافع عن الإسلام" فأصدر فتواه الشهيرة التي بموجبها أصبح سلمان رشدي مطلوبا للقتل وأصبح كتابه واحدا من أكثر الكتب مبيعا في العالم ووصلت مبيعاته في عام 1990، أي بعد عام من الفتوى الشهيرة للإمام الخوميني إلى 4 مليون نسخة بثماني لغات. أي بدلا من أن الكتاب كان يقرأ بمعدل خمسين ألف نسخة في الأربع سنوات أصبح يقرأ بمعدل 4 مليون نسخة في العام الواحد، ولم تزل الرواية تباع على نطاق واسع حتى الآن، ويالها من خدمة للإسلام!

المثال الثاني المضاد يأتي من خبرة الأباء المؤسسين الخمس وخمسين الذين اختلفوا على الكثير من التفاصيل لكنهم اتفقوا على استخدام المنهج العقلاني في تحقيق الهدف "الأخلاقي" الذي اتفقوا عليه حتى وإن كانت لنا تحفظات على مدى عنصريتهم أو تعمدهم إيذاء غير البيض. فقد ثار بينهم خلاف بشأن من الذي يحق له أن يشارك في الحياة السياسية في الدولة الوليدة.

ونحن نعلم أن قضية المشاركة السياسية مهمة باعتبارها واحد من أهم خصائص الديمقراطية الراسخة، لكن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة ارتأوا آنذاك أنهم لا يبنون "ديمقراطية" للجميع وإنما يبنون "جمهورية" يشارك فيها "العاقل" الذي يستوعب قيمة المشاركة في الحياة السياسية، وقد تتحول جمهوريتهم الناشئة إلى ديمقراطية مفتوحة للجميع لاحقا. وبما أن المرأة لم تكن قد دخلت الحياة العامة بعد، فقد استبعدوا حق المرأة في المشاركة مع تأكيد الكثيرين منهم على أنه من المنطقي للمرأة أن تحصل على حقها في المشاركة السياسية. كما أنهم رفضوا أن تفرض غرامة أو عقوبة على من لا يشارك في الانتخابات، لأنهم اعتبروا أن في ذلك إكراها لغير العقلاء على المشاركة غير العاقلة في الانتخابات. فإذا كان المواطن ليس من العقلانية بأن يدرك أهمية أن يشارك في تحديد من يقود الدولة وفي أي وجهة تتجه، إذن فهو ليس جديرا بأن يشارك في العملية السياسية من الأصل.

وهكذا أقيمت الدولة الأمريكية على أساس تحديد هدف اعتبروه "أخلاقيا" مع الالتزام بالسياسات العقلانية التي تحقق هذا الهدف وبدأوا بتطبيق ذلك على أنفسهم فما قبل أي منهم أن يحكم إلا فترتين متتاليتين كحد أقصى، ولم ير أي منهم أن عليه أن يظل رئيسا ما دام في الصدر نفس يتردد لما في البقاء في المنصب لفترة طويلة من تجميد لشرايين المجتمع وسيطرة الجمود على مؤسساته. ويوم أن قرر نيلسون ماندلا أو مهاتير محمد أو بواكيم شيسانو (الموزامبيقي) أن يتركوا الحكم لغيرهم فقد كان قرارا أخلاقيا بحق وعقلانيا بصدق. وللحديث بقية.

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...