اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

و اشواقاه رسول الله ....


صبح

Recommended Posts

مقدمات سبقت نزول الوحي

تروي السيدة عائشة قصة نزول الوحي ولكن قبل الوحي كانت هناك مقدمات لنزول الوحي فكانت الرؤيا الصادقة من المقدمات التي سبقت الوحي بستة أشهر، فكان صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. وإن كان هذا الأمر غير مُصرِح بأمر الرسالة إلا أنه أمر لافت للنظر.

ولم يكن هذا هو التمهيد الأول، بل كانت هناك مقدمات عديدة عجيبة سبقت الوحي، وقد يرى ذلك وحده، وأحيانا يراها غيره معه، ومن ذلك سلام الحجر عليه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبِعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ.

وهناك حادث أعجب من ذلك، وهو حادث شق الصدر وهذا الحادث ثبت في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان وهذا أمر ثابت جدًا وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شُق صدره وهو غلام وأخرج قلبه واستخرج علقة من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل قلبه في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأم صدر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان أنس بن مالك يرى أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.

وبعض من لا يؤمن بالغيبيات ومن لا يؤمن بقدرة الله عز وجل ينكر هذه القصة أصلًا معتقدًا أن الله غير قادر على ذلك ، ويدعي أنه كان بإمكان الله عز وجل أن يستخرج من قلبه حظ الشيطان دون عملية جراحية.

وكل ذلك نوع من الإعداد والتهيئة والتربية لرسول الله صلى الله عليه وسلم للاستعداد لنزول الوحي.

وكان ذلك أيضًا إعداد وتهيئة لأهل مكة ولجزيرة العرب؛ ليستقبلوا هذا الرسول، فشاع في مكة وفي جزيرة العرب حادث شق صدره صلى الله عليه وسلم؛ ليعلموا أن هذا الإنسان وضعه مختلف عمن سبقوه وأن هذا الرجل له وضع خاص.

ولكن الأهم من ذلك أن هذا الأمر هو في حد ذاته اختبار للمسلمين بعد ذلك بقدرة الله عز وجل.

فمن آمن بأن الملائكة تسطيع أن تنزل إلى الأرض وتعود في لمح البصر، ومن آمن بأن الملائكة تسطيع أن تحمل جبلًا أو تقلب قرية أو غير ذلك، فمن اليسير أن يؤمن بهذه العملية الجراحية الصغيرة التي حدثت في هذا العمق من التاريخ.

والملائكة لا تقوم بهذه الأشياء لقدرة ذاتية فيها، لكن لأن الله عز وجل يريد والله عز وجل قادر على ما يريد.

فالمسألة مسألة إيمان واختبار، فمن كان في قلبه شك فمن الصعب أن يؤمن بهذه القصة وبغيرها كالإسراء والمعراج وشق القمر، أو غير ذلك من الأحداث التي وقعت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.

بدء نزول الوحي

يروي البخاري قصة بدء الوحي عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ:

أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ.

ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ- وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ- قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ.

أي أن الله سبحانه وتعالى دفعه إلى ذلك فكان صلى الله عليه وسلم يخرج فترة معينة من الزمان، قيل أنها شهر وتقريبًا أنه شهر رمضان، يختلي بنفسه يفكر في هذا الكون، وكيف نعبد هذا الإله، العرب بصفة عامة يعرفون أن الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون وهو خالقهم، يقول سبحانه:

[وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ] {لقمان:25} .

ويقول: [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ] {الزُّخرف:87} .

ولكنهم يعبدون هذه الأصنام لتكون لهم شفعاء عند الله كما قال الحق تبارك وتعالى:

[وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ] {يونس:18} .

وليتقربوا بها إلى الله عز وجل كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى عنهم بقوله:

[وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى] {الزُّمر:3} .

لكن الفطرة السليمة تأبى هذه العبادة وكيف يمكن للإنسان أن يسجد لحجر؟! كيف يمكن أن يعتقد أن هذا الحجر يقدم نفعًا أو ضر؟!

وما سجد النبي صلى الله عليه وسلم لصنم في حياته قط.

فكان يعلم أن لهذا الكون خالقًا ولكن لم يكن يعرف كيف يعبده.

[وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى] {الضُّحى:7} .

ومعنى ذلك أنه لم يكن يعرف الطريق المناسبة التي يعبد بها خالق البشر وخالق الكون وخالق السموات والأرض، فهذا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء وهو أنه كان يتفكر في الكون.

خلوة ولكن بغير اعتزال

الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخلو بربه شهرًا في كل عام، ويعتكف في رمضان، أما غير ذلك فكان يخالط الناس على ما بهم من شرور وآثام وإيذاء، يصلح ما بهم وينصح ويغير.

والذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على آذاهم.

كما روى الترمذي وابن ماجه

عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ.

ولكن الحذر كل الحذر من الوقوع معهم في شرهم والاندماج في باطلهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يجلس أبدًا في مجالس اللهو والسمر وأماكن عبادة الأصنام، ولم يكن يشاركهم إلا في فضائل الأعمال مثل بناء الكعبة وحلف الفضول وغيره.

أما الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم هَمّ أن يسمر مع الشباب لما سمع عزفًا، فضرب الله على أذنه فنام، فهو حديث ضعيف ضعفه الحافظ ابن كثير والشيخ الألباني.

فالمسلمون وإن كانوا يخالطون الناس إلا أنهم معزولون عنهم عزلة شعورية كما يسميها سيد قطب في معالم الطريق، فهو وإن كان يعيش معهم بجسده إلا أنه يخالفهم ويفارقهم بعقله وقلبه ومنهجه وما خالطهم إلا لإصلاحهم.

ولو انعزل الصالحون فمن لتعليم الناس، ومن لسد ثغرات المسلمين، ومن لمساعدة الناس، ومن للجهاد ونشر الدعوة.

نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمراحل من التهيئة والإعداد قبل الرسالة من سلام الحجر عليه مرورًا بشق صدره إلى غير ذلك من الإرهاصات التي حدثت معه قبل البعثة في طفولته وشبابه.

لماذا كل هذه التهيئة وكل هذا الإعداد الذي استمر أربعين سنة قد يقال إن الله يعده لحمل الأمانة الثقيلة، ولكن أليس من الممكن أن يعده الله لحمل الأمانة في لحظة واحدة يثبت قلبه فلا يخاف ولا يتردد، ما الحكمة من وراء هذا الإعداد الطويل جدًا؟

إن الله عز وجل يعلمنا أمرًا مهمًا وهو التأني في التربية، التدرج في حمل الناس على ما نريد، حتى ولو كان سيحمل الرسول صلى الله عليه وسلم رسالته، فيحملها له بالتدرج.

التدرج سنة من سنن الله عز وجل في التغيير والإصلاح.

التربية تحتاج إلى تدرج، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى تدرج.

حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون عامًا منها أربعون عاما إعداد للرسول ليتلقى الرسالة، وثلاثة وعشرون سنة ليبلغ الرسالة.

وقد يتمنى البعض أن تكون فترة النبوة أكبر لتكون الاستفادة أكبر وأكبر، لكن كل ما أراده الله منا شرعه لنا وكل المتغيرات التي قد تحدث في حياة الناس وكل الثوابت التي لا يمكن أن يفرطوا فيها حدثت في هذه الفترة الثلاث وعشرين سنة.

لكن لا بد أن تعرف أنك تحتاج إلى وقت ومجهود وتربية وإعداد لتربي فردًا من الممكن أن يحمل هم هذه الأمة الإسلامية. ولقد تربى النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة؛ ليحمل بعد ذلك هَمّ الدعوة، فإذا كان ذلك يحدث مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا معنى للاستعجال في تربية الناس.

فلا بد من فقه هذا الدرس جيدًا وهو التأني في التربية فبعد أربعين سنة في مكة، جاء اليوم الذي سيدخل عليه جبريل عليه السلام وهو في خلوته في غار حراء، جاء جبريل عليه السلام في هذه اللحظة الماجدة الخالدة في تاريخ الأرض، وهذ الموقف لم يحدث على وجه الأرض منذ ستمائة عام فلقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لن يتكرر هذا الموقف حتى يوم القيامة.

دخل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم في هيئة رجل

ودخول رجل على رجل ليس مفزعًا في حد ذاته رغم أن الرجل غريب ولا يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لماذا خاف النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى جبريل عليه السلام.

تعالوا نسمع القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنعلم لما خاف صلى الله عليه وسلم.

تروي عائشة فتقول: فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ.

هكذا بدون مقدمات، ولا سلام، ولا كلام، لم يُعرِّف نفسه، ولم يسأل الرسول عن نفسه، يخاطبه وكأنه يعرفه من زمن، ويقول له: اقرأ. والرسول لا يدري أي شيء يقرأ، فالرسول أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، يقول له: اقرأ. فقال صلى الله عليه وسلم بأدبه الجم،

قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ.

لم يسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ وماذا تريد؟ فهو بهت بدخوله عليه فجأة، وقوله له: اقرأ. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ. ففوجئ برد الفعل الذي أفزع الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الرجل اقترب من الرسول، ثم احتضنه بشدة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم،

قَالَ: فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي (يعني احتضنني)، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ( أي كان الأمر شاقا جدا عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ضعيفًا، بل كان قوي البنية، فمعنى ذلك أن هذا الرجل قوته هائلة)، ثُمَّ أَرْسَلَنِي (تركني).

ثم َقَالَ: اقْرَأْ(المرة الثانية). قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ(المرة الثالثة). فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ.

فقال: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي.

ولكن، لماذا كل ذلك العنف في التبليغ، ذلك ليعلم صلى الله عليه وسلم أنه لا يحلم وأنه يعيش واقعًا حقيقًا وأن الكلام الذي سيقوله الرجل الآن يحتاج إلى تركيز ووعي، لست تحلم يا محمد هذه حقيقة.

فَقَالَ:

[اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ(4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]. {العلق:1: 5}

من هذا الرجل؟ كيف ظهر؟ وكيف اختفى بعد ما قال هذه الكلمات؟ الرسول لا يعلم، والرسول صلى الله عليه وسلم هو أبلغ العرب وأفصحهم، وبالتأكيد أنه عرف منذ اللحظة الأولى أن هذا الكلام ليس من كلام البشر هذا كلام معجز.

وثمة أمر آخر وهو أن هذا الرجل الذي جاءه، يتحدث عن الإله الذي يبحث عنه الرسول منذ زمن، فالرسول يعتكف ويتفكر؛ ليعرف من خالق هذا الكون، فهذا الرجل يتحدث عن الإله الذي خلق والذي يتكرم والذي يعلم...

والرجل لم يخبره عن أي شيء يريده منه، لم يخبره أنه سيصبح رسولًا...

قرأ هذه الكلمات التي لم تسمع من قبل على وجه الأرض، ثم اختفى، تركه وذهب، وكان في كل مرة يغطه حتى بلغ منه الجهد، وفي رواية أنه قال صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي.

كل هذه الأمور أدت إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف جدا ويخشى على نفسه، فذهب يجري إلى بيته قاطعا اعتكافه باحثا عن الأمان...

تقول السيدة عائشة في وصف ذلك الموقف:

فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ.

ولكن لماذا حدث هذا الهلع الشديد وهذا الخوف للنبي صلى الله عليه وسلم؟

أولًا: هو إثبات لبشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، فنفس ذلك الموقف تكرر مع سيدنا موسى عليه السلام، فهو بشر صلى الله عليه وسلم وله كل أحاسيس البشر.

ثانيًا: إثبات عدم انتظار النبي صلى الله عليه وسلم لأمر النبوة، فبمجرد ظهور الرجل واختفائه خاف وجرى.

ثالثًا: هذا الأمر كان بمثابة التشويق والتهيئة والإعداد لما سيأتي بعد ذلك.

فبعد ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج مرارًا إلى الجبال، لعله يقابل ذلك الرجل الذي جاءه في الغار، فأصبح مشتاقًا إلى قدوم جبريل عليه السلام.

وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، تقول السيدة عائشة:

فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

كانت السيدة خديجة تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حبًا لا يوصف، ولم تذكر كتب السيرة مشاحنة واحدة حدثت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين السيدة خديجة رضي الله عنها.

روى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الموقف الغريب الذي حدث له للسيدة خديجة رضي الله عنها وما قيل له من كلمات، ثم قال لخديجة:

لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي.

كان موقف السيدة خديجة يدعو إلى العجب، والاستغراب، فهي لم تخف كعادة النساء أو كطبيعة البشر، بل لم تتعجب أو تتساءل.

وأخذت الأمر بكل بساطة، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقص عليها أمرًا عاديًا، بل قالت له في يقين غريب: كَلَّا، وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.

استنبطت السيدة خديجة أن هذا الرجل صاحب الأخلاق الحميدة لن يخزيه الله أبدا.

وما أشارت السيدة خديجة إلا إلى معاملاته للناس، وخدماته لهم، ولم تشر من قريب أو من بعيد إلى تحنثه وتعبده واعتكافه.

فالمعاملات مع الناس هي المحك الحقيقي لتقييم الإنسان.

والسيدة خديجة تعي دور الزوجة تمامًا، فعملت على تهدئة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مثال الزوجة المؤمنة، فهي سكن ومصدر طمأنينة لزوجها، كما أخبر الله تعالى:

[وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ] {الرُّوم:21} .

ولم تشأ هذه المرأة العاقلة الكاملة أن تترك النبي صلى الله عليه وسلم للأوهام والضلالات، وفضلت أن تذهب إلى أهل العلم والدراية فذهبوا إلى ورقة.

وفي اختيارها ورقة بن نوفل يدل على حكمة ورجاحة عقل هذه المرأة، وعلى فطرتها السليمة النقية، فلم تذهب به إلى كاهن أو خادم للأصنام، ولكن ذهبت به إلى رجل على ديانة السابقين، فكان قد تنصر في الجاهلية.

وفي ذلك رسالة إلى كل شباب الأمة، فإن في اختيار الزوجة الصالحة نقطة محورية في حياة الفرد المسلم، وهذه النقطة هامة في بناء الأمة كلها.

تقول السيدة عائشة:

فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ، حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ. وكان ورقة يعلم أن نبيًا سيخرج في آخر الزمان، وكان ورقة ينتظره، وهذا الأمر يبصرنا بمدى جرم أهل الكتاب، فهم يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق وذلك من خلال كتبهم، ومع ذلك لم يؤمنوا، يقول الله تعالى:

[الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] {البقرة:146} .

فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ (وكان يعرف أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وعرف صفاته): يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى.

يصرح ورقة بن نوفل بأمر في غاية الأهمية، يصرح بأن هذا جبريل عليه السلام، وجبريل لا ينزل إلا على الأنبياء، إذًا محمد صلى الله عليه وسلم أصبح رسول الله.

وتخيل كَمّ الأحاسيس والمشاعر التي جاشت في صدر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسمع هذا الكلام. أيكون الله عز وجل قد اختاره من بين كل الخلق ليكون نبي آخر الزمان.

النبوة ليست مقامًا يصل إليه أحد بالاجتهاد في العبادة، بل هي اختيار واصطفاء من الله عز وجل كما يقول سبحانه:

[اللهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] {الحج:75} .

الرجل الذي جاءه في الغار لم يخبره أنه رسول، وورقة يتكلم معه بثقة ويقين، حيرة وشك وقع فيهما النبي صلى الله عليه وسلم.

ولم يتركه ورقة بل قال له خبرا آخر لم يكن أقل خطرًا من الخبر السابق، فقال: يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا(شابًا) لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟

النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم شيئًا عن الأمم السابقة، وهذا من الإعجاز الواضح؛ لأنه بعد ذلك سيخبر عن هذه الأمم بشيء من التفصيل لا يمكن أن تعرف إلا عن طريق الوحي وفي ذلك يقول الله عز وجل:

[تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ] {هود:49} .

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف معاناة الأنبياء، ولا تكذيب أقوامهم لهم، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ فقَالَ له ورقة بيقين وثبات: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ.

وهذه قاعدة من ورقة لكل داعية فما حمل داعية هذا الدين بصدق إلا عودي، فهذه سنة من سنن الله عز وجل، تدافع الحق والباطل، صراع بين الدين وأعداء الدين، وهذه السنة باقية إلى يوم القيامة، ثم يقول ورقة: وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وقد صدّق بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى قبل التصريح بالرسالة، روى الحاكم عن عائشة بإسناد جيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لَا تَسُبُّوا وَرَقَةَ، فَإِنِّي رَأَيْتُ لَهُ جَنَّةً أَوْ جَنَّتَيْنِ.

مات ورقة، لكنه سطر قاعدة أصيلة خلفته من بعده، ما دام الصراع بين الحق والباطل: ما جاء رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي.

فهذه رسالة إلى كل الدعاة أن هذا هو الطريق...

وبعد كلام ورقة أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتيقن من صحة ذلك الكلام، فهذه قضية ضخمة جدًا وهائلة لا يصح للنبي صلى الله عليه وسلم أن يبني فيها قرارًا أو رأيًا دون تيقن كامل أنه نبي، ولو كان نبيًا فما المطلوب منه إن الرجل الذي جاءه لم يخبره بشيء.

في تلك الأوقات تمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقابل جبريل مرة ثانية، ليؤكد له أمر الرسالة، ويخبره بما يقوم به، لكن مع تعلق قلب الرسول صلى الله عليه وسلم واشتياقه لرؤية جبريل شاء الله أن يفتر الوحي.

واختلف المؤرخون في مدة انقطاع الوحي ولكن في أغلب الظن أنها كانت أيامًا من ثلاثة أيام إلى أربعين يومًا.

كان انقطاع الوحي بمثابة صدمة للنبي صلى الله عليه وسلم فهو لم يتيقن بعد، ويريد أن يتيقن والشك شعور قاتل، كان النبي صلى الله عليه وسلم متوقعًا أنه إذا ذهب إلى الغار سيجد هناك جبريل أو يلقاه في مكان آخر، وكان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الجبال، لعله يلتقي بجبريل، لكن جبريل عليه السلام لم ينزل.

كان هذا التأخر ليزداد النبي صلى الله عليه وسلم اشتياقًا إلى الرسالة، فالرسالة مهمة ثقيلة جدًا يقول سبحانه:

[إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلً] {المزمل:5} .

فإن لم يكن حامل هذه الرسالة متشوقًا إليها سيكون حملًا صعبًا جدًا، بل لعله مستحيل، فارق كبير بين أن تبحث الدعوة عن رجل ليحملها، أو يبحث الرجل عن الدعوة ليحملها.

ولما كان يبلغ الحزن بالنبي صلى الله عليه وسلم المبلغ، يأتيه جبريل، ويقول له: يا محمد إنك رسول الله حقًا. فيسكن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ليست هناك تبليغات بالرسالة، لا يزيد عن قوله: يا محمد إنك رسول الله حقًا.

ثم جاء اليوم الذي سيبدأ النبي صلى الله عليه وسلم فيه رحلة النبوة والتبليغ والتبشير والإنذار هذه الرحلة الصعبة، فيقول صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، ثُمَّ نُودِيتُ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي إلى السماء، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوِيتُ عَلَى الْأَرْضِ، فَرَجَعْتُ حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي، دَثِّرُونِي، دَثِّرُونِي، وَصُبُّوا عَلَيَّ ماءً باردًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: [يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنْذِرْ(2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ]. {المدَّثر: 1: 5}.

وكان هذا هو الأمر الواضح بالرسالة وبالتبليغ وبالإنذار، فتغيرت حالة النبي صلى الله عليه وسلم من حالة الشك والارتياب وعدم التأكد من أمر النبوة إلى حالة من العزيمة والقوة والإصرار والنشاط، ولما كانت تطلب منه السيدة خديجة بعض الراحة كان يقول: مَضَى عَهْدُ النَّوْمُ يَا خَدِيجَةُ.

وجد النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرات لما كان يحدث له قبل النبوة، من سلام الحجر عليه، وشق الصدر، وعرف الرجل الذي جاءه في غار حراء.

وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم الرحلة الطويلة الشاقة رحلة الدعوة إلى الله التي بدأت بقول الله له: [قُمْ] وفي ذلك يقول الأستاذ سيد قطب: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم [قُمْ]. فقام، وظل قائمًا بعدها أكثر من عشرين عامًا، لم يسترح، ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله، قام وظل قائمًا على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به. عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى.

قام النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الكلمات ولم يقعد إلى أن مات وما ترك فردًا ولا قبيلة ولا صغيرًا ولا كبيرًا ولا سيدًا ولا عبدًا إلا ودعاه إلى الله.

وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة ٌ وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا

وَلَسْتُ بَهَيَّــــــابٍ لمنْ لا يَهابُنِي ولستُ أرى للمرءِ ما لا يرى ليــا

فإن تدنُ مني، تدنُ منكَ مودتــي وأن تنأ عني، تلقني عنكَ نائيــــا

كِلاَنــا غَنِيٌّ عَنْ أخِيه حَيَـــــاتَــه وَنَحْنُ إذَا مِتْنَـــا أشَدُّ تَغَانِيَــــــــا

رابط هذا التعليق
شارك

  • بعد 2 أسابيع...

كيفية بدء الدعوة

كيف بدأ النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة؟ وبمن بدأ؟ ومن هم الذين اختارهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليبدأ بهم؟

لم يكن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم عشوائيًا في اختيار من يدعوه، بل كان هناك منهجًا واضحًا يسير عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن نعرف منهج النبي صلى الله عليه وسلم لا بد من سؤال. هل يؤمن الإنسان بقلبه أولًا أم بعقله؟ هل يحبك أولًا ثم تقدم له الحجة بعد ذلك أم تقدم له الحجة أولًا؟

الحب والحجة في غاية الأهمية لكن من الصعب جدًا على الإنسان أن يقبل فكرة ما حتى ولو كانت هذه الفكرة صحيحة ومقنعة من إنسان يبغضه، ولا يحبه، وقد يدخل في جدل عقيم وحوار طويل قد لا يأتي بخير، بينما على الجانب الآخر يتقبل كثيرًا من الأفكار ممن يحب وقد تكون هذه الأفكار غريبة.

إن الفكرة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم فكرة صحيحة ومقنعة، وإذا فكر فيها عقل سليم لا بد أن يقبلها، ورغم ذلك فهذه الفكرة غريبة على أهل مكة، فقد مر من عُمْر الأرض أكثر من ستمائة عام، لم يخرج فيه نبي، جاء النبي صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل.

وقد ملك الاستغراب عقول الناس من فكرة التوحيد على بساطتها ووضوحها، أو أن يكون هناك رسول من البشر، يقول صلى الله عليه وسلم:

بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ.

كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش وللناس كلهم وللعالم أجمع، ولكن في هذا الوقت بمن يبدأ صلى الله عليه وسلم؟ لا بد أن يبدأ بمن يقبل الفكرة دون تردد؛ ليكوّن قاعدة عريضة يستطيع من خلالها نشر هذا الدين بين أوساط المجتمع كله. وكان أكثر الناس حبًا له أكثرهم قبولًا للفكرة.

وهذا منهج لأهل الأرض جميعًا ودرسًا نتعلمه من النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نسير في الدعوة إلى الله.

دعوته صلى الله عليه وسلم للسيدة خديجة رضي الله عنها

بحث النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر الناس حبًا له وبدأ بدعوتهم، ذهب النبي صلى الله عليه وسلم أولًا إلى زوجته الصالحة السيدة خديجة فمن المؤكد أنها أول من آمن على ظهر الأرض، فهي التي كانت تتابع مع النبي صلى الله عليه وسلم أحداث الوحي، فهي التي ذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وعرفت أن هذا جبريل عليه السلام الناموس الذي ينزل على الأنبياء إلى أن نزل قوله تعالى [قُمْ فَأَنْذِرْ] {المدَّثر:2}

فآمنت السيدة خديجة ومن الممكن أن نقول أنها آمنت قبل التصريح بالرسالة حيث قالت: كَلَّا وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا. والسيدة خديجة أحبت النبي صلى الله عليه وسلم حبًا لا يوصف، فكان هذا الحب هو طريق تصديق العقل والحب وحده لا يكفي، فقالت له: إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَحْمِلُّ الْكَلَّ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. وهذه الصفات لا يمكن أن تجتمع في كذاب أو مُدَّعٍ لهذا الأمر، وهى التي ذهبت به إلى ورقة ويؤكد ورقة بعد ذلك على أنه نبي، وينزل الملك ويخبره أنه رسول، والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرها بذلك، وهي تعلم صدقه وأنه لا يكذب، وهذا الكلام ليس من كلام البشر، فلا بد أن هناك قوة فوق قوة البشر، كل هذا الكلام دار بخلد السيدة خديجة رضي الله عنها، وما أعتقد أن هذا الكلام كان سيدور بهذه السلاسة وهذه البساطة لو كانت بينها والنبي صلى الله عليه وسلم مشاحنات ومخاصمات، فالحب والحجة في غاية الأهمية إلا أن الحب يأتي أولًا ثم تليه الحجة.

دعوته صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه

وبعد السيدة خديجة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحب الرجال إلى قلبه، فإذا كانت السيدة خديجة هي أحب النساء إلى قلبه، فسيدنا أبو بكر هو أحب الرجال إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الرجال إلى قلبه قال: أبو بكر، وما تردد أبو بكر في قبول هذا الدين لحظة واحدة، يقول صلى الله عليه وسلم: مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، مَا عَتَّمَ حِينَ ذَكَرْتُهُ لَهُ مَا تَرَدَّدَ فِيهِ. لم يفعل أحد من البشر مثل ما فعل هو والسيدة خديجة رضي الله عنهم أجمعين.

إن سرعة إيمان أبي بكر تحتاج إلى دراسة، فمما دفعه إلى ذلك أنه كان أقرب الناس لأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وكثيرًا ما كان يختار من الآراء ما يختاره الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في غياب أحدهم عن الآخر.

وكانت أخلاق سيدنا أبي بكر كأخلاق الأنبياء، ولم يمش على الأرض خير من أبي بكر إلا الأنبياء.

وكان بين سيدنا أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم توافق عجيب في أمور الأخلاق، أشهرها الصدق فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الصادق الأمين، وأبو بكر هو الصديق رضي الله عنه، التواضع والكرم والعفة والبعد عن أماكن الفساد والمروءة وخدمة الناس، كل هذه عوامل أدت إلى سرعة إيمان الصديق رضي الله عنه.

دعوته صلى الله عليه وسلم لسيدنا زيد بن حارثة رضي الله عنه

بعد إسلام السيدة خديجة وإسلام أبي بكر تحدث النبي صلى الله عليه وسلم إلى مولاه سيدنا زيد بن حارثة.

لقد أحب سيدنا زيد بن حارثة النبي صلى الله عليه وسلم حبًا كبيرًا وكان بينه والنبي صلى الله عليه وسلم حبًا كبيرًا لدرجة أنه عرف بين الصحابة بأنه زيد بن محمد.

وقصة هذا الأمر هي أنه أصابه سباء في الجاهلية؛ لأن أمه خرجت به تزور قومها بني معن، فأغارت عليهم خيل بني القين بن جسر، فأخذوا زيدًا، فقدموا به سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، وقيل: اشتراه من سوق حباشة، فوهبته خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل النبوة وهو ابن ثماني سنين، وقيل: بل رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء بمكة ينادى عليه ليباع، فأتى خديجة فذكره لها، فاشتراه من مالها، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه.

ثم إن ناسًا من كلب حجوا فرأوا زيدًا، فعرفهم وعرفوه فانطلق الكلبيون، فاعلموا أباه ووصفوا له موضعه، وعند من هو، فخرج حارثة وأخوه كعب ابنا شراحيل لفدائه، فقدما مكة، فدخلا على النبي صلى الله عليه وسلم: فقالا: يا ابن عبد المطلب، يا ابن هاشم، يا ابن سيد قومه، جئناك في ابننا عندك فامنن علينا، وأحسن إلينا في فدائه. فقال: مَنْ هُوَ؟ قالوا: زيد بن حارثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فَهَلَّا غَيْرَ ذَلِكَ. قالوا: ما هو؟ قال: ادْعُوهُ وَخَيِّرُوهُ، فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِنِ اخْتَارَنِي فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَى مَنِ اخْتَارَنِي أَحَدًا.

قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت. فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هَلْ تَعِرْفُ هَؤُلَاءِ؟ قال: نعم.هذا أبي وهذا عمي. قال: أَنَا مَنْ قَدْ عَرَفْتَ، وَرَأَيْتَ صُحْبَتِي لَكَ، فَاخْتَرْنِي أَوِ اخْتَرْهُمَا. قال: ما أريدهما، وما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، أنت مني مكان الأب والعم. فقالا: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وأهل بيتك؟! قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئًا، ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا أبدًا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر، فقال: يَا مَنْ حَضَرَ، اشْهَدُوا أَنَّ زَيْدًا ابْنِي، يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ. فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما وانصرفا.

ولما نزل الوحي كان سيدنا زيد بن حارثة يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، وحدثه النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، وكيف سيكون رد فعل من أحب النبي صلى الله عليه وسلم كل هذا الحب.

وما كان إيمان سيدنا زيد بن حارثة عن حب فقط فمن المؤكد أنه أعمل عقله، فترك الدين إلى دين آخر ليس أمرًا سهلًا.

ولو فكرنا مع سيدنا زيد بن حارثة لوجدنا أنه من خلال معاشرة سيدنا زيد للرسول صلى الله عليه وسلم ما جرب عليه كذبًا، أيعقل أن يترك الكذب على الناس ليكذب على الله.

هو يرى محمد صلى الله عليه وسلم في عون الناس جميعًا، وبدون مقابل، هل سيطلب لنفسه مصلحة ذاتية وبعد أربعين سنة مضت من عمره.

لقد رأيت هذا الرجل العظيم العفيف كان بعيدًا عن كل الموبقات والفواحش والمعاصي في فترة شبابه كلها، فهل هذا الرجل يلعب بدين الناس وبعقيدتهم؟

ولو كان هذا الرجل يريد السيادة والملك في مكة أكان يأتي بدين جديد أم يسلك أقرب الطرق وصولًا إلى ذلك، والمحببة إلى نفوس القوم وهو طريق اللات والعزى.

من المؤكد أن كل هذه الأفكار وغير هذه الأفكار جالت بذهن سيدنا زيد بن حارثة.

ولا بد أن كل الإجابات كانت تفضي إلى نتيجة واحدة هي أن هذا الرجل صادق فيما يقول.

آمن سيدنا زيد بن حارثة وإن كان قد آمن بقلبه أولًا لكنه آمن بعقله أيضًا.

وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة ٌ وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا

وَلَسْتُ بَهَيَّــــــابٍ لمنْ لا يَهابُنِي ولستُ أرى للمرءِ ما لا يرى ليــا

فإن تدنُ مني، تدنُ منكَ مودتــي وأن تنأ عني، تلقني عنكَ نائيــــا

كِلاَنــا غَنِيٌّ عَنْ أخِيه حَيَـــــاتَــه وَنَحْنُ إذَا مِتْنَـــا أشَدُّ تَغَانِيَــــــــا

رابط هذا التعليق
شارك

مقدمة

مما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يصل بدعوته لكل إنسان في مكة. بل لكل إنسان على ظهر الأرض، ويتخيل البعض أنه كان من السهل على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقف وسط الكعبة من أول يوم أُمِر فيه بالإبلاغ ويعلن للناس جميعًا أمر الإسلام، لكنه لم يفعل، بل كان يختار من يدعوهم آخذًا بكل أسباب الحيطة والحذر، فيذهب إلى الرجل فيسر له في أذنه بأمر الإسلام، ويدعوه سرًا، ولم يعلن لعموم الناس أمره.

والدعوة السرية لم تستمر يومًا أو اثنين بل استمرت فترة طويلة بالنسبة لعمر الدعوة الإسلامية فكانت حوالي ثلاث سنوات.

وبعض الناس يعتقدون أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما وقف على الصفا وقال للناس: أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟

يعتقدون أن هذه المقولة كانت في بدء الدعوة وبعد نزول أمر الرسالة مباشرة، والواقع غير ذلك، لقد كانت هذه الكلمة بعد ثلاث سنوات كاملة من نزول الوحي.

إن كنا قد وقفنا مع إسلام السيدة خديجة رضي الله عنها، وإسلام سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، وإسلام سيدنا زيد بن حارثة رضي الله عنه.

فلا بد من وقفات مع إسلام سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هذا الطفل الذي آمن، وما تجاوز العشر سنوات، إن إسلام سيدنا علي في هذا السن هو شيء في منتهى الغرابة.

ويكمن وجه العجب والغرابة في عمره الذي ما تجاوز العشر سنوات، يستأمنه النبي صلى الله عليه وسلم ويسر إليه بهذا الدين الجديد في مثل هذه المرحلة السرية من الدعوة، وغريب أيضًا أن يفهم طفل في مثل هذا السن هذه القضية الكبيرة التي خفيت على كثير ممن يسمونهم حكماء في مكة.

وهذا الأمر يحتاج منا إلى وقفة:

أولًا:

كان سيدنا علي بن أبي طالب بمثابة ابن النبي صلى الله عليه وسلم كزيد بن حارثة، فكان يعيش مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، والسبب في ذلك هو أن قريشًا أصابتهم أزمةٌ شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال يومًا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس: يا عم إن أبا طالب كثير العيال، فانطلق بنا نخفف عن عيال أبي طالب، فانطلقا إليه وأعلماه ما أرادا، فقال أبو طالب: اتركا لي عقيلًا واصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم عليًا، وأخذ العباس جعفرًا، فلم يزل علي عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى أرسله الله، فاتبعه.

وقال ابن إسحاق: وكان من نعمة الله عليه.

كان علي بن أبي طالب يعتقد الصواب في كل كلمة يقولها الأب الحنون النبي صلى الله عليه وسلم، كما يعتقد كل طفل الصواب في كلام أبيه.

ولقد ترسخ في نفس علي بن أبي طالب حب كبير للنبي صلى الله عليه وسلم منذ نعومة أظفاره، فكما قلنا: إن منهج النبي في الدعوة يقوم على الحب أولًا ثم الحجة.

ثانيًا:

أن النبي صلى الله عليه وسلم لاحظ نبوغًا مبكرًا، وعبقرية ظاهرة في علي بن أبي طالب، فاطمئن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يخبره بأمر الرسالة مع أن هذا الأمر خطير، ولا يزال سرًا، ولا يعلم إلى متى سيظل هذا الأمر سرًا.

وقد يظن البعض أن النبي صلى الله عليه وسلم يخاف أن يخبره بهذا الأمر للظروف التي تحيط بالدعوة، لكن الواقع أن سيدنا علي كان عبقريًا فذًا، وبمرور الأيام صدقت فراسة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان سيدنا علي من أكثر الصحابة قدرة على استنباط الأحكام والقضاء في الأمور، بجانب فراسته وعلمه وفقهه رضي الله عنه.

ثالثا:

في الحقيقة هذه وقفة مع النبي صلى الله عليه وسلم في اختياره لمن يدعوهم، فبدعوة النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي، وبإسلامه كان هناك تنوع عجيب لمن دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم واختارهم في بادئ الأمر، وكان يوضح لنا أمرًا في غاية الأهمية، وهو أن مجال الدعوة أوسع مما قد نتخيل، فهؤلاء الأربعة الأوائل: فيهم الرجال، وفيهم النساء، فيهم السادة، وفيهم العبيد، فيهم الكبار، وفيهم الصغار، وأن هذه الدعوة لا حدود لها.

أصبح علي بن أبي طالب أول الصبيان إسلامًا، كما أصبح أبو بكر أول الرجال، وزيد أول الموالي، والسيدة خديجة كانت أول النساء، وكان ذلك في أول يوم في الإسلام.

ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم بناته للإسلام فدعا السيدة زينب وكانت في العاشرة من عمرها، والسيدة رقية وكانت في السابعة من عمرها، والسيدة أم كلثوم وكانت في السادسة أو الخامسة من عمرها، وكلهم اعتنقوا الإسلام في هذا السن المبكر، أما السيدة فاطمة فكان عمرها سنة على أرجح الأقوال.

كان هذا هو الوضع في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم.

لقد ظلت الدعوة سرية تمامًا ثلاث سنوات كاملة، ظلت الدعوة تقوم على أمر الاصطفاء والانتقاء ثلاث سنوات كاملة...

لماذا ؟

لماذا لم يعلن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره ليسلم أكبر عدد من الناس في أقل وقت ممكن؟

لم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يعلم أن دعوة الإسلام وإن كانت مقنعة للناس إلا أنها ستلقى حربًا ليس من قريش فقط بل من كل العالم.

أكان صلى الله عليه وسلم يخشى على نفسه من قريش؟

هذا مستحيل، فهو لا شك يعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، بل كانت هذه هي الحكمة في الدعوة.

ومن الممكن أن تقول: إن السرية في الدعوة في هذه المرحلة لم تكن اختيارًا نبويًا، بل كانت أمرًا إلهيًا، فالله عز وجل يعلم نبيه صلى الله عليه وسلم ويعلم أمته منهج التغيير في مثل هذه الظروف، وكيف تغير الأجيال القادمة من حالها في غياب رسول، وكيف التغيير إذا توافقت الظروف مع ظروف النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه المرحلة.

إن الله عز وجل قادر على حماية رسوله، فلا يصل له أذًى من أحد من قريش، ومع ذلك فهو يريد منه أن يرسم الطريق الصحيح للمسلمين لإقامة هذا الدين مهما اختلفت الظروف ومهما كثرت المعوقات.

ولذلك تجد أن الله عز وجل قد وضع رسوله صلى الله عليه وسلم في كل الظروف التي من الممكن أن تمر بأمته بعد ذلك، وعلم رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يتعامل مع كل ظرف، وكيف يصل بدعوته إلى الناس في وجود المعوقات المختلفة.

وبذلك حدد للمسلمين منهجا واضحا لا غموض فيه.

قد تكون سرية تمامًا كما في السنوات الثلاث الأولى من الإسلام. قد يحتاج المسلمون إلى هذا الأسلوب السري في الدعوة إذا توافقت ظروفهم مع ظروف الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة.

وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة ٌ وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا

وَلَسْتُ بَهَيَّــــــابٍ لمنْ لا يَهابُنِي ولستُ أرى للمرءِ ما لا يرى ليــا

فإن تدنُ مني، تدنُ منكَ مودتــي وأن تنأ عني، تلقني عنكَ نائيــــا

كِلاَنــا غَنِيٌّ عَنْ أخِيه حَيَـــــاتَــه وَنَحْنُ إذَا مِتْنَـــا أشَدُّ تَغَانِيَــــــــا

رابط هذا التعليق
شارك

السرية وفقه المرحلة

على سبيل المثال المسلمون في الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه كان يعيشون فترة مثل هذه الفترة، الإلحاد في كل مكان، حمل المصحف أو الاحتفاظ بالمصحف في البيت جريمة يعاقب عليها القانون، من اكْتُشف أنه يصلي أو يصوم يعاقب ويعذب وقد يقتل، فكان لا بد من السرية التامة في الإسلام، ولو لم يفعلوا ذلك لاختفى الإسلام من هذه البلاد، ولكنهم كانوا يتعلمون في ديار كدار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه، وكانوا يحفظون القرآن في سراديب وفي خنادق وفي كهوف بالجبال، والحمد لله بقي الدين، وبقي المسلمون، ورفعت الغمة، والذي حفظهم هو فقه المرحلة.

إن الله هو الحافظ وهو المعين، لكن هناك أخذ بالأسباب، والأسباب الصحيحة هي التي أخذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في نفس المرحلة التي عاشها المسلمون.

لو أعلن كل واحد من المسلمين إسلامه في الاتحاد السوفيتي، وفتح صدره لنيران الشيوعية، لاختفى ذكر الإسلام من بقاع كثيرة، ولكن فقه المرحلة كان هامًا جدًا، ووجود المثال النبوي الحكيم في إخفاء إسلامه في أول أمر الرسالة كان معلمًا لهم ومؤيدًا لمنهجهم.

وستختلف الظروف بعد ذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالتبعية سيختلف منهجه صلى الله عليه وسلم في إيصال دعوته للناس وفي تربيته للمؤمنين.

سيأتي زمان يعلن فيه البعض إسلامهم ويكتم المعظم، كما سيحدث بعد الثلاث سنوات الأولى من الدعوة.

وسيأتي زمان يعلن فيه المعظم ويكتم البعض، وإن كانت التربية ستكون سرًا، كما سيحدث بعد إسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما.

وسيأتي زمان يعلن فيه الجميع وتكون التربية علنًا بعد الهجرة إلى المدينة.

وسيأتي زمان سيدعو فيه الرسول صلى الله عليه وسلم زعماء العالم جميعًا إلى الإسلام وذلك بعد صلح الحديبية.

هذا الكلام في غاية الأهمية فلا يستشهد بفعل من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم والظروف مختلفة، وإلا فلماذا كان هذا التنوع في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا التنوع ما هو إلا ليتعلم المسلمون الحكمة.

وأعني بالحكمة القدرة على تقليد النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله عند تشابه الظروف.

الرسول هو الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتغير، الإسلام هو الإسلام، لم يتغير أيضًا، ولكن اختلاف الظروف يستلزم تغييرًا في طريقة إيصال الدعوة للناس، يستلزم فقهًا للمرحلة.

إذن نخرج بقاعدة هامة من موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بدء الدعوة، وهي أن الدعاة مطالبون بالحفاظ على أنفسهم وعلى حياتهم، لا لخوفهم من الموت، فالموت في سبيل الله في حد ذاته غاية ومطلب وهدف، ولكن حفاظًا على الدين وعلى الإسلام وعلى استمرار المسيرة.

ونفهم من هذا الكلام الحكم الفقهي المشهور وهو أن يجوز للجيش المسلم أن يفر من مثليه ويوجد في كتب الفقه باب جواز الفرار من المثلين كما يقول الحق تبارك وتعالى:

[الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] {الأنفال:66} .

فلو كان عدد الأعداء أكثر من الضعف يجوز القتال ويجوز الفرار حسبما يرى القائد كما قال بذلك الفقهاء.

لأن احتمال الهلكة كبير، إلا إذا غلب على ظن القائد أنهم سينتصرون فيجوز له القتال، بل إن الإمام مالك رحمه الله قال: إنه يجوز الفرار من المثل، وليس من المثلين إذا كان العدو أعتق جوادًا وأجود سلاحًا وأشد قوة وغلب على الظن الهلكة.

ويوضح العز بن عبد السلام هذا الأمر بصورة أكبر فيقول:

إذا لم تحصل النكاية في العدو وجب الانهزام، لما في الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكافرين. سيموت المؤمن ولن يحدث أثرًا في الكافرين، بل سيزيد الكفر.

بل إنه يقول: وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة.

يعني يأثم المسلم بإظهار نفسه إذا كان الاختفاء هو الألزم للمرحلة، ويأثم المسلم إذا ثبت إذا كان الانسحاب هو الألزم للمرحلة.

فقه ووعي وإدراك لسلوك الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسلوبه في التعامل مع كل ظرف، ولكن هنا لا بد من ملاحظتين هامتين:

الملاحظة الأولى:

هي أن الفارق بين الحكمة في الحفاظ على النفس، وبين الجبن شعرة، وقد يدعي الإنسان أنه يحافظ على نفسه؛ لأن المرحلة تتطلب ذلك، فلا يتكلم الحق، ولا يجاهد، ولا يدعو إلى الله، ولا يقوم بعمل في سبيل الله، بينما الدافع الحقيقي من هذا الركون هو الخوف من مواجهة الباطل، فالفرق بين الحكيم الذي يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم والجبان الذي لا يريد حمل الدعوة هو سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

فنرجع في ذلك إلى دليل شرعي من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذا الموقف يشبه موقف الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمبدأ السرية.

ونرجع في ذلك أيضًا إلى ورع وإيمان وتقوى الفرد العامل، والله مطلع على القلوب، وفي النهاية أنت تتعامل مع الله عز وجل.

وأهم من ذلك أيضًا الرأي المشار إليه من قبل القائد والجماعة والشورى.

فالقائد في هذه المرحلة هو النبي صلى الله عليه وسلم أو من ينوب مكانه، والشورى كذلك في غاية الأهمية، ومن الممكن بعد ذلك أن يخرج عامل الهوى، ونستطيع أن نفرق بين الحكيم والجبان.

الملاحظة الثانية:

الذي يراعى في ذلك هو مصلحة المسلمين والإسلام عمومًا، وليس مصلحة الفرد، بمعنى أن هلاك الفرد قد يكون محققًا، ولكن هذا في مصلحة المجموع، فهنا لا يلتفت إلى الحفاظ عليه في نظير الحفاظ على الدين عمومًا، أو على الأمة بصفة عامة، أو المصلحة بصفة عامة،

كما سيأتي بعد ذلك عند إعلان الرسول الدعوة بعد ثلاث سنوات، ووجود خطورة حقيقية على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن المصلحة العامة للدعوة أن يعلن الدعوة، وكما سيرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة؛ لتعليم أهلها الإسلام رغم المخاطر التي تحيط به في المدينة، واحتمال قتله لأن المسلمين قلة، ويوجد بالمدينة يهود ومشركون، ولكن المصلحة المتحققة أعلى، وهذا من الممكن أن يقال في العمليات الاستشهادية التي نراها في فلسطين وفي غيرها، لأن هلاك الفرد فيها محقق، ولكن المصلحة أعلى، والمرجعية في كل ذلك كما ذكرنا لرأي القائد والشورى وليس لرأي الفرد لئلا يدخل الهوى، مع العلم أن الهوى أحيانًا يكون في الهلكة، بأن ييأس الإنسان من ظلم الظالمين أو غلبة الكافرين، فيسارع بقتالهم أو إظهار نفسه في مكان ووقت لا يسمحان بذلك، قد يكون ذلك هوى في قلب الإنسان بينما تأمر الشورى بالحفاظ على النفس، فالرجوع إلى الشورى أو إلى قائد المسلمين أمر في غاية الأهمية.

إذن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في الثلاث السنوات الأولى كانوا لا يتحدثون بالإسلام إلى الناس إلا سرًا، يختارون رجلًا من الناس يتحدثون إليه بأمر هذا الدين.

وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة ٌ وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا

وَلَسْتُ بَهَيَّــــــابٍ لمنْ لا يَهابُنِي ولستُ أرى للمرءِ ما لا يرى ليــا

فإن تدنُ مني، تدنُ منكَ مودتــي وأن تنأ عني، تلقني عنكَ نائيــــا

كِلاَنــا غَنِيٌّ عَنْ أخِيه حَيَـــــاتَــه وَنَحْنُ إذَا مِتْنَـــا أشَدُّ تَغَانِيَــــــــا

رابط هذا التعليق
شارك

  • بعد 5 سنة...
زائر
هذا الموضوع مغلق.
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...