اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

"المجهول" عنواناً للمستقبل "فهمي هويدي"


صبح

Recommended Posts

الرابط

من لا يساوره القلق على ما يجري في مصر الآن واحد من ثلاثة: إما أنه لا يرى، أو لا يسمع، أو أنه غائب عن البلد، مقطوع الصلة بواقعه.

شاءت ظروفي في الأسبوع الماضي أن أذهب إلى ثلاثة أماكن مختلفة في يوم واحد، حيث قصدت الحلاق في البداية، ثم عرجت على الطبيب، وكان علي أن أؤدي بعد ذلك واجب العزاء في أحد الأقارب.

وما أدهشني أنني في الأماكن الثلاثة لوحقت بسؤال واحد هو: إلى أين نحن ذاهبون؟ الملاحظة ذاتها سمعتها من المستشار طارق البشري، الذي دعي لإلقاء محاضرة عن موضوع القضاة في مركز الدراسات الاشتراكية بالقاهرة. وبعد أن فرغ منها وجد أن أغلب الأسئلة التي وجهت إليه تجاوزت موضوع المحاضرة، وتركزت حول المشهد السياسي المصري واحتمالاته المستقبلية.

وهو ما تكرر مع الدكتور كمال أبو المجد، الذي تصادف أنه تردد على عدد من الأطباء خلال الأسبوع الماضي، ولاحظ أن كل واحد منهم كان ينهي مهمته العلاجية في دقائق، ثم ينتحي به جانباً ليطرح عليه ذات الأسئلة القلقة حول المستقبل. وهو ما لم يفاجأ به، لأنه اعتاد على تلقي مثل هذه الأسئلة، خصوصا بعدما اختير نائباً لرئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، الأمر الذي أقنعه بأن الأمر أكبر مما يظن كثيرون، ولكثرة ما سمع في هذا الصدد فإنه أصبح يقول لمن حوله ان الذي لا يقلقه الحاصل في مصر الآن، ينبغي أن يعرض على طبيب نفساني!

حين رويت هذه القصص لمن أعرف، فإن أحداً لم يفاجأ بما قلت. ووجدت إجماعاً منهم على أن أسئلة المستقبل على كل لسان، وأن ما يرفع من وتيرة القلق أنها بلا أجوبة. وهو بالضبط ما حدث في المشاهد الثلاثة التي ذكرتها، الأمر الذي جعل من الكلام حول المستقبل مجرد فرصة لبث الشجون، بأكثر منه استعراضاً للتصورات والسيناريوهات.

ولست أخفي أنني قلت لمن سألني أن المجهول هو العنوان العريض للمستقبل، وأن من قال لا أدري فقد أفتى! وأخبرني المستشار طارق البشري بأنه خرج من محاضرته مقتنعاً بأنه لم يشف رغبات الجمهور، لأنه لم يكن لديه الكثير الذي يقوله عن المستقبل. أما الدكتور أبو المجد فقد اختصر رأيه في ترديد القول المأثور: ما المسئول بأعلم من السائل!

قرأت في صحف الصباح أنه أثناء إعداد فيلم جديد باسم ظاظا رئيس جمهورية تطلب الأمر احتشاد 1500 شخص لتصوير أحد المشاهد وحين وفر متعهد التجمعات هكذا يسمونه العدد المطلوب، فإن المخرج ألقى نظرة على الجمع المستدعى ولم يعجبه مظهرهم، فقرر عدم الاستعانة بهم في المشهد.

وهو ما أحبط كثيرين منهم (أغلبهم من العاطلين الباحثين عن أي عمل)، فطالبوا بأجورهم ولكن المتعهد ماطل في الدفع، فما كان منهم إلا أن ثاروا وحطموا بعض الديكورات والكاميرات، الأمر الذي استدعى تدخل الشرطة التي أنقذت الموقف وألقت القبض على نفر منهم.

ما استوقفني في القصة أن مثل هذا الانفعال الخشن غير مألوف في الشارع المصري. فليس من طباع عامة المصريين أن يثوروا هكذا بسرعة. والدراسات التي أجريت على الشخصية المصرية أجمعت على أن حبال الصبر والاحتمال عند المصريين أطول بكثير من غيرهم، وأحيانا أطول مما ينبغي. وهي ظاهرة إيجابية من وجه، لكنها قد تصبح سلبية من وجه آخر، خصوصاً حين يصبح الصبر نوعاً من الاستكانة أو الخنوع.

ليست هذه حادثة وحيدة. لأن تجليات التوتر والغضب أصبحت متعددة في مصر، وهي أظهر ما تكون في الاحتكاكات ذات الطابع الطائفي، التي تتطور بسرعة ويتسع نطاقها، أحياناً من جراء حوادث لا تستحق الاشتباك أو يمكن علاجها بدونه. يلمس المرء أيضا ذلك التوتر في أوساط العمال، خصوصاً في القطاع الصناعي الذي نشطت فيه عملية الخصخصة.

وفي أوساط الطلاب بل وفي محيط أساتذة الجامعات الذين شكل بعضهم حركة 9 آذار /مارس الرافضة لتدخلات الأمن في الجامعات، ولا يستطيع أحد في هذا السياق أن يتجاهل الحاصل في النقابات المهنية وما تشهده نقابات الصحافيين والمهندسين والأطباء دال على اتساع دائرة الاحتقان. أما الحاصل في محيط القضاء والنيابة فقد ملأ الدنيا وشغل الناس.

لأن هذه القرائن لا تخطئها عين، فقد أصبح مصطلح "الاحتقان" شائعاً في مختلف الأدبيات التي تحاول توصيف الوضع الراهن في مصر. والاحتقان كلمه لا أصل لها في العربية ولكن المجمع اللغوي اعتمدها في دورة شهر نيسان/ابريل من العام الماضي (2005) باعتبارها وضعاً لحالة التوتر المكتوم المسكون بالغضب. إزاء ذلك، فلعلنا لا نبالغ كثيراً إذا ما قلنا انه إذا كان <المجهول> عنواناً للمستقبل في مصر، فإن الاحتقان يظل عنواناً للحاضر.

وذلك ليس شيئاً سلبياً دائماً، لأن الاحتقان في أحد أوجهه يظل تعبيراً عن حيوية المجتمع وعافيته، ورغبة في التطلع إلى مستقبل أفضل. لذلك فالمشكلة ليست في وجود الاحتقان، ولكنها تكمن في كيفية التعامل معه. ذلك أن كل نظام يواجه أزمات بدرجة أو أخرى. لكن كفاءة النظام وتميزه يقاسان بمدى نجاحه في إدارة الأزمة، بما يحول المحنة إلى فرصة لاستنهاض الهمم، من أجل التصحيح والتقدم والإنجاز.

لم أستغرب حين قرأت أن مصر حصلت على صوت واحد في انتخاب ممثلي أفريقيا في المجلس الدولي لحقوق الإنسان، وهى العملية التي تمت قبل أسبوعين في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك وترتب عليها استبعاد مصر من عضوية المجلس.

وحتى إذا سلمنا بإيضاحات وزارة الخارجية التي ذكرت أن مصر لم ترشح نفسها للعضوية أصلا، إلا أننا ينبغي أن نعترف بأن سمعة مصر في مجال حقوق الإنسان تأثرت سلباً في الآونة الأخيرة بوجه أخص، بسبب الممارسات الأمنية التي أفرطت في استعمال العنف ضد المتظاهرين والمعتقلين. وما حدث مع الشاب محمد الشرقاوي عضو حركة "كفايه" في أحد أقسام الشرطة بالقاهرة، عقب اعتقاله في الأسبوع الماضي، يستحي المرء أن يذكره، ويستحيل عليه أن يجد له مبرراً.

وإذا أضفت إليه العدوان المستغرب الذي تعرض له أحد القضاة، وما جرى لبعض الصحافيات اللاتي تم اعتقالهن في المظاهرات الأخيرة. ذلك كله، ونظائره التي لا يتسع المجال للتفصيل فيها، يخصم كثيراً من الجهد الذي يبذل لتحسين صورة مصر في حقوق الإنسان.

وأهم من ذلك أنه يشي بالاتجاه إلى تصعيد العنف في مواجهة حركة المجتمع المدني الواعد في مصر، التي نحسب أنها من آيات الحيوية الجديرة بالتشجيع والحفاوة لا بالقمع. من حيث أنها تسعى إلى التعبير عن الرأي بصورة سلمية متحضرة تحترم القانون، وتقدم بديلاً عن أساليب العنف والإرهاب.

لست أفضل من يتحرى أسباب الاحتقان والغضب أو الحيرة في مصر. وأحسب أن الأمر أكبر من أن يحمل عبئه فرد بذاته، وإنما يحسن أن يكون موضوعاً للحوار بين أهل الاختصاص والرأي المهمومين بحاضر مصر ومستقبلها.

وإذا جاز لي أن أرشح عناوين وأسباباً للاحتقان والحيرة لأضعها بين يدي من يهمه الأمر، فإنني أزعم أن ثمة فجوات في الساحة المصرية تزداد اتساعاً حيناً بعد حين، سواء بين السلطة والمجتمع، أو بين الأغنياء والفقراء، أو بين الأقوال والأفعال، وبسبب تلك الفجوات يزداد الاحتقان وتتضاعف الحيرة، فيخيم الإحباط على الناس في الحاضر في حين تستبد بهم الحيرة عندما لا يرون أملا واضحاً يطمئنهم إلى خيارات المستقبل.

في ما يخص مصادر الاحتقان خذ مثلا قضية الحريات العامة في مصر، التي هي ملف معلق يقال في حقه كلام جيد طول الوقت، ولكن الممارسات العملية لا تؤيد دائماً ذلك الكلام. سواء تمثلت تلك الممارسات في التدخل في الانتخابات أو في معالجة موضوع الطوارئ والمعتقلين أو في حظر التظاهر السلمي، أو في تقييد حرية تشكيل الأحزاب وإصدار الصحف أو في استقلال القضاء أو في حبس الصحافيين..الخ.

خذ ملف الخصخصة المثير للغط، سواء في دواعي بيع المؤسسات والشركات الرابحة، أو في تقييم تلك الشركات على النحو الذي تكشف في عملية بيع "عمر أفندي"، أو في النتائج المترتبة على البيع بما تستصحبه من تسريح أعداد كبيرة من العمال تنضاف إلى طوابير العاطلين الطويلة رغم الكلام المعلن عن الحفاظ على حقوقهم.

خذ ملف أعباء الحياة المتزايدة التي باتت تثقل كاهل الفقراء، بعدما اتسعت دائرتهم والتحقت بهم شرائح واسعة للغاية من الطبقة المتوسطة. وهى الأعباء التي قصمت ظهور تلك الفئات، سواء تمثلت في تكاليف التعليم والعلاج أو في فواتير الكهرباء والهواتف والمواصلات أو في متطلبات المعيشة البسيطة، التي يمثل ما يسد الرمق حدها الأدنى.

هذه مجرد نماذج للعوامل التي أشاعت الاحتقان والحيرة في بر مصر. ولست أشك في أن لدى غيري أسباباً أخرى، ربما تعلق بعضها بمفارقات السياسة الخارجية (العلاقة مع حكومتي حماس وإسرائيل مثلا)، وما يهمني هو فتح باب المناقشة حول مصادر الاحتقان والحيرة، علناً نعرف على الأقل إلى أين نحن ذاهبون.

وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة ٌ وَلَكِنَّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيَا

وَلَسْتُ بَهَيَّــــــابٍ لمنْ لا يَهابُنِي ولستُ أرى للمرءِ ما لا يرى ليــا

فإن تدنُ مني، تدنُ منكَ مودتــي وأن تنأ عني، تلقني عنكَ نائيــــا

كِلاَنــا غَنِيٌّ عَنْ أخِيه حَيَـــــاتَــه وَنَحْنُ إذَا مِتْنَـــا أشَدُّ تَغَانِيَــــــــا

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...