اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

المرموق فولتير (1694-1778


Recommended Posts

تمر في هذا الأسبوع ذكرى وفاة المفكر الفرنسي المرموق فولتير (1694-1778) وهي الذكرى السابعة والعشرين بعد المئتين..

نورد بعد المقالات تعريفا به..

 

خالص جلبي - الوطن السعودية

فولتير 

 

أهم ما يسم هذا الرجل دعوته لحرية التعبير والتسامح الديني وكان خصما لدودا للكنيسة ولعب فكره دورا في إنضاج الأوضاع للثورة الفرنسية ولم يكن اسمه فولتير بل فرنسوا آريت. وتبنى اسمه الذي اشتهر به فولتير عندما سجن للمرة الأولى في سجن الباستيل. ولم تكن واحدة. حتى فر بجلده من كل فرنسا فبقي مشردا حتى آخر حياته بين بريطانيا وبروسيا التي كانت نواة ألمانيا الموحدة لاحقاً وفي النهاية استقر في قرية فرني في سويسرا قريبا من الحدود الفرنسية بعد أن أصدر الملك لويس الخامس عشر قرارا بمنع دخوله لفرنسا وحرمت الكنيسة كتبه واعتبرته هرطيقاً مخربا للعقيدة الصحيحة وهادماً لتعاليمها. وبعد سجنه الثاني في الباستيل أخرج منه بشرط أن يذهب باتجاه بريطانيا فلا يعود لفرنسا وهناك دهش من الحرية التي يعيش فيها الناس في ظل حكم برلماني وتعلم اللغة الإنجليزية في سنة وبدأ يناقش المفكرين البريطانيين وذكر عن بريطانيا أن فيها أكثر من ثلاثين مذهباً دينياً بدون قس واحد وأعجب بحركة الكويكرز السلامية. وفي بروسيا بقي لفترة عشر سنوات في بلاط الملك فردريك الثاني الذي كان يتقن الفرنسية وكانت لغة الثقافة يومها إلى درجة أن فولتير قال لم تكن اللغة الألمانية لتستخدم سوى على الطرقات وللخدم والخيل وكانت الثقافة والشعر والفن يتكلم بها الألمان بشغف. ولم تكن هناك ألمانيا بعد وفي عهده كان عدد الولايات الألمانية أكثر من أيام السنة فزادت عن ثلاثمئة ولاية لا يجمعها إلا اللسان والفن حتى وحدها أوتو فون بيسمارك. وفي النهاية اختلف مع الملك البروسي حول نشر قصيدة فهرب منه وكاد أن يدخل السجن في فرانكفورت حينما ألقوا القبض عليه وفي النهاية أطلقوا سراحه فولى وجهه شطر سويسرا. ولم يدخل فرنسا فيموت فيها عام 1778 إلا قبل وفاته بأيام وكان عجوزا تجاوز الثمانين فاستقبلته فرنسا كملك وممن زاره بنيامين فرانكلين الرئيس الأمريكي لاحقاً وطلب من حفيده تقبيل يده والتبرك بها. ومن أجمل شعاراته اسحقوا العار حينما حيل بين محبين أن يتزوجا لأن الشاب كان كاثوليكياً والفتاة بروتستانتية فأرادوا قتل الشاب فأطلق شعاره المذكور لسحق التعصب الديني. وفي الثورة الفرنسية كان نداؤه يكرر اشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس. ومن عانى من التشدد الديني والعنت يفهم رواج أفكاره. فالتعصب يحول المجتمع إلى مصحة عقلية كاملة بدون أطباء وأسوار أو قضبان يحجز خلفها الناس بل يعاشر المرء المجانين في وضح النهار جهارا عيانا وعليه أن يتحمل أذاهم ويبتسم لهلوساتهم.

وعندما حضرته الوفاة جاءه قسان كان مصيرهما الطرد فأما الأول فسأله فولتير وهو على فراش المرض والموت من أرسلك؟ قال الله قال فأرني أوراق اعتمادك فهرب. أما الثاني فأبى أن يستغفر له حتى يعترف بأنه كاثوليكي صحيح العقيدة فطرده وطلب من سكرتيره أن يكتب في وصيته أنه يموت على عبادة الله وكراهية الكهان. وصفه المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت في كتابه قصة الفلسفة أنه كان قبيحاً مختالا فصيحا بذيئاً يحمل أخطاء عصره وكان قادرا على قتل عدوه بضربة قلم. استطاع أن يكتب في عمره المديد الذي طال حتى 84 سنة 99 كتاباً تتألق كل صفحة منها بنور الحكمة والفائدة.

__________________

وكالريح لا يركن إلي جهه

إلا وهيأ لأخري راحله ...

 

رابط هذا التعليق
شارك

هاشم صالح – الشرق الأوسط اللندنية

دروس في التسامح

 

فولتير هو العدو اللدود للتعصب والمتعصبين، للاصولية والاصوليين، يكفي ان تذكر اسمه لكي يرتعدوا خوفاً أو يزمجروا غضباً! ولا غرو في ذلك، فقد أمضى حياته في محاربتهم وتفكيك عقائدهم والتحذير من مخاطرهم على المجتمع والحضارة والإنسانية.

وفي دراسة جديدة وقعها فريق من كبار الباحثين في الدراسات الفولتيرية نجد تحليلاً معمقاً لكتابه المشهور عن التسامح. وهو الدراسة الذي أصدره في عزّ المعركة التي كانت دائرة في فرنسا آنذاك بين الاصوليين والفلاسفة حول حرية الاعتقاد والضمير، وحول الاقلية البروتستانتية وهل يحق لها ان «تنوجد» أم لا، وحول عائلة «كالاس» البروتستانتية في مدينة تولوز وما أصابها من ويلات على يد الغوغائيين والمتطرفين الكاثوليكيين. وعلى الرغم من ان فولتير ينتمي، من حيث أصله العائلي، الى مذهب الاغلبية الكاثوليكية إلا انه وقف بحزم لصالح هذه العائلة المضطهدة ودافع عن حق البروتستانتيين في الوجود وممارسة شعائرهم ومعتقداتهم.

بالطبع فلم يكن يستطيع ان يذهب إلى حد أبعد مما ذهب إليه في مفهوم التسامح لأن ضغط الشارع الأصولي كان قوياً والظروف قاهرة. ولكن حسبه فخراً انه تجرأ على تحدي النزعة الشعبوية الغوغائية ووقف إلى جانب الحق والعدل ضارباً عرض الحائط بكل انتماءاته المذهبية والعائلية.. وهكذا أصبح مضرب المثل على انخراط المثقف في القضايا العامة، ومخاطرته بنفسه وطمأنينته أحياناً من أجل القضايا العادلة. ومشى على خطاه في القرن التاسع عشر فيكتور هيغو واميل زولا، وفي القرن العشرين جان بول سارتر وميشيل فوكو من جملة آخرين عديدين. أصبح يمثل الضمير الحي لأمة من الأمم عندما تصبح مسألة الحقيقة والعدالة على المحك، وعندما تشتد الأزمة وتحتدم.

يقول البروفيسور نيقولا كرونك المشرف العام على هذه الدراسة ما معناه: عندما طالب فولتير بالتسامح مع البروتستانتيين المضطهدين والمحتقرين من قبل الأغلبية الكاثوليكية فإن الأمر لم يصل به إلى حد مساواتهم الكاملة في الحقوق مع الكاثوليكيين. لماذا؟ لأنه كان يعرف ان هذا الشيء مستحيل في وقته. صحيح انه استبق على التطورات اللاحقة التي حصلت بعد الثورة الفرنسية ولكنه بقي في موقع متأخر كثيراً عن الموقع الذي اتخذه الإعلان الشهير لحقوق الإنسان والمواطن. ومعلوم ان هذا الإعلان أعطى الحقوق كاملة لجميع المواطنين الفرنسيين بغض النظر عن أصولهم المذهبية أو الطائفية. وأسس بالتالي مفهوم المواطنية بالمعنى الحديث للكلمة وأحدث القطيعة الفلسفية والسياسية مع لاهوت القرون الوسطى. عندئذ صرخ أحد زعماء الثورة الفرنسية، البروتستانتي «رابو سانت ايثيني» أمام الجمعية الوطنية قائلاً: أيها السادة. اننا لا نطالبكم بالتسامح معنا، ولكن بالحرية! ولكن هل كان بإمكانه ان يطالب بذلك لولا ان فلاسفة التنوير كلهم كانوا يقفون وراءه ويسندون ظهره وفي طليعتهم فولتير؟

مهما يكن من أمر فإن كتاب فولتير يطرح مسألة الممكن والمستحيل في فترة من الفترات. فهناك أشياء يستحيل التفكير فيها في لحظة ما، ثم يصبح ذلك ممكناً بعد عشرين أو ثلاثين سنة. وعلى هذا النحو يمكن ان نفهم المسافة التي تفصل بين كتاب فولتير الذي ظهر عام 1963، وصرخة «رابوسانت ايثيني» عام 1789 أو بعدها بقليل. ينبغي ان ننتظر حتى تنضج الظروف ويصبح التغيير أمراً ممكناً. ينبغي إحداث ثورة في العقول قبل المطالبة بتغيير العادات السائدة والقوانين الراسخة. وهذا ما فعله فلاسفة التنوير. ولكن هل كان فولتير أول من دعا إلى التسامح في مجال العقائد الدينية؟ بالطبع لا. فقد سبقه إلى ذلك الفيلسوف الانجليزي جون لوك الذي نشر هو الآخر كتاباً يحمل نفس عنوان كتاب فولتير: مقالة في التسامح، أو لكي نكون أكثر دقة: رسالة في التسامح. وكان ذلك منذ عام 1689: أي قبل ظهور كتاب فولتير بسبعين سنة على الاقل. ومعلوم ان فولتير كان يعتبر نفسه تلميذاً لجون لوك ومن أكثر المعجبين به. وقد استشهد به قائلاً: انظروا إلى الرسالة الممتازة لجون لوك عن التسامح. هذا يعني ان الفرنسيين والانجليز والأوروبيين بشكل عام كانوا مشغولين آنذاك بمسألة التعصب الديني ويحاولون ان يجدوا لها حلاً أو علاجاً، ما كانوا يقولون كما يقول بعض أشباه المثقفين العرب اليوم: «التعصب غير موجود عندنا، وانما فقط في المسيحية ومحاكم التفتيش، شعبنا لا يعرف التعصب، معاذ الله، الخ».. وهم يتوهمون بذلك انهم يخدمون الشعب.. يحصل ذلك كما لو ان الشعب نازل من السماء! واذا ما حاولت تشخيص رواسبه أو مشاكله التي يعاني منها يومياً فكأنك تشتمه أو تعتدي عليه! ما كان فلاسفة أوروبا يتخذون مثل هذا الموقف الديماغوجي المتواطئ مع العصبيات الشعبوية. على العكس، كانوا ينخرطون في المعمعة ويتحملون مسؤوليتهم. وعلى هذا النحو استطاعوا ان ينهضوا بشعوبهم ويرسخوا وحدتها الوطنية ويسيروا بها على درب التقدم والرقي.

ولكن فولتير يختلف مع لوك عندما يتحدث هذا الأخير عن المسيحية العقلانية. وهو عنوان أحد كتبه. ففي رأي فولتير انه لا يمكن للمسيحية والعقل ان يجتمعا معاً، على الأقل بحسب ما كانت المسيحية مفهومة وسائدة في عصره. فالفهم السائد لها آنذاك كان أصولياً، متعصباً، متزمتاً. وبالتالي فإما ان نتبع العقل واما ان نتبعها.. والأمر محسوم بالنسبة لفولتير، ولكن هل يعني ذلك أنه كان ملحداً أو كافراً كما يقول الجهلة؟ بالطبع لا، ولكن المتعصبين يريدون أن يحشروك في الزاوية: فاما أن تكون مؤمناً على طريقتهم الظلامية والعدوانية، واما ان تكون كافراً!.. فولتير أثبت العكس، فولتير أثبت أنه يمكن للمرء أن يكون مؤمناً ومضاداً للتعصب في آن معاً. فولتير كان يؤمن بإله كل الكائنات وكل العوالم وكل الأزمان. وبالتالي فالله ليس للمسيحيين فقط، أو للمسلمين أو لليهود، وإنما لكل البشر، كلهم عباد الله ويستحقون رحمته وغفرانه، إذا كانت أعمالهم صالحة وسلوكهم مستقيماً في المجتمع. وكل عقيدة فولتير تتلخص بكلمة واحدة: عبادة إله الحق والعدل، وحب البشر، كل البشر بغض النظر عن أجناسهم وأديانهم ومذاهبهم. ولأن فولتير فتح الأفق أمام إيمان آخر جديد غير الإيمان المتعصب القديم، فإنه استطاع أن ينتصر على التعصب والمتعصبين.

لا يمكن فهم إيمان فولتير بالطبع إن لم نأخذ بعين الاعتبار ثورة نيوتن في مجال العلوم الفيزيائية والفلكية، وما حققه العلم والفكر من تقدم في عصره. عندئذ أصبح الفهم العقلاني للدين أمراً ممكناً. وأصبحوا ينظّفون الدين من الخزعبلات والخرافات والعصبيات الضيقة الموروثة عن العصور الوسطى. وفتحوا المجال بذلك لولادة تيار مسيحي عقلاني يهضم كل مكتسبات التطور والقوانين العلمية. ولو أتيح لفولتير أن يعيش ويشهده لغير رأيه فيما يخص الجمع بين المسيحية والعقل أو الدين والعقل بشكل عام. فلم يعد المسيحيون في أوروبا يفرضون عليك قناعاتهم وكأنها مقدسات لا تناقش. فعندما تطلع على كتابات علماء اللاهوت المسيحي في أوروبا المعاصرة، يخيّل إليك وكأنك تطلع على مناقشات فلاسفة لا مناقشات رجال دين!، وأكبر دليل على ذلك كتاب «اللاهوت في عصر ما بعد الحداثة» الصادر عام 1996 في جنيف بسويسرا.. نعم ان التطور أو التقدم يكون في كل المجالات أو لا يكون.

لكن لا ينبغي إطلاقاً أن نعتقد بأن الأمور في عصر فولتير كانت على هذا النحو. فبيننا وبينه ـ أو قل بين مثقفي أوروبا وبينه مائتا سنة ـ ينبغي ألا ننسى ذلك.. ولهذا السبب، فإن معظم الكتب الأساسية في القرن الثامن عشر كانت تصدر بشكل سري. ولم يكن مؤلفها يُلاحق فقط، وإنما حتى قارئها الذي يتحمّس لها ويحاول نشر أفكارها. وإذا ما وجدوا بالصدفة كتاباً لفولتير أو لجان جاك روسو في بيتك، فإنهم كانوا يلاحقونك أو يحاكمونك.. كانت أوروبا آنذاك متعصبة، جاهلة، أصولية، ولكن بما أن أوروبا الحديثة مليئة بالحريات ولا أثر للإرهاب الديني فيها، فإننا نتخيل أنها كانت دائماً هكذا!. وهذا خطأ كبير نقع فيه بسبب انعدام الحسّ التاريخي لدينا، أو على الأقل ضموره.. وبالتالي فإذا كان رجال الدين متسامحين في أوروبا حالياً أو غير قادرين على قمع حرية الفكر والنشر، فإن الفضل في ذلك يعود إلى المعارك الهائجة التي خاضها شخص مثل فولتير أو جان جاك روسو أو ديدرو أو سواهم من فلاسفة التنوير.

 

وكانت موازين القوى غير متكافئة على الاطلاق، فالفلاسفة كانوا يمثلون أقلية، أي النخبة المثقفة، هذا في حين ان جحافل الشعب كلها كانت تقف وراء رجال الدين، ولهذا السبب فإن الفلاسفة كانوا يتقدمون مقنّعين إذا جاز التعبير، ففولتير لم يكن يوقّع معظم كتبه، بل وكان ينكرها بمجرد صدورها ويحلف بأغلظ الأيمان بأنها ليست له!.. واما ديدرو فكان يخبئها في أدراج مكتبه لكيلا تنشر إلا بعد موته.. فبطش «الاخوان المسيحيين» كان مرعباً، وسيفهم مسلّطاً على الأرواح والعقول.

يضاف إلى ذلك، أنه ينبغي التمييز بين الأعمال المنشورة على الملأ، وبين الرسائل أو النصوص الموجهة إلى الاصدقاء الحميمين فقط. وفولتير كان بارعاً في استخدام هذه الاستراتيجية. فعندما كان يوجه رسالة الى صديق موثوق فإنه كان يعبر عن مكنون فكره بدون أي تحفظ. وعندما كان يكتب للجمهور العام كان يأخذ احتياطاته ويستخدم أسلوب التلميح المبطّن، وفي كلتا الحالتين نلاحظ ان فولتير كان يتحدث عن التنوير بصيغة المفرد (Lumiere)، لا الجمع (Lumieres)، وكان يريد بذلك إقامة تمييز بين المعنى التقليدي والحيادي للكلمة (أي تجميع المعارف والعلوم) وبين المعنى النقدي الحديث (أي نقد العقائد الدينية المسيحية).

وهناك ملاحظة اخرى مهمة ايضا وهي: ان فولتير لم يتجرأ على شنّ حربه الشعواء على الأصولية الدينية الا بعد عام (1764)، أي خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة من حياته، وهذا دليل على مدى تهيّبه للمسألة وخوفه من عواقبها.

لندخل الآن في التفاصيل، في كتبه المطبوعة والموقعة باسمه، كان فولتير يستخدم مصطلح التنوير للدلالة على عصره ولمعارضته بالعصر السابق له مباشرة: اي القرن السابع عشر. صحيح انه كان يشيد بالذوق الأدبي للقرن الماضي وبخاصة راسين وكورني، لكنه يعطي الافضلية للقرن الثامن عشر فيما يخص الروح الفلسفية والعقلانية. يقول في رسالة خاصة الى سيدة ارستقراطية مقربة من حزب الفلاسفة هي «مدام دوبيني»: «التنوير ينتشر شيئاً فشيئاً يا سيدتي، وينبغي أن نترك العميان العجائز يموتون في ظلامهم!». وفي رسالة اخرى الى صديقه الشخصي «دارجنتال» يقول: «ليس الذنب ذنبي إذا كان هذا القرن مستنيراً، وإذا كان العقل قد تغلغل حتى إلى الكهوف والمغارات!».. وفي مكان آخر يقول: «يبدو لي ان التنوير يشع وينتشر في كل الجهات، ولكن المستنيرين لا يتواصلون فيما بينهم بما فيه الكفاية، انهم فاترون، هذا في حين ان نار التعصب لا تزال مشتعلة».. ثم يقول: «واصلوا عملكم في تنوير العالم.. الشبيبة تتعلم، والأرواح تستنير.. لماذا تظل باريس وحدها في الظلام؟!».. ثم يقول الى صديقه «دالامبير» فيما يخص سبب عدم توقيعه لاسمه على الكتب التي ينشرها ضد الأصوليين: «لا ينبغي إطلاقاً الكشف عن اسماء المؤلفين، ذلك انه لا يهم من أي طرف تجيء الحقيقة، المهم ان تجيء».. ثم يقول عن العصور الوسطى ومحاكم التفتيش: «انها ثمرة العقلية الخرافية الاكثر بشاعة في تاريخ البشرية.. ولم نخرج من تلك الظلمات الا منذ فترة قصيرة، وحتى الآن لم يستنر كل شيء».. وفي مكان آخر يدين بشدة «توجيه» عميد كلية اللاهوت في السوربون لأنه صرح بمعاداته للفلسفة ودعا الملوك الأوروبيين إلى قمعها بحجة أنها خطرة على الدين، يقول فولتير: «ان الفلسفة هي المشعل الذي ينبغي ان يضيء الطريق للبشر، وهي لم تستخدم ابدا هذا المشعل لحرق المفكرين كما فعلت محاكم التفتيش..».

بمعنى آخر فإن الفلسفة لم تقتل احداً ولم تأمر بتصفية اي جماعة بسبب عقائدها الخاصة، أو أفكارها وميولها. الفلسفة لم تستبح دماء الناس ولم تكفرهم بشكل عشوائي، وإنما احتكمت الى العقل والمنطق والحجة البرهانية من اجل الكشف عن الصح والخطأ في الاقوال والافعال، واعترفت الفلسفة بتعددية الآراء والعقائد الى درجة ان فولتير قال كلمته الشهيرة التي أسست فلسفة الديمقراطية في الغرب: قد اختلف معك في الرأي ولكني مستعد لأن اضحي بنفسي من اجل ان يتاح لك ان تعبر عن رأيك وقناعتك.

وكالريح لا يركن إلي جهه

إلا وهيأ لأخري راحله ...

 

رابط هذا التعليق
شارك

مبدأ فولتير وسقف الحريات

خالص جلبي – الشرق الأوسط اللندنية

 

في عام 1761 كان الفيلسوف الفرنسي (فولتير) ملتجئاً إلى مدينة (فيرني) السويسرية بعد أن نجا بجلده من الملك فردريك الألماني ومنعه الملك الفرنسي من دخول الأراضي الفرنسية. وحتى يكون بمنأى من بطش الاثنين فقد استراح هناك. فإن طاردته الاستخبارات البروسية هرب إلى فرنسا وإن طلبه الجواسيس الفرنسيون هرب إلى ألمانيا. وكان في مدينة (تولوز) الفرنسية القريبة رجل يدعى (جان كالاس) بروتستانتي المذهب وله بنت اعتنقت الكثلكة. وفي يوم شنق ابنه نفسه بسبب الإحباط في سوق العمل. وكان رجال الدين الكاثوليك يتمتعون بسلطة مطلقة في المدينة ولا يسمح لأي بروتستانتي في تولوز أن يكون محامياً أو طبيباً صيدليا أو بقالاً أو بائع كتب أو طبّاعاً. ومُنِع الكاثوليك من استخدام أي خادم أو كاتب بروتستانتي. وفي يوم حُكِم على امرأة بغرامة قدرها ثلاثة آلاف فرنك لأنها استعانت بقابلة بروتستانتية. ما يعادل الشيعة للسنة عندنا أو بالعكس.

ويقول ويل ديورانت صاحب كتاب (قصة الفلسفة) إن القوانين كانت تقضي في تلك الأيام «بأن يوضع جثمان المنتحر منكساً عارياً على حاجز من العيدان المشبكة ووجهه إلى الأسفل ويسحب بهذه الطريقة عبر الشوارع وبعدئذ يعلق على المشنقة». ولكي يتجنب المدعو (كالاس) هذه الفضيحة فقد حاول بكل سبيل ممكن أن يخرج بوثيقة تقول إن ابنه مات ميتة طبيعية. ولكن إشاعة رهيبة انتشرت في البلد تقول إن الولد لم يشنق نفسه بل إن جان كالاس قتل ابنه حتى يحول بينه وبين اعتناقه الكاثوليكية كما فعلت أخته من قبل. فألقي القبض على الرجل وبدأوا في تعذيبه حتى مات. وهربت عائلته إلى فيرني لتقص الفاجعة على فولتير. ومن منفاه أطلق الرجل صيحته المعروفة «اسحقوا العار».

لعل فولتير من القلائل الذين قضوا حياتهم في المنفى من أجل أفكارهم وكتب 99 كتاباً وعاش حتى سن 83 وسجن في الباستيل مرتين وضربه الأوغاد بتوصية جيدة من النبيل (دي روهان) أن يشبعوه ضرباً دون رأسه فقد يخرج منه يوما شيئا عظيماً. وهرب إلى بريطانيا خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين.

وهو أول من اعتبر أن التاريخ ليس سير الحروب والملوك بل مغامرات العقل وأن تاريخا بلا فلسفة وفن لا يبقى منه شيء. وأن التاريخ لن يقف على قدميه ما لم نبعد عنه اللاهوت. وهو نفس المسار الذي سلكه ابن خلدون من قبل. ولم يرجع إلى باريس التي ولد فيها إلا قبل موته بقليل وعندما جاءه القس ليسمع اعترافه سأله فولتير عمن أرسله فقال: الله؟ فسأله فولتير أن يقدم أوراق اعتماده من الله فولى ولم يعقب؟ وعند لحظة الموت جاءه قس ثان رفض تقديم الغفران له ما لم يوقع على اعترافه وإيمانه الكاثوليكي إيمانا راسخاً، فطرده وسجل الكلمات التالية «أموت على عبادة الله ومحبة أصدقائي وكراهية أعدائي ومقتي للخرافات والأساطير الدخيلة على الدين» ووقع هذا البيان في 28 فبراير من عام .1778

إن العصر الذي عاش فيه فولتير كان يسجل تبايناً في الحريات على طرفي بحر المانش وفي فترة السنوات الثلاث التي قضاها هناك لاحظ الفرق فوصف بريطانيا «بأن فيها شعباً له آراؤه الخاصة وحريته المميزة، شعباً أصلح دينه وشنق مليكه وأنشأ برلماناً أقوى من أي حاكم في أوربا ولا وجود فيه للباستيل وفيه ثلاثون مذهبا دينيا بدون قس واحد». وأعجب جدا بالحركة الدينية السلامية الكويكرز. وفي رسالة نشرها فولتير عن (أسئلة زاباتا) وكان المدعو راهباً سمح لعقله بمناقشة المسلمات فقال عندما يختلف مجلسان فيلعن أحدهما الآخر فمن نصدق؟ وعندما فشل في الحصول على جواب بسيط بدأ الرجل يدعو إلى الله على نحو بسيط فكان جزاؤه أن أحرق حيا عام .1631

ومنه اعتبر فولتير «أن أول كاهن كان أول محتال قابل أول أحمق»، وعندما وقع زلزال لشبونة فانهدمت الكنائس على رؤوس الناس فمات في ساعتين ثلاثون ألفاً من الناس سخر من التفسيرات التي قدمت بأنها انتقاما من الله ضد الكاثوليك. وظهر صدق كلامه حينما ضرب الزلزال الجامع المنصور في طنجة في المغرب وأكمل طريقه إلى حافة الاطلنطي الأخرى فهدم مدينة بوسطن بزلزال أشد على رؤوس البوريتانيين. في الوقت الذي كان الناس في المراقص في باريس يلعبون.

وعندما اندلعت حرب السنوات السبع بعد زلزال لشبونة صب فولتير كل جهده ضد الحرب ووصفها بأنها «أم الجرائم وأعظم الشرور وكل دولة تحاول إلباس جريمتها ثوب العدالة. إن القتل حرام وجميع أنواع القتل يعاقب عليها القانون زمن السلم. أما إذا نفخ في الصور وأعلنت الحرب فيصبح القتل بالألوف مباحاً». وهو يقول في ختام مقال له عن الإنسان في قاموسه الفلسفي «يحتاج الإنسان إلى عشرين سنة كي يبلغ أشده منذ كان جنينا في بطن أمه فحيواناً في طفولته وشاباً حين نضوج عقله، وثلاثة آلاف سنة ليكشف القليل عن جنسه، والأبد إلى أن يعرف شيئاً عن نفسه. ولكن دقيقة واحدة تكفي لقتله».

والذي يجعلني أنفض الغبار عن التاريخ لنستعيد ذكرى رجل قضى حياته من أجل (حرية التعبير) وأطلق شعاره المعروف «إنني مستعد أن أموت من اجل أن أدعك تتكلم بحرية مع مخالفتي الكاملة لما تقول» هو المؤتمر الهام الذي عقدته جريدة الاتحاد الإماراتية. فعلى مدار يومين اجتمعت نخبة من ألمع الأدمغة الصحفية لأفضل جرائد العالم العربي وأوسعها انتشارا في دولة الإمارات العربية المتحدة لمناقشة قضية واحدة: ما هو مصير الكلمة المكتوبة؟ وتحديدا مصير الصحافة العربية أمام الوسائط الجديدة التي تربح المواقع منها بالتدريج. وكان معظم المتحدثين يؤكدون على أهمية رفع (سقف الحريات) كي يكتب للصحافة الحياة والنجاة. ولكن السؤال الذي لم يطرحه المتكلمون من سيعطي الحريات؟ ولمن؟ وما هي الحريات؟

إن حرية الصحافة مرتبطة بفلسفة التعبير كما أنها مرتبطة بتكوين العقل فأساطين الصحافة المشرفون على صياغة الكلمة هم في الواقع المشرفون على تشكيل العقل من خلال المعلومة والتحليل. ولكن هل يريدون الحقيقة فعلاً؟ وهل يستطيع الكاتب أن يقول الحقيقة فعلاً؟ وهل سيفهم المواطن الحقيقة ويتحملها لو قيلت له؟ ففي يوم ذكرت مجلة در شبيجل الألمانية خبر أكثر من خمسين اجتماعاً لقائد عربي في المنطقة مع القيادة الصهيونية بالوقت والمكان والأشخاص قبل أن تكون كلمة السلام متداولة في المنطقة. وهل تستطيع الصحافة العربية نشر خبر صناعة حاكم عربي على يد (ساندي برجر) الذي كلف بمهمة شائكة (حسب تعبير مجلة در شبيجل). أم خبر استعداد العراق لابتلاع الكويت قبل حدوث أي شيء. إن هول الصدمة كان إلى درجة أن خبر اجتياح الكويت سمعه الناس من الإذاعات الأجنبية. فهل نعتب على المواطن أن لا يصدق الإعلام حتى في درجات الحرارة؟

في الواقع يجب أن نحمد الله على مرور مثل هذه الأفكار لأن أسلاك الدماغ العربي نحيفة تحترق مع أي فولتاج عالٍ من كهرباء الأفكار. ويلعب رئيس التحرير في كثير من الأحيان دور (مانعة الصواعق). كما يجب أن نعترف أن هامش الكتابة يزداد اتساعا وبسرعة فهذا قدر كوني مثل زحف الشتاء وتساقط ورق الخريف. والناس تتطلع للمعلومة بنهم وحرص ومن أي منبر وبأي وسيلة. ومنح الانترنت الناس الحرية بأنفاس إلكترونية فأصبح الناس بنعمة الانترنت إخواناً.

نحن كما نرى في مثلث ضيق بين الناشر والكاتب والقارئ. فالناشر عنده مصلحة والكاتب محاصر والقارئ أعمى. وبين الأصم والأخرس والأطرش علاقة جدلية. صم بكم عمي فهم لا يعقلون. فهذه هي سيمفونية الفكر في العالم العربي. بين مواطن مخدر الوعي ومثقف مدجن وفقيه غائب عن العصر وسياسي يهمه المحافظة على الشخير العام.

ولفك هذه الإشكالية يجب إحياء مبدأ فولتير الثلاثي الذي يعد إنجازاً هائلاً في تاريخ الإنسان والرأي. وهو مكون من ثلاث فقرات: تقول الأولى أن المسألة لا تدور حول الصواب والخطأ لأن هذا محتم لكل واحد منا. واعتبر (ليسنغ) من فلاسفة التنوير أن الله «لو وضع الحق في يمناه والشوق إلى البحث عن الحقيقة في يسراه ومعها الخطأ لزام لنا. يقول ليسنغ إنه سيخر على ركبتيه ضارعاً إلى الله أن يمنحه الشوق الخالد إلى البحث عن الحقيقة لأن الحقيقة النهائية هي لله وحده». وفولتير حينما يطلق حرية التعبير بدون حدود يخلق مناخ الحوار الذي يعدل الخطأ وينضج الصواب. وفي الفقرة الثالثة منه يقول فولتير أنه سيدافع عن رأي الآخر حتى لو كان خطأ محضاً ليس دفاعاً عن الخطأ بل دفاعاً عن التعبير. لأن الخطأ يحق له أن يعيش. فهذا الذي أطلقه فولتير في أوربا كان له أثر هائل في نشوء حق التعبير والاجتماع عليه والتظاهر سلمياً. وهذا يوصلنا إلى حل إشكالية كبيرة وهي أن حق التعبير مرتبط بواجب التعبير. فما هو حق لطرف واجب على الطرف المقابل. وإذا كان الحاكم يمنع الناس من التعبير والتظاهر فلأنهم يمنعونه من الوجود. وهناك من يتمنى موت حاكم عربي ولكنه ينسى في غمرة هذه الشهوة أن تمني الموت للآخر هو في الواقع تمني الموت لنفسه، لأن مشكلة الأمة ليست معلقة بموت وحياة وفرد وعندما نتمنى الموت للآخرين تنقل عدواها إلينا فنموت نحن أيضاً. وعندما ينتخب الحاكم مائة بالمائة فإنه يعني أن الأمة أصبحت صفرا بالمائة. وعلى هذه المقدار تنكمش الأمة فمن ينتخب 99% فهو يعني أن الأمة أصبحت واحداً بالمائة. وعندما تعلق صور الزعماء إلى الدرجة المقززة فهو يعني أن الزعيم التهم الأمة. وهي تنتظر دورها لالتهامه. وذرية بعضها من بعض. وثقافة مريضة تعيد إنتاج نفسها. وتبقى المسألة تراوح في مكانها بين محتار وغاضب ويائس وحاقد. كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.

وكالريح لا يركن إلي جهه

إلا وهيأ لأخري راحله ...

 

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...