اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

مآخذعلي التيارات السياسية المصرية في ظل نظام يحتضر


3okal

Recommended Posts

مآخذ علي التيارات السياسية المصرية في ظل نظام يحتضر

بقلم:هويدا طه

لا يشك مراقب في أن النظام الحاكم المصري يعيش أيامه الأخيرة، أو بالأحري.. يحتضر، القاصي والداني يتوقع ذلك، قدريا أو بفعل فاعل، بيد مصرية أو بيد أمريكية، بطريقة سلمية أو بقلب المائدة علي الجميع، ولأن أهمية مصر إقليميا تتجاوز نظام الحكم فيها ـ بحكم قوانين الطبيعة جغرافيا وتاريخيا وسكانيا ـ فإن تساؤلات كثيرة تدور حول المرحلة القادمة، طبيعة النظام القادم.. وآثار التغيير ـ تبعا للطريقة التي يتم بها ـ مصرياً وعربياً ودولياً، أول الملاحظات أنك أمام خريطة ملتبسة للقوي السياسية المصرية، ينعكس هذا الالتباس ليس فقط علي قوة ظهورها في الشارع المصري، وإنمـــــا حتي علي المنطلقات الفكرية لمشروعها المطروح للتغيير، وهذا الالتباس ينعكس بدوره علي المواطن المصري الطيب البسيط، التائه بين اتجاهات تتنازعه ـ أو تتنازع عليه ـ من جميع الجهات، معاناته الهائلة والمجهود المضني الذي يبذله يوميا..فقط للبقاء علي قيد الحياة، والخوف من السلطة المتأصل في وجدانه، بفعل تاريخه الطويل مع قهرها له واستبدادها بحياته وحريته، والأمل الغائم الذي تطرحه تلك القوي الملتبسة العاجزة، والخوف التاريخي من ـ الغزو ـ (الكامن) في نفس المواطن المصري، وعواطفه الدينية التي تفسر مشاكله اليومية في إطار مفهوم (الجنة والنار)، وهي عوامل تجعل البعض يرتعد من فكرة سقوط مصر في قبضة حكم طالباني مصري!

باستعراض الخريطة السياسية المصرية في نهايات عهد أوصل مصر إلي حالة شلل حضاري، تظهر سلطة جائرة نخرها الفساد من داخلها وتوشك علي التهاوي، وشعب منهك يبحث عن بصيص أمل، وثلاثة تيارات سياسية رئيسية ـ أبرزها الإسلاميون ـ تتصارع لجذبه أو لحكمه أو ربما للنيل منه!

تيار الإسلام السياسي

أتراه التيار الأقوي في مصر؟! ربما لا يكون السؤال علي هذا النحو دقيقا، إذ يكاد يكون بديهيا أن النزوع الديني متمكنٌ من المصريين حتي النخاع (بغض النظر عن علاقة ذلك بما يرتكبه الناس يوميا من أعمال لا ينص عليها أي دين، فهذه نقرة.. وتلك أخري!) وذلك لأسباب تاريخية ليس مجال نقاشها الآن، نعم.. تيار الإسلام السياسي هو الأقوي في مصر، والسؤال ليس عن مدي قوته، ولكن عن إمكانية خروج مصر والمصريين من أسره، وفي ذلك هناك عدة ملاحظات علي ذلك التيار في مصر:

أولا: السياسيون الإسلاميون يتلاعبون بتلك المشاعر الدينية الفياضة، فأراؤهم السياسية تعنون وتذيل دائما بالأحاديث النبوية الشريفة والآيات القرآنية الكريمة، وهي آيات مختارة بعناية حسب موضوع الحديث، ويصعب عليك إقناع أغلبية المواطنين المصريين أن ذلك الملتحي، الذي يقرأ بحماس الحديث النبوي والآية القرآنية ملوحا في الهواء بيدٍ قابضة علي مسبحة الاستغفار والحمد والذكر، ليس إلا رجل سياسة يطرح رأيا قد يكون مخطئا! أو أنه رجل يطلب السلطة والنفوذ مثل الآخرين، وليس بالضرورة زاهدا صالحا كما يتراءي لهم حسب المخيال الشعبي عن (أولياء الله)! الإخوان المسلمون إذن ـ وهم الأهم بين الإسلاميين في مصر ـ هم تيار سياسي طالب للسلطة (يحق للجميع بالمناسبة أن يطلب السلطة، المسألة هي وسيلة طلبها أولا وماذا يريد أن يفعل بها ثانيا، وليس مشروعية السعي إليها) هذا التيار الذي يتخذ (الإسلام هو الحل) شعارا، يطلب السلطة من أجل تأسيس دولة دينــــية كما يتضــــح من شعاره، ويطلب سلطة علي الناس في الأرض.. مستقويا.. بالسماء.

ثانيا: جميع القوي الأخري المناوئة لإقامة دولة دينية في مصر، عجزت حتي الآن عن التصدي لتلك الفكرة العقيمة التي تجاوزتها أمم أخري منذ زمن بعيد، بعد أن عانت منها الأمرين، ولا تتوفر الوسائل المناسبة لإقناع شعب متدين بأن تلك الأمم ـ بعد أن نجحت دوننا في إقامة دول مدنية ـ أثبتت أن الدولة المدنية الحديثة تتسع للجميع، بدءاً بالمتدينين أنفسهم وحتي الملحدين واللادينيين، بل وحتي المجانين لهم ولأرائهم احترام في تلك الدول! وأثبتوا بذلك أن الطريقة الوحيدة لازدهار وتقدم حياة البشر هي الاعتماد علي أنفسهم في تنظيم حياتهم بما يضمن احترام الجميع، وليس الاعتماد علي الأسلاف ومعارفهم الضيقة التي كانت تناسب عصرهم الذي عاشوه، وتلك الدولة المدنية تضمن بذلك أن سكانها بعد مئة عام مثلا يحق لهم نبذ ما شرعه سكانها الآن، فلهم عصرهم ولهؤلاء عصرُ! لا قداسة في الأمر، لا دخل للسماء في تنظيم المرور وتسعير السلع وسن قوانين العمل في المؤسسات وتنظيم العلاقة بين النساء والرجال! فهذه مظاهر الحياة علي الأرض، الأرض التي نعيش عليها ونتصارع علي مواردها، فنحن لا نعيش بين الغيوم الجميلة في السماء حتي نستعين بالملائكة ذات الأجنحة كي تنظم لنا أسلوب حياتنا! وإنما لنا عقول وهبها لنا الخالق في البدء لننطلق بها بعد ذلك، وتلك العقول تتكيف مع المعرفة المتراكمة كما وكيفا مع مرور الزمن. لا توجد وسيلة متوفرة في يد الرافضين لمفهوم الدولة الدينية لإقناع الناس بذلك، فالتليفزيون ـ الوسيلة الأنجع للوصول لشعب نحو نصفه.. أمي ـ تهيمن علي خريطة برامجه برامج دينية تشجعها السلطة، إما إمعانا في تغييب الناس وتخويفهم من السماء لتناسي معاناتهم في الأرض سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، أو لسحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين المناوئـــــين للحكم، بالإمعان في إبراز الوجه الديني للسلطة لتملق الناس. كذلك الصحف حتي المعارضة منها، تخشي خوض مغامرة مس هذا الجزء في أفكار المواطنين، فجريدة الأسبوع مثلا، تشنجت وصرخت اعتراضا علي قرار حكومي بتقليص عدد المعاهد الدينية، التي انتشرت في القري وزادت بدرجة كبيرة، بينما لم يصدر عنها ـ حتي همسا ـ اعتراض علي انفراد عائلة بحكم دولة يفترض أنها جمهورية!

ثالثا: التيار السياسي الإسلامي في مصر يستغل التعاطف الديني معه من قبل البسطاء للهجوم علي مناوئيه، فهو لا يناقش مبدأ رفض الدولة الدينية، وإنما يدينه بتشنج يرهب الناس متسلحا بأقوال السماء عن الجنة والنار والثواب والعقاب ووعود المتعة (بعد الموت)، ويتعنت في قبول أفكار البشر المختلفة عن أساليب تنظيم الحياة التي تناسب عصرهم، ويستخدم مصطلحات الأسلاف الذين ماتوا منذ زمن بعيد، ماتوا قبل أن تعرف البشرية صناديق الاقتراع والقنوات الفضائية والإنترنت والطائرات والسفن الفضائية وفنون السينما والمسرح وطرق الإنتاج ووسائله وشركاته (وهي كلها بالمناسبة من مبتكرات هؤلاء الذين نبذوا الدولة الدينية وتفرغوا لتحسين الحياة علي الأرض!)، وبينما يقدم مشروعا ميتا ـ ميتا بحكم قوانين التطور الزمني والحضاري ـ يؤدي تشنجهم علي رافضي مفهوم الدولة الدينية إلي تعرض هؤلاء لخطر الإيذاء البدني والنفسي، وهو أسلوب قديم استمر عبر قرون، تأليب الناس علي المناوئين لطلاب السلطة الدينية، حتي أن حكاية طريفة ـ مازالت فاعلة حتي الآن وإن اختلف الأسلوب ـ تروي بهذا الشأن عن منافسة علي الانتخابات بين مرشحّين، أحدهما أدرك مدي عداء الناس لمفهوم (الكفر)، فقال للناخبين عن المرشح الآخر أنه(ديمقراطي.. يعني كافر)! وفي مؤتمر عقده هذا المرشح الآخر البائس، سأله متخابثون: هل أنت ديمقراطي؟" ففرح المسكين وأجاب بحماس أنه كذلك، فانطلق الناس يقذفونه بالحجارة متعوذين بالله من.. كفره!

رابعا: التيار الإسلامي السياسي في مصر لا يمثله فقط الإسلاميون المناوئون للنظام الحاكم، وإنما هناك تلك المؤسسة الدينية المدعومة من الدولة التي يأتي علي رأسها الأزهر الشريف، وهو بدوره يتوغل في الحياة المدنية ويبسط نفوذه عليها بصورة خانقة، وتمالئه الدولة حتي أن وزير العدل منذ عدة أشهر منح الأزهر سلطة التفتيش علي العقول بمنحه حق مصادرة الكتب التي لا يراها مناسبة! والكتب التي لا تناسب الأزهر هي كل كتاب يطالب بنبذ المشاريع الميتة الآتية إلينا من ظلمة التاريخ! ولا يخفي علي أحد أن بعض المتنفذين الأزهريين لهم مصالح متشابكة مع الدولة، فلا يأتي حماسهم إلا ضد المفكرين والكتاب والمبدعين، لكنك حتي الآن لم تسمع من أحدهم قولا فاصلا حول جواز توريث الحكم.. ليزيد بن معاوية!

هذه الملاحظات وغيرها علي التيار الإسلامي السياسي في مصر، لا تعني أن كون أحدهم يرفض مفهوم الدولة الدينية، فإن إيمانه بالله واليوم الآخر مسه شك.. بل الإيمان بالله هو الذي يدفع الكثيرين إلي استخدام هبته لنا.. العقل، الذي منحه لنا.. ولهم، فاستخدموه.. وحنطناه!

التيار الليبرالي

من المؤكد أن شعار (العلمانية هي الحل) هو الشعار الذي يعتز به الليبراليون، لكن غيرهم أيضا يشاركهم فيه، وهو الشعار الذي علي هديه أسست الأمم الناجحة دولها المدنية الحديثة، والتي نغار من تقدمها وازدهارها الآن، الليبراليون في مصر يوصفون تارة بأنهم (ميالون إلي الغرب) ويوصفـــــون تارة أخري بأنهم (رأسماليون) أو بأنهم فرعونيون أو معادون للقومية العربية أو غير ذلك من تصنيفات، لكن هذا التيار عليه عدة ملاحظات:

أولا: لا شك أن الليبراليين في مصر يأتون علي رأس المتصدين لمشروع الدولة الدينية، الذي تطرحه قوي الإسلام السياسي المهيمنة علي الساحة المصرية الشعبية، والذي إن نجح ـ لا قدر الله ـ لاحتجنا بعده لمعجزة كي ندخل من جديد في تيار الحركة البشرية نحو المستقبل! ومنهم من يدفع حياته ثمنا باهظا، ومنهم من يعاني نبذا اجتماعيا أو حصارا اقتصاديا أو تشويها بتهم الخيانة والعمالة وغيرها من تلك الحزمة المعروفة! ومنهم من يدفع الثمن هروبا من الوطن، أو يأسا وانعزالا ينتهي بالاكتئاب، لكن منهم أيضا من يئس من التوجه نحو شعبه، فلجأ ـ عن حسن نية أو سوء قصد ـ إلي دول غربية ـ والولايات المتحدة تحديدا ـ لجوءاً تاما، وهذا اللجوء التام لن يكون بغير ثمن بطبيعة الأمور، أول استحقاقات هذا الثمن هو نفور المصريين منهم ومن دعوتهم ومشروعهم، وثاني تلك الاستحقاقات هو ما يطلبه الداعم الأمريكي مقابل دعمه لهم!

ثانيا: بعض الليبراليين المصريين يظهرون شوفينية مصرية منفرة، في حديثهم الدائم عن مصر الفرعونية، وإظهار كراهيتهم لمصر العربية، وهم بذلك ـ بشكل أو بآخر ـ لا يختلفون كثيرا عن الإسلاميين في تعلقهم بتاريخ ميت، فالحضارة الفرعونية ليس ملموسا منها الآن إلا ربما العائد المالي! الذي يأتينا من قدوم السياح الأجانب لمشاهدة الآثار المصرية القديمة! انتهي الفراعنة وانتهت لغتهم وانتهي دينهم، ومعظم المصريين الآن ما هم إلا أحفاد المســــتوطنين الذين سكنوا مصر بعد القضاء علي الفراعنة دولة وثقافة ووجودا، ربما بقي منهم حيا حتي الآن ـ فقط ـ ما سماها جمال حمدان في كتابه عن وصف شخصية مصر (الديكتاتورية المصرية الغاشمة الجهول)! ولا يعــــقل أن تظل أحداث تاريخية لا ذنب لنا بها عالقة في حلوقنا، وتثير سخطنا علي (الكوارث التاريخية)! هذه الشوفينية التي يتمسك بها ليبراليو مصر ربما نبعت من فشل المشـــــروع العربي الإقليمي، وفشل المنطقة العربية برمتها في الخــــروج من مستنقعها التاريخي الآسن، لكن الليبراليين الذين يريــــدون بالتأكيد إنقاذ مصر من تخلفها المشــــين، يتناسون بأن الفشـــــل المؤكد سيلحق بمشروعهم إذا خصوا به مصــــــر وحدها، فكيف ستسلم مصـــــــر من (كارثة تاريخية) أخري إذا ظلت أفئدة المصريين معلقة بجيران تتقدم مصر دونهم؟!

ثالثا: كثير من الليبراليين المصريين يبدون وكأنهم في برج عاجي، وهم نخبويون لا يحاولون النزول درجة عن مستواهم الرفيع! يتأفف (بعضهم) من التخلف والجهل المتفشي بين غالبية المصريين، متناسين أن الأمم التي ننبهر بها الآن عندما بدأت نهضتها كانت شعوبها ربما أكثر تخلفا منا الآن، وأن رواد التنوير والتحرر أو الليبرالية نزلوا إليهم ونجحوا في حشدهم ضد الكنيسة ومحاكم التفتيش والملك وحاشيته وبلاطه، فأنا مثلا ـ ومــــثلي كثيرون ـ لم أعرف عن الليبرالية شيئا إلا عــــندما التحقت بالجامعة وقــــرأت كتــــبهم، بينما تفتــــح وعيي في حارة بائسة في الإسكندرية لا تتسع لمرور سيارة واحدة، ومع ذلك كان الإســــلاميون يبنـــــون بجهود ذاتية جامعا صغيرا علي كل جانب منها!، فلا تمر سيارة ولا حتي دراجة! وإذا ضج الناس من هذا الضيق الذي جاءهم علي ضيق، ترتــــفع أصوات تطالبهم بالاستغفار! ورغم ذلك يشكو الليبراليون من هيمنة الإسلاميين علي الشارع المصري! ورغم توفر الفضائيات الآن وبعض مواقع الإنترنت فإن خللا ما لا يزال قائما في وصول الأفكار المتحررة إلي القاعدة العريضة من الناس.

رابعا: كثير من الليبراليين المصريين يعيشون ازدواجية ثقافية مروعة، يطالبون متحمسين بالتحررية السياسية، لكنهم ينكمشون عند الحاجة إلي المطالبة بتحررية اجتـــــماعية وثقافية موازية، فبسبب العقلية الدينية والتقاليد المهترئة والعادات البالية السخيفة، ما زال الشعـــــب المصري يتوحش علي نفسه! فالمرأة تعاني من التخلف وتحتاج أيضا إلي كسر الطوق كما يحتاج الشعب برمته إلي حرية التعبير! والطفل يعاني من مساوئ تربية قهرية، يجترها عندما يكبر في حلقة مفرغة من التخلف الثقافي وليس فقط السياسي.

هذه الملاحظات وغيرها علي التيار الليبرالي المصري لا تمنع الاعتراف بدورهم، في إخراج هذا البلد من الغيبوبة التي يعيشها.. حتي الثمالة!

التيار القومي

بمجرد الحديث عن تيار قومي، يتداعي إلي الذهن علي الفور(الناصريون)، وتيارات أخري أقل حجما وتأثيرا، كما يتداعي إلي الذهن(مشروع عربي وحدوي)وأفكار عن التصدي للغرب وعنته مع دول العالم الثالث، وغير ذلك من آثار التجربة الناصرية في منتصف القرن الماضي، لكن هذا التيار عليه بعض ملاحظات يلتبس بعضها مع تلك التجربة، وبعضها الآخر مع الواقع الراهن:

أولا: طرح القوميين المصريين لمشروع التكتل العربي ما زال طرحا عاطفيا غير علمي وغير عملي، فمشروعهم الإقليمي الشامل للمنطقة العربية برمتها، هو بلا شك مشروع حضاري مستقبلي، فلن تستطيع دولة عربية بمفردها الفرار من أسر الماضي، هذا ضد قدرتها منفردة، كما أن محاولة الإنفراد بحل هي توجه متأخر عن التوجه العالمي الآن إلي التكتل، فدول أمريكا اللاتينية أدركت قيمة التكتل بشكل أو آخر، ومثلها دول جنوب شرق آسيا، وهناك المثل الأوروبي الأبرز والأنجح(تجاوز الأوروبيون الأحقاد التافهة بسبب الحروب والشوفينية الوطنية وغيرها من رواسب التاريخ، في سبيل تحقيق غاية أنبل، تعود الآن بالنفع علي المواطن الفرنسي والألماني والبلجيكي وغيرهم.. وها هم يحصدون نتائج تلك الفكرة الراقية، وها نحن نغار منهم، لكننا ما زلنا نتشبث بتفاهات تاريخية، ونبدي استعلاءً أهوج من بعضنا علي البعض الآخر!)، قد لا يلام عبد الناصر ـ وإنما نحن الآن ـ علي ذلك التشبث العاطفي ـ وليس العملي ـ بفكرة الوحدة العربية، فتلك كانت ملابسات حقبته التاريخية، التي انتهت منذ عقود.

ثانيا: التشبث بمشروع التنمية علي شاكلة ما أنجزه عبد الناصر في حقبة تاريخية لها ملابساتها المختلفة عما يعيشه العالم الآن، هو حنين إلي الماضي، تماما كما تتعلق قلوب الإسلاميين بشعاب مكة وخيمة عمر بن الخطاب، وقلـــــوب الليبراليين بأسطورة أوزوريس! فلن يمكن تأسيس اتحاد اشتراكي الآن، ولن يكون هناك اتحاد سوفييتي يدعـــــمنا في مواجهة الغطرسة الأمريكية، لكن الناصريين لا يبذلون جهدا للخروج من أسر التجربة، ويعيشون علي سرد إنجازاتها ـ التي كانت عظيمة بلا شك ـ ويستهلكون طاقاتهم في الدفاع عن سلبـــــياتها، بدلا مـــــن طرح رؤية تحفظ روح (الانطــــلاق)التي تميـــزت بها الحقبة الناصرية، لكن بأساليب جديدة تناسب روح العصر.

ثالثا: كثير من القوميين المصريين تكاد تخلط بينهم وبين الإسلاميين في طرحهم الديني، ولا يختلفون عنهم إلا في (حب أو كراهية)عبد الناصر! وما زال موقفهم من العلمانية موقفا غائما مائعا، ولهذا السبب يضعهم بعض المراقبين في سلة واحدة مع الإسلاميين، رغم أن مشروعا عربيا إقليميا شاملا ربما لن ينجح إلا إذا نفض عن نفسه الصبغة الدينية، وذلك لأسباب موضوعية تتعلق بتعدد الأعراق والإثنيات والأديان في المنطقة العربية.

رابعا: ما زال موقف القوميين المصريين من إسرائيل غامضا، ففي نصوص كتبهم يبدو الموقف واضحا برفض إسرائيل ككيان صهيوني أعاق النهضة الشاملة في المنطقة، لكن الرفض ذاته لا يكفي، فمن منا بالله عليكم يطيق وجود إسرائيل هنا؟! لكنهم لم يضعوا حتي الآن برنامجا يوضح كيفية القضاء علي إسرائيل وتخليص المنطقة منها.. وغالبا ما يتوجهون نحو مشاعر الناس وليس عقولهم بالحديث عاطفيا عن فلسطين والقضية الفلسطينية، وما زالت قضية فلسطين تطرح من قبلهم (أو من قبل بعضهم) كما يطرحها الإسلاميون: عداء لليهود من حيث كونهم يهودا، وهو ما يدفع ببعض المصريين البسطاء إلي التطوع في الكفاح الفلسطيني بمحض إرادتهم، ليس لأسباب موضوعية أو ضمن مقاومة واعية لقوة قهر موجودة في المنطقة.. وإنما طلبا للشهادة!

نخلص من هذه الملاحظات علي التيارات السياسية المصرية بأن حالة ضبابية تخيم علي مصر سياسيا وثقافيا واجتماعيا، ليست المعارضة المصرية إذن ضعيفة فقط حركيا وجماهيريا، وإنما هي حتي ضعيفة فكريا، تعاني من الاهتزاز وعدم الوضوح، والخوف من المخاطرة بمواجهة الناس بحقيقة صادمة، أن معتقداتهم الثقافية والاجتماعية والتاريخية هي سبب ضعفهم أمام السلطة الجائرة في تلك الدولة البوليسية، وهي طريقهم إلي الوقوع في قبضة الإسلاميين، وبناء نظام طالبان علي الطريقة المصرية (التي تمتد لعشرات السنين.. كل مرة!)، وقبل اتهامنا بأننا نقلل من شأن الشعب المصري ـ الذي ننتمي إليه جسدا وجنسية وثقافة ـ ونظهره شعبا ساذجا، نقول إن بين المصريين واعين ومثقفين وروادا ومستنيرين كثرا، وهم الأمل الوحيد للنهوض بمصر من جديد، لكن الحقيقة أن الإحصائيات لا تكذب غالبا، فحسب الأمم المتحدة فإن نسبة الأمية في مصر حوالي 44% ، وبالطبع فأن الباقين ليسوا كلهم أساتذة باحثين موضوعيين مستنيرين، فبين أساتذة الجامعة المصريين من يدعو ـ الآن ـ إلي فصل الجنسين في الجامعة ويدافع عن ختان البنات ويطالب بالعودة إلي حكم الخلافة! وهو ما يدفع بعض اليائسين ـ من باب التشفي في شعب ليس ذنبه المباشر أنه عاطفي ومتدين ـ إلي تمني أن يحدث شيء ما في مصر.. يمـــــكن الإسلاميين من خطف مصر.. فيكون الحكم الإسلامي لمصر هو الصدمة الكهربية التي يحتاجها الشعـــب المصري، ليكف مرة واحدة وإلي الأبد عن التشبث بمشروع ميت والحلم بطالبان المصرية، ويلتفت إلي حلول أخري تناسب العصر... لكن السؤال يكون... ما هو الثمن الذي سيدفعه المصريون حينئذٍ، مقابل اقتناعهم بأنهم ـ بإرادتهم ـ مشوا بأقدامهم إلي فخ الهروب إلي الوراء.. وبإرادتهم اختاروا.. السقوط؟!

كاتبة من مصر

الحقوق لا تكتسب بعرائض الشفاعة -- الحقوق تنتزع بفضائل الشجاعة

فالحق الذى يُمنح يُمنع -- والحق الذى يُنتزع يبقى ويدوم

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...