اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

مصر في غزة: محاذير وتساؤلات


Recommended Posts

مصر في غزة: محاذير وتساؤلات

بقلم: فهمي هويدي

صحيفة أخبار الخليج البحرينية 15/6/2004

أكذب لو قلت إنني اقتنعت بالأسباب التي أعلنت لشرح مسوغات الدور المصري الجديد في غزة. ولا أخفي أن الأمر أوقعني في حيرة شديدة، انضافت إليها درجة عالية من القلق حين وقعت على أصداء المبادرة في "إسرائيل"، قدمت لها قراءة مغايرة، ومسوغات مختلفة تماماً.

(1)

في محاولة شرح وجهة النظر المصرية بشأن المبادرة، استهل الأستاذ إبراهيم نافع رئيس تحرير الأهرام مقاله المنشور في 7/6 بقوله إن "تساؤلات كثيرة" أثيرت حول التحركات المصرية الأخيرة بشأن القضية الفلسطينية. وإذ جاء المقال محاولة لتوضيح طبيعة تلك التحركات، وهو ما فعله غير واحد من القيادات الصحفية المصرية، فقد أدركت أنني لم أكن وحيداً في تلك الحيرة. وقد لفت انتباهي في هذا الصدد أن بعض الكتاب الإسرائيليين كانت لهم استفهامات موازية - الوف بن في "هاآرتس" (1/6) وبن كاسبيت في "معاريف" (8/6) - والأول أبدى استغرابه من التحول الحاصل في علاقات القاهرة وتل أبيب في وقت يعاني فيه شارون من دوامة الأزمات المستمرة، والثاني لم يخف دهشته وتساءل: هل الحاصل حقيقة أم خيالاً؟ وأعرب عن حيرته إزاء تفاوت الانطباعات بشأن المبادرة، وخصوصاً ما لاحظه من المسئولين في مكتب رئيس الوزراء أرييل شارون "يرقصون فرحاً، ويتحدثون عن عهد جديد"، على حد تعبيره.

تشترك تلك الرؤى في كونها فوجئت بالتحرك المصري الذي أربك تقديراتها وحساباتها. لكنها تختلف في غير ذلك، وخصوصاً في طبيعة وأسباب المفاجأة. وحيث أنني لا أملك صلاحية التعبير عن غيري في التعامل مع الموضوع، فإن ما أعبر عنه هنا لا يعدو أن يكون وجهة نظر شخصية، تعكس قراءة للحدث من إحدى زواياه. ذلك أنني أحد الذين يدركون أن مصر التاريخية تعاملت مع الملف الفلسطيني من موقع مشرف بامتياز، حيث اعتبرت أن "إسرائيل" المتوحشة - التي يعد شارون من أبرز تجلياتها - تمثل خطراً مزدوجاً، على الأمن الوطني المصري من ناحية، والأمن القومي العربي من ناحية ثانية. والأول يمثل تهديداً مباشراً لمصر الدولة والكيان، والثاني يعد تهديداً للمسئولية التي فرضتها استحقاقات مصر الكبيرة والقائدة في المنطقة. ثم إنه بمعايير المصلحة المباشرة فإن التفكير الاستراتيجي المصري ظل واعياً طول الوقت بحقيقة أن الذين أرادوا حصار مصر وتكبيلها سلكوا في ذلك دروباً شتى، كان من بينها التربص بها والضغط عليها في جهتين، من شمالها في فلسطين ومن جنوبها في السودان. وهو المخطط الذي ما زالت حلقاته تتوالى، وخطاه تمضي حثيثاً، وقد حقق حتى الآن - لنعترف - إنجازات معتبرة. ولا أعرف أن كان ذلك يحتاج إلى إثبات أم لا، لكنني أحيل من يساوره أي شك في طبيعة ذلك المخطط إلى الكتاب الوثيقة الذي عرضت خلاصة له خلال الأسبوعين الماضيين، وألفه بالعبرية ضابط إسرائيلي (موشي فرجي) ممن عملوا في جنوب السودان، وشرح فيه بتفصيل مدهش لماذا ذهبت "إسرائيل" إلى أفريقيا - فور تمكينها من اغتصاب فلسطين - وعملت طوال أربعة عقود على اختراق جنوب السودان للتأثير على سياسات شماله، بهدف إضعاف مصر والضغط عليها.

في ظل هذا التصور كان التعامل المصري مع الموضوع الفلسطيني ينطلق من إدراك واع على مستوى التحدي المطروح، وضع المصلحة الوطنية مع المصلحة القومية العربية على قدم المساواة، بصرف النظر عن النجاحات أو الإخفاقات التي وقعت على هذا الصعيد أو ذاك. وقد يرى المرء ظلاً لذلك الإدراك في ثنايا الشروحات التي قدمت لمقاصد التحرك المصري. لكن الحيرة والقلق يستوليان على المشهد حين يجد المرء أن الخطاب الإسرائيلي - السياسي والإعلامي - لا يرى لمصر سوى دور أمني في غزة، يتوازى مع دور أمني آخر للأردن يجري الترتيب له في الضفة الغربية. وإذا قيل أن مقاصد التحرك المصري حقيقية، ولكن حصارها في الشق الأمني وحده مجرد أمنية إسرائيلية، فإن ذلك القول ينبغي أن يستقبل بحذر بالغ، لأن العبرة ليست بالنوايا ولكنها بتوازنات القوى وطبيعة الحقائق الماثلة على الأرض. وفي خبراتنا الكثير من التجارب والمشاهد التي بدأت بكلام طيب ومقبول، وانتهت إلى نقيض ذلك تماماً. أبرز نموذج على ذلك أن الكلام الذي قاله الرئيس السادات في خطبته التي ألقاها في الكنيسيت الإسرائيلي عام 1977 اختلف كثيراً عن الكلام الذي وقعه في اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978.

(2)

إننا لا نستطيع أن نتجاهل ما يقال في "إسرائيل" عن "المبادرة" المطروحة، ليس فقط لأنه يريد أن يختزل الدور القومي لمصر الكبيرة في مجرد القيام بدور أمني محدود في قطاع غزة، ولكن أيضاً لأن وجهة النظر هذه هي الشائعة في الإعلام الغربي - الأمريكي بوجه أخص - وهي التي أصبحت محل مناقشة وجدل في أغلب الصحف العربية. ومن أسف أن ثمة كتابات مصرية قدمت حيثيات للتحرك المصري شوهته وأساءت اليه، حتى بدت أقرب إلى النظر الإسرائيلي والأمريكي، بأكثر من تعبيرها عن الرؤية الاستراتيجية المصرية، ناهيك عن وجدان وضمير الشعب المصري. واستأذن في تحرير هذه النقطة الأخيرة، لأنها بالنسبة إلي على الأقل كانت مصدراً للحزن الشديد. فقد كتب الدكتور عبد المنعم سعيد في 9/6 مقالاً حمل شعار "مركز الدراسات الاستراتيجية" في الأهرام انطلق فيه من الدفاع عن التحرك المصري، ذكر فيه مسوغات عدة من بينها ما يلي:

- أن تسوية الصراع لا يراد لها أن تصل إلى حل يقوم على دولتين مستقلتين فحسب، وإنما من المهم أن تتعايشا سوياً. وهذا التعايش يقوم على أسس عدة أولها - في تقديره - يتمثل في تفهم الاحتياجات الأمنية (؟!)، ثم بعد ذلك أورد بناء المؤسسات الشرعية والمصالح المشتركة.

- أنه حذر من تنامي الإرهاب الأصولي الراديكالي على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، في مساواة مدهشة بين القتيل والقاتل والضحية والجلاد. كما أنه وضع في سلة واحدة الفلسطينيين الذين يفدون وطنهم بأرواحهم، مع المتطرفين الآخرين الذين قاموا بعمليات إرهابية في المغرب والسعودية، وتلك لعمري مساواة أخرى ظالمة وتفتقد إلى العدالة والإنصاف، حيث لا ينبغي، ولا يجوز أن يوضع الذين يدافعون عن أوطانهم في كفة واحدة مع الذين يعملون على زعزعة الاستقرار في بلادهم.

- في سياق هجومه على المقاومة الفلسطينية، ذكر أن منهجها "أدى إلى ضياع كل المكاسب التي حققتها الحركة الوطنية الفلسطينية خلال العقدين الأخيرين". وهذا تقييم ظالم آخر، لأن "المكاسب" التي تحدث عنها وهمية وليست حقيقية، فضلاً عن أن تلك المقاومة المفترى عليها هي التي حالت دون إماتة القضية الفلسطينية وتضييعها، وهي التي أجبرت شارون على اتخاذ قراره بالانسحاب الآحادي الجانب من غزة، وهي التي أشهرت فشل الحل العسكري الإسرائيلي للقضية، واضطرت "إسرائيل" في النهاية إلى محاولة الاحتماء منها وراء السور الذي يجري بناؤه الآن. بل هي التي دفعت بعض الشخصيات الإسرائيلية البارزة الى التشكيك في احتمالات نجاح المشروع الصهيوني برمته.

- أنه أكد مسألة محاصرة الدور المصري في المسألة الأمنية، حيث ذكر أن هدف التحرك هو استعادة الدور الفلسطيني وإعادة بنائه داخلياً "من خلال إعادة بناء مؤسساته الأمنية والسياسية مرة أخرى، وخارجياً من خلال مد الجسور بينه و بين كل من الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والأمم المتحدة، بعد أن كان قد فقدها تماماً". وهو طرح يستدعي سؤالاً كبيراً هو: هل هذه حقاً حدود دور مصر الكبيرة، أن تنهض بالدور الأمني في غزة، وتتولى الوساطة بين الفلسطينيين والغرب؟

(3)

إذ يحزننا هذا الكلام، فإن الآتي من "إسرائيل" يدعونا إلى الحذر والارتياب، وللعلم فإن رئيس الوزراء صاحب خطة الانسحاب من غزة يواجه عاصفة من المشاكل القانونية والسياسية في بلاده، تهدده بفقدان منصبه في أي وقت، حتى أن الوف بن معلق صحيفة "هاآرتس" في مقاله الذي سبقت الإشارة إليه، اعتبر أن التحرك المصري قد يكون بمثابة طوق نجاة لشارون. وللعلم أيضاً فإن مسألة الانسحاب الإسرائيلي من غزة مشكوك في صدقيتها لأسباب عدة:

أولها أن الانسحاب المفترض مقدر له أن يبدأ بعد تسعة أشهر، أي في شهر مارس القادم، في حين أن الإجراءات الأمنية المقترحة على الفلسطينيين يرجى لها أن تبدأ في الشهر القادم.

وثانيها أن الانسحاب وإخلاء المستوطنات سوف يتم على مراحل، بحيث يجري التصويت في الكنيسيت على كل مرحلة. من ثم فقد توافق الأغلبية أو لا توافق على أي خطوة مقترحة، الأمر الذي يضع المسألة في مهب الريح.

وثالثها أن الانسحاب الإسرائيلي ليس تاماً فلن تخلى كل المستوطنات وإنما سيتم الاحتفاظ ببعضها لاعتبارات "أمنية".

ثم أن "إسرائيل" ستظل مهيمنة على كل مداخل القطاع ومخارجه، في الأرض والبحر والجو. الأمر الذي يحول الانسحاب إلى غطاء لعملية "إعادة الانتشار"، التي تبعد قوات الاحتلال عن الاحتكاك بالفلسطينيين الذين سببوا لهم إزعاجاً لم يحتملوه، وبحيث تتولى قوات الأمن في القطاع حماية ظهر الإسرائيليين.

إن مصر تريد للانسحاب من غزة أن يكون إحدى حلقات تنفيذ خريطة الطريق، كما أشارت التحليلات التي نشرتها الصحف المصرية. وهذا صحيح، لكن المشكلة أن "إسرائيل" لم تقبل بذلك، رغم أنها وضعت 14 تحفظاً على خريطة الطريق، فرغتها من مضمونها تقريباً. فقد نقلت صحيفة "هاآرتس" (في 6/6) على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي قوله «في حال تنفيذ خطة فك الارتباط (في غزة) فإن "إسرائيل" لن تنفذ أي خطة أخرى تجاه الفلسطينيين خلال الخمسين عاماً المقبلة". في تفسير التحرك المصري، ادعى المسئولون الإسرائيليون أن الدافع الأساسي له هو قلق القاهرة من تنامي قوة حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة، وتحولها مستقبلاً إلى مركز للحركات الإسلامية في المنطقة (البعض قال إنها قد تتحول إلى طالبان فلسطينية!). وحكاية قلق القاهرة من تنامي النفوذ الإسلامي رددها صراحة الجنرال اهارون فركش رئيس شعبة المخابرات العسكرية (الإذاعة الإسرائيلية 6/6) والجنرال افي ديختر قائد المخابرات الداخلية (القناة الأولى للتليفزيون الإسرائيلي في 5/6)، وتحدث عنها تسفي بارئيل في صحيفة "هاآرتس" (عدد 6/6). التسريبات في غزة مضت في ذات الاتجاه، حيث يتردد أنه من بين الترتيبات التي طرحت استعداد للوضع المستجد اقتراح - مطلب إن شئت الدقة - بإجراء تعديل في رئاسة الأجهزة الأمنية، بحيث يتولاها مسئولون أكثر تشدداً وقدرة على كبح وإسكات حركات المقاومة الفلسطينية. وقيل في هذا الصدد أن ثمة اقتراحاً محدداً يقضي باستبدال اللواء عبد الرزاق المجايدة مدير عام الأمن الوطني الحالي بموسى عرفات مدير الاستخبارات العسكرية في السلطة،

على اعتبار أن شخصية المجايدة لينة وضعيفة ولا تميل إلى الحسم، في حين أن موسى عرفات أكثر حزماً وأقدر على تنفيذ السياسة الأمنية الجديدة. وهو ما وافق عليه الرئيس عرفات، ولكن الاقتراح رفض بشدة حين عرض على قيادات حركة فتح وبعض أعضاء لجنتها المركزية، حيث المعروف أن علاقات موسى عرفات مع حركة فتح تتسم بالتوتر الشديد (وهي أسوأ بالنسبة إلى حماس والجهاد الإسلامي). وفي التمهيد للترتيبات الأمنية المقترحة، رشح اسم العميد داود نايفة مدير العمليات في الأمن الوطني بدلاً من المجايدة، وهو اقتراح قد يرفض كسابقه للأسباب ذاتها. غير أن أكثر ما يعنينا في هذا المشهد أن القضية المطروحة إسرائيلياً - وفلسطينياً أيضاً - أصبحت محصورة في الإجراءات الواجب اتخاذها للسيطرة على حركات المقاومة، ومن ثم تأمين ظهر قوات الاحتلال، والحيلولة دون انطلاق أي عمليات للمقاومة من القطاع. إن حجم الدور المصري الذي يتجاوز بكثير مسألة الدور الأمني في غزة، والإصرار الإسرائيلي على حصار الدور في تلك الجزئية التي تخدم مصلحتها وحدها، يثير التباساً يحتاج إلى حسم. ثم أن ذلك المدخل يستدعي أكثر من سؤال حول حقيقة وطبيعة المشكلة الأمنية في غزة، لأن القراءة الإسرائيلية مختلفة بل على النقيض تماماً من القراءة العربية والفلسطينية. فإسرائيل تعتبر غزة هماً ثقيلاً، ومصدراً للإزعاج مزمناً لها، ولعل كثيرين يذكرون أن اسحاق رابين قال قبل عشرين عاماً إنه تمنى أن يستيقظ ذات صباح ليجد أن غزة غرقت في البحر واختفت من الوجود. وهو تصريح قديم نسبياً يصور مدى ضيق ومقت القيادة الإسرائيلية للقطاع وأهله، وتمنيهم الخلاص منه بأي وسيلة، حتى أن بعض المعلقين الإسرائيليين تمنوا أن يخرج جيشهم منها بلا مقابل وبأسرع وقت. وفي صحفهم الآن كتابات عديدة يتساءل فيها أصحابها: لماذا يذهب أبناؤنا لكي يقتلوا في غزة؟ من الثابت إذن "إسرائيل" تريد التخلص من عبء غزة، وأن تستريح من هم المقاومة فيها. ولأنها فشلت في ذلك حتى الآن، برغم عمليات الاغتيال والاعتقال والقصف والتدمير التي مارستها بحق سكان القطاع، فإنها تريد من غيرها أن يقوم بهذه المهمة. هذا كل ما في الأمر.

الأمر مختلف من وجهة النظر العربية والفلسطينية، التي ترى أن الاحتلال هو المشكلة، وأن غزة التي تراها "إسرائيل" هماً هي في القراءة المقابلة قلعة للصمود ونموذج للفداء واختبار لقوة الإرادة، نجح فيه الفلسطينيون بامتياز مع مرتبة الشرف. هذه القراءة التي ترى فيها "إسرائيل" أن المشكلة أمنية في غزة، بينما هي في مشكلة احتلال في المنظور العربي، تقتضي عند الحد الأدنى ألا يكون العرب طرفاً فيما يسمى بالمشكلة الأمنية في القطاع. وإعمالا للقاعدة الأصولية التي تقول إنك إذا لم تكن قادراً على إحقاق الحق فلا تكن عوناً على إقامة الباطل، فإن الطرف العربي إذا لم يكن بمقدوره أن يحل مشكلة الاحتلال، فلا أقل من أن ينأى بنفسه عن تأمين ظهره. وفيما يخص إعداد وتأهيل الكوادر الأمنية الفلسطينية، الذي يمثل إعانة للسلطة الوطنية ودعماً لها، فمن اليسير استقدام العناصر التي يراد تأهيلها للالتحاق بدورات أو معاهد مصرية متخصصة، بدلاً من الذهاب هناك، في ظل ما يستصحبه ذلك من محاذير وشكوك. وليس ذلك جديداً، فالأجيال الأولى من رجال الأمن الفلسطيني - والسودانيين أيضاً - تم تأهيلهم وتدريبهم في القاهرة قبل عدة سنوات. لقد نفى وزير الخارجية المصرية أحمد ماهر فكرة توريط مصر في غزة. ولست أشك في أن مصر واعية بمحاذير العملية ومتحسبة لاحتمالاتها، لكن ذلك لا ينفي أن المبادرة في مجملها مسكونة بدرجة من المغامرة لا يمكن إنكارها. سواء في المقاصد أو التوقيت أو الطرف الإسرائيلي الذي يراهن عليه في ذلك. وهو الذي لم يكن مصدراً للثقة يوماً ما. وهي ملابسات تشكك في الجدوى المأمولة من المبادرة، التي بغيرها تظل مصر الكبيرة محتفظة برصيدها وقوامها وبرؤيتها الاستراتيجية الصافية.

تم تعديل بواسطة أسامة الكباريتي

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

بروتوكولات الاختراق الإسرائيلي

بقلم: فهمي هويدي

هذا عنوان مهم سقط من نشرة أخبار الأسبوع الماضي: إسرائيل كانت الحاضر الغائب في عملية توقيع آخر البروتوكولات بين حكومة الخرطوم وحركة تحرير السودان، التي تفتح الطريق لإغلاق ملف الحرب المستعرة في الجنوب منذ عشرين عاماً. وهو ما يدعونا لأن نحتفي بذات الحدث مرحلياً، في حين تزعجنا مآلاته استراتيجياً. أما كيف ولماذا، فإليك الحكاية.

(1)

احتفاؤنا واجب بإنهاء الحرب التي خربت البلاد وأنهكت العباد، وخاضتها حكومة الخرطوم وحيدة ومكشوفة الظهر. طول الوقت، في حين احتشد أبالسة الإنس وراء الطرف الانفصالي في الجنوب. إلا انه حين تذهب السكرة وتجيء الفكرة، سوف نكتشف أن أولئك الأبالسة لم يساندوا الجنوبيين لوجه الله، وإنما لهم مراميهم المتعددة والبعيدة، التي يعد الإمساك بخناق مصر في مقدمتها. وقبل أن يقول قائل أن هذا الكلام يستعيد منطق المؤامرة، فإنني أرد بكلمتين اثنتين، أولاهما أن المؤامرة مقطوع بها، والثانية أن ثمة اعترافاً إسرائيليا بوجودها. ومن أراد أن ينكرها بعد ذلك، فإنه سيكون كمن ينكر وجود الشمس أو دوران الأرض، بحيث أن المشكلة ستكون عنده وليس عندنا. وعليه أن يعالج نفسه مما أصاب بصره أو عقله. الاعتراف الإسرائيلي الذي اعنيه وارد في كتاب من مائة صفحة صدر في العام الماضي عن «مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا«، التابع لجامعة تل أبيب. عنوان الكتاب هو: إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان - نقطة البداية ومرحلة الانطلاق. أما مؤلفه فهو ضابط سابق (عميد متقاعد) تبين معلوماته انه وثيق الصلة بدوائر القرار في المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، اسمه موشى فرجي. أهمية الكتاب تكمن في أمرين، أولهما انه يشرح بالتفصيل الدور الكبير الذي قامت به المخابرات الإسرائيلية في مساندة حركة تحرير الجنوب، سواء على صعيد الإمداد بالسلاح والخبراء والمال. أو على صعيد حشد التأييد الدبلوماسي والسياسي لصالحها - الأمر الثاني الذي لا يقل أهمية أو خطورة انه يشرح على وجه الخصوص - بالتفصيل أيضاً - استراتيجية إسرائيل لإضعاف العالم العربي بوجه عام، وإضعاف مصر على وجه الخصوص. وكيف أن تلك الجهود الحثيثة استمرت حتى بعد توقيع مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل في عام 1979م. لعلي لا أبالغ إذا قلت أن الكتاب في مجمله بمثابة تسجيل «بروتوكولات« الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة. ذلك انه يتضمن كماً هائلاً من المعلومات المثيرة التي تسلط الضوء على سياساتها وممارساتها في العالم العربي وأفريقيا. ومن أسف أنني مضطر للاكتفاء بعرض مضمونه مختصراً، متمنياً أن تقوم أية جهة نشر عربية بطباعة الكتاب وتعميمه، لكي تنفتح أعين الجميع على جانب مهم مما يدبر لنا وينسج من حولنا، ونحن لاهون أو غير مكترثين.

(2)

«نحن شعب صغير، وإمكانياتنا ومواردنا محدودة، ولابد من العمل على علاج هذه الثغرة في تعاملنا مع أعدائنا من الدول العربية، من خلال معرفة وتشخيص نقاط الضعف لديها. وخاصة العلاقات القائمة بين الجماعات والأقليات العرقية والطائفية، بحيث نسهم في تفخيم وتعظيم هذه النقاط، لتتحول في النهاية إلى معضلات يصعب حلها أو احتواؤها«. هذا الكلام وجهه دافيد بن جوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل إلى قيادات الجيش وغيرهم من عناصر المؤسسة الأمنية وأجهزة الاستخبارات والمهمات الخاصة. وفي أعقابه صدرت الأوامر إلى الأجهزة الإسرائيلية بأن تتولى الاتصال بزعامات الأقليات في المنطقة، وتوثيق العلاقات معها. وكان العراق في مقدمة الدول التي اهتم بها الإسرائيليون في اختبارات الاتصال الأولى لسببين، الأول أن هناك جسوراً كانت ممتدة بالفعل منذ الأربعينيات، إبان نشاط الحركة السرية اليهودية، وخاصة في المناطق الشمالية. السبب الثاني هو أن ذلك التوجه يخدم فكرة إقامة علاقات خاصة مع الدول المجاورة للعالم العربي، باعتبار أن العراق باب إلى إيران، وطريق مفتوح نحو تركيا (لاحظ أن الدول الثلاث انخرطت لاحقاً فيما عرف باسم حلف بغداد، الذي وجه ضد مصر الناصرية، ورعته الولايات المتحدة الأمريكية). لتنفيذ هذه السياسة شكل بن جوريون في مطلع الخمسينيات فريق عمل ضم العديد من الخبراء في الشئون الاستراتيجية والسياسية وقد ضم الشخصيات التالية: - إسرائيل جاليلي، خبير الشئون الاستراتيجية وبناء القوة العسكرية. - ايجال باوين: خبير الشئون العسكرية ورئيس الإسكان. - موشيه ساسون: خبير الشئون السياسية، والعربية والسورية منها بوجه أخص. - رؤبين شيلوح، خبير العلاقات السرية مع الأقليات، خصوصاً الأكراد وإيران. - جولدا مائير: خبيرة الشئون السياسية والاتصال. هذا الفريق توصل بعد عدة اجتماعات إلى وضع استراتيجية تقوم على ثلاث ركائز هي: - أولاً: بناء قوة عسكرية متفوقة للاحتفاظ بقوة ردع قادرة على حماية أمن إسرائيل، والحيلولة دون إنزال أية هزيمة بها، لان هزيمة واحدة تهدد الوجود الإسرائيلي، في حين أن بمقدور العرب أن يتحملوا اكثر من هزيمة. - ثانياً: توثيق علاقات التعاون والتحالف مع أهم الدول المحيطة بالعالم العربي، تطبيقاً لسياسة «شد الأطراف«، التي استهدفت إقامة ما عرف بحلف المحيط. والدول التي توجهت إليها الأنظار هي تركيا أولاً وإيران ثانياً وأثيوبيا ثالثاً. وهو ما اعتبر - بحسب تعبير المؤلف - «الركن الركين في جدار السياسة الخارجية الإسرائيلية«. في منتصف الخمسينيات نجحت الجهود الإسرائيلية في إقامة علاقات خاصة مع تركيا في مختلف المجالات. بعد ذلك مباشرة بدأ التحرك صوب إيران، الذي أداره فريق من الخبراء الإسرائيليين، الذين كان بعضهم من أصول إيرانية. ولاستكمال بناء صرح «حلف الجوار« للاستعانة به للضغط على العرب وتهديد أمنهم، جرت اتصالات نشطة مع أثيوبيا، علنية وسرية، لكي تكتمل زوايا المثلث عند مركزه الجنوبي من الوطن العربي، بعدما اكتمل من ناحيتيه الشرقية والشمالية. - الركيزة الثالثة في الاستراتيجية تمثلت في عقد تحالفات مع الأقليات العرقية والطائفية في الوطن العربي، وهذه مسألة تتطلب وقفة أطول.

(3)

اهتمت إسرائيل بإقامة علاقات خاصة مع الأقليات العربية، ولاسيما تلك الأقطار المحاطة بدول غير عربية (العراق وسوريا والسودان). وقد رسم هذه السياسة في بداية الخمسينيات فريق الخبراء الذي شكله بن جوريون - وقد افاض في شرحها وتفسيرها كل من «رؤبين شيلواح وايلياهو ساسون وموشى شاريت« - حيث استهدفت العمل على تشتيت الطاقة العربية إما عن طريق افتعال المشاكل مع الدول الغربية عبر دول الجوار غير العربية، أو من خلال التحالف مع الأقليات التي تعيش في تلك الأقطار: كالأكراد في العراق، وسكان جنوب السودان، والموارنة في لبنان، والدروز والأكراد في سوريا، والأقباط في مصر، واقليات أخرى في دول عربية مختلفة. وإذا القينا نظرة متأنية إزاء الجهود الإسرائيلية في هذا المضمار - السرية منها والعلنية - سنجد أن إسرائيل جندت الخبراء المتخصصين في مجال العلاقات مع هذه الأقليات بهدف شحذها وحفزها على التمرد والانفصال وإقامة الكيانات العرقية الخاصة بها. وكان في مقدمة هؤلاء «رؤبين شيلواح، ويؤرام نمرودي، اوري لوبراني، مردخاي بن فرات وشوشانا اربيلي« للتحرك وإجراء الحوار مع الأكراد. وأسندت إلى كل من «ايلياهو ساسون« و «ايسر هرائيل« - رئيس جهاز الموساد - للتعامل مع الأقليات في كل من سوريا ولبنان. هذا المرتكز الأخير - الخاص بالأقليات - يعتبر من الأهمية بمكان في فهم واستيعاب الاستراتيجية الإسرائيلية إزاء المنطقة العربية والتي من خلالها يتم تشجيع وحث الأقليات في المنطقة في التعبير عن ذاتها إلى درجة الحصول على حق تقرير المصير والاستقلال عن الدولة الأم - أياً كانت طبيعة هذه الأقليات من حيث الحجم والنوعية - ولا شك بأن مثل هذا المنطق كان هدفه الأساسي تأكيد - أو السعي لتأكيد - حقيقة أن المنطقة العربية ليس كما يؤكد العرب دوماً أنها تشكل وحدة ثقافية وحضارية واحدة. وإنما هي خليط متنوع من الثقافات والتعدد اللغوي والديني والإثني. وقد اعتادت إسرائيل تصوير المنطقة على أنها فسيفساء تضم بين ظهرانيها شبكة معقدة من أشكال التعدد اللغوي والديني والقومي ما بين عرب وفرس وأتراك وارمن وإسرائيليين وأكراد وبهائيين ودروز ويهود وبروتستانت وكاثوليك وعلويين وصابئة وشيعة وسنة وموارنة وشركس وتركمان وآشوريين.. الخ. انطلقت إسرائيل في ذلك من الإلحاح على أن المنطقة ما هي إلا مجموعة اقليات وانه لا يوجد تاريخ موحد يجمعها، ومن ثم يصبح التاريخ الحقيقي هو تاريخ كل أقلية على حدة. والغاية من ذلك تحقيق هدفين أساسيين هما: رفض مفهوم القومية العربية والدعوة إلى الوحدة العربية. فتبعاً للتصور الإسرائيلي تصبح القومية العربية فكرة يحيطها الغموض أن لم تكن غير ذات موضوع على الإطلاق. الهدف الثاني هو تبرير شرعية الوجود الإسرائيلي - الصهيوني في المنطقة، التي تصبح في هذه الحالة خليطاً من القوميات والشعوب واللغات، وتصور قيام وحدة بينها هو ضرب من الوهم والمحال. من ثم فإن النتيجة المنطقية هي أن تكون لكل قومية من هذه القوميات دولتها الخاصة بها وفي هذا الإطار تكتسب إسرائيل شرعيتها، باعتبارها إحدى الدول القومية في المنطقة. يعد حديث «أبا ايبان« عن الفكر الإسرائيلي - الصهيوني في هذا الصدد خير تعبير، ففي مجموعة كتاباته التي نشرت بعنوان «صوت إسرائيل« يعترض على الافتراض القائل بأن الشرق الأوسط يمثل وحدة ثقافية وان على إسرائيل أن تتكامل مع هذه الوحدة. ويوضح أن العرب عاشوا دائماً في فرقة عن بعضهم، وان فترات الوحدة القصيرة كانت تتم بقوة السلاح، ومن ثم فإن التجزئة السياسية في المنطقة لم تكن بسبب الاستعمار كما يشاع، لأن الروابط الثقافية والتراث التي تجمع البلاد العربية، من وجهة نظره، لا يمكن أن تضع الأساس للوحدة السياسية والتنظيمية.

(4)

افاض المؤلف في شرح نظرية «شد الأطراف« التي هي محور الكتاب وموضوعه الأساسي. فذكر أنها ترتكز على عدة عناصر ذات أبعاد عرقية وعسكرية وسياسية، وعرض لكل واحد من تلك العناصر على النحو التالي: - من الزاوية العرقية كانت الفكرة بمثابة دعوة لخلق تجمع اثني يضم دولاً وجماعات غير عربية في إطار من العمل والتعاون لمواجهة المد القومي العربي، باعتبار أن ذلك المد يهدد تلك الدول والجماعات. وقد ركز الخطاب الإسرائيلي في هذا الصدد على أن خطر ذلك التهديد يجب أن يدفع تلك الأطراف إلى الاحتشاد في خندق واحد. وهذه الرسالة نقلها بصراحة ووضوح بن جوريون إلى كل من عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا في أواخر الخمسينيات، وشاه إيران والإمبراطور هيلاسلاسي. وهذا هو المعنى الذي عبر عنه مائير عميت رئيس الموساد في حين ألقى في عام 59 محاضرة على دفعة جديدة من عناصر الموساد قال فيها: ان التهديد بالخطر العربي الذي جسدته حركة المد القومي، كان لا بد أن ينجح في إثارة النوازع النفسية لدى الجماعات غير العربية داخل الدول العربية، وخاصة في العراق وسوريا ولبنان والسودان.. كما أن الوجود الاثني المتمثل في شعوب مثل الشعب الإسرائيلي والتركي والإيراني والأثيوبي، الذي يتناقض مع العنصر العربي المهيمن على المنطقة، شكل أساساً لقيام علاقة تحالفية بين إسرائيل والدول التي تمثل تلك الشعوب. استخدمت إسرائيل سلاح التخويف من هيمنة العرب المعززين بالقوة النفطية، لكي تحث الدول والجماعات غير العربية إلى الاحتشاد والتحالف لدرء ذلك «الخطر«. وقد عبرت عن ذلك جولدا مائير وزيرة الخارجية في مؤتمر لحزب العمال عام 1960، حين قالت: لقد نجحنا في إقناع الدول المحيطة بالدول العربية لإقامة «حلف الدائرة«، ليشكل سوراً من حول تلك الدول، يدرأ الخطر ويقي هذه الدول ويصونها من حركة القومية العربية. - فكرة التخويف من الخطر العربي استثمرت عسكرياً إلى ابعد مدى. فقد ركزت إسرائيل على انه لا سبيل إلى صد ذلك الخطر إلا بإقامة تعاون عسكري وثيق بين إسرائيل وبين دول الجوار. وجندت لتلك المهمة ابرز الشخصيات العسكرية والسياسية. في هذا السياق عقد أول لقاء بين رئيس الموساد روبين شيلواح وبين وفد عسكري تركي في روسيا عام 1957، وتتابعت تلك اللقاءات في إيطاليا ودول أخرى. وكان التعاون العسكري والأمني لصد خطر المد العربي هو الموضوع الرئيسي لكل تلك الاجتماعات. وما حدث مع تركيا تكرر مع إيران وأثيوبيا، حيث ركز بن جوريون في خطابه الموجه إلى تلك الدول على أن العرب يزعمون أن الشرق الأوسط هو شرق عربي، ومن الضروري أن تشكل الدول الأخرى غير العربية في المنطقة كتلة واحدة، لدحض تلك المقولة، وللدفاع عن وجودها واستقلالها. هذا الجهد الإسرائيلي أثمر تعاوناً أمنياً وثيقاً مع الدول الثلاث (تركيا، إيران، أثيوبيا). وأدى إلى تنظيم لقاءات سرية عدة بين رؤساء الأركان في الدول الأربع، عقدت في كل من أنقرة وطهران عام .1958 وفي سياق ذلك التعاون أرسلت إسرائيل اكثر من عشرة آلاف خبير عسكري وأمني إلى تركيا وإيران وأثيوبيا. وتطور هذا الرقم في السنوات اللاحقة، حتى وصل عدد الخبراء العسكريين الإسرائيليين في إيران وحدها عامي 77 و 78 إلى اكثر من 20 ألف شخص. كما زودت إسرائيل كلاً من تركيا وإيران بأسلحة من صنعها، مثل صواريخ بر بر (جبريال) ومدافع هاون وأجهزة رادار وبنادق ورشاشات من نوع عوزي. إزاء النجاح الذي حققته إسرائيل على ذلك الصعيد، فإنها أصبحت مطمئنة إلى أن تلك الدول أصبحت تمثل قوى احتياطية لها في مواجهة العرب، وان اختلف الموقف بالنسبة لإيران بعد قيام الثورة الإسلامية في عام .79 - في ذات الوقت اعتمدت الرؤية الاستراتيجية الشاملة لنظرية شد الأطراف على ضرورة خلق اصطفاف سياسي متجانس ومترابط ومتحالف مع الغرب. وحرصت إسرائيل على أن تقدم نفسها بحسبانها دولة تمثل امتداداً للغرب وعمقاً استراتيجياً له. واعتبرت ذلك يشكل قاسماً مشتركاً لها مع تركيا، كما تعاملت مع إيران وأثيوبيا على انهما دولتان تدينان بالولاء للغرب. وفي سعيها لإبراز عوامل التشابه أو التطابق بينها وبين دول الجوار، فإن إسرائيل أرادت أن تكسر جدار العزلة السياسية التي فرضت من حولها، لأن تعاملها مع دول الجوار غير العربية من شأنه أن يوفر لها إمكانية التحرك إقليميا ودولياً باعتبارها دولة عادية في المنطقة. وفي هذه النقطة نبه المؤلف إلى أن تحقيق إسرائيل لغاياتها السياسية في استراتيجية شد الأطراف لم يكن يتأتى لولا مساعدة القوى الغربية التي وجدت أن مصالحها تتوافق مع إقامة هذه الشبكة من التحالفات. ولذلك فإن جميع اتفاقات التعاون في مختلف المجالات بين إسرائيل والدول الثلاث لقيت دعماً غير محدود من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا بوجه أخص.

(5)

الاستراتيجية ما زالت مستمرة، لكن وسائلها تطورت أو اختلفت، أما هدفها فقد ظل واحداً. فلم يعد الخطاب الإسرائيلي يركز على التخويف من المد القومي العربي، وإنما صار يمارس التخويف من خلال التلويح بأخطار الإرهاب والأصولية الإسلامية.. كما انه في ظل التداعي والضعف والتفكك العربي، فقد بات بديهياً أن تركز إسرائيل على مقولة «إن منطقة الشرق الأوسط لم تعد بحراً عربياً تقع فيه جزر إقليمية (مثل اسرائيل)، وإنما العرب هم الذين اصبحوا يشكلون جزراً صغيرة، في حين أن القوى المؤثرة والفاعلة في المنطقة أصبحت مقصورة على إسرائيل ودول الجوار، خاصة تركيا«. وفي رأي المؤلف أن الظروف السائدة الآن عربياً وإقليميا توفر افضل الفرص أمام إسرائيل لتحقيق أهدافها، وعلى رأسها تفتيت وتفكيك وحدة الأقطار العربية الرئيسية، عبر تحريك واستثارة الأقليات والجماعات الإثنية الموجودة فيها، كما حدث بالنسبة إلى أكراد العراق، وجنوب السودان. وكذلك محاولة تفجير الأوضاع من جديد في لبنان، وتفجير صراعات وحروب أهلية في دول عربية أخرى، على غرار سوريا ومصر وليبيا والجزائر. ثمة تطور مهم في استراتيجية التفكيك والتفتيت طرأ في السنوات الأخيرة، يتمثل في أن نظرية شد الأطراف لم تعد تستهدف فحسب استنزاف الطاقات العربية وتشتيتها بحيث تستهلك تلك الطاقات بعيداً عن ساحة المواجهة مع إسرائيل. وإنما تجاوزت المسألة هذه الحدود إلى ما هو ابعد واخطر، بحيث تطورت فكرة شد الأطراف إلى «بتر« تلك الأطراف. بمعنى سلخ الأطراف غير العربية وفصلها عن الجسد العربي، من خلال التحالف مع دول الجوار. أكد هذا المعنى الباحث الإسرائيلي زئيف شيف الذي ذكر أن استراتيجية شد الأطراف التي تم تبنيها في أواخر الخمسينيات جرى تجاوزها، بحيث اصبح المرفوع الآن هو شعار البتر وليس الشد، وبمقتضى ذلك فإن الدعم الموجه إلى الجماعات العرقية أو الطائفية تحول، بحيث لم يعد يستهدف إضعاف الموقف العربي في مواجهة إسرائيل. وإنما اصبح الخطاب الإسرائيلي يولي أهمية خاصة لعملية «البتر« لتلبية طموحات الجماعات العرقية والدينية في الانفصال، وتشكيل الكيانات المستقلة عن الدول العربية. كيف نفذ المخطط في السودان، وما هي النجاحات التي حققها؟. في الأسبوع القادم بإذن الله نعرض إجابة المؤلف الإسرائيلي على السؤالين، وما يتفرع عنهما من أسئلة أخرى.

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

انتباه: أصابع إسرائيل في الخرطوم؟!

بقلم: فهمي هويدي

النجاح الذي أحرزته الحركة الانفصالية في جنوب السودان، بتحولها إلى شريك في حكم الخرطوم، لا ينبغي أن ينسينا حقيقة مسكوت عليها هي: أن تلك الحركة كانت منذ البداية إدارة استخدمتها إسرائيل لتحقيق هدف استراتيجي بعيد المدى هو: إضعاف مصر وتهديدها من الخلف. وهذا الكلام ليس من عندي، ولكنه اعتراف إسرائيلي صريح وموثق.

(1)

تحدثت في الأسبوع الماضي عن كتاب أصدره مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا (التابع لجامعة تل أبيب) حول «إسرائيل وحركة تحرير السودان«، الذي كتبه ضابط الموساد السابق العميد المتقاعد موشي فرجي. وكان محور المقال هو التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي في التعامل مع العالم العربي ودول الجوار التي تحيط به. وقد لخصت تلك الاستراتيجية في السياسة التي تبنت موقف «شد الأطراف ثم بترها«، على حد تعبيرهم. بمعنى مد الجسور مع الأقليات وجذبها خارج النطاق الوطني، ثم تشجيعها على الانفصال (وهذا هو المقصود بالبتر)، لإضعاف العالم العربي وتفتيته، وتهديد مصالحه في ذات الوقت. وفي إطار تلك الاستراتيجية قامت عناصر الموساد بفتح خطوط اتصال مع تلك الأقليات، التي في المقدمة منها الأكراد في العراق والموارنة في لبنان والجنوبيين في السودان. وكانت جبهة السودان هي الأهم، لأسباب عدة في مقدمتها أنها تمثل ظهيراً وعمقاً استراتيجياً لمصر، التي هي اكبر دولة عربية. وطبقاً للعقيدة العسكرية الإسرائيلية فإنها تمثل العدو الأول والأخطر لها في المنطقة، ولذلك فإن التركيز عليها كان قوياً للغاية. كتاب العميد فرجي شرح بتفصيل مدهش ما فعلته إسرائيل لكي تحقق مرادها في إضعاف مصر وتهديدها من الظهر، وكيف أنها انتشرت في قلب أفريقيا (في الفترة من عام 56 إلى 77 أقامت علاقات مع 32 دولة أفريقية) - لكي تحيط بالسودان وتخترق جنوبه، وكيف انتقت من بين زعماء الحركة الانفصالية واختبرت جون قرنق، فأعدته وساندته لكي يتحدى حكومة الخرطوم ويفرض نفسه عليها. إلى جانب الضغط على مصر. فإن تركيز إسرائيل على السودان كان جزءاً من استراتيجيتها إزاء البحر الأحمر، الذي اعتبرته من البداية منفذاً حيوياً للغاية، حرصت على أن تبقيه حراً أمام سفنها، وخشيت دائماً من أن يصبح بحيرة عربية، يمكن استخدامها في حصارها. تكراراً لما حدث في حربي 67 و 73 عندما اغلق العرب مضايق تيران وباب المندب على التوالي.

(2)

عنوان الفصل الأول من الكتاب الذي صدر بالعبرية وتلقت إحدى الجهات المعنية بالأمر نسخة منه ترجمت إلى العربية، هو «أفريقيا كمدخل إلى السودان«. ويدهش المرء وهو يقرأ في ذلك الفصل أن إسرائيل قررت احتواء أفريقيا والانتشار في قلبها للاقتراب من السودان والإحاطة به، لكي تتمكن من النفاذ إلى جنوبه. وقد أشار المؤلف إلى أن هذا المخطط بدأ تنفيذه في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، وذكر في هذا الصدد ما نصه: حرصت إسرائيل على إيفاد انشط الدبلوماسيين والخبراء والمستشارين إلى أفريقيا، على غرار ايهود احزبائيل واشير بن ناتان رجل المهمات الصعبة في الموساد، حتى تجد موطئ قدم لها في جنوب السودان، من خلال أثيوبيا والكونغو برازافيل (زائير لاحقاً) ثم أوغندا وكينيا. وقد لعب اهرون زعير أحد كبار رجال الموساد والمسئول السابق في جهاز الدفاع خطة الاحتواء، من خلال إيفاد اكثر من خمسة آلاف خبير ومستشار، في الزراعة والبناء والتشييد. بالإضافة إلى المستشارين العسكريين، من اجل تنظيم وتدريب وتسليح جيوش تلك الدول المجاورة للسودان. أما مهندس العملية كلها فهو اروي لوبيراني مستشار بن جوريون للشئون العربية. وهو الذي قال بوضوح: لا بد من رصد وملاحظة كل ما يجري في السودان، ذلك القطر الذي يشكل عمقاً استراتيجيا لمصر، بالإضافة إلى سواحله المترامية على البحر الأحمر، وهو ما يوفر للسودان موقعاً استراتيجياً متميزاً. لذلك فمن الضروري العمل على إيجاد ركائز إما حول السودان أو في داخله. ولأجل ذلك فإن دعم حركات التمرد والانفصال في جنوبه يغدو مهماً لأمن إسرائيل. النجاح الذي تحقق في أثيوبيا كان ساحقاً. هكذا قال مؤلف الكتاب موشي فرجي. إذ استطاعت إسرائيل أن تنتزع من امبراطورها هيلاسلاسي موافقة على أن يقوم رجالها بالإشراف على كافة أجهزة الأمن الأثيوبي. وشملت الصفقة إشراف عناصر إسرائيلية نشطة على جهاز الأمن الداخلي والشرطة والاستخبارات ووزارة الداخلية. وهذه السيطرة غير المسبوقة مكنت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) وجهاز المخابرات العسكرية من تركيز اهتمامها ليس صوب السودان وحده، وإنما إزاء الدول العربية الأخرى. وإذ احتلت أثيوبيا أهمية خاصة في النشاط الاستخباري نظراً لقدرتها على التحكم في منابع النيل، فقد تقاطر عليها قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات على نحو لافت للنظر. بالتوازي مع ذلك، أنشأت إسرائيل في اثيوبيا شركة تجارية باسم «انكودا« للمنتجات الزراعية وتعليب الأسماك، لكي تكون واجهة اقتصادية لجهاز الموساد، وقاعدة لانطلاق الجواسيس والعملاء إلى كل من السودان واليمن وعدن (عاصمة اليمن الجنوبي آنذاك) -وعبر هذه القناة جرى الاتصال بحركة التمرد والانفصال في جنوب السودان في مراحلها الأولى. كان التعاون العسكري هو اكثر ما اهتمت به إسرائيل. لذلك وصل عدد المستشارين الإسرائيليين الذين تولوا مهام تدريب الوحدات الخاصة (في سنة 60) إلى 600 مستشار. وأدى ذلك تلقائياً إلى تدفق السلاح الإسرائيلي إلى أثيوبيا، بدءاً بالرشاش «عوزي« ووصولاً إلى الصواريخ «جبرائيل« والطائرات المقاتلة. ليس ذلك فقط، وإنما سعت إسرائيل إلى إقامة عدة قواعد عسكرية موجهة ضد الدول العربية. فعملت على إقامة قاعدة بحرية في ميناء «مصوع« عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، بالإضافة إلى القواعد الجوية في كل من أثيوبيا وكينيا، والتواجد الجوي في غينيا. بل ذهبت إلى حد إقامة قواعد جوية في تشاد، على الأخص في المنطقة المجاورة لحدود السودان، وهذه تمثلت في ثلاثة مطارات أحدها مطار بحيرة «ايرو« والثاني مطار «الزاكومة«، والثالث مطار «مفور«- وبعدما قطعت العلاقات الدبلوماسية بين تشاد وإسرائيل، تبين أن مهمة تلك القواعد هي مراقبة الحدود الليبية والسودانية، بالإضافة إلى إمكانية استخدامها ضد مصر، لضرب أهداف منتخبة في مؤخرة الجبهة المصرية. ما حدث مع أثيوبيا تكرر في أوغندا، حيث أوفدت إسرائيل عدداً كبيراً من المستشارين العسكريين بقيادة العقيد باروخ بارسفير لكي يتولى تنظيم وتدريب القوات المسلحة الأوغندية، بخاصة السلاح الجوي. وقد وصل عدد أولئك المستشارين إلى 500 شخص تغلغلوا في كل وحدات القوات المسلحة، واصبحوا من الناحية العملية مسيطرين عليها، حيث عمل بعضهم كمستشارين لقياداتها، أو مشرفين على المعاهد العسكرية التي أقيمت بدعم إسرائيلي في أوغندا، علماً بأن بعض الضباط الأوغنديين كانوا يفدون إلى إسرائيل في بعثات عسكرية. وفي هذه الأجواء فإن تدفق الأسلحة الإسرائيلية إلى أوغندا بدا أمراً طبيعياً، من الرشاش عوزي إلى دبابات شيرمان إلى طائرات المستير. وهذه الأسلحة لم تكن لحساب القوات المسلحة الأوغندية فقط، ولكنها كانت ترسل لهدف آخر أهم هو تزويد حركة الانفصال في جنوب السودان بما تحتاجه حين يجد الجد. بعد استقلال إريتريا في عام 1993 ألقت إسرائيل بثقلها وراءها، وقدمت لها كل دعم سياسي وعسكري ممكن، حتى اعتبرها مؤلف الكتاب «أقوى حليف استراتيجي لإسرائيل في القارة الأفريقية، واهم قاعدة تشرف على البحر الأحمر وتهدد أمن اليمن والسودان معاً«. وفي عام 96 أصبحت تحتل المرتبة الأولى بين الدول الأفريقية التي تتلقى مساعدات عسكرية من إسرائيل. وفي عام 97 وصل عدد المستشارين الإسرائيليين الذين يعملون هناك 650 ضابطاً، بخلاف 60 آخرين يعملون في أجهزة الأمن والاستخبارات الإريترية للتجسس على اليمن والسودان.

(3)

الاتصالات مع الجنوبيين بدأت من القنصلية الإسرائيلية في أديس أبابا. وكانت الشركات الإسرائيلية التي أنشئت في أثيوبيا هي الواجهة التي استخدمت لإجراء تلك الاتصالات. وكان اشير بن ناثان رجل الموساد النشط الذي اصبح يدير شركة «انكودا« هو أول من قام بالاتصال مع الزعماء الجنوبيين، وبعد الدراسة لأوضاع الجنوب وقع الاختيار على قبيلة الدنكا - أقوى قبائل المنطقة - لكي تكون الباب الذي تتسلل منه إسرائيل إلى الجنوب وتتغلغل في شرايينه - أما الذي قام بالدور البارز في توسيع نطاق تلك الاتصالات وتوثيقها. فقد كان دافيد كمحي رجل المهمات الخاصة في الموساد، الذي عين مديراً عاماً لوزارة الخارجية الإسرائيلية. ولم تكن البعثة العسكرية الإسرائيلية في أوغندا بعيدة عن هذه التحركات، ولكنها كانت تقوم «بواجبها« من موقع آخر. حيث تولى رئيسها العقيد باروخ بارسيفر ومعه بعض رجال الاستخبارات مد جسور الاتصال مع العناصر الجنوبية التي كانت تعمل في الجيش السوداني. على الجملة يمكن القول بأن دعم إسرائيل للحركة الانفصالية في الجنوب مر بخمس مراحل هي: { طوال عقد الخمسينيات ركزت إسرائيل على أمرين، أولهما تقديم المساعدات الإنسانية للجنوبيين (الأدوية والمواد الغذائية والأطباء) وثانيهما استثمار التباين القبلي بين الجنوبيين أنفسهم، وتعميق هوة الصراع بين الجنوبيين والشماليين. { في الستينيات حدث ما يلي: بدأت صفقات الأسلحة الإسرائيلية تتدفق على جنوب السودان عبر الأراضي الأوغندية. وكانت أول صفقة في عام 1962، ومعظمها من الأسلحة الروسية الخفيفة التي غنمتها إسرائيل من مصر بعد عدوان عام 56، بالإضافة إلى الرشاش الإسرائيلي عوزي. اتسع نطاق تدريب المليشيات الجنوبية في كل من أوغندا وأثيوبيا وكينيا، وكانت أثيوبيا اكبر قاعدة لإيصال الأسلحة والذخائر إلى جنوب السودان، كما اتسع نطاق تزويد الجنوبيين بالسلاح من الدول المجاورة. وحينما تولى اوري لوبراني مهندس عملية التطويق والاختراق منصب سفير إسرائيل في أوغندا ثم في أثيوبيا تطور ذلك الدعم إلى حد أن بعض ضباط القوات الإسرائيلية الخاصة كانوا ينتقلون لتدريب الانفصاليين في مناطق جنوب السودان. { المرحلة الثالثة التي تمتد من منتصف الستينيات حتى السبعينيات. وفيها استمر تدفق الأسلحة من خلال وسيط إسرائيلي اسمه «جابي شفيق« كان يعمل لحساب الموساد. وبعض هذه الأسلحة كانت روسية استولت عليها إسرائيل في حرب 1967، وقامت طائرات شحن بإسقاطها على المعسكر الرئيسي للانفصاليين في اورنج - كي - بول. كما قامت إسرائيل بإنشاء مدرسة لضباط المشاة في «ونجي - كابول« لتخريج الكوادر العسكرية لقيادة فصائل التمرد. وكانت عناصر إسرائيلية تشترك بالفعل في بعض المعارك مقدمة خبرتها للجنوبيين. وإذ شهدت تلك الفترة تراجعاً في الحركة الانفصالية (عام 69)، فإن إسرائيل استخدمت نفوذها لاستمرار التمرد وإثارة الجنوبيين عبر تصوير صراعهم بأنه مصيري، بين شمال عربي مسلم محتل، وجنوب زنجي أفريقي مسيحي. { المرحلة الرابعة تمتد من أواخر السبعينيات وطوال عقد الثمانينيات. وفيها جرى استئناف دعم التمرد المسلح بزعامة العقيد جون قرنق ابتداء من عام 83، وكان الموقف قد هدأ نسيباً بعد اتفاق المصالحة الذي تم في عام 72 ومنح فيه الجنوب حكماً ذاتياً. وفي تلك الفترة ظهر النفط في جنوب السودان مما عزز دعم الجهات الأجنبية للحركة الانفصالية. وفيها أيضاً ضاعفت أثيوبيا من دعمها للجنوبيين سواء بالسلاح عن طريق وضع محطة للإذاعة تحت تصرفهم. كما ألقت إسرائيل بثقل قوي إلى جانب جيش جون قرنق، فزودته بأسلحة متقدمة ودربت عشرة من طياريه على قيادة مقاتلات خفيفة للهجوم على المراكز الحكومية في الجنوب ووفرت له صوراً عن مواقع القوات الحكومية التقطتها أقمارها الصناعية. بل أن إسرائيل أوفدت بعض خبرائها لوضع الخطط والقتال إلى جانب الانفصاليين، وقد قتل منهم خمسة ضباط في معارك دارت في نهاية عام 1988، كان بينهم اثنان من ضباط الموساد. وثبت أن الضباط الإسرائيليين اشتركوا في العمليات التي أدت إلى احتلال بعض مدن الجنوب في عام 1990، وهذه المدن ثلاث هي: مامبيو واندارا وطمبوه. { المرحلة الخامسة: التي بدأت في أواخر عام 1990 واستمرت حتى الآن. وتعد مرحلة قطف الثمرة بعد نضجها، أو البتر بعد الشد إذا استخدمنا مفردات الدراسة. وفيها وصل الدعم الإسرائيلي لجيش تحرير السودان وقائده جون قرنق ذروته. وأصبحت كينيا هي جسر الاتصال بين الطرفين، بدلاً من أثيوبيا. وقد أغرقت خلالها إسرائيل «جيش التحرير« بالأموال والسلاح لتعزيز موقف الحركة التفاوضي مع حكومة الشمال، حتى اصبح نداً عنيداً لها بل وأقوى منها عسكرياً. الأمر الذي أوصل الحركة إلى نقطة كانت مخيرة فيها بين الانفصال أو الذهاب إلى ابعد وفرض شروطها على حكومة الخرطوم. وقد نجحت في تحقيق الخيار الثاني، بحيث مدت نفوذها من جوبا عاصمة الجنوب إلى الخرطوم عاصمة البلد كله.

(4)

تستوقف المرء معلومات أخرى مهمة أوردها موشي فرجي في كتابه من أهمها: { ان إسرائيل راهنت على جون قرنق بعدما عقد ضباط الموساد عدة اجتماعات معه لدراسة شخصيته. وكانت السفارات الأمريكية في كينيا وأوغندا وزائير قد أوصت بتبنيه. فحصل على منحة دراسية أمريكية مكنته من الحصول على درجة الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي، وأهلته لتلقي دورات عسكرية هناك. وبعدها التحق بدورة عسكرية في كلية الأمن القومي بإسرائيل، التي زارها ثلاث مرات وظل على علاقة وثيقة ومنتظمة مع سفراء إسرائيل بالدول المجاورة، وخصوصاً كينيا. { ان إسرائيل كانت تدفع مرتبات قادة وضباط جيش «تحرير السودان«، وقدرت مجلة «معرخون« العسكرية أن مجموع ما قدمته إسرائيل لجيش تحرير الجنوب 500 مليون دولار، قامت الولايات المتحدة بتغطية الجانب الأكبر منه. { ان إسرائيل هي التي أقنعت الجنوبيين بتعطيل تنفيذ مشروع قناة «جونجلي«، الذي تضمن حفر قناة في منطقة أعالي النيل لنقل المياه إلى مجرى جديد بين جونجلي وملكال لتخزين 5 ملايين متر مكعب من المياه سنوياً، ويفترض أن يسهم المشروع في إنعاش منطقة الشمال والاقتصاد المصري. قالت إسرائيل للجنوبيين انهم أولى بتلك المياه التي سينتفع بها غيرهم، ثم أنها ادعت أن ثمة خطة لإرسال ستة ملايين فلاح مصري إلى الجنوب (كما حدث في العراق) لتغيير تركيبته السكانية لصالح العرب والمسلمين. { انه بمجرد ظهور النفط في الجنوب أوفدت إسرائيل في النصف الأول من الثمانينيات واحداً من اكبر خبرائها، هو البروفيسور ايلياهو لونفسكي لدراسة احتمالاته، التي قدرها بسبعة مليارات برميل. ونتيجة لذلك شرع الجنوبيون في المطالبة بحصتهم من هذه الثروة، وعارضوا إنشاء مصفاة للنفط في منطقة كوستي بإحدى الولايات الشمالية. { ان إسرائيل في دعمها لجون قرنق وضعت تحت تصرفه في العام الماضي (2003) مجموعة من الضباط ذوي الأصل الأثيوبي الذين هاجروا إليها في الثمانينيات (يهود الفلاشا) - وقد أورد المؤلف قائمة بأسماء بعضهم. { ان جون قرنق - بعدما احكم سيطرته على الجنوب - استعد لإعلان الانفصال وإقامة دولته المستقلة. وابلغ الولايات المتحدة وإسرائيل والدول المجاورة للسودان بذلك. بل انه طلب من واشنطون رسمياً التدخل إلى جانبه إذا ما هاجمه جيش السودان من جراء ذلك. وان وزارة الدفاع الأمريكية أصدرت تعليماتها إلى قواتها الموجودة في كينيا وإريتريا بالاستعداد للتدخل في السودان إذا ما لزم الأمر. بعد الاتفاق الأخير - الذي احتفى به الجميع!- اصبح جون قرنق نائباً لرئيس الجمهورية، وصارت حركته جزءاً من النظام الحاكم في الخرطوم، واقفة بالباب الجنوبي لمصر - فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف سيرد قرنق الجميل للذين صنعوه ودعموه وأوصلوه إلى ما وصل إليه، حتى حقق ما هو ابعد مما تمناه أو كان يحلم به؟ - ويتفرع عن ذلك سؤالان مهمان هما: كيف سينعكس ذلك على «السودان الجديد«؟ - ثم: ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للأمن القومي المصري؟

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

بعد أن أوردت المقال الأول للأستاذ فهمي هويدي .. أعدت النظر فيه متفحصا مضمونه من جديد ..

اتضح لي أن الصورة سوف تكون مبتورة إذا لم ألجأ إلى أرشيف صحيفة أخبار الخليج البحرينية لأقتبس منه المقالين السابقين للأستاذ الكبير ..

فالمقالات الثلاث في نظري كل متكامل يجب أن يوضعوا في سلة واحدة حتى يتسنى للمطالع متابعة الموضوع من جميع جوانبه ..

أعتذر عن الإطالة لكن الموضوع مصيري ويستحق أن يؤخذ في نسق واحد ..

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

  • بعد 2 أسابيع...

يا حيف ع اللي جرحهم جرحي وفوق الجرح داسوا

صاروا عساكر للعدى وكندرة العدو باسوا

2_471137_1_209.jpg

حسبنا الله ونعم الوكيل

رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
  • الموضوعات المشابهه

    • 0
      تسسكنا مجموعة من الأصدقاء فى نهاية يوم رياضى لعبنا فيه تنس الطاولة وجلسنا نضحك ونسخر من أنفسنا لخسارة مبارياعرض المقال كاملاً
    • 4
      السؤال ده اتمنى الاخ خالد شحاته يقول نصيحته فيه ياترى فكرة شراء تأشيرة حرة ماهي مخاطرها الشخص كان مقيم في السعودية ونظرا لان فيه اماكن كثيرة مش متوفر عندها تأشيرات عمل فبيفكر في شراء تاشيرة المهم هو متوفر المهنة المناسبة لمؤهلها لكن ما يقلقه هو هل ممكن ان يمتنع الكفيل من اصدار الاقامة يعني ف مصر مش هيدفع فلوس الا لما التاشيرة تطلع انما لما يجي السعودية هيضمن منين ان الاقامة تطلع ؟؟؟؟ انا عارف ان موضوع التاشيرة الحرة مش قانوني لكن هل هناك اي شيئ ممكن يأخذه من باب الامان
    • 4
      السلام عليكم انا ان شاالله نويت اطلع رخصه من دبى . طبعا انا معايا الرخصه المصرى و معايا اقامه و عارف كل الورق المطلوب بس انا باسال : ايه هى الحاجات اللى بتخلى الواحد يسقط علشان يتلافها ؟ تنصحونى بايه علشان مسقطتش . مع العلم انى باسوق من زمان و سواقتى هاديه بس انا عارف انه مش مقياس هنا الامتحان العملى ( المدينه ) بيبقى ازاى ؟ باختصار عاوز تحكولى تجاربكم و اخلى بالى من ايه و معملش ايه علشان انجح من اول او تانى مره بكتيره .. و هل لازم اخد كام حصه مع واحد قبل مافتح ملف يعرفنى بيها نظام السواقه
    • 5
      إجر في الخير! هذا هو عنوان المسيرة المزمع تنظيمها غدا على هامش التبرع لمستشفى السرطان.. ومن حقي كأحد دافعي الضرائب أن أسأل..ومن حقنا أن نبحث عن إجابة لتلك الأسئلة بدلا من أن نؤذن للفجر في مالطة! 1-إذا كان الأطفال المصابون بالسرطان مستحقون للزكاة كما أفادت بذلك فتوى المفتي السابق..فهل من الممكن أن تستغل أموال الزكاة اجتماعيا لمساعدة الفئات الضعيفة و المحرومة؟..بدلا من استقطاع مبالغ من مرتبات موظف مش عارف يكفي بيته لآخر الشهر! 2-أين وزارة التعمير من المستشفى؟..أم هي تخصص بناء قصور سمير رجب و ب
    • 6
      محاذير المواد السامة تحفظ زجاجاتها في مكان أمين بعيدا عن الأطعمة والأيدي ويلصق عليها علامات مميزة واضحة المفكرة تخصيص مفكرة صغيرة للمطبخ يدون فيها نوع الطعام ومكانه وتاريخ حفظه (للمواد طويلة الحفظ) حتى لا تتجاوز مدتها وصلاحيتها . والتأكد من تاريخ الصلاحية على العلب المحفوظة
×
×
  • أضف...