اذهب إلى المحتوى
محاورات المصريين

ألعبان زراعة القمح بالتبريد


عادل أبوزيد

Recommended Posts


أُلعبان زراعة القمح بالتبريد

  بقلم   د. محمد المخزنجى    ١٦/ ٢/ ٢٠١٧

قبل ظهر السبت ٢٨ من يناير الماضى، عندما أرسلت إلىّ «المصرى اليوم» مقالى «أرجو ألا يُكرِّمهم الرئيس» مُلحا على نشره فى اليوم التالى لخطورة تدشين وتكريس أكذوبة «نجاح زراعة القمح بالتبريد» التى ظاط فى زَفَتها وزيران ومحافظ وأعضاء برلمان ووجوه ثقيلة أخرى، لم أكن أعرف أن هناك حديثا مع المدعو عبدالعاطى صاحب فضيحة جهاز علاج فيروس سى سيُنشر فى العدد نفسه. وعندما قرأت الحديث الصدمة والخبطة، أحسست أن الأقدار رتبت لتكشف فى عدد واحد من الجريدة عن عينتين صارختين من مفاسد ما يُسمَّى «العِلم الزائف» عندنا، إحداهما قديمة ثبت أنها تواصل الحياة محمية من سلطات عجيبة خفيَّة، والثانية جديدة طالعة لتوها فى كرنفال احتفالى كليل البصيرة تحت عنوان: «نجاح تجارب زراعة القمح بالتبريد فى مصر». وبرغم أن «ظيطة» زراعة القمح بالتبريد المستجدة عندنا استدعت إلى ذاكرتى قصة «تروفيم ليسنكو» وارتباطه بفرية زراعة القمح المُبرَّد التى كان من نتائجها ضرب محصول القمح وتدمير الزراعة فى الاتحاد السوفييتى على عهد الديكتاتور الفظ «ستالين» وحتى عهد الزعيم الجِلف «خروتشوف»، وعلى عكس ما تصوره بعض الأصدقاء من احتمال ضيقى بوجود حديث عبدالعاطى مع مقالى فى عدد واحد، فإننى سُرِرْت بذلك، فكأن مقالى جاء ليدين ظاهرة «العلم الزائف» فى العينتين القديمة والمُستجدة التى جمعتهما الصُدفة فى عدد واحد، وهنا تجسم أمامى تعبير «الليسنكوفشينيا» باللغة الروسية، أو «الليسنكوية» Lysenkoism، التى صارت أحد المصطلحات العالمية الدالة على تزييف العلم والاحتيال باسمه، فى أى مكان، وكل زمان.

 

أستجير بمستجير لكشف الليسنكوية

كنت قد وعدت فى نهاية مقالى التحذيرى السابق بمعالجة أوسع لقصة ليسنكو، نموذجا للكوارث التى يسببها ذلك النوع من الكلفتة والتزييف والكذب باسم العلم الذى يتدثر بسطوة السلطة ليستشرى ويقهر ناقديه. جمعت مادة وفيرة مكتوبة ومصورة عن ليسنكو وإجرامه فى حق الزراعة وحق العلم والعلماء فى بلاده، لكننى لم أجد أفضل من عرض الدكتور أحمد مستجير مصطفى، عميد زراعة القاهرة المجيدة المجيد لقرابة عشر سنوات، وأستاذ الوراثة الرائد والمُبدع، الشاعر، والمترجم الفذ، وكاتب الثقافة العلمية نادر المثال. قال الدكتور مستجير فى بداية الصفحات الأربعين من عرضه الوافى لكتاب العالم روسى الأصل «سوفير» ــ والذى سيعتمد عليه هذا المقال إلا ما يستلزم الاختصار والإيضاح والتعليق ــ عن قصة ليسنكو: «هى قصة تحكى كيف تتطور فكرة تافهة فى عقل جاهل يحتمى بأيديولوجية الحاكم وجبروته، ثم تجد الترحيب والحفاوة والتهليل فى الجرائد والمؤتمرات وأجهزة الإعلام، فيزداد صاحبها غرورا ويتضخم حجمه ويتصور أنه عالِم، حتى يصدق نفسه، فيقود بلاده إلى كارثة». وقد كان ليسنكو من أوائل المحسوبين على العلم الذين اكتشفوا المطلوب منهم: مشاريع مؤقتة، تذاع فى الوقت المناسب، تعد بأنهار اللبن والعسل، فإذا تهاوى أى مشروع أنحى باللائمة على من قام بتنفيذه، أو على الأعداء. وكان يشعر بخفة وزنه العلمى، وبأن زملاءه لا يأخذون أفكاره مأخذ الجد، فكان يصب جام حقده على منتقديه، ويتهمهم بالانحراف السياسى فيُقبض عليهم ويُسجنون ويُعدمون. لكنه أبدا لم يستطع القضاء عليهم.

 

صعود على أكتاف البسلة!

وُلِد تروفيم ليسنكو فى ٣٠ ديسمبر ١٨٩٨ لعائلة أوكرانية ريفية. دخل مدرسة القرية وعمره ثلاثة عشر عاما ليبقى بها سنتين. ثم درس لفترة تقارب السنتين فى مدرسة أولية للفلاحة. فى خريف ١٩١٦ تقدم للالتحاق بمدرسة الزراعة فرسب، لينجح فى العام التالى. تدخلت فوضى الحرب العالمية الأولى فى مسار تعليمه، فأُرسل إلى مدرسة فى العاصمة كييف لبضعة أشهر تلقى فيها فصولا فى صناعة السكَّر، ثم عمل فى محطة حكومية صغيرة مهمتها انتخاب النبات وإرشاد الفلاحين. فى تلك السنين كان قادة الحزب الشيوعى يحاولون توسيع قاعدة الطلبة بين الطبقة العاملة والفلاحين، فاقتنص ليسنكو الفرصة والتحق عام ١٩٢٢ بمعهد كييف للزراعة كطالب مُنتسب. وبعد حصوله على الشهادة عام ١٩٢٥ عُيِّن مهندسا زراعيا فى محطة تجارب لتربية النباتات فى أذربيجان وعُهد إليه بفحص إمكانية زراعة المحاصيل البقولية التى لم تكن شائعة فى أذربيجان تحت إشراف رئيس المعهد عالم الوراثيات فافيلوف، وكانت مهمة ليسنكو بسيطة يقوم بها أى مساعد معمل، وزُرِعت البسلة فى شتاء كان معتدلا فنجحت الزراعة، وإن ظلت تحتاج للتطوير لتصبح نتائجها حاسمة. لكن أزمنة الشعارات الزاعقة الفارغة عادة ما تتوافر للانتهازيين من صُنَّاع العلم الزائف الفرصة لحرق المراحل وصولا إلى الأكاذيب المنمقة، فقد مر بمزرعة البسلة صحفى بارز من جريدة برافدا (أى الحقيقة!) كان يبحث عن بطل من خلفية فلاحية تتماشى مع شعارات الحزب «البروليتارى» فكتب مقالا عن «ليسنكو بطل حقول الشتاء الذى لم يحظ بتعليم كثير! وإنما اتجه إلى الصميم، فأنجز». ووصف الصحفى هذا البطل الذى سمَّاه «البروفسير الحافى» بأنه «مسكين ذو مظهر مكتئب، عيناه حزينتان، ينظر إلى الأرض وعلى وجهه تعبيرات شخص يفكر فى ارتكاب جريمة قتل! وقد صارت له حقول تجارب ناجحة وأتباع وطلبة». وبعد نشر هذا المقال الذى لم يذكر أى فضل للعالِم فافيلوف، تم تدشين المُتعالِم ليسنكو لينطلق داهسا فى طريقة أبجديات أى بحث علمى حقيقى، مشتعلا بوقود الرغبة الدنيئة فى النجاح السريع السهل، المُلفَق!

 

عالِم بشهادات دعائية

فى الفترة من خريف ١٩٢٦ حتى ربيع ١٩٢٧ راح ليسنكو مع من صاروا مساعديه يدرس تأثير انخفاض درجة الحرارة على النباتات، وهى دراسة روتينية تتطلب عمل سجلات لمواعيد الزراعة والإنبات والإزهار والنضح ودرجات حرارة الجو المواكبة لها، وتجميع ذلك فى جداول واستنتاج ملاحظات عادة ما تتوافر فى دفاتر المحطات الزراعية لا المراكز البحثية، لكن ليسنكو بجرأة وقحة حول هذه الجداول إلى مشروع بحثى سمَّاه «ورقة علمية» تتكون من ١٦٩ صفحة تشغل جداول البيانات فيها ١١٠ صفحات! وبسطوة «العالِم الحافى» المُكرَّس بإعلام السُلطة، قدم ليسنكو هذه «الورقة» فى مؤتمر علمى عُقد فى كييف نهاية ١٩٢٨ وأعلن بجرأة المحتال الأريب أن وراء بحثه «فكرة ثورية جديدة قد تغير مجرى الزراعة تماما»، تتمثل فى «بذر حبوب الشتاء فى الربيع بعد تبريدها لتنمو تماما كما محاصيل الربيع». ولم يكن ذلك جديدا ولا ثوريا، فخبرة تعريض نباتات «الحبوب الشتوية» لفترة من البرد كى تطرد السنابل مبكرا فى الربيع كانت معروفة منذ سنين فى نطاق تجريبى ضيق، وأطلق عليها علماء فسيولوجيا النبات «الإرباع»، لكن ليسنكو جهلا مذموما أو تجاهلا لئيما، أنكرها ليضع نفسه فى موقع الريادة، كما كل أُلعبانات العلم الزائف.

بعد الدعاية التى حصل عليها ليسنكو من التصفيق الغوغائى لورقته التافهة وفكرته المنقوصة، راحت الجرائد المحلية السلطوية تنشر أخباراً مُتبَّلة عن والد ليسنكو العامل بأحد المزارع الجماعية ( الكولخوزات) وكيف أنه أجرى «تجربة» على قمح شتوى تم تحويله إلى ربيعى بعد تبريده. وتوجت البرافدا فى يوليو ١٩٢٩ الحملة الصحفية بالقول: «بذر ليسنكو الأب القمح الذى تم تعريضه للبرد فى حقله ربيع عام ١٩٢٩ متبعا تعاليم ابنه، وقامت اللجنة الزراعية لأوكراينا بزيارة الحقل المتوقع حصاده فى ٢٠ أو ٢٥ يوليو، وتقدر اللجنة أن المحصول سيصل إلى ثلاثة أطنان، مقارنة بمتوسط يبلغ طنا واحدا لكل القمح الربيعى بالمنطقة»! وتألقت البرافدا فى حماسها لهذه «التجربة» التى لم تكن «تجربة» على الإطلاق، بل مجرد إنبات لقمح «مبرد» فى مساحة محدودة من الأرض، لم يخضع لمقارنة بقمح عادى يُزرع بنفس ظروفه، ولم تتكرر التجربة للتأكد من نتائجها، أما تقدير المحصول قبل حصاده فقد كان أكذوبة وقحة ظاطت بها البرافدا كاتبة: «إن توقعات هذا البحث الرائع للزراعى ليسنكو هى أبعد من الخيال بعد أن عضدتها البيانات التجريبية الهائلة. إنه كشفٌ سيقود زراعتنا إلى طريق عريض ذى إمكانيات رائعة»!

 

على طريق الاحتيال والنفاق

فى فبراير ١٩٣٥ عندما عُقد فى الكرملين مؤتمر عمال الحصاد الذى حضره كبار العلماء وقادة الحزب والحكومة وعلى رأسهم ستالين، قام ليسنكو خطيبا فأخذ يعدد الإنجازات العظيمة للمزارع الجماعية التى اتبعت طريقته فى الإرباع التى سمَّاها «العلم التطبيقى» أى الناتج عن الممارسة لا البحث العلمى (وكأن البحث العلمى لا يتضمن التجارب التطبيقية!)، وتساءل بعد أن بهر الحاضرين بحديثه وأرقامه المنتصرة، المزورة: «لكن يا رفاق، هل أنجزنا كل ما يمكن أن ننجزه؟» وأجاب على نفسه: «كلا. ليس كل شىء. فعلى الرغم من أن الكولخوزات التى طبقت الإرباع قد أضافت إلى إنتاج الحبوب ٠.٣ ـ ٠.٥ مليون طن هذا العام، فإن هذا القدر تافه، ومهمتنا أن نرفع إنتاجية كل حقول الكولخوزات»، وبعد أن قوبل حديثه المشتعل حماسا بعواصف التصفيق الحزبى، استدار يتهم ناقديه بالتخريب: «إن أعداء الثورة يخربون، ففى داخل العالم العلمى وخارجه يظل العدو الطبقى عدوا، حتى لو كان عالِما. لقد أدى نظام الكولخوزات عمله، ولا يزال يؤديه، مرتكزا على المنهج العلمى الأوحد، المبدأ المرشد الوحيد الذى علمنا إياه الرفيق ستالين»! وهكذا مس الوتر الحساس للطاغية، فقفز ستالين واقفا فى حماس وصاح: «برافو أيها الرفيق ليسنكو، برافو»، وانفجر المؤتمِرون فى تصفيق محموم. وبصيحة ستالين الرهيب صار المحتال المنافق فوق كل العلماء الحقيقيين، وتحول إلى أيقونة لقاءات ستالين بعلماء الزراعة، ففى نهاية ذلك العام نفسه عُقد اجتماع لعمال الزراعة الممتازين وبعض كبار العلماء ورجال الدولة وبينهم ستالين، وما إن ظهر ليسنكو حتى ضجت القاعة بالتصفيق، ووقف ستالين نفسه يصفق له، وفى خطابه انبرى ليسنكو يُقرِّظ طريقته فى الزراعة ويهاجم العلماء الذين اتهمهم بأكل قوت الشعب ثم أنهى خطابه بالهتاف: «عاش الزعيم الكبير قدوة البروليتاريا فى العالم، صانع انتصارات المزارع الجماعية. عاش الرفيق ستالين». وفى اليوم التالى أعلنت جريدة برافدا عن منح ليسنكو «وسام ستالين» أرفع أوسمة الاتحاد السوفييتى آنذاك!

ومن المَشاهد الدالة على ما وصل إليه ليسنكو من تبجح تحت مظلة حاكمٍ رهيبٍ جهول، ما حدث فى الكرملين عام ١٩٣٧ عندما استدعى ستالين رئيس أكاديمية العلوم السوفيتية وبعض العلماء ومعهم ليسنكو ليفسروا له السبب فى أزمة الخضروات التى اختفت من موسكو. وكان العلماء قد أعدوا عدتهم لكشف تخريب ليسنكو الذى كان سبب هذه الأزمة بتوسيع زراعته للقمح المُبرَّد الذى لم يكن فاشلا فقط، بل أعاق زراعة محاصيل أخرى منها الخضروات التى اختفت من موسكو وغيرها. وعندما توجه ستالين بالسؤال إلى ليسنكو، أخرج هذا من جيبه بضع حبات بطاطس صغيرة ووضعها على مائدة ستالين، وقال إنه ذهب ليفحص حقول معهد زراعة البطاطس (الذى يشرف عليه علماء الزراعة) واستخرج بيديه درنات أول نبات قابلة فى الحقل، فكانت هذه الحبات الصغيرة. ثم وضع يده فى جيبه الآخر وأخرج ثلاث حبات كبيرة، ووضعها أيضا على مائدة الزعيم، وقال إن هذه من نوع البطاطس التى تنمو تحت كل نبات فى حقول أوديسا (المنطقة التى تطبق طريقته). وكان أثر الخدعة التى لا علاقة لها بالعلم بل بالحواة والمحتالين يظهر فورا على ستالين ويفوق كل تصوُّر، فقد انطلق ستالين يؤنب العلماء ويأمرهم بأن يصححوا على الفور طريقتهم، ويتَّبعوا أسلوب ليسنكو!

 

علماء يُسجنون ويُعدَمون بالرصاص؟

منحت دعاية السلطة ليسنكو ألقاب «بطل الشعب» و«الفلاح الأكاديمى» و«البروفسير الحافى» وانتُخب بضغوط السلطة عام ١٩٣٩ عضوا بمجلس أكاديمية العلوم السوفييتية (أعلى مؤسسة علمية فى البلاد)، وفى اليوم التالى لانتخابه ظهر مقال فى مجلة «الزراعة الاشتراكية» يقول: «لا يمكننا نحن العلماء السوفييت أن نتجاهل علم الوراثة الحديث، وعلى من يقترحون إلغاء علم الوراثة أن يقدموا البديل عن النظرية الكروموزومية، لا أن يقدموا نظرية تعيدنا سبعين عاما إلى الوراء». كانوا يردون على تخرُّصات ليسنكو الجاهل الذى ينكر وجود الكروموسومات فى الجهاز الوراثى للنباتات كما كل الكائنات الحية، كما يُنكر تجارب مندل فى التهجين، ويؤلف علما زائفا يزعم إنتاج سلالات جديدة فى وقت قياسى بتعريض النبات لضغوط خارجية كالتبريد. وفى العدد نفسه الذى باح فيه العلماء بانتقادهم لادعاءات المُتعالِم الجاهل، انبرى ليسنكو يرد على منتقديه، فلم يقل علما بل قال: «إن من يفهم البلشفية (شيوعية الأكثرية) كما يجب، لا يصح أن يتعاطف مع قوانين مندل. فهذه المندلية فى حقيقة أمرها ميتافيزيقا واضحة».

لم ينقطع العلماء المُعارضون لخزعبلات واحتيالات ليسنكو عن المجاهرة برفض توجهه غير العلمى، وكان على رأسهم عالم وراثيات النبات الكبير «نيكولاى فافيلوف» الذى خبر انحطاط ليسنكو مبكرا، فأرسلوا مناشدة إلى اللجنة المركزية للحزب تفضح آراء ليسنكو ومنها تلفيقاته بشأن الذرة الهجين التى كانت سببا فى رفض زراعته فى الاتحاد السوفييتى، وقالت عريضة العلماء إن الولايات المتحدة قد رفعت إنتاج الذرة عام ١٩٣٨ وحده بمقدار ٢٢٠ مليون كيلو جرام باستخدام التهجين، وكان من الممكن للاقتصاد السوفيتى الموجَّه أن يحقق زيادة أكبر فى المحصول، لولا موقف ليسنكو المهيمن وخداعه. ولم يتأخر رد اللجنة المركزية على مناشدة العلماء بكشف الحقيقة، فقد اعتُقل فافيلوف فى ٦ أغسطس ١٩٤٠ ليمكث فى السجن حتى مات فى يناير ١٩٤٣، وقُبِض على عدد كبير من أعضاء معهده فى يونيو ١٩٤١، ووجِّهت إليهم تهم زائفة، وأُعدِموا رميا بالرصاص!.

 

الحرب وكشف المستور

ظل الألعبان ليسنكو يعبث بزراعة الاتحاد السوفييتى الذى كان بمساحة قارة كاملة، وظل تخريبه لهذه الزراعة بعلمه الزائف مما يمكن إخفاؤه بتعويض المحصول المنهار فى جمهورية هنا بمحصول جيد فى جمهورية هناك وينسب الإجادة لنفسه، ومع دخول روسيا فى أتون الحرب العالمية الثانية واحتلال ألمانيا النازية لأوكرانيا ذات الحقول فائقة الخصوبة وخروج محاصيلها من سلة الحاصلات الزراعية فى الاتحاد السوفيتى، بدأ انكشاف احتيالات ليسنكو وجهله الذى حذر منه العلماء الحقيقيون الذين تسبب فى سجنهم وإعدامهم. لكن الطاغية الرهيب ستالين لم يتخلّ عنه، لغطرسته التى وسوست له أن إسقاط هيبة عالِمه المفضل الزائف، تُسقِط من هيبته. وبعد موت ستالين ومجىء خروتشوف، وانتشار نقد الستالينية، افتُضح هراء ليسنكو وأُزيح عن مواقع نفوذه، لكن هيهات، فأثناء مرور خروتشوف بحقل صغير يزرعه ليسنكو، استطاع الألعبان أن يلعب بعقل خروتشوف الجِلف ويبهره بقمحه المزروع بالتبريد، فيرى ما يريد له ليسنكو أن يراه، فأعاد خروتشوف بعض الاعتبار لليسنكو، لتتضح أكثر خيبات وتخريبات علمه الزائف، الذى لم يقف عند حدود «قمح ليسنكو» بل توسع ليشمل «دجاج ليسنكو» و«أبقار ليسنكو»، ثم أُزيح خروتشوف عن الحكم بطقوس سلطوية مذلة، وقد تردد أن إحياءه لتخريفات وتخريبات ليسنكو كانت بين أسباب محاكمته الحزبية المهينة، والتى تسرب منها ركوعه على ركبتيه مناشدا «الرفاق» أن يترفقوا به. ومع الإطاحة بخروتشوف قُذِف بليسنكو إلى مزبلة العار، ليتبوأ مكانة بارزة فى الأدبيات العلمية العالمية كنموذج صارخ للعلم الزائف المخرِّف المُخرِّب، عنوانها «الليسنكوية».

 

أمَّا بعد، أمَّا نحن

لقد أوردت قصة ليسنكو والليسنكوية متشبثا بما خطه قلم عالم زراعة كبير هو الدكتور أحمد مستجير فى موسوعته «فى بحور العلم» ــ الكُتيب الخامس ـ مطبوعات الهيئة العامة للكتاب ـ تحت عنوان «البروفسير الحافى»، والتى يُستشَف منها نقده اللاذع لتخريفة زراعة القمح بالتبريد منذ ما يزيد عن عشر سنوات، وإذا بهذه التخريفة تفاجئنا مُطلَّة برأسها عندنا فى زفة احتفال وزراء ومحافظين وأعضاء برلمان بنجاح تجربتها! وقد أثبتت التقارير العلمية الممهورة بتوقيع علماء زراعة مصريين كبار، عبث هذه «التجربة»، من حيث عدم الجدوى، وعدم صلاحية قمحها للطحين، ونشرها للآفات وأمراض النبات، وقضائها على محاصيل الخضروات. وأظن أن الرئاسة ومؤسسات الدولة الفاعلة من حولها، تبينت أى فضيحة كانت هذه التهريجة من تهريجات العِلم الزائف ستلتصق بها، ليرقص على إيقاعها المتربصون، لو أن أصحاب الزفة نجحوا فى إقحام الرئاسة والدولة فى تكريم ومن ثم تكريس تجربتهم المَعيبة. ألا تستحق هذه الزفة وزيفها وقفة؟ وقفة تتناسب مع صبر وشجاعة أمة يضحى أكرم أبنائها من الضباط والجنود بدمائهم الطاهرة لصد خسة ودموية التكفيريين القتلة، بأداء بطولى يُخزى التهريج والخفة والنفاق والاحتيال والمظاهر الكذابة، التى ينطوى العلم الزائف عليها جميعا؟

نحن، وبرغم كل ما نعانيه، وبالمقارنة مع ما حولنا، وما كان ممكنا أن يكون، ولم يكن مُستبعدا أن يكون.. نحن فى نِعمة ــ وإن تكن نسبية ــ تتطلب أن نصونها وننقيها وننميها ونُرقِّيها، ولن يكون ذلك إلا بالمصارحة، والمراجعة، وإعمال ثقافة التصحيح والاعتذار. على الأقل!

مواطنين لا متفرجين


رابط هذا التعليق
شارك

هذا  التعليق بقلم أحد قراء المقال في المصري اليوم:

مقال رائع ومكتوب باسلوب علمى ممتاز، والعلم الزائف كارثى ويماثل الإرهاب تماما ويؤدى الى الانهيار والفوضى، وموضوع القمح الزائف يحتاج الى محاسبة كل من شارك فيها، ووزارة الى كان عليها اجراء ابحاث فيما يخصها واهمها طرق الى الحديثة والإقتصادية للبيئة المصرية اما ابحاث الزراعة فلها متخصصين فى الجامعات ومركز البحوث الزراعية وهى المرجع فى ابحاث زراعة القمح، ويبدو ان الإعلام يفتقر إلى محررين علميين لديهم القدرة على التواصل مع المراكز العلمية المتخصصة او عمل بحث سريع باللغة الانجليزية على الانترنت لمعرفة الحقائق العلمية لموضوع معين قبل عمل بروباجندا زائفة وجعل أنفسهم طرفا فيها، والعلم الزائف مثل الاختراعات الزائفة والمنقولة بدرجات متدنية والتى تنشرها بعض الصحف ومعها بروباجندا زائفة لاختراع مسروق ومنشور على الانترنت، وعدم عقاب مروجى العلم الزائف سوف يشكك العلماء المتخصصين الجادين فيما تقوم به بعض الجهات ويحول الدولة إلى دولة ليسنكو

مواطنين لا متفرجين


رابط هذا التعليق
شارك

انشئ حساب جديد أو قم بتسجيل دخولك لتتمكن من إضافة تعليق جديد

يجب ان تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

انشئ حساب جديد

سجل حسابك الجديد لدينا في الموقع بمنتهي السهوله .

سجل حساب جديد

تسجيل دخول

هل تمتلك حساب بالفعل؟ سجل دخولك من هنا.

سجل دخولك الان
  • المتواجدون الآن   0 أعضاء متواجدين الان

    • لا يوجد أعضاء مسجلون يتصفحون هذه الصفحة
×
×
  • أضف...